تأثيرات أزمة الخليج على التوازنات الإقليمية

أثرت الأزمة الخليجية على تفاعلات أطرافها مع محيطهم الإقليمي، نتيجة بروز مخاطر وفرص دفعت مختلف القوى إلى تغيير أولوياتها ومراجعة اصطفافاتها.
d87f042705dc4052ab6c859a82796683_18.jpg
العلاقات التركية-القطرية مركز رئيسي في تحولات المواقف الإقليمية من الأزمة الخليجية (أسوشيتد برس)

مقدمة 

اعتُبرت الأزمة الخليجية الراهنة في بدايتها شأنًا خليجيًّا طارئًا وعابرًا، سرعان ما ستجد دول الخليج مخرجًا منه (على أساس أن دور مصر في الأزمة هامشي، وملحق). ما عزَّز هذا التصور، كان التحرك السريع الذي تعهده أمير الكويت، الذي كان لعب دورًا رئيسًا في حل أزمة العلاقات بين قطر والسعودية والإمارات والبحرين في 2013–2014، للوساطة بين قطر ودول الحصار والقطيعة الخليجية الأخرى. إضافة إلى ذلك، فهذه ليست الأزمة الأولى في العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي الست، التي لم تتسم العلاقات بين دولها دائمًا بالدفء، منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي في ثمانينات القرن الماضي.

بيد أن الأزمة، وبالرغم من الجهود الكويتية، وجهود وزير الخارجية الأميركي والرئيس التركي، لم تجد طريقها إلى الحل؛ بل وتبدو، بعد أكثر من ثلاثة شهور على اندلاعها، وكأن الوضع الخليجي ما بعد اندلاع الأزمة آخذ في التحول سريعًا إلى ما يشبه "العادي الجديد" في الجانب العربي من الخليج. ولكن ثمة ما هو أهم؛ فما بدأ أزمةً خليجية، أخذ في التأثير على المجال الإقليمي برمته، ويسهم، بصورة ملموسة، في إعادة بناء نظام العلاقات الإقليمية.

هذا استطلاع أولي لأبرز متغيرات العلاقات الإقليمية، التي ارتبطت، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبصورة كلية أو جزئية، بأزمة الخليج.

تغيرات مجلس التعاون الخليجي

تأسَّس مجلس التعاون الخليجي، بعضوية كل من السعودية وعمان والكويت والإمارات وقطر والبحرين، في مايو/أيار 1981. لم يكن خافيًا آنذاك، والحرب العراقية-الإيرانية في ذروتها، أن الهدف من المجلس كان بناء منظومة تعاون وتنسيق إقليمية تعمل على حماية أعضائها من المخاطر المستجدة التي نبعت من الثورة في إيران ونظام الجمهورية الذي وُلد منها. 

بيد أن الشعور المتعاظم بالخطر لم يكن كافيًا لتجاوز الخلافات بين دول المجلس، سواء الحدودية منها أو ذات الطابع السيادي. ولذا، كان التقدم في بناء منظمة تعاون وتنسيق خليجية بطيئًا ومحفوفًا بالعقبات. كما أن وجود المجلس لم يمنع اندلاع أزمات في العلاقات الثنائية، في أحيان، وأكثر من ثنائية، في أحيان أخرى.

ولكن، وبالرغم من ذلك كله، وفَّر مجلس التعاون إطار الحد الأدنى لحل الخلافات بين دوله الأعضاء، أو على الأقل لمنع تفاقمها، والحفاظ على قدر معتبر من الاستقرار الخليجي كما في مواجهة احتلال الكويت ومواجهة التهديدات الإيرانية خاصة عقب ثورة الخميني. كما أحرز تقدمًا ملموسًا في فتح المجال الخليجي لحركة البشر والأموال والبضائع بلا عوائق كبيرة.

اليوم، يبدو أن الطموحات الخليجية المعلقة على المجلس ومستقبله قد انتهت، أو أصبحت أكثر تواضعًا. المشكلة في الأزمة، التي لم تخْفَ على الكويت وعُمان، اللتين رفضتا الالتحاق بمعسكر القطيعة مع قطر، أنها شهدت إجراءات غير مسبوقة في العلاقات بين دول الخليج، بل ولم يكن من الممكن تصورها قبل اندلاع الأزمة. لم تقتصر هذه الإجراءات على محاولة خنق قطر اقتصاديًّا وسياسيًّا، والقطيعة الكاملة مع شعبها، الذي تربطه صلات عائلية وثيقة بشعوب دول الخليج المجاورة، ولكنها تضمَّنت أيضًا خططًا إماراتية وسعودية للتدخل العسكري في قطر والتحكم بشؤونها الداخلية. وبالنظر إلى أن الكويت وعُمان تحتفظان بقدر متفاوت من الاستقلالية في سياساتهما الخارجية، فقد أثارت سابقة حصار قطر وتهديدها مخاوف واضحة في الكويت ومسقط من وقوعهما في أزمة مماثلة.

انعكست المخاوف الكويتية والعمانية على موقف كل منهما من الأزمة؛ فقد مال أغلب الرأي العام الكويتي والعُماني إلى جانب قطر، كما أظهرت الدولتان تعاطفهما مع الدوحة وعملت على تخفيف حدة الحصار المفروض عليها: قام وزير الخارجية العماني بزيارة تضامنية للدوحة؛ وفتحت عُمان موانيها لسفن الشحن التجارية، التي تحمل بضائع لقطر، قبل افتتاح الأخيرة ميناء حمد، وعندما لم يكن ممكنًا للسفن الكبيرة الرسو في الموانئ القطرية. وبذلك، حلَّت الموانئ العمانية محل ميناء جبل علي الإماراتي. وإلى جانب تضاعف حركة النقل الجوي بين قطر وعمان، شهدت حركة السياحة الكويتية والعمانية لقطر ارتفاعًا ملموسًا، في مواجهة إجراءات الحظر التي فرضتها دول الحصار على زيارة مواطنيها لقطر. وحتى بعد مرور أكثر من ثلاثة شهور على اندلاع الأزمة، لم يخف أمير الكويت، في مؤتمره الصحافي مع الرئيس الأميركي بواشنطن 7 سبتمبر/أيلول 2017، استغرابه من الهجمة المفاجئة على قطر من قِبل السعودية وحليفتيها الخليجيتين، والمطالب التي تمس بالسيادة التي أعلنتها دول الحصار والقطيعة من قطر، وإشادته بعقلانية الموقف القطري. 

بذلك، يبدو مجلس التعاون وكأنه ينقسم، وإن بصورة غير رسمية، إلى معسكرين: الأول: ويضم دول الحصار والقطيعة الثلاث؛ والثاني: ويضم قطر والكويت وعمان. وحتى تنقشع الأزمة، لم يعد من الممكن قيام المجلس بأي عمل فعَّال، أو إنجاز ولو خطوة إضافية واحدة على صعيد التنسيق والتضامن بين دوله. وحتى إن وُجِد حلٌّ ما للأزمة؛ الأمر الذي لا يُتوقع أن يحدث قريبًا، فمن المشكوك فيه أن تنسى قطر ما قامت به دول القطيعة والحصار من إجراءات ضدها، أو تتجاهل الكويت وعمان فداحة المدى الذي ذهبت إليه الدول الثلاث في هجمتها ضد شقيقة خليجية أخرى.

تحولات السياسة السعودية الإقليمية

لم تصنع أزمة الخليج شقوقًا في العلاقات الخليجية-الخليجية وحسب، بل أثَّرت، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، في عدد من المقاربات السعودية للإقليم.

اندلعت أزمة الخليج في وقت باتت الرياض أكثر إدراكًا لتعثر حربها في اليمن، بعد أكثر من عامين على بدء الحرب؛ وهذا ما يدفع السعودية إلى محاولة تخفيف حدَّة التوتر مع إيران، سيما بعد أن أظهرت الأخيرة قدرتها على التأثير في الشأن السعودي الداخلي وفي المواجهة بين السلطات السعودية والعناصر الشيعية الراديكالية، ذات الصلة بإيران، في شرق المملكة. وقد تجلت المقاربة السعودية الجديدة للعلاقات مع إيران في الاستقبال الدافئ والترحيبي الذي وجده الحجاج الإيرانيون من المسؤولين السعوديين في موسم الحج الأخير، بعد أن كانت إيران أوقفت مواطنيها من الحج في الموسم الماضي 2016. وقد ذكر مسؤولون إيرانيون أن السلطات الإيرانية أصدرت بالفعل تأشيرات لوفد سعودي رسمي، يُفترض أن يزور طهران للتمهيد لإعادة فتح السفارة السعودية، التي كانت أُغلقت بعد هجمات تخريبية قام بها متظاهرون إيرانيون في يناير/كانون الثاني 2016.

ويبدو أن أحد أهداف التقارب السعودي مع إيران هو البحث عن حل للوضع في اليمن، الذي أكد مسؤول إيراني في 14 سبتمبر/أيلول 2017، أنه كان موضع اتصال سعودي مبكر مع طهران في ذروة تصاعد الحرب اليمنية. ولكن السبب الآخر يتعلق بلا شك بالموقف من قطر؛ حيث يظن المسؤولون السعوديون أن بإمكانهم ربما التأثير على إيران ووضع حدٍّ لدعمها لقطر والتسهيلات التي قدمتها لحركة الطيران والتجارة معها. ولكن، وبالرغم من مؤشرات التغيير في المقاربة السعودية لإيران، فثمة شك كبير في إحراز تقدم على صعيد العلاقات السعودية-الإيرانية في المدى القريب، نظرًا لحجم الخلافات المتراكمة بين الدولتين.

الجهود السعودية لإعادة بناء العلاقات مع العراق، الذي تتمتع فيه إيران بنفوذ كبير، كانت أكثر وضوحًا. ولكن هنا أيضًا تبدو الآمال السعودية مبالغًا فيها. كانت السعودية أعادت فتح سفارتها في بغداد في ديسمبر/كانون الأول 2015، بعد 25 عامًا من القطيعة بين الدولتين. وقد فُهمت الخطوة السعودية آنذاك باعتبارها استجابة للدعوات الأميركية، التي طالبت الدول العربية، ودول الخليج، على وجه الخصوص، بالعودة النشطة إلى بغداد والعمل على إقامة توازن مع النفوذ الإيراني المتزايد في العراق. وقد أيدت السعودية، خلال 2015 و2016، الجهود التركية بل وشاركتها في بناء تحالف من القوى والشخصيات العربية السنية في العراق. ولكن الواضح أن المقاربة السعودية للعراق اكتسبت دفعًا جديدًا بعد اندلاع الأزمة الخليجية. ففي 19 يونيو/حزيران 2017، استقبل الملك سلمان رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، بحفاوة ظاهرة. وفي 30 يوليو/تموز 2017، قام الزعيم الشيعي، مقتدى الصدر، بزيارة للسعودية، استجابة لدعوة سعودية رسمية، التقى خلالها بولي العهد السعودي، محمد بن سلمان.

لكن العبادي أعلن بوضوح، قبل زيارته للسعودية وبعدها، أن العراق لن يشارك في حصار قطر بأي صورة من الصور؛ وأن الصدر امتنع كلية عن الإدلاء بأية تصريحات ضد قطر، بالرغم من الدفء الاستثنائي الذي أحيطت به زيارته، ومن الاستجابة السعودية لمعظم مطالبه، مثل افتتاح قنصلية سعودية في النجف. ولكن الخيبة من رفض بغداد مقاطعة قطر، لم تمنع المسؤولين السعوديين من إظهار ثقة كبيرة على مزاحمة إيران في العراق.

ولا يقل انعكاس الأزمة الخليجية على سياسات السعودية تجاه نظام السيسي في مصر والمسألة السورية عنه على الموقف من إيران والعراق. ففي مصر، وبالرغم من الفتور في علاقات الرياض بالقاهرة بعد امتناع الأخيرة عن المشاركة الفعالة في حرب اليمن، وتراجع السعودية عن وعود الدعم المالي لنظام السيسي، أصبحت السعودية أكثر حرصًا على وجود مصر في التحالف ضد قطر وأكثر التزامًا ببقاء النظام المصري. أما في سوريا، فثمة مؤشرات متزايدة على أن الرياض تمهِّد لانسحاب حثيث من دعم المعارضة السورية لنظام الأسد، سواء لمحاولتها تخفيف الأعباء الملقاة على عاتقها بعد اندلاع أزمة الخليج، أو رغبتها في إرسال رسائل إيجابية لإيران، أو تقديرها بأنها خسرت معركة سوريا. وقد طالبت السعودية مؤخرًا الهيئة العليا للتفاوض، التي تمثِّل المعارضة السورية وتتخذ من الرياض مقرًّا لها، بتوسيع نطاق القوى المشاركة فيها، بحيث تضم الجماعات التي يُشَكُّ في صدقية معارضتها، والمدعومة من روسيا ومصر، وبإعداد موقف تفاوضي جديد، ينسجم مع تحولات توازن القوى الجديد في سوريا.

بيد أن أخطر متغير في سياسات الرياض الخارجية يتعلق ببروز أدلة على بداية علاقات سعودية-إسرائيلية. والحقيقة أن مؤشرات على مقاربة سعودية مختلفة للعلاقات مع الدولة العبرية أخذت في الظهور منذ بداية عهد الملك سلمان، مثل اللقاءات العلنية بين الأمير تركي الفيصل، رئيس جهاز المخابرات السعودية الأسبق، وعدد من المسؤولين الإسرائيليين، في مؤتمرات عُقدت بأوروبا والولايات المتحدة، أو الزيارة التي قام بها الجنرال السعودي المتقاعد، أنور عشقي، وعدد من الشخصيات السعودية المغمورة للدولة العبرية. المؤكد في الحالتين، أن لا تركي الفيصل ولا أنور عشقي كان بإمكانه أن يقوم بما قام به من خطوات بدون إشارة خضراء من الرياض. كما نُشرت تقارير خلال 2015 و2016 عن وجود اتصالات سعودية-إسرائيلية غير مباشرة بخصوص مسألة جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، التي تقول السعودية إنهما تعودان لها، وانتهت بالفعل إلى تنازل القاهرة عن سيادتها عليها لصالح السعودية، بموافقة إسرائيلية.

ما فُهم في هذه الحالات، أن السعودية أرادت إرسال رسائل للدولة العبرية لتوكيد التوافق بين الدولتين على الموقف من إيران والبرنامج النووي الإيراني، وتسهيل انتقال السيادة على جزيرتي تيران وصنافير، اللتين تتصلان بحركة الملاحة عبر مضيق تيران واتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، بيد أن تقارير في الأسبوعين الأولين من سبتمبر/أيلول 2017 أفادت بأن أميرًا سعوديًّا قام بزيارة سرية للدولة العبرية. وبالرغم من أن من المستبعد أن يكون الأمير المشار إليه هو محمد بن سلمان، كما أُشيع حينها، فإن مثل هذه الزيارة تعتبر سابقة في تاريخ الموقف السعودي من الدولة العبرية، بغضِّ النظر عن شخصية هذا الأمير. ما يعزز صدقية تقرير الزيارة أن الحكومة الإسرائيلية امتنعت عن إنكار وقوعها؛ بل إن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، لم يتردد، في تعليق مستبطن على تقرير زيارة الأمير السعودي، في القول بأن العلاقات الإسرائيلية مع الدول العربية وصلت مستوى غير مسبوق.

الحاصل أن ثمة من يعتقد في الرياض أن إقامة علاقات مع الدولة العبرية سيصبُّ لصالح المواجهة مع إيران، في حال لم تنجح محاولات حل إشكاليات العلاقات السعودية-الإيرانية، وأن التأييد الإسرائيلي لحصار قطر ومحاولة إخضاعها، سيما في الساحة الأميركية، سيعزز الموقف السعودي في أزمة الخليج.

تفاعلات تركيا، وإيران، ودول الخليج

لم تُلْقِ أزمة الخليج بثقلها على المقاربة السعودية لإيران وحسب، بل وعلى مجمل العلاقات الخليجية مع إيران، كما على دور تركيا وعلاقات أطراف الأزمة الخليجية المختلفة معها.

وكان من الواضح، منذ بداية الأزمة، أن طهران أخذت موقفًا مؤيدًا لقطر ومناهضًا لإجراءات الحصار والقطيعة معها، بالرغم من أن الدوحة تبنَّت سياسات تتناقض والسياسات الإيرانية في سوريا، كما سبق أن سحبت سفيرها من طهران تضامنًا مع السعودية، عندما قطعت الأخيرة علاقاتها مع إيران في مطلع 2016. وليس ثمة شك في أن انحياز إيران لقطر نبع من طبيعة المواجهة السعودية-الإيرانية، وخشية إيران من سيطرة سعودية خليجية إن استطاعت الرياض فرض شروطها على الدوحة.

فتحت إيران أجواءها للطيران القطري، وعملت على المشاركة في سدِّ النقص في المواد الغذائية في السوق القطري، المترتب على إغلاق حدود قطر البرية الوحيدة مع السعودية، كما وافقت على توقيع اتفاق على توفير ممر تجاري بري للصادرات التركية إلى قطر. إلى جانب ذلك، أظهرت قطر، من جهتها، تقديرها للموقف الإيراني بالإعلان عن عودة السفير القطري إلى طهران، والمشاركة في مسار الآستانة، الذي أطلقته روسيا للتوصل إلى حلٍّ تدريجي للمسألة السورية. ولم يخف سفير قطر في الجامعة العربية، في اشتباك خطابي مع نظيره السعودي خلال جلسة لمجلس الجامعة، في 12 سبتمبر/ أيلول 2017، طبيعة التغيير في الموقف القطري من إيران عندما وصف الأخيرة بـ"الدولة الشريفة".

بيد أن تركيا، وليس إيران، كانت القوة الإقليمية التي برزت في مجريات الأزمة باعتبارها الدولة صاحبة الدور الأكثر حيوية في منطقة الخليج. كانت تركيا حاولت التوسط مبكرًا في الأزمة، عندما أرسل الرئيس التركي وزير مواصلاته، بيرات البيرق، والناطق باسمه، إبراهيم كالين، في مطلع يونيو/حزيران 2017، للقاء المسؤولين السعوديين والقطريين. ولكن تلك المحاولة لم تأتِ بنتائج تُذكر، بل وسرعان ما فوجئت أنقرة بإجراءات الحصار والقطيعة مع قطر في 5 يونيو/حزيران 2017. وهذا ما دفع الحكومة التركية، التي كانت قد وقَّعت اتفاقية تعاون استراتيجي مع قطر في 2014، إلى طلب تصديق البرلمان العاجل على الاتفاقية، ومن ثم بدء جهود حثيثة لتشغيل القاعدة العسكرية التركية في قطر. وليس ثمة شك في أن وصول القوات التركية إلى قطر أسهم بصورة ملموسة في إجهاض خطط التصعيد العسكري من قبل السعودية والإمارات. كما سارعت أنقرة إلى إطلاق عملية نقل جوي كبيرة لتوفير المواد الغذائية في السوق القطري، التي تأثرت إمداداتها بفعل إجراءات الحصار وإغلاق المعبر البري القطري الوحيد مع السعودية.

حرصت أنقرة، التي تتمتع بعلاقات وثيقة مع الرياض منذ تولي الملك سلمان مقاليد الحكم، على تبني خطاب غير منحاز تجاه أطراف الأزمة، ودعت من البداية إلى المصالحة واحتواء الخلاف، لكن تعنت دول القطيعة والحصار اضطر تركيا إلى تفعيل اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين قطر وتركيا، فردَّت دول الحصار بطلب إغلاق القاعدة التركية في قطر ضمن قائمة المطالب الثلاثة عشر التي أعلنتها بعد مرور شهر على اندلاع الأزمة. رفضت قطر قائمة المطالب، على أية حال، وردَّت تركيا مؤكِّدة على أن الاتفاقية التركية-القطرية هي عمل من أعمال السيادة لا يحق لطرف ثالث التدخل فيه. ولكن، وبالرغم من أن الرئيس أردوغان قام بمحاولة ثانية للتوسط في الأسبوع الأخير من يوليو/تموز 2017، شملت زيارة الكويت والسعودية وقطر، إلا أن تركيا أصبحت، سواء أرادت أو لم ترد، طرفًا رئيسًا في الأزمة.

نجم عن الدور الذي لعبته تركيا في الأزمة عدد من النتائج؛ فمن جهة، انتقلت العلاقات القطرية-التركية إلى مستوى أعلى من الصداقة والتحالف؛ وببدء تشغيل القاعدة العسكرية في قطر، أصبحت تركيا طرفًا مباشرًا في توازنات الخليج الاستراتيجية. ومن جهة أخرى، عاد البرود من جديد إلى العلاقات التركية-الإماراتية، بعد شهور من محاولات التطبيع بين البلدين. وكان من الملاحظ أن الإمارات تغيبت عن لقاء القوى والشخصيات السنية العراقية، الذي عُقد برعاية تركية في أنقرة في أغسطس/آب الماضي 2017، بينما حضر ممثلو السعودية والأردن وقطر. والواضح، بالرغم من درجة التفاهم والتنسيق الوثيقة بين السعودية والإمارات، أن القيادة السعودية لم تزل حريصة على المحافظة على علاقاتها مع تركيا في مستواها الطبيعي. الرياض، بالتأكيد، ليست سعيدة بالموقف التركي من الأزمة، ولكن مائدة الأزمات السعودية باتت مزدحمة بلا شك، وليس من مصلحة الرياض تأزيم العلاقات التركية-السعودية في هذه المرحلة.

من جهة ثالثة، شجعت الأزمة، واستجابة تركيا السريعة لتنفيذ التزاماتها مع قطر، الكويت على الارتفاع بمستوى العلاقات التركية-الكويتية. وليس ثمة شك في أن الكويتيين أخذوا في بناء حسابات جديدة لأمن بلادهم، تضع في الحسبان المخاطر المفاجئة التي تهددت قطر من شقيقاتها الخليجيات، واحتمال انهيار مجلس التعاون الخليجي، أو فقدانه الفعالية على الأقل، وضرورة بناء عدد من التحالفات البديلة للحفاظ على أمن الكويت الإقليمي. وهذا ما دفع الكويت إلى تعزيز علاقاتها الأمنية والعسكرية مع تركيا، وتوقيع عدد من اتفاقيات التعاون في المجالين خلال زيارة رئيس الوزراء الكويتي لأنقرة في منتصف سبتمبر/أيلول 2017.

انعكست أزمة الخليج، في الوقت نفسه، على العلاقات التركية-الإيرانية، سيما أن كلتا الدولتين اتخذتا موقفًا اعتُبر في جوهره مؤيدًا لقطر وحرصًا على أمنها واستقرارها. وكان وزير الخارجية الإيراني قد قام بزيارة سريعة إلى أنقرة في مطلع الأزمة، هدفت إلى تبادل الآراء وتنسيق المواقف. وفي 15 أغسطس/آب 2017، استقبلت أنقرة رئيس أركان الجيش الإيراني، في زيارة غير مسبوقة، التقى خلالها بنظيره التركي، خلوصي أكار، وبالرئيس أردوغان. ولكن المؤكد أن العلاقات التركية-الإيرانية لم تكن سيئة حتى قبل اندلاع أزمة الخليج. فبالرغم من الخلافات الكبيرة بينهما في سوريا والعراق، حافظت الدولتان على علاقات طبيعية طوال السنوات القليلة الماضية، وعلى المصالح المشتركة التي تربط بينهما، اقتصاديًّا وأمنيًّا. وربما يمكن القول: إن التوافق حول أزمة الخليج واكب توافقات أخرى حول قلق أنقرة وطهران من سعي إقليم كردستان العراق للانفصال، والسياسة الأميركية المؤيِّدة لأكراد سوريا، والنشاطات الكردية القومية المتزايدة ضد إيران، والمخاوف الإيرانية من تبني إدارة ترامب سياسات معادية لإيران.

محاور جديدة أم تغييرات محدودة؟

من المبالغة وصف المتغيرات في العلاقات بين دول الخليج والقوى الإقليمية والدولية بالمحاور الجديدة. ثمة علاقات ثنائية جيدة أصبحت أكثر وثوقًا، وجهود متفرقة لتجاوز قطيعات سابقة وبناء علاقات أفضل؛ وعلاقات جيدة في المقابل تراجعت بصورة ملموسة أو انتقلت إلى مستوى الخصومة والعداء.

العلاقات القطرية-التركية، مثلًا، كانت علاقات ثابتة منذ سنوات قبل اندلاع الأزمة، ولكن الأزمة نقلتها إلى مستوى أعلى بكثير، سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا؛ كما أنها جعلت من تركيا طرفًا أساسيًّا في خارطة الخليج الاستراتيجية. على الجانب الآخر، ليس من الواقعي الحديث عن تحالف تركي-إيراني أو قطري-إيراني. الخلافات بين أنقرة وطهران حول مستقبل سوريا وطبيعة الحكم في العراق لم تزل جوهرية، ويصعب تجاهلها، كما أن لا أنقرة ولا الدوحة تريدان تغلغلًا إيرانيًّا أكبر في منطقة الخليج والجزيرة العربية.

ومهما كانت طموحات صانعي السياسة السعودية للعلاقات مع العراق وإيران، فلن يمر وقت طويل قبل أن يدرك السعوديون أن منافسة إيران في العراق ليست شأنًا سهلًا، وأن إخراج إيران من العراق أو إضعافها يتطلب حربًا وليس مجرد الاحتفاء بزيارة قادة عراقيين شيعة للسعودية أو إغراءات مالية. كما أن تطبيع العلاقات السعودية-الإيرانية ليس ممكنًا بدون تنازلات سعودية كبيرة في العراق وسوريا ولبنان، أي في حزام السعودية الشمالي برمته. وإن كان ثمة آمال معلَّقة على دور أميركي فعَّال في هذا الشأن، فلابد أن تصبح هذه الآمال أكثر تواضعًا؛ ليس فقط لأن إدارة ترامب ليست في أفضل حال، ولكن أيضًا، وهذا هو الأهم، لأن ليس هناك في مؤسسة الدولة الأميركية من يرغب في حرب مع إيران أو يسعى إليها. 

كما أنه ليس من المتيقن أن دول الحصار والقطيعة الأربع ستنجح في الحفاظ على علاقاتها شبه التحالفية لفترة طويلة. ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في طريقه لتولي الملك من والده، عاجلًا أو آجلًا، ولا أحد يمكنه التكهن في هذه المرحلة بالطريقة التي سيدير بها ابن سلمان، الملِك، علاقاته مع الإمارات. وإن كانت البحرين قبلت منذ زمن دور المحمية السعودية، فإن مصر السيسي هي أقرب إلى العبء على السعودية ودول الخليج منها إلى الشريك الفعلي في حمل الأعباء.

على المستوى الخليجي، ليس ثمة شك في أن الأزمة صنعت انقلابًا هائلًا في العلاقات الخليجية-الخليجية، وأن عواقب هذا الانقلاب يصعب احتواؤها حتى إن توصلت دول الخليج لحل ما للأزمة في الشهور القادمة. بكلمة أخرى، لم يعد ممكنًا التئام الشرخ الخليجي بلقاءات عشائرية وموائد مصالحة، وتبدو دول الخليج كأنها في طريق للانتقال من مرحلة التعاون والتنسيق ضمن إطار مجلس التعاون في مواجهة الأخطار الخارجية، إلى البحث المنفرد عن الأمن والحماية من مخاطرها على بعضها البعض. قطر لن تتخلى عن علاقاتها الحميمة واتفاقياتها مع تركيا، ولن تعود إلى مناكفة إيران إرضاءً للسعودية؛ وعُمان ستحرص على توثيق وتعزيز علاقاتها مع إيران؛ بينما بدأت الكويت بالفعل إعادة النظر في حساباتها الأمنية والاستراتيجية.