الاتحاد الكونفيدرالي الثلاثي الإفريقي: بين الخيار الإستراتيجي والممكن التكتيكي

تحاول هذه الورقة قراءة دلالات ومآلات الاتحاد الكونفيدرالي الثلاثي المعلن عنه بين النيجر ومالي وبوركينافاسو: هل هو مجرد مناورة من أجل التخلص من عقوبات الإيكواس، ومضي العسكريين في بسط سيطرتهم على الحكم، أم إنه خيار إستراتيجي يؤسس لمرحلة جديدة تشكل قطيعة مع الماضي؟
يضم الاتحاد الكونفيدرالي الثلاثي المعلن عنه كلًّا من النيجر ومالي وبوركينافاسو (الجزيرة)

أعلن وزراء خارجية كل من النيجر، وبوركينا فاسو، ومالي، في 18 مايو/أيار 2024، في ختام اجتماع عقدوه بالعاصمة، نيامي، وضع اللمسات النهائية لمشروع معاهدة إنشاء كونفيدرالية تجمع الدول الثلاث، التي تحكمها أنظمة عسكرية وصلت السلطة إثر انقلابات عسكرية على رؤساء مدنيين منتخبين.

وينتظر أن تصبح هذه المعاهدة نهائية، بعد المصادقة عليها من طرف قادة الدول الثلاث التي تجمعها -فيما يبدو- مناهضة فرنسا وطرد قواتها العسكرية، والتحالف مع روسيا بديلًا عنها، فضلًا عن التحديات المشتركة المرتبطة بقضايا الأمن والتنمية بالأساس.

وكان الرئيس المالي، العقيد عاصيمي غويتا، والنيجري، الجنرال عبد الرحمن تياني، والبوركيني، النقيب إبراهيم تراوري، قد وقَّعوا، في سبتمبر/أيلول 2023، ميثاقًا، قال عنه وزير خارجية مالي، عبد الله ديوب في تصريح حينها: إنه "سيكون مزيجًا من الجهود العسكرية والاقتصادية بين الدول الثلاث"(1).

وقد جاء توقيع هذا الميثاق بعد أقل من شهرين على الانقلاب العسكري الذي أطاح برئيس النيجر، محمد بازوم، وكانت حينها السلطة العسكرية الانتقالية التي تولت الحكم في البلاد، مهددة من طرف المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، بالتدخل عسكريًّا إذا لم يتراجع الانقلابيون عن انقلابهم، ويعيدون السلطة لبازوم.

كما كانت مالي وبوركينا فاسو خاضعتين لعقوبات من طرف المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا وتُعرف اختصارًا بسيدياو بالفرنسية (CEDEAO)‏ أو إيكواس بالإنجليزية (ECOWAS)‏، على خلفية الانقلابات العسكرية. فبالنسبة لمالي، أطاح غويتا ورفاقه بالرئيس الانتقالي، باه نداو، وقبله كانوا قد انقلبوا على الرئيس المدني الراحل، إبراهيم بوبكر كيتا. أما بالنسبة لبوركينا فاسو، فقد أطاح تراوري ورفاقه بالعقيد بول هنري سانداوغو داميبا، وقبله كانوا قد انقلبوا على الرئيس المدني، روك مارك كريستيان كابوري.

ويعطي هذا السياق نوعًا من الانطباع بأن الميثاق التأسيسي للتحالف الثلاثي، قد يكون مجرد مناورة من أجل التخلص من الضغط والعقوبات، ومضي العسكريين قدمًا في بسط سيطرتهم على الحكم في الدول الثلاث، كما أنه كذلك ربما يكون إستراتيجيًّا يؤسس لمرحلة جديدة تشكل قطيعة مع الماضي.

التحالف الثلاثي: سياق النشأة والأهداف 

يقضي الميثاق المشترك الذي وقَّع عليه قادة مالي وبوركينا فاسو والنيجر، في 16 سبتمبر/أيلول 2023، بتشكيل "تحالف دول الساحل"، وهو اسم يحيل إلى "مجموعة دول الساحل الخمس" التي تأسست عام 2014 بالعاصمة الموريتانية، نواكشوط، في سياق يتسم بـ"ازدياد النشاط الإرهابي والتهديد الكبير الذي بات واقعًا حاضرًا بقوة"(2).

وقد ضمَّت مجموعة دول الساحل كلًّا من موريتانيا، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وتشاد، وتم بعد عام على تأسيسها تشكيل قوة عسكرية مشتركة، لكن بوادر تفكك المجموعة وقوتها العسكرية، لاحت في الأفق بعد إعلان مالي الانسحاب منهما، في منتصف مايو/أيار 2022، "احتجاجًا على رفض توليها رئاسة هذه المنظمة الإقليمية"(3).

وفي مطلع ديسمبر/كانون الأول عام 2023، أعلنت بوركينا فاسو والنيجر في بيان مشترك انسحابهما من مجموعة دول الساحل الخمس، وأرجعتا السبب -ضمن عدة أسباب أخرى- إلى أن سبيلهما "إلى الاستقلال والكرامة لا يتوافق مع المشاركة في المجموعة بشكلها الحالي"(4).

وهكذا إذن باتت الدول الثلاث خارج إطار مجموعة الخمس في الساحل، وأصبحت بذلك هذه المجموعة تضم فقط موريتانيا وتشاد، وهو ما جعلهما تعلنان تمهيد الطريق أمام حلها، ففي بيان صادر عنهما، في ديسمبر/كانون الأول 2023، أحال البلدان إلى تطبيق البند العشرين من الاتفاق التأسيسي للمجموعة، والذي ينص على إمكانية حل الائتلاف بطلب من 3 دول أعضاء على الأقل(5).

وتنظر البلدان الثلاثة المنسحبة إلى مجموعة الساحل كائتلاف تابع لفرنسا، التي باتت مرفوضة شعبيًّا ورسميًّا في المنطقة، مقابل تنامي زخم التقارب مع روسيا كحليف بديل. وهكذا باتت الروابط بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر تتعزز بشكل متزايد، سواء من حيث الوضعية المتمثلة في كون حكام البلدان عسكريين انقلابيين مناهضين لفرنسا، ويعتبرونها تمارس نوعًا من الاستعمار الجديد بأساليب مختلفة، أو من حيث التحالف مع روسيا، أو تشابه الأزمات.

وقد دفعت هذه العوامل المشتركة، إلى تأسيس "تحالف دول الساحل" كإطار جديد موحد وناظم للأنظمة العسكرية الجديدة، التي تبني رؤاها وإستراتيجيتها على مفهوم "السيادة". ويتكون الميثاق المؤسس للتحالف من 17 مادة، تنص أولاها على تسميته بـ"ميثاق ليبتاكو-غورما"، وأن "الأطراف المتعاقدة اتفقت فيما بينها على إنشاء تحالف دول الساحل، ويختصر بـ"AES"، فيما تنص المادة الثانية على أن الهدف من هذا الميثاق هو "إنشاء هيكل للدفاع الجماعي والمساعدة المتبادلة للأطراف المتعاقدة"(6).

وينص الميثاق المؤسس كذلك في مادته 6 على أن "أي هجوم على سيادة وسلامة أراضي أحد الأطراف، يعد عدوانًا على الآخرين، وهو ما يترتب عليه الالتزام بالمساعدة المتبادلة، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لاستعادة الأمن"(7).

وتنص المادة 11 من الميثاق على أن "التحالف مفتوح لكل دولة تشترك مع البلدان الثلاثة في نفس الحقائق الجغرافية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، وتقبل أهداف الحلف"(8). وكما سعت البلدان الثلاثة المنسحبة من مجموعة دول الخمس، لتشكيل تحالف ثلاثي سياسي وعسكري بالدرجة الأولى، فإنها تتجه أيضًا إلى توسيع مجال الشراكة والتعاون بينها ضمن إطار اتحاد كونفيدرالي أوسع، يشمل كذلك البعد الاقتصادي.

الاتحاد الكونفيدرالي وتعزيز الشراكة الاقتصادية

مهدت مالي والنيجر وبوركينا فاسو لانسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، الذي أعلنته، في 28 يناير/كانون الثاني 2024، بتوصية صدرت عن وزراء اقتصادها خلال اجتماع بباماكو، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023. وقد أوصى هؤلاء الوزراء بإنشاء شركة خطوط جوية مشتركة بين الدول الثلاث، ومصرف مشترك للاستثمار، إضافة إلى بحث إمكانية تأسيس اتحاد مالي ونقدي، عبر تشكيل لجنة مسؤولة عن تعميق النقاش حول القضايا المرتبطة بذلك(9).

وكما في حالة الانسحاب من مجموعة دول الساحل الخمس، فإن انسحاب باماكو ونيامي وواغادوغو من مجموعة "إيكواس" له ارتباط وثيق بالموقف من فرنسا؛ إذ تعتبر هذه البلدان أن المنظمة الإقليمية التي تأسست في 28 مايو/أيار عام 1975، بهدف "إنشاء تكتل تجاري كبير وموحد من خلال التعاون الاقتصادي"(10)، توجه فرنسا مواقفها وقراراتها، وذلك على اعتبار أن أغلب البلدان الأعضاء فيها كانت مستعمرات فرنسية سابقة.

وفي الواقع، فإن مواقف "إيكواس" تجاه دولها الأعضاء التي عرفت مؤخرًا انقلابات عسكرية، اتسمت بمستوى من ازدواجية المعايير، فقد كان موقفها أكثر حدة تجاه الانقلاب بالنيجر، وقبل ذلك مالي، وكان أقل حدة في حالة بوركينا فاسو، رغم أنها شهدت انقلابين في غضون 8 أشهر. وأما في حالة غينيا كوناكري، فقد كانت العقوبات أخف، واتسم الموقف بمستوى من البرودة مقارنة بالدول الأخرى، وقد جعل ذلك الحكام العسكريين بمالي والنيجر وبوركينا فاسو في إطار تكتلهم الجديد، يعتبرون مواقف "إيكواس" مرهونة بالموقف الفرنسي.

فالدول الثلاث التي طردت القوات الفرنسية، كان الموقف تجاهها أكثر صرامة، بينما في غينيا كوناكري التي يُنظر إلى قائد انقلابها "مامادي دومبويا على أنه رجل فرنسا بالمنطقة"، بحكم دراسته في الجامعات الفرنسية، وعمله السابق في الجيش الفرنسي(1)، كان موقف المنظمة غرب الإفريقية أقل صرامة، والعقوبات مخففة.

وبما أن مالي وبوركينا فاسو والنيجر، بنت موقفها المشترك بالانسحاب من "إيكواس" ومن مجموعة دول الساحل، على تبعيتها لفرنسا، فإن تحالف دول الساحل الذي شكَّلته غير خفي بخصوص تقاربه مع روسيا، وتتجلى بعض ملامح ذلك في اتفاقيات التعاون الأمني التي وُقِّعت معها، وبموجب ذلك تلقت باماكو ونيامي مساعدات عسكرية روسية، وتم فيهما نشر بعض القوات الروسية كذلك، وذات الأمر ينتظر أن يحدث مع واغادوغو.

وبالإضافة إلى البعد الأمني والعسكري، فإن البعد الاقتصادي ينتظر أن يشكل أولوية لدى الاتحاد الكونفيدرالي الجديد الذي يجمع الدول الثلاث، وتنعكس ملامح ذلك من خلال انفتاح هذه البلدان على شركاء جدد، من أجل تجاوز الإشكال المتعلق بكونها دولًا حبيسة، وكانت تعتمد بشكل كبير على موانئ دول منظمة "إيكواس".

وفي إطار السعي إلى تعزيز اقتصاداتها بعد الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، أطلقت مالي بالتعاون مع روسيا، في 25 مايو/أيار 2024، أعمال بناء "أكبر محطة للطاقة الشمسية في غرب إفريقيا" بالقرب من العاصمة، باماكو، تبلغ قدرتها 200 ميغاوات، ويعول عليها في رفع إنتاج الكهرباء المالي بنسبة 10%(12). وقبل ذلك أعلنت بوركينا فاسو توقيع اتفاق مع روسيا لبناء محطة نووية، من ضمن أهدافها تغطية احتياجات السكان من الطاقة؛ حيث إن نسبة "%22.5 فقط من السكان، وفقًا لأرقام بنك التنمية الإفريقي، يحصلون على الكهرباء"(13).

وبالنسبة للنيجر، فقد تقاربت كثيرًا على غرار حليفتيها الأخريين، مع تركيا وإيران، واستفادت بذلك من بعض المسيرات التركية، كما أنها، بحسب ما تداوله العديد من وسائل الإعلام الإقليمية والدولية، وقَّعت اتفاقًا مع طهران، التي تبادلت وإياها الزيارات على مستوى الوزراء وكبار المسؤولين، يقضي بحصول الطرف الإيراني على 300 طن من اليورانيوم بقيمة 56 مليون دولار تحصل عليها نيامي "على أن يبدأ نقل دفعة أولية تبلغ 50 طنًّا" في أفق أغسطس/آب القادم(14).

المبادرة المغربية الأطلسية: رهانات الاقتصاد والتنمية

في خطابه بمناسبة الذكرى الـ48 للمسيرة الخضراء، اقترح العاهل المغربي، الملك محمد السادس، "إطلاق مبادرة على المستوى الدولي، تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي"، مؤكدًا أن مشاكل وتحديات دول المنطقة "لن يتم حلها بالأبعاد الأمنية والعسكرية فقط؛ بل باعتماد مقاربة تقوم على التعاون والتنمية المشتركة"(15). وأعرب العاهل المغربي في ذات الخطاب عن استعداد المغرب "لوضع بنياته التحتية، الطرقية والمينائية والسكك الحديدية، رهن إشارة هذه الدول"، مبرزًا أن "هذه المبادرة ستشكل تحولًا جوهريًّا في اقتصادها، وفي المنطقة كلها"(16).

وبعد أقل من شهرين على اقتراح ملك المغرب لهذه المبادرة، احتضنت مدينة مراكش، في 23 ديسمبر/كانون الأول 2023، اجتماعًا وزاريًّا للتنسيق بشأن المبادرة، ضم وزراء خارجية كل من المغرب، ومالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد. وقد اتفق الوزراء على "إنشاء فريق عمل وطني في كل بلد، من أجل إعداد واقتراح أنماط تنفيذ هذه المبادرة"، كما اتفقوا على وضع اللمسات الأخيرة على مقترحات ستعرض لاحقًا على قادة الدول الخمس(17).

وينتظر أن يتيح تفعيل هذه المبادرة ودخولها حيز التنفيذ، فرصًا اقتصادية وتنموية للمغرب ولهذه الدول، فمن جهة تتطلع البلدان الأربعة الحبيسة، إلى تجاوز عائق عدم إطلالتها على واجهات بحرية، وهو ما يفوِّت عليها الكثير من فرص تعزيز اقتصادها وتنميتها. وقد برز إلحاح حاجة هذه الدول إلى واجهات بحرية، حين خضعت ثلاث منها، وهي مالي والنيجر وبوركينا فاسو، لعقوبات من طرف منظمة "إيكواس" على خلفية الانقلابات العسكرية التي شهدتها. وتمتلك دول الساحل الحبيسة موارد اقتصادية مهمة، تعول على الواجهة الأطلسية من أجل تيسير تبادلها مع العالم، من خلال حركة الصادرات والواردات.

فبالنسبة لمالي مثلًا يعتمد اقتصادها بدرجة كبيرة على الزراعة، كالأرز والقطن والكاكاو والذرة، والتعدين كالذهب واليورانيوم والفوسفات والحديد(18). ولا يختلف الأمر كثيرًا عنه في بوركينا فاسو، فالزراعة والتعدين يشكلان قطبي الاقتصاد الرئيسيين في البلاد، فالزراعة تشكل نسبة تفوق "75% من حصص التصدير"، وعمليات التعدين الصناعية، توفر أزيد من "مئتي مليار فرنك إفريقي من الإيرادات الضريبية وشبه المالية مع أكثر من تسعة آلاف فرصة عمل مباشرة"(19).

وبخصوص النيجر، فهي تستعد حاليًّا لتصدير أول شحنة من النفط إلى العالم، وقد برزت بشكل كببر حاجتها إلى إيجاد ميناء بحري في ظل تدهور علاقاتها مع بنين، خصوصًا بعد إغلاق نيامي الحدود من جانب واحد، معتبرة أن جارتها الجنوبية تشكل خطرًا على أمنها واستقرارها بفعل احتضانها قواعد عسكرية فرنسية. وبناء على هذه الأزمة التي قد يطول أمدها، فإنه ينتظر أن تشكل توغو بديلًا عن بنين، وقد بدأت بعض المباحثات بهذا الخصوص. وبالإضافة إلى النفط والغاز، تصنف النيجر كسابع أكبر منتج لليورانيوم عالميًّا، ويغذي اليورانيوم القادم منها نسبة 20% من احتياجات فرنسا(29).

وأما بالنسبة لدولة تشاد، فإن اقتصادها يعتمد على الزراعة؛ حيث تمثل "نسبة 40% من ناتجها المحلي الإجمالي"، وحوالي "80% من صادراتها"، إضافة إلى النفط والغاز الطبيعي، حيث تتوفر البلاد على "1.5 مليار برميل من الاحتياطيات المؤكدة، حسب تقديرات عام 2018، ويبلغ إنتاجها اليومي للبلاد 140 ألف برميل، يتم تصدير 90% منها"(21).

وهكذا فإن المقدرات الكبيرة التي تتوفر عليها هذه الدول الحبيسة، لم يُتمكن من ترجمتها على مستوى البناء والتنمية لأسباب يتعلق بعضها بعدم الاستقرار السياسي والأمني، ولكن أيضًا بفعل غياب واجهات بحرية تربط بينها والدول الأطلسية إفريقية كانت أو من قارات أخرى. وينتظر أن تشكل موريتانيا نقطة ارتكاز رئيسية في هذه المبادرة، لكونها تمتلك واجهة أطلسية حيوية وإستراتيجية، ولكونها تشكل بموقعها الجغرافي أداة ربط بين المملكة المغربية وهذه الدول.

ويطمح المغرب والدول الأربع الحبيسة عبر المبادرة الأطلسية، إلى إقامة شراكات إستراتيجية، تعزز البعد الاقتصادي على أساس "رابح-رابح"، فمن جهة سيتاح للمملكة ضخ المزيد من الاستثمارات في العديد من المجالات الواعدة في هذه البلدان(22). ومن جهة أخرى، ستستفيد هذه البلدان من البنى التحتية المغربية المتطورة، ومن واجهتي البلاد الأطلسية والمتوسطية، لتجاوز إشكال العزلة إقليميًّا ودوليا، خصوصًا إذا ما كان خروج مالي والنيجر وبوركينا فاسو من منظمة "إيكواس" نهائيًّا.

مناهضة فرنسا والتقارب مع روسيا

خلال زيارة أداها إلى مالي، مطلع فبراير/شباط 2023، اقترح رئيس وزراء بوركينا فاسو، أبولينير يواكيم كييليم دي تيمبيلا، تشكيل اتحاد فيدرالي بين البلدين، ينسجم مع تطلعاتهما، ويكون مرنًا أمام من يريدون الانضمام له. ويحيل مقترح أبولينير يواكيم، وهو محام ورئيس مركز للدراسات وأستاذ جامعي، إلى "الاتحاد الفيدرالي" التاريخي الذي تشكل في نهاية الحقبة الاستعمارية الفرنسية لبعض دول غرب إفريقيا، لكنه لم يعمر طويلًا. ويتعلق الأمر بمحاولة عدد من الدول كمالي، والسنغال، وبوركينا فاسو، وبنين، وغينيا، وغانا، تشكيل اتحاد فيدرالي بين عامي 1958 و1960، ولكن تلك المحاولات باءت بالفشل(23).

وكان هدف هذا الاتحاد هو "توحيد المصير المشترك" في مواجهة الاستعمار الفرنسي، والرغبة في التحرر من هيمنته، لكن الخلافات سرعان ما عصفت به، ولا شك أن فرنسا لعبت دورًا في إجهاض هذا التكتل، الذي ترى أن من شأنه جعل مستعمراتها السابقة كيانات مستقلة بذاتها وفي غنى عنها.

وبما أن مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ترى أنظمتها العسكرية الحاكمة الآن أن فرنسا ما زالت "تستعمر" هذه الدول حتى بعد حصولها على الاستقلال، من خلال عديد الاتفاقيات التي تمنحها امتيازات كبيرة، على حساب مصالح البلدان الفقيرة، جاء استدعاء فكرة إنشاء "اتحاد كونفيدرالي". ولم يقتصر استدعاء الماضي في الحاضر من أجل بناء مستقبل مختلف، على التحالف الفيدرالي أو الكونفيدرالي، فميثاق "ليبتاكو-غورما" الذي تسعى الدول الثلاث لأن يكون حلفًا دفاعيًّا وأمنيًّا بينها، يعود أصله إلى سنة 1970؛ حيث قررت هذه البلدان حينها إنشاء "هيئة التنمية المتكاملة ليبتاكو-غورما"(24) وكان الدافع يومها تعزيز التعاون بين البلدان، من أجل تحقيق تكامل اقتصادي وتنموي.

وتعتبر "ليبتاكو-غورما" التي تسمى بها الميثاق المنشئ لتحالف دول الساحل، منطقة حدودية مشتركة بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وقد تزايد تداول اسمها خلال السنوات الأخيرة، لارتباطها بنشاط الجماعات المسلحة.

إن استحضار مثل هذه الائتلافات والتحالفات التاريخية، يعكس أن القادة العسكريين يرون في بعض أدوات الماضي، نواة يمكن التأسيس عليها في الحاضر، ولكن يبقى من الوارد السؤال حول ما إذا كانوا قادرين على تجنب تعثر تلك التكتلات لنفس الأسباب أو لأسباب أخرى. 

وحتى الآن تُظهر الدول الثلاث ما يشي بالمضي في تأسيس اتحادها الكونفيدرالي، وتحالفها الثلاثي، بل إنها تسعى إلى توسيع دائرتيهما ليشملا بلدانًا أخرى جديدة، فقد أعلنت وزارة الدفاع النيجرية، نهاية شهر مايو/أيار الماضي، عن مناورات عسكرية هي الأولى من نوعها بين جيوش 5 دول بالمنطقة، وهي بالإضافة إلى النيجر المستضيفة للمناورات، مالي وبوركينا فاسو وتشاد وتوغو(25).

وتعكس هذه الخطوة وجود مساع لضم بلدان جديدة للتحالف، فالبلدان الخمسة تشترك جميعها في مواجهة التحدي الأمني، كما أن أربعة منها حبيسة، وبالتالي الاشتراك في تشابه التحديات الاقتصادية والتنموية. ومع ذلك فإن ظلال التنافس الروسي-الفرنسي حاضرة ولا يمكن إغفالها، فالدول الثلاث اتخذت روسيا حليفًا جديدًا بديلًا عن فرنسا، وتشاد أبدت، منذ يناير/كانون الثاني 2024، تقاربًا مع موسكو، من خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الجنرال، محمد إدريس ديبي إتنو، إلى البلاد، ومباحثاته مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وقد اعتبر محمد ديبي زيارته لموسكو "تاريخية" وقال لنظيره الروسي: إن "تشاد دولة مستقلة ترغب في توسيع آفاق علاقاتها مع الدول الصديقة"(26).

ويعتبر هذا مؤشرًا على أن تشاد قد تكون مقبلة على الانخراط في "النادي الروسي" بالساحل، وهو ما يفسر أيضًا خطوة إجرائها مناورات عسكرية مع ثلاثة من حلفاء موسكو. ومن ضمن المؤشرات الدالة على تسارع وتيرة تقارب الطرفين، إعلان وزارة الدفاع الروسية في 28 مايو/أيار 2024، أن قواتها نفذت عملية عسكرية مشتركة مع الجيش تشادي "أسفرت عن تحرير 21 عسكريًّا تشاديًّا كانوا رهائن لدى جماعات وصفتها بالمتطرفة في جمهورية إفريقيا الوسطى منذ أكثر من 9 أشهر"(27).

أما بالنسبة للتوغو، فإنها لم تخرج بعد بشكل نهائي من دائرة الدول المحسوبة على فرنسا، ولكنها في العام 2022 انضمت في ختام قمة بكيغالي إلى مجموعة الكومنولث، وهي منظمة "تجمع المملكة المتحدة مع مستعمراتها السابقة، وهدفها تقوية الروابط الاقتصادية والثقافية والسياسية بين الأعضاء"(28).

ورغم أن توغو لم تكن مستعمرة بريطانية، إلا أن الخطوة اعتُبر الهدف منها التحرر من الارتهان للشريك الواحد التقليدي، والانفتاح على تعدد الشراكات، بحثًا عن ضمان مصالح أوسع.

خاتمة

لقد نجحت مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في تجسيد إستراتيجية أن "أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم"، فانسحبت من مجموعة دول الساحل الخمس، لأنها في نظرها ائتلاف تابع لفرنسا، كما انسحبت من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس" لذات السبب. وعلى إثر ذلك، دعت المنظمتان الدول المنسحبة للحوار سبيلًا إلى تجاوز الخلافات، فبالنسبة لمجموعة الخمس في الساحل، كانت قد انتهجت حيادًا سلبيًّا إزاء سلسلة الانقلابات العسكرية التي عرفتها ثلاث من دولها الأعضاء، وأصرت على عدم تولي أي منها الرئاسة الدورية.

وعلى إثر الانسحاب الثلاثي، باتت مجموعة دول الساحل الخمس اليوم بحكم المتفكك عمليًّا؛ إذ لم يتبق بها إلا موريتانيا وتشاد، والأخيرة تتقارب بخطى حثيثة مع روسيا؛ ما يعني أن لحظة إعلان نهايتها رسميًّا، قد تكون مسألة وقت فقط. أما بالنسبة لمنظمة "إيكواس" التي كانت تهدد بالتدخل العسكري في النيجر، لإعادة الرئيس المدني المعزول، محمد بازوم، إلى السلطة -الشيء الذي لم تنتهجه إزاء الانقلابات التي عرفتها بوركينا فاسو ومالي- فإن انسحاب ثلاث من دولها الأعضاء لا يهدد بتفككها، ولكنه يؤثر على وحدة المنظمة، ومستقبل الاستقرار السياسي في بلدانها؛ حيث يصبح من السهل أن يحدث انقلاب، وتعلن الدولة انسحابها من المنظمة، وتفلت بذلك من العقاب.

وبالمقابل، فإن ازدواجية المعايير التي تعاطت بها "إيكواس" مع الانقلابات، خطأ جعلها تنتقل من مركز قوة تهدد تارة، وتتفاوض تارة أخرى من أجل وضع أجندة انتخابية تعيد المدنيين للسلطة، إلى نقطة ضعف؛ حيث رفعت أغلب العقوبات التي فرضت على هذه البلدان، وباتت تخطب ودها باستعمال خطاب تغلب عليه نبرة الهدوء، سبيلًا إلى تراجعها عن الانسحاب.

ولأن انسحاب الدول الثلاث، وإعلانها تأسيس تحالف لدول الساحل، واتحاد كونفيدرالي -اكتملت لمساته النهائية، وسيركز على المجالين، الاقتصادي والتنموي- جاء ردَّةَ فعل، فإن من الوارد التساؤل بشأن ما إذا كان سيتخذ طابعًا إستراتيجيًّا أم سيكون تكتيكيًّا فقط. وهنا إما أن يسير عسكريو مالي والنيجر وبوركينا فاسو نحو البقاء في السلطة لفترات طويلة، فتنظم هذه البلدان انتخابات رئاسية يترشح لها الرؤساء العسكريون الحاليون، ويتم انتخابهم، وبالتالي تنتقل البلدان من المراحل الانتقالية إلى العودة للمسار الطبيعي لكن مع بقاء الانقلابيين في السلطة، وتصبح الانتخابات مجرد وسيلة لإعادة انتخابهم، لأنهم يرون السماح للمدنيين بالعودة للحكم بمنزلة عودة للمربع الأول.

وإما أن يعود المدنيون للسلطة عبر البوابة الانتخابية، ويهدموا ما بناه العسكريون، ويعيدوا التحالفات التقليدية، وبالتالي ينتهي البعد الإستراتيجي لتحالف الدول الثلاث واتحادها الكونفيدرالي.

وثمة سيناريو ثالث، وهو مبدأ أن "ما أُخذ بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة"، وبالتالي يكون محتملًا أن تشهد الفترة المقبلة موجة انقلابات عسكرية جديدة مضادة، يدعو أصحابها للعودة إلى التحالف مع فرنسا، وبالتالي العودة إلى ما كان عليه الوضع خلال الفترات المدنية، وهذا إذا حدث فإنه يعني انحسار الحضور الروسي، بدل النفوذ الحالي.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1) انظر الموضوع التالي:

Le Mali, le Burkina et le Niger signent une alliance défensive «des États du Sahel», publié le 17 Septembre 2023, vu le 21 Mai 2024

 https://t.ly/E5ok4

2) انظر المقال التالي: بين المخاطر والفرص: تحديات الإرهاب في منطقة دول الساحل الخمس (G5)، "التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب"، 16 يونيو/حزيران 2020، (تاريخ الدخول: 22 مايو/أيار 2024)، https://t.ly/KtPZC

3) انظر الموضوع: مالي تنسحب من مجموعة دول الساحل الخمس ومن قوتها العسكرية لمكافحة الجماعات المسلحة، الجزيرة نت، 16 مايو/أيار 2022، (تاريخ الدخول: 22 مايو/أيار 2024)، https://shorturl.at/aHFFE

4) انظر الموضوع: بوركينا فاسو والنيجر تعلنان انسحابهما من مجموعة دول الساحل، العرب، 3 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 22 مايو/أيار 2024)،

https://shorturl.at/rg0TO

5) انظر الموضوع: تشاد وموريتانيا تمهدان حل دول الساحل، هسبريس، 6 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 22 مايو/أيار 2024)، https://shorturl.at/xvkW8

6) انظر:

Charte du Liptako-Gourma, instituant l’Alliance des États du Sahel entre le Burkina Faso, la République du Mali, la République du Niger, Digithéque MJP, Vu le 22 Mai 2024: https://t.ly/_V6zr

7) انظر المقال:

L’alliance des États du Sahel (AES),un tournant décisif pour l’Afrique de l’ouest? Agence Anadoul, publié le 22 Septembre 2023, Vu le 22 Mai 2024: https://t.ly/h5wZD

8) انظر المقال: ميثاق ليبتاكو-غورما: دوافع تشكل تحالف مالي وبوركينا فاسو والنيجر وآفاقه المحتملة، مركز الإمارات للسياسات، 22 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 23 مايو/أيار 2024)، https://shorturl.at/daHRl

9) انظر المقال: تحالف G3.. ظلال التنافس الروسي الفرنسي بالساحل، مدار، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 24 مايو/أيار 2024)، https://shorturl.at/nH2c2

10) انظر الموضوع:

CEDEAO: qu’est-ce que la Communauté économique des États de l’Afrique de l’Ouest? Publié le 07 Février 2023, vu le 24 Mai 2024: https://t.ly/O-BF5

11) انظر السيرة التالية:

Biographie du président de la République Général de Corps d’Armée Mamadi Doumbouya, vu le 29 Mai 2024: https://rb.gy/e8avvi

12) انظر الموضوع:

Énergie solaire au Mali: installation avec la Russie d’une mégacentrale, publié le 25 Mai 2024, vue le 31 Mai 2024: https://rb.gy/yz1gba

13) انظر الموضوع: روسيا تبني محطة نووية في بوركينا فاسو، 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 31 مايو/أيار 2024)، https://shorturl.at/zLw7M

14) انظر الموضوع: إيران توقع اتفاقًا مع النيجر للحصول على اليورانيوم مقابل الطائرات والصواريخ، 9 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 31 مايو/أيار 2024)، https://rb.gy/lp4oey

15) انظر: الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء ـ التسجيل الكامل، 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 1 يونيو/حزيران 2024)، https://rb.gy/zcdrpx

16) نفس المصدر السابق.

17) انظر: اجتماع وزاري للتنسيق بشأن المبادرة الدولية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس لتسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي: أهم ما جاء في البيان الختامي، 23 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 1 يونيو/حزيران 2024)، https://shorturl.at/ms6mM

18) انظر: معلومات أساسية عن مالي، (تاريخ الدخول: 1 يونيو/حزيران 2024)، https://shorturl.at/sMNEK

19) انظر: ما الذي ستجنيه دول الساحل من المبادرة الملكية لولوجها إلى المحيط الأطلسي؟، موقع الاتحاد إنفو، 26 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 1 يونيو/حزيران 2024)، https://rb.gy/wlogn6

20) يورانيوم النيجر.. كنز أو لعنة في سابع أفقر دول العالم؟، 25 أغسطس/آب 2023، (تاريخ الدخول: 1 يونيو/حزيران 2024)، https://shorturl.at/GfxtS

21) انظر: ما الذي ستجنيه دول الساحل من المبادرة الملكية لولوجها إلى المحيط الأطلسي؟ مصدر سابق.

22) انظر: مبادرة الأطلسي: هل تعوض التحركات المغربية انسحاب فرنسا من دول الساحل الإفريقي؟، 11 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 2 يونيو/حزيران 2024)، https://shorturl.at/EduqI

23) انظر:

Le premier ministre burkinabé prône la création d’une fédération avec le Mali, publié le 04 Février 2023, vue le 02 Mai 2024: https://tinyurl.com/3smjyxx4

24) انظر: ما الجديد في تحالف "الانقلابيين" في غرب إفريقيا؟، 30 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 2 يونيو/حزيران 2024)، https://shorturl.at/FfJS0

25) انظر: جيوش دول الساحل وتوغو تجري مناورات في النيجر: نواة تحالف جديد؟، العربي الجديد، 27 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 2 يونيو/حزيران 2024)، https://shorturl.at/zvIAG

26) انظر: تشاد/روسيا: الرئيس الروسي يستقبل رئيس الجمهورية الفريق أول محمد إدريس ديبي بقصر الكرملين، يناير 2024، (تاريخ الدخول: 2 يونيو/حزيران 2024)، https://shorturl.at/fExgp

27) انظر: روسيا تساعد تشاد في تحرير رهائن بإفريقيا الوسطى، 29 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 2 يونيو/حزيران 2024)، https://shorturl.at/x0hor

28) انظر: رابطة الكومنولث، 4 يناير/كانون الثاني 2011، (تاريخ الدخول: 2 يونيو/حزيران 2024)، https://shorturl.at/KGRrz