بعد مرور ما يقارب الشهر على بدء الحملة ضد قطر يتضح أن "جدار برلين" لم ينجح في كسر إرادة القطريين، وذلك لجملة أسباب: التوقعات في الرياض و(أبوظبي) باستسلام قطري سريع، والمفاجأة بالصمود والإصرار القطريين، والاندفاع نحو اتخاذ إجراءات تصعيدية لا ترتكز إلى حساب مخاطر دقيق، والاطمئنان المبالغ فيه إلى الموقف الأميركي والغربي، وإلى تأثير الدولتين في الإقليم؛ مما أدى إلى فشل الحملة وإخفاق من تعهدوها في تحقيق أهدافهم.
هل ثمة من أخطأ الحساب في دول معسكر القطيعة؟ ولماذا؟ وإلى أي مدى يمكن لهذه الأزمة أن تتصاعد؟ وهل لم يزل هناك من أوراق في يد دول معسكر الحصار والقطيعة؟
تسرُّع ومبالغة
ثمة أدلة متزايدة على أن الذين اتخذوا قرار الحملة ضد قطر لم يتوقعوا أن تستمر أزمة العلاقات الخليجية طويلًا، وأنهم تصوروا أن قطر لن تلبث أن تنصاع لضغوط السعودية والإمارات. فمن الملاحظ، مثلًا، أن الهجمة الإعلامية ضد قطر، قادتها وسائل إعلام سعودية وإماراتية، من 23 مايو/أيار 2017 إلى 5 يونيو/حزيران 2017، بدون أن يصدر موقف رسمي من الدولتين؛ وكأنَّ من أطلق العنان للحملة لم يكن يعتقد أنها بحاجة لتدخل رسمي مباشر. وحتى بعد أن دخلت الأزمة طورها الثاني، بدا أن قرار التصعيد اتُّخذ على عجل، بعد أن أخفقت الحملة الإعلامية في تحقيق أهدافها. تضمَّن قرار التصعيد إجراءات ذات طابع غير إنساني، تمس حياة ومعاش الآلاف من المواطنين الخليجيين؛ وهو ما أثار ردود فعل واسعة النطاق في الخليج كله.
كما أن من الواضح أن السعودية والإمارات لم تُجريا اتصالات مسبقة لبناء تحالف من الدول، يعزِّز من موقفها، وأنها فوجئت برفض العديد من الدول العربية والإقليمية تأييد حصار قطر ومقاطعتها. وعندما أعلنت مجموعة دول الحصار قائمة الشخصيات والمنظمات "الإرهابية" التي ادَّعت صلتها بقطر، ظهر أن القائمة وُضعت على عجل، وأنها حملت من الأدلة على عدم كفاءة من أعدَّها، أكثر من الأدلة على إدانة لقطر. ضمَّت القائمة، مثلًا، منظمات خيرية ذات اعتبار دولي؛ ومستشارًا مقرَّبًا من الرئيس اليمني، الذي يُفترض أنه وقف إلى جانب دول الحصار؛ ومصريًّا معتقلًا في سجون بلاده، لم يدخل قطر مطلقًا؛ وقائد القوة القطرية في الحدِّ السعودي الجنوبي، الذي وقف وقواته دفاعًا عن السعودية وأمنها طوال شهور. فوق ذلك كله، وبعد مرور أربعة أسابيع على اندلاع الأزمة، يعترف المسؤولون السعوديون والإماراتيون أن ليس ثمة قائمة رسمية قد أُعدِّت بعد لشكاواهم من قطر أو المطالب التي يتوقعون من الدوحة أخذها في الاعتبار؛ مما جعل الخارجية الأميركية تشكِّك في الاتهامات التي روَّج لها المقاطعون وتصفها بالمزعومة.
ليس ثمة شك في أن قرار الهجمة على قطر والعمل على إخضاعها اتُّخذ في دوائر القرار السعودي والإماراتي قبل أسابيع، على الأقل، من حادثة قرصنة موقع وكالة الأنباء القطرية، في 23 مايو/أيار 2017، التي استُخدمت كمبرر لإطلاق الحملة الإعلامية ضد قطر. وما يؤكد أن القرصنة كانت جزءًا من الخطة هو نتائج التحقيق الذي أجرته وكالة التحقيق الفيدرالي الأميركية التي أكَّدت وقوع القرصنة، وكذلك إعلان النائب العام القطري، علي بن فطيس المري، الحصول على أدلة كافية على أن القرصنة تمت من دولة من دول الحصار.
الفشل خليجيًّا
لم يكن مستغربًا، بمجرد أن انطلقت الحملة السعودية-الإماراتية ضد قطر، أن تلتحق البحرين بالسعودية والإمارات، وأن تعلن، هي الأخرى، منذ 5 يونيو/حزيران 2017، مقاطعة قطر وحصارها. بالرغم من توتر قديم في العلاقات مع قطر، اتسمت علاقات البلدين عمومًا بالودِّ والتفاهم، ولكن البحرين أصبحت إلى حدٍّ كبير محمية سعودية منذ أن انفجر الحراك الشعبي الشيعي ضد الأسرة الحاكمة في 2011، وقد اختارت البحرين الوقوف بالفعل إلى جانب السعودية من قبل، وبدون تأمُّل كاف لمكاسبها وخسائرها، كما حدث في أزمة سحب السفراء في 2014.
الحقيقة، أن الكويت، التي بدأت تحركًا سريعًا من نهاية مايو/أيار 2017، لإيجاد حل للأزمة، وعُمان، التي أيدت التحرك الكويتي، تشعران بقلق ملحوظ من الطريقة التي تصرفت بها السعودية والإمارات، وتقدر الدولتان، اللتان تحتفظان بهامش استقلال واسع عن السياسة السعودية الخارجية، أن محاولة فرض الوصاية على قطر قد تكون مجرد بداية وليس نهاية لسياسة هيمنة سعودية على الشأن الخليجي برمته.
ولكن الواضح أن سياسة مقاطعة قطر وحصارها، ومحاولة تأليب قبائل موزعة بين قطر ودول الخليج الأخرى، لم تُستقبل بتأييد شعبي في السعودية والإمارات والبحرين.
الفشل عربيًّا وإقليميًّا
كما البحرين، لم يكن متوقعًا من مصر إلا الالتحاق بمعسكر القطيعة والحصار. بصورة من الصور، يعتبر الرئيس عبد الفتاح السيسي، مدينًا للإمارات والسعودية لتأييدهما انقلاب يوليو/تموز 2013، وتوفير الدعم المالي والسياسي لنظام الحكم الذي تمخض عنه. كما أن التوتر هو السمة السائدة في علاقة القاهرة بالدوحة، سواء لشكوى نظام السيسي المستمر من تغطية الجزيرة للشأن المصري، أو لأن قطر تستضيف عددًا من معارضي النظام. بخلاف مصر، حاول الأردن إرضاء دول الحصار، بدون أن يذهب نحو قطيعة كاملة مع قطر، وذلك بإصدار قرار بتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي، وقرار إداري آخر (ثمة شك في قانونيته) بإلغاء ترخيص مكتب الجزيرة في عَمَّان. بين الدول العربية الأخرى، لم تلتحق بمعسكر الحصار فعليًّا إلا موريتانيا وجيبوتي، إضافة إلى الحكومة اليمينة، التي تتخذ من الرياض مقرًّا لها، وحكومة طبرق الليبية غير المعترف بها دوليًّا، والتي تخضع لسيطرة خليفة حفتر وتعتمد كليًّا على المساعدات الإماراتية.
في المقابل، وبالرغم من الضغوط السعودية-الإماراتية، رفض السودان، الذي تتواجد قواته ضمن التحالف العربي في اليمن، اتخاذ أي إجراء ضد قطر. وكذلك كان موقف الجزائر وتونس ولبنان وفلسطين والحكومة الليبية المعترف بها دوليًّا في طرابلس. ولم يكتف العراق بالتزام موقف محايد ودعوة الأطراف إلى الحوار، كما فعل أغلب الدول العربية، بل أعلن رفضًا صريحًا لمقاطعة قطر وحصارها. وقد فاجأ المغرب، الذي يحتفظ بعلاقات تقليدية وثيقة بالسعودية والإمارات، حلفاءه في الرياض و(أبو ظبي) برفض تأييد مقاطعة قطر وحصارها، بل والمبادرة بإرسال طائرة من المعونات الغذائية إلى قطر، في خطوة رمزية للدلالة على التضامن العربي والإنساني.
من جهة أخرى، اتفقت دول الجوار الرئيسة، تركيا وإيران وإثيوبيا، على رفض الالتحاق بمعسكر القطيعة والحصار، وإن اختلفت دوافعها وردود فعلها.
إثيوبيا، التي تحاول منذ سنوات تأسيس علاقات وثيقة بدول الخليج العربية وتشجيع الاستثمارات الخليجية، حافظت على موقفها التقليدي بعدم التورط في الخلافات العربية-العربية. إيران، في المقابل، وجدت في الأزمة الخليجية مصلحة محتملة، أولًا: لإظهار السعودية في موقف المعتدي والقوة الساعية للهيمنة على الجوار؛ وثانيًا: لأن اندلاع الأزمة الخليجية وضع نهاية لمهرجان التضامن الإقليمي-الأميركي ضدها، كما يضعف موقف المعسكر المؤيِّد للثورة السورية. وربما أمَّل المسؤولون الإيرانيون أنَّ تفاقم الخلافات الخليجية سيساعد إيران على إقامة علاقات أوثق ليس مع قطر وحسب، ولكن أيضًا مع عُمان والكويت، التي باتت تخشى هي الأخرى سياسة الهيمنة السعودية. وليس ثمة شك في أن الموقف الإيراني ترك أثرًا واضحًا على مقاربة الحكومة العراقية للأزمة، ودفع رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، لاتخاذ موقف رفض صريح لمقاطعة قطر وحصارها.
بيد أن تركيا كانت الدولة محل اهتمام كافة الأطراف، منذ الأيام الأولى للأزمة، ليس فقط لأن تركيا تحتفظ بعلاقات وثيقة بكلٍّ من قطر والسعودية، ولكن أيضًا لأن تركيا وقطر وقَّعتا، منذ 2014، اتفاقية لتأسيس وجود عسكري تركي في قطر. وكان واضحًا خلال المرحلة الأولى من الأزمة، التي سبقت قرارات القطيعة والحصار، أن أنقرة تحاول الحفاظ على موقف متزن من جهتي الخلاف. وكان الرئيس أردوغان قد أرسل وزير الطاقة التركي والناطق باسم رئاسة الجمهورية إلى كلٍّ من الرياض والدوحة للتوسط واحتواء الأزمة. ولكن الرئيس التركي فوجىء بقيام السعودية والإمارات باتخاذ قرارات المقاطعة بعد ساعات فقط من عودة وفد التوسط التركي إلى أنقرة لتقديم تقريره. وهذا ما أثار غضب أردوغان ودفعه، والمسؤولين الأتراك الآخرين، لإعلان المعارضة القاطعة للإجراءات السعودية والإماراتية والتعاطف مع قطر، واتخاذ قرار فوري بسدِّ حاجات قطر من السلع الاستهلاكية التي يمكن أن تتأثر بإغلاق الحدود السعودية-القطرية.
المخاوف التركية المتزايدة من أن يُقدِم محمد بن سلمان ومحمد بن زايد على خطوات أكثر تصعيدًا هي التي دفعت الرئيس التركي، رجب أردوغان، للطلب من حكومته طرح اتفاقية التعاون العسكري مع قطر للنقاش في البرلمان التركي، يوم 7 يونيو/حزيران 2017، والتصويت لإقرار الاتفاقية في اليوم نفسه. كانت القاعدة العسكرية التركية في قطر قد هُيِّئت بالفعل من قبل، وكان عدة مئات من الجنود الأتراك قد تمركزوا فيها. ولكن البنية التحتية لاستقبال قوة برية وجوية من خمسة آلاف جندي لم تكن جاهزة بعد. ولذا، فمجرد أن وافق البرلمان التركي على نشر القوات في قطر توجه عدد من الفنيين العسكريين الأتراك للعمل مع نظرائهم القطريين من أجل وضع التجهيزات الضرورية للقاعدة. في 18 يونيو/حزيران 2017، أعلنت قطر رسميًّا عن بدء وصول طليعة القوة التركية المفترض تمركزها في قطر.
بالرغم من أن اتفاقية التعاون العسكري التركية-القطرية معروفة منذ 2014، إلا أن مناقشة البرلمان التركي وإقراره السريع للاتفاقية رسَّب شعورًا ملموسًا بعدم ارتياح في دول المقاطعة الخليجية الثلاث، على اعتبار أن التوقيت يشير إلى انحياز تركي صريح لقطر. علاقات الإمارات بتركيا لم تكن في أحسن أحوالها منذ سنوات، ولكن استياء الرياض من الموقف التركي ربما سيدفع الأوضاع نحو مستوى من التوتر في العلاقات التركية-السعودية. من جهتها، تبدو أنقرة حريصة على إظهار موقف الطرف غير المنحاز، والمصرِّ على القيام بدور الوسيط؛ وهو المعنى الذي حاولت زيارة وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في منتصف يونيو/حزيران 2017، لقطر والكويت والسعودية، أن تحمله. بيد أن هناك الكثير من الشك في ما إن كانت السعودية والإمارات ستوافقان على وساطة تركية.
الفشل دوليًّا
ليس ثمة شك في أن مراهنة الرياض و(أبو ظبي) الكبرى، ومنذ الأيام الأولى للأزمة، كانت على واشنطن. والأرجح، حتى على اعتبار أن الحملة ضد قطر خُطِّط لها منذ زمن، أن المسؤولين السعوديين والإماراتيين الذين أطلقوا الحملة لم يبحثوا خططهم مع الجانب الأميركي أثناء زيارة الرئيس دونالد ترامب للرياض. وقد أشار كبار المسؤولين الأميركيين، سيما بعد قرارات القطيعة، إلى أنهم فوجئوا بتفاقم الأزمة والتصعيد السعودي-الإماراتي. ولكن الواضح أن محمد بن زايد ومحمد بن سلمان نظرا إلى زيارة ترامب باعتبارها انتصارًا للخط الذي يُمثِّلانه في السياسة العربية، وأن بإمكانهما الثقة في تأييد ودعم الرئيس الأميركي لموقفهما من قطر. وبالنظر إلى الصلات التي تربط السعوديين والإماراتيين بعدد من المساعدين المقرَّبين لترامب، لابد أن الرياض و(أبو ظبي) لم تعدما وسيلة لإيصال وجهة نظرهما مباشرة للرئيس الأميركي، منذ بداية الأزمة في 23 مايو/أيار 2017. وهذا، ربما، ما يفسر تغريدات ترامب المبكرة، التي شابها الكثير من الغموض، والتي بدت وكأنها تدعم موقفي السعودية والإمارات في الأزمة.
منذ 7 يونيو/حزيران 2017، وبعد صدور بيان الخارجية الأميركية حول الأزمة، اتضح أن الرئيس الأميركي ليس على توافق تام مع كبار أركان إدارته، وأنه قد لا يكون على دراية كاملة بطبيعة المصالح الأميركية في الخليج وتعقيدات الأزمة. خلال الأيام القليلة التالية، بدا وكأن الرئيس أُخرج تمامًا من ملف الخليج، وأن وزارتي الخارجية والدفاع تتوليان معالجة الأزمة، على أساس من تقدير يقول: إن الأزمة لا تصب في مصلحة الولايات المتحدة، وإن حصار قطر لا يبدو أمرًا مقبولًا، وإن على أطراف الأزمة تجنب التصعيد والتفاوض لحل الخلافات، وإن الولايات المتحدة تدعم الوساطة الكويتية وعلى استعداد لتقديم كل مساعدة ممكنة لإنجاحها. مع منتصف يونيو/حزيران 2017، وبالرغم من عدم وضوح مدى التقدم في الوساطة الأميركية، لم يعد ثمة شك في أن مراهنة دول الحصار على تأييد أميركي صريح لموقفها لم تنجح.
وربما كان بيان الخارجية الأميركي، يوم 20 يونيو/حزيران 2017، الذي أعرب عن فقدان واشنطن الصبر بانتظار شكاوى دول الحصار من قطر، تعبيرًا من الإدارة الأميركية أن الوقت ليس في صالح دول المقاطعة، وأن المطلوب منها تسوية الأزمة سريعًا. ولم تكن مصادفة أن بيان الخارجية جاء في الوقت الذي أفادت تقارير من الدوحة، إضافة إلى تصريحات المدِّعي العام القطري، أن المحققين الأميركيين توصلوا إلى أدلة بأن مصدر قرصنة وكالة الأنباء القطرية كان في دولة مجاورة لقطر، أشارت تقارير إلى أنها الإمارات.
بعد ذلك، طالب وزير الخارجية الأميركي، تيلرسون، الأربعاء 21 يونيو/حزيران، من دول الحصار تسوية الأزمة ضمن عدد من المحدِّدات، أولًا: داخل مجلس التعاون الخليجي وضمن الوساطة الكويتية، ثانيًا: أن تكون المطالب معقولة وقابلة للتنفيذ، ثالثًا: الحرص على وحدة مجلس التعاون الخليجي وتماسكه. وهي اشتراطات ضيَّقت على خيارات دول الحصار، التي كانت تريد تدويل خلافها مع قطر، وفرض وصاية دولية عليها، وتجاوز مجلس التعاون الخليجي وقواعده.
إلى جانب ذلك، بذلت دول الحصار جهودًا لكسب التأييد الأوروبي، تجلَّت في قيام وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في أيام الأزمة الأولى، بزيارة لكل من فرنسا وألمانيا، وفي لقاءات عقدها سفراء دول الحصار الخليجية الثلاث مجتمعين مع مسؤولين في وزارات خارجية عدد من الدول الأوروبية. ولم يكن خافيًا أن دول الحصار تعوِّل على أن وضع الأزمة في إطار مكافحة الإرهاب سيكون مقنعًا لأغلب العواصم الأوروبية. ولكن نتائج هذه الجهود لم تكن سارة لقادة دول الحصار. كما الإدارة الأميركية، لم يكن هناك في أوروبا من يريد رؤية أزمة جديدة تنفجر في الشرق الأوسط، تضاف إلى تعقيدات الأوضاع في سوريا والعراق واليمن. ولكن الأهم، أن أغلب العواصم الأوروبية لم يجد في الاتهامات الموجهة لقطر مسوغًا كافيًا لتبرير القطيعة والحصار.
خلال جولته الأوروبية، استُقبل وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بتعاطف وتفهم واضحين، وبدا أن قطر كسبت المعركة الدبلوماسية في الساحة الأوروبية. في 19 يونيو/حزيران 2017، عبَّرت مفوَّضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية بعبارات لا ينقصها الوضوح عن رأي دول الاتحاد بضرورة تجنب التصعيد في الخليج وبدء تفاوض مباشر بين أطراف الأزمة للتوصل إلى حل سريع، يحفظ وحدة مجلس التعاون الخليجي واستقرار دوله.
وعلى نحو ما، لم يختلف الموقفان، الروسي والصيني، عن الموقف الأوروبي، وإن بدا المسؤولون الروس أكثر نشاطًا في تحركاتهم واتصالاتهم بأطراف الأزمة من نظرائهم الصينيين، ربما لأن موسكو وجدت في اندلاع الأزمة ما يمكن أن يفيد السياسة الروسية، وانخراطها المتزايد في الشرق الأوسط لمزاحمة الدور الأميركي والعمل المستمر على إضعافه.
إخفاق استراتيجي
بعد مرور ما يقارب الشهر على بدء الحملة ضد قطر، تبدو أزمة الخليج وكأنها تراوح مكانها. إخفاق دول الحصار في تحقيق تعبئة خليجية وعربية لدعم سياستها، وعجزها عن إقناع الأوروبيين، وتراجع آمالها في تبلور موقف أميركي أكثر ضغطًا على قطر، وضع حدودًا لتوجهات تصعيد الأزمة. الحضور التركي، والمعارضة الأميركية، تجعل الخيار العسكري مستبعدًا كلية؛ وبعد إجراءات القطيعة والحصار في 5 يونيو/حزيران 2017، لم يعد ثمة الكثير من الأوراق في يد الرياض و(أبو ظبي). في المقابل، أظهرت قطر قدرة فائقة على الصمود، بل والتعايش مع وضع الحصار لفترة طويلة من الزمن. وتشير توكيدات وزير الخارجية القطري، 19 يونيو/حزيران 2017، على أن قطر لن تقبل الذهاب للتفاوض قبل رفع الحصار، إلى ثقة الدوحة المتزايدة بصلابة موقفها.
وهذا ما يضع مستقبل الأزمة الخليجية أمام ثلاثة احتمالات رئيسية:
الأول: وهو الأرجح، أن تنجح جهود الوساطة الكويتية والضغوط الأميركية في إطلاق مسار تفاوضي بين قطر وخصومها الخليجيين، تحكمه محدِّدات واضحة، تفرِّق بين ما يمكن وصفه بهواجس دول الحصار، من جهة، وشؤون قطر الداخلية وشروط سيادتها واستقلال قرارها الوطني، من جهة أخرى. يحتاج مثل هذا النجاح تقديرًا عقلانيًّا في عواصم دول الحصار لحجم الخطأ الذي ارتكبته في حساباتها، وعجزها عن إيجاد وسائل أخرى للضغط على الدوحة. ويعزِّز هذا الاتجاه التصريحات الأميركية والكويتية والعُمانية المتفائلة.
ولعل التحول في القيادة السعودية بتعيين محمد بن سلمان وليًّا للعهد مكان محمد بن نايف، يكون قد استنفد غرضًا رئيسيًّا في الأزمة الخارجية مع قطر تمثَّل في حشد السعوديين وراء قيادتهم وشحنهم بالشعور الوطني مما يجعلهم يغلِّبون الخلاف الخارجي على أي اختلاف داخلي حول مسائل الحكم، لكن بعد تولي محمد بن سلمان ولاية العهد تتغير الأولويات، فينتقل التركيز من الخارج إلى الداخل للإمساك جيدًا بمفاصل الدولة، وتحسين حياة السعوديين المعيشية لكسب رضاهم، لذلك يحتاج إلى خفض التوترات مع الخارج، خاصة إذا كانت تستنزف موارد السعودية المتناقصة وإذا كانت تتعارض مع مطالب الولاية المتحدة في الأزمة الخليجية كما أوضحت الخارجية الأميركية. وليس من المرجَّح أن يبدأ محمد بن سلمان ولايته للعهد بإعاقة ترتيبات الأميركيين للمنطقة والإيحاء بأنه لا يُعتمد عليه وليس حليفًا موثوقًا.
في المقابل، هناك عوائق تحول دون تحقق هذا الاحتمال، وهو الطبيعة الشخصية للعلاقات الخليجية، وانطلاق الحملة ضد قطر أصلًا بدون مبررات صلبة، لكن هذه الاعتراضات تبدو كلفة التمسك بها عالية ومكاسبها ضئيلة.
الاحتمال الثاني: وهو تجميد الوضع، وهو أقل احتمالًا من الأول، ويدلِّل عليه ما أشار إليه وزير الدولة الإماراتي، أنور قرقاش، 18 يونيو/ حزيران 2017، بـخيار "عزل قطر لسنوات"، هو استمرار الأزمة لفترة غير محدودة، أو تحولها إلى ما يشبه الوضع الراهن المعتاد. بمعنى، أن تصر دول الحصار، مدفوعة بالكبرياء والغرور وأوهام المصالح الآنية، على القطيعة مع قطر وحصارها.
المسار الثالث: هو مزيد من التصعيد، بممارسة الضغوط والإغراء لدفع دول جديدة إلى محاصرة قطر، لكن هذا السيناريو يبدو أقل السيناريوهات تحققًا؛ لأن كلفته مرتفعة للسعودية نفسها وللأميركيين. أما للسعودية فإن مجال نفوذها الرئيسي، وهو مجلس التعاون الخليجي، يبدو اليوم أقرب إلى معسكرين منقسمين: قطر وعُمان والكويت، في جانب، والسعودية والبحرين والإمارات، في جانب آخر. مثل هذا الانقسام لن يصيب المجلس بالشلل، وحسب، بل ويهدد مجرد وجوده أيضًا. وإذا فقدت السعودية النفوذ على مجالها القريب فكيف يمكنها أن تمارس نفوذًا على مجالات أبعد. أما بالنسبة للأميركيين، فكما ذكرنا سابقًا، لقد أوضحوا مرارًا وتكرارًا أن الأزمة تضر مصالحهم، وأن تسويتها تحظى بالأولوية، كما اتضح من إجراء وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، عشرين مكالمة، وإلغاء زيارته للمكسيك للتفرغ لتسوية الأزمة. وليس من الراجح أن دولًا جديدة ستلتحق بالحصار وهي ترى أنه يخالف رغبة الولايات المتحدة، مما يجعل فرص نجاحه تتضاءل، وتجد نفسها بالتالي في صف الخاسرين.