مقدمة
توصلت حركتا فتح وحماس في القاهرة، 17 سبتمبر /أيلول 2017، لاتفاق مصالحة جديد. وينص اتفاق القاهرة على تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وانتخابات للمجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، إضافة إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية. يُفترض أن يمهد الاتفاق الطريق أمام إنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي ويضمن رفع الحصار المفروض على قطاع غزة منذ العام 2006. وبموجب الاتفاق الجديد، أعلنت حركة حماس حلَّ "اللجنة الإدارية" التي تدير شؤون الحكم في القطاع باسمها لإفساح المجال أمام حكومة رام الله لممارسة صلاحياتها في القطاع؛ مما يجمد عمليًّا التفاهمات التي توصلت إليها حماس مع القيادي المفصول من حركة "فتح"، محمد دحلان.
ونظرًا لأن سبعة اتفاقات مصالحة قد تم التوصل إليها في الماضي برعاية عربية وبجهود فلسطينية، فشلت جميعها في اختبار التطبيق، فإن الكثير من علامات الاستفهام تدور حول فرص نجاح وضع الاتفاق الأخير موضع التنفيذ.
ومما يزيد الغموض حول فرص نجاح اتفاق المصالحة الأخير، ومجمل التحركات الهادفة إلى تغيير البيئة السياسية في غزة، حقيقة أنها تأتي في ظل تحولات دراماتيكية تشهدها المنطقة، سيما تفجُّر الأزمة الخليجية، التي أسفرت عن حالة استقطاب إقليمي كبيرة، مصحوبة بالإفصاح عن مظاهر شراكة استراتيجية بين إسرائيل وأطراف عربية.
وتدل تجارب اتفاقات المصالحة السابقة على أنها تأثَّرت دومًا بعاملين أساسيين، وهما: التباين في حسابات الأطراف الفلسطينية الداخلية وانحيازاتها السياسية والأيديولوجية؛ وتضارب مصالح القوى الإقليمية المؤثِّرة على الأطراف الفلسطينية وطابع علاقتها بإسرائيل.
فما هي حسابات الأطراف الفلسطينية من الحراك الجديد الهادف لإنهاء الانقسام؟ وما محددات مواقف القوى الإقليمية من اتفاق المصالحة؟ وما السيناريو المرجح لمآلات التحركات الهادفة لتغيير البيئة السياسية في قطاع غزة؟
اعتبارات الأطراف الداخلية
جاء اتفاق المصالحة الأخير تجسيدًا لالتقاء المصالح بين حركة حماس من جهة، وحركة فتح والسلطة الفلسطينية من الجهة الثانية. وتعد حركة حماس الطرف الفلسطيني صاحب المصلحة الأكبر بإنهاء الانقسام الداخلي، على اعتبار أن تحقيق المصالحة سيُعفي الحركة من تبعات إدارة حكم قطاع غزة الباهظة، سيما بفعل الحصار الذي أضرَّ بشكل كبير بالأوضاع الاقتصادية ويوشك على شلِّ قطاع الخدمات بشكل نهائي. وقد فاقم الأوضاع سوءًا جملة العقوبات التي قررها الرئيس، محمود عباس، تباعًا من شهر أبريل/نيسان 2017، بهدف الضغط على حماس لإجبارها على التخلي عن حكم القطاع وحل اللجنة الإدارية؛ والتي شملت تقليص رواتب الموظفين في القطاع وإحالة الآلاف منهم للتقاعد المبكر، إلى جانب تخلي السلطة عن تمويل شراء الوقود المستخدم لتشغيل محطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع.
وقد حاولت قيادة حماس تجنب الاستجابة لإملاءات محمود عباس من خلال التوصل لتفاهمات مع خصمه اللدود، محمد دحلان، القيادي المطرود من حركة فتح والذي يحظى بدعم مصري وإماراتي؛ حيث كان يفترض أن تمهد هذه التفاهمات لتوافق الطرفين على أسس لإدارة مشتركة للقطاع. ويبدو أنه تبين لقيادة حماس أن التفاهمات مع دحلان لا تضمن بالمطلق احتواء مفاعيل الحصار وتقليص الآثار الناجمة عن العقوبات التي اتخذها عباس. وقد كان أمام قيادة حماس خياران لا ثالث لهما، فإما أن تستجيب لطلب عباس بالتخلي عن حكم القطاع بحل اللجنة الإدارية، أو أن تغامر بالدخول في مواجهة جديدة مع إسرائيل لامتصاص سخط أهالي غزة، التي تحمِّلها قسطًا من المسؤولية عن تدهور الأوضاع الاقتصادية.
وقد اختارت حماس في النهاية التوافق مع عباس، على اعتبار أن الدخول في مواجهة مع إسرائيل في ظل الظروف الإقليمية والدولية والداخلية السائدة حاليًّا سيُفضي فقط إلى المس بمكانتها السياسية ويلحق ضررًا كبيرًا ببنيتها العسكرية، علاوة على أنه سيفاقم تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في القطاع. ويسمح اتفاق المصالحة أيضًا بنزع الذرائع من إسرائيل لمواصلة استنزاف القوة العسكرية لحماس من خلال توجيه ضربات لها ردًّا على عمليات إطلاق القذائف التي تنفذها الجماعات الفلسطينية الأخرى؛ حيث إن تل أبيب ترى في الحركة العنوان السلطوي الوحيد الذي يتوجب جباية أثمان منه مقابل أي عمل عسكري ينطلق من القطاع، بغضِّ النظر عن الهوية التنظيمية للجهة التي تنفذه.
وفي المقابل، فإن عباس محتاج للاتفاق مع حماس، سيما بعد قبول حماس لشروطه، لكي يضمن تجفيف البيئة السياسية التي يمكن أن تساعد دحلان على تحسين مكانته الداخلية بدعم من القوى الإقليمية. في الوقت ذاته، فإن تحقيق المصالحة الداخلية يعني عمليًّا استعادة كل من الضفة الغربية وقطاع غزة مكانتهما كوحدة سياسية واحدة، وهو ما يساعد عباس على التحرك في المحافل الدولية ويمكِّنه من المضي في استراتيجية تدويل الصراع، سيما وأن إسرائيل ظلت تحاجج بأن عباس فاقد للصفة التمثيلية كرئيس للسلطة الفلسطينية لأن قطاع غزة خارج حدود سيطرتها.
قوى عربية وإسرائيل: تحقيق مكاسب لم تحققها الحروب
نظرًا لأن أي اتفاق فلسطيني لإنهاء الانقسام الداخلي يتطلب وجود مظلة عربية لتغطيته سياسيًّا واقتصاديًّا، فإن انحيازات القوى الإقليمية وخارطة مصالحها تؤثِّر بشكل كبير على اتجاهات الحراك الهادف إلى تحقيق المصالحة الفلسطينية. وقد منحت حقائق الجغرافيا مصر دومًا تأثيرًا حصريًّا على أي اتفاق مصالحة يُنهي معاناة الغزيين، على اعتبار أن مصر تتحكم بالبوابة الوحيدة لقطاع غزة للعالم، وهو معبر "رفح". وبدون ضمان أن يؤدي اتفاق المصالحة إلى فتح المعبر، فإن هذا يعني أن الحصار سيتواصل على القطاع؛ فمصر التي لم تتمكن من ضمان نجاح تفاهمات دحلان-حماس، قادرة، في المقابل، على إفشال تطبيق اتفاق القاهرة الأخيرة في حال لم تتم مراعاة مصالح نظام الحكم فيها وانحيازاته الإقليمية والدولية. وتنظر مصر إلى اتفاق المصالحة من خلال اعتبارين أساسيين، وهما:
- أولًا: تأثير الاتفاق على مستوى وفاء حماس بالتزاماتها الأمنية تجاه القاهرة، سيما ضمان عدم تحول غزة لمصدر تهديد أمني في سيناء.
- ثانيًا: انحيازات نظام السيسي الإقليمية وطابع شراكته مع إسرائيل. وقد حفَّز تفجر الأزمة الخليجية نظام السيسي لمحاولة دفع حماس للتخلي عن علاقاتها الخاصة مع كل من قطر وتركيا، من خلال عرض الاستعانة بالدول الخليجية التي تشاركه في محاصرة قطر للتعويض عن الدور الذي تضطلع به الدوحة في تمويل معظم مشاريع إعادة الإعمار في القطاع. وعلى الرغم من أن عباس أفشل تفاهمات حماس-دحلان، التي كان يفترض أن تمثِّل الصيغة السياسية التي تضمن انفصال حماس عن حلفائها الإقليميين؛ إلا أن نظام السيسي يراهن على إمكانية توظيف ثقل مصر في محاولة إجبار عباس على قبول أن يلعب دحلان دورًا رئيسيًّا في القطاع.
وهناك ما يدلِّل على أن محاولة القاهرة جلب أطراف خليجية أخرى للعب دور في قطاع غزة عبر دحلان، يرتبط بتوجه أطراف عربية مع إسرائيل للضغط على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة لتحويلها نسخة مشابهة للسُّلطة الفلسطينية. فقد دعت بعض مراكز أبحاث الأمن القومي السلطة الإسرائيلية لاستغلال الأزمة الخليجية وتوظيف ثقل الدول المقاطعة لقطر، وعلى وجه الخصوص الإمارات العربية، في استدراج حركة "حماس" للتخلي عن قوتها العسكرية مقابل أن تتولى الإمارات تمويل مشاريع إعادة الإعمار التي تعكف عليها حاليًّا قطر. وفي ظل إفصاح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مؤخرًا عن "تطورات غير مسبوقة" على طابع العلاقة التي تربط تل أبيب بعدد من الدول العربية التي لا تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، فإن هذا يزيد من فرص استنفار المحور الذي يضم مصر والسعودية والإمارات والبحرين لمحاولة توظيف ثقله السياسي والاقتصادي في محاولة دفع حماس نحو التخلي عن قوتها العسكرية.
أي إن كلًّا من مصر والدول الخليجية المتحالفة معها يمكن أن تساعد إسرائيل على تحقيق ما فشلت في تحقيقه خلال ثلاث حروب طاحنة شنَّتها على قطاع غزة.
مستقبل الدور الإيراني والقطري والتركي
على الرغم من أن حماس تواجه أزمة خيارات حادة بسبب حاجتها للتخلص من تبعات حكم غزة التي فاقمها الحصار، إلا أن التجربة قد أثبتت أن الحركة ترى في الحفاظ على قوتها العسكرية، وضمان توفير الظروف التي تضمن تعاظمها، خطًّا أحمر لا تنازل عنه ولا تفريط فيه. من هنا، فإن فرص نجاح أية محاولة عربية-إسرائيلية لتوظيف المصالحة الداخلية ورفع الحصار في دفع حماس إلى التخلي عن سلاحها تحول دون نجاحها صعوبات كبيرة لم تتمكن إسرائيل بكل قوتها من تجاوزها.
ومن أجل توسيع دائرة خياراتها، فقد عمدت حماس إلى استئناف علاقتها مع إيران؛ حيث بات قادة الحركة يجاهرون بأن طهران تتولى تقديم الدعم المادي الهادف إلى تعزيز قوة جناحها العسكري. وقد حدا الحرص على تعزيز العلاقات مع إيران، بحماس إلى إعادة تقييم موقفها من الأزمة السورية؛ حيث أعلن قائد حماس في قطاع غزة، يحيى السنوار، في تصريح نقلته جريدة الشرق الأوسط، في 29 أغسطس/آب 2017، أن حركته لا تمانع في تحسين العلاقة مع نظام بشار الأسد. ليس هذا فحسب، بل إن حماس اتجهت أيضًا إلى توثيق التعاون والتنسيق مع حزب الله، كما عكست ذلك مؤخرًا سلسلة اللقاءات التي جمعت قيادات في الحركة مع قادة الحزب في بيروت، التي باتت تؤوي عددًا من قادة حماس.
إلى جانب ذلك، فإن كلًّا من قطر وتركيا تضطلعان حاليًّا بالدور الأكبر في تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار في القطاع، دون أن تربطا ذلك باشتراطات سياسية على حركة حماس أو الأطراف الفلسطينية الأخرى. ويمكن الافتراض أن حماس تعي دلالات التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، بُعيد تفجر الأزمة الخليجية، والذي اشترط فيه إصلاح العلاقة مع قطر بتخليها عن العلاقة مع حماس وجماعة الإخوان المسلمين، بوصفهما تشكيلين إرهابيين. من هنا، فإنه على الرغم من حاجتها للمناورة تجاه مصر من أجل محاولة إقناعها بتخفيف مظاهر الحصار على القطاع وعدم وضع عراقيل أمام المصالحة الفلسطينية، فإن المصالح الاستراتيجية تفرض على حركة حماس عدم التخلي عن علاقاتها الخاصة بكل من قطر وتركيا. وهناك معلومات تؤكد أن قيادتي حماس في الخارج والضفة الغربية تحديدًا تتحفظان على أية تحركات إقليمية للحركة قد تؤثِّر سلبًا على علاقتها بكل من قطر وتركيا. وحتى لو نجح اتفاق المصالحة الأخير وانتقلت مقاليد الأمور بشكل نهائي لحكومة رام الله، فإنه لا يوجد لدى السلطة الفلسطينية مصلحة في أن تتدخل الدول الخليجية في شؤون القطاع بشكل يعزِّز من مكانة دحلان.
وفي حال حاولت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالتعاون مع إسرائيل والمحور المصري-السعودي-الإماراتي-البحريني، دفع مشروع "التسوية الإقليمية" الذي يهدف إلى تطبيع العلاقات الإسرائيلية-العربية قبل حل الصراع مع الشعب الفلسطيني، فإن كل القوى الفلسطينية، وضمنها حركة فتح، ستكون في حاجة إلى إسناد قوى إقليمية أخرى وضمنها إيران وقطر وتركيا لمواجهة هذه المحاولة.
مصير اتفاق المصالحة
على الرغم من تباين حسابات ومصالح الأطراف الداخلية والإقليمية ذات التأثير على ملف المصالحة، فإن فرص نجاح تطبيق الاتفاق الأخير تبدو أكبر من فرص فشلها، بسبب التقاء مصالح طرفي الانقسام، ومخاوف إسرائيل من انفجار الأوضاع الأمنية في قطاع غزة في حال تواصل تدهور الأوضاع الاقتصادية. وسيكون المؤشر الأول على تقدم المصالحة عودة الحكومة الفلسطينية لاستئناف أعمالها في غزة، ومن ثم عودة الحرس الرئاسي للإشراف على المعبر مع مصر.
تسعى إسرائيل لتوظيف مواقف القوى الإقليمية العربية في محاولة لاحتواء سلوك حماس لكنها ستتفادى الضغط على الحركة للتخلي عن سلاحها؛ لأنها قد تجازف بإحباط اتفاق القاهرة الأخير. تدرك تل أبيب أن إفشال تطبيق الاتفاق الأخير يعني توفير بيئة لاندلاع مواجهة عسكرية جديدة وضارة مع حركة حماس؛ فمنذ اندلاع الانتفاضة الأولى، أواخر 1987، لم يحدث أن تمتعت إسرائيل بفترة هدوء متواصلة على حدودها مع قطاع غزة، كما حدث بعد انتهاء حرب 2014. لذلك ليس من مصلحة إسرائيل افتعال مواجهة مع حماس سيما أنها تعيش حالة انعدام اليقين بشأن مستقبل الأوضاع على حدودها الشمالية في أعقاب تعاظم تأثير إيران وحزب الله في سوريا، مع ميل الكفة بشكل واضح لصالح نظام الأسد.
ومما يساعد تل أبيب على إبداء مرونة إزاء طلب التخلص من قوة حماس العسكرية والاكتفاء بتقييدها وضبطها حقيقة أن الجيش المصري نجح في تدمير الأنفاق التي تربط القطاع بمصر وعزَّز من مستوى الرقابة الأمنية على المنطقة الحدودية، مما قلَّص إلى حدٍّ كبير من قدرة المقاومة الفلسطينية على تهريب السلاح والوسائل القتالية.