يعيش اليمن منذ عشرة أعوام حربًا أهلية تسببت في انقسام سياسي وتدهور اقتصادي وتفكك اجتماعي وتوتر إقليمي. ورغم الجهود المبذولة لاحتواء أسباب الصراع والتوصل إلى تسوية سياسية له فإن الحرب لا تزال مستمرة، وتداعياتها لا تزال متواصلة.
يسلط هذا التعليق الضوء على ما وصل إليه اليمن عسكريًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا بعد عقد من اندلاع الحرب ونشوب الصراع، ويحاول معرفة التحديات والعقبات التي تحول دون التوصل إلى حل لهذه الأزمة، ويستكشف سيناريوهاتها الممكنة وآفاقها المستقبلية.
أولًا: التداعيات العسكرية
يعيش اليمن حالة من التشظي بين ثلاث قوى رئيسية: الحكومة الشرعية، وجماعة الحوثيين، والمجلس الانتقالي الجنوبي، حيث يسيطر كل طرف على أجزاء من الأراضي اليمنية؛ مما يجعل خريطة النفوذ والسيطرة معقدة ومتشابكة؛ إذ تتغير مناطق السيطرة باستمرار نتيجة الصراعات المستمرة بين الأطراف.
مناطق سيطرة الحكومة الشرعية: تتوزع مناطق سيطرة الحكومة الشرعية بشكل رئيسي في جنوب وشرق وشمال شرق اليمن. تشمل هذه المناطق محافظة عدن، العاصمة المؤقتة للحكومة اليمنية الشرعية، التي تضم ميناء عدن الإستراتيجي، ومعظم مناطق محافظة حضرموت، بما في ذلك سيئون والمكلا، رغم محاولات المجلس الانتقالي الجنوبي التدخل في بعض أجزاء هذه المحافظة. وتعد حضرموت من أكبر المحافظات اليمنية مساحة؛ وهي من أكبر المحافظات اليمنية مساحة؛ إذ تمثل أكثر من ثلث مساحة البلاد، وتتمتع بشريط ساحلي بطول 450 كم، فضلًا عن ثروات نفطية ومعدنية وسمكية.
كما تسيطر الحكومة على كامل محافظة المهرة، وأجزاء من محافظة مأرب الغنية بالموارد النفطية، التي تُعد المعقل الرئيسي للحكومة الشرعية وقواتها. إضافة إلى أجزاء من محافظة تعز، بما فيها مدينة تعز والمناطق المحيطة بها، ومحافظة شبوة التي استعادت الحكومة أجزاء منها بعد معارك مع قوات المجلس الانتقالي الجنوبي (المشارك في الحكومة الشرعية).
وتسيطر الحكومة كذلك على أجزاء من محافظات أخرى مثل أبين ولحج. وتسيطر على مديرية وميناء المخا التابعة لمحافظة تعز من خلال قوات "المقاومة الوطنية" التابعة لطارق محمد عبد الله صالح، كما تتحكم بمضيق باب المندب بعد استعادتها مديرية "ذو باب" الإستراتيجية المطلة على المضيق.
مناطق سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي: أما المجلس الانتقالي الجنوبي (المشارك في الحكومة)، والمدعوم من الإمارات، فيسيطر على عدة مناطق ومحافظات في جنوب اليمن، أبرزها العاصمة المؤقتة عدن، التي تُعد مركز السلطة الإدارية والسياسية للمجلس، بالإضافة إلى سيطرته على أجزاء من محافظات لحج، والضالع، وأبين، وشبوة حيث تقع منشأة بلحاف على ساحل بحر العرب والتي تعد أكبر مرفق لتصدير الغاز المسال في اليمن. كما يُحكم المجلس قبضته على جزيرة سقطرى الإستراتيجية. وتعزز هذه المناطق نفوذه على الموانئ والجزر الحيوية في جنوب اليمن، وتمنحه السيطرة على طرق الشحن والتجارة البحرية.
مناطق سيطرة الحوثيين: فيما يسيطر الحوثيون حاليًّا على حوالي 25% من مساحة اليمن، وتتركز معظم مناطق نفوذهم في الشمال وأجزاء من الغرب والشمال الغربي. وتُعد العاصمة صنعاء مركز قوتهم منذ استيلائهم عليها في سبتمبر/أيلول 2014. بالإضافة إلى سيطرتهم على أجزاء كبيرة من محافظتي صعدة وحجة، وكامل محافظتي عمران وذمار. كما يتحكمون في بعض الأجزاء من محافظة الحديدة، وخاصة ميناء الحديدة، وهو أكبر ميناء في اليمن والشريان الرئيسي لدخول البضائع والمساعدات الإنسانية إلى المناطق الشمالية التي يسيطرون عليها، والذي يتمتع بموقع إستراتيجي على البحر الأحمر، أحد أهم الممرات المائية الدولية، مما يمنحهم القدرة على التحكم في طرق الشحن الدولية والضغط على الدول المعنية بالتجارة البحرية، ويوفر لهم مصدرًا ماليًّا من الضرائب والجمارك لتمويل عملياتهم العسكرية.
إلى جانب هذه المناطق، يسيطر الحوثيون كذلك على محافظات المحويت، وريمة، وإب، ويحافظون على نفوذ لهم في أجزاء من تعز، ومأرب، والجوف. ويعيش أكثر من نصف سكان اليمن تقريبًا في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، مما يعزز موقعهم في المعادلة السياسية والعسكرية.
ثانيًا: التداعيات الاقتصادية
تسببت الحرب على مدار السنوات العشر الماضية في تدمير البنية التحتية الاقتصادية لليمن، وأدت إلى تدهور كبير في الاقتصاد الكلي والجزئي على حدٍّ سواء.
1- التداعيات على الاقتصاد الكلي
تراجع الناتج المحلي الإجمالي تراجعًا حادًّا؛ حيث انخفض بأكثر من 50% منذ بدء الصراع في 2014. وبعد أن كان الاقتصاد اليمني يعتمد بشكل كبير على تصدير النفط والغاز فإن هذا المورد قد تراجع إسهامه إلى حدٍّ كبير نتيجة الحرب؛ ما أدى إلى انهيار الإيرادات الحكومية.
كما شهد الريال اليمني انهيارًا حادًّا في قيمته؛ حيث فقد أكثر من نصف قيمته مقارنة بفترة ما قبل الحرب، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع معدلات التضخم، وخاصة بالنسبة للسلع الأساسية مثل الغذاء والوقود مما زاد من معاناة اليمنيين.
ونتيجة تراجع الموارد المالية زادت الحكومة من الاعتماد على الاقتراض الداخلي والخارجي لتمويل النفقات العسكرية ولتسيير الخدمات الأساسية؛ مما أدى إلى ارتفاع الدَّين العام بشكل كبير، وزاد من الأعباء الاقتصادية على الحكومة.
فضلًا عن ذلك، فقد تسببت الحرب في توقف أغلب مشاريع التنمية والبنية التحتية التي كانت تحفِّز النمو الاقتصادي، وأدت إلى انتشار الفقر وأصبح أغلب السكان يواجهون خطر الجوع والمرض، كما أصبحت المساعدات الإنسانية الخارجية المصدر الرئيسي لتأمين الاحتياجات الأساسية لملايين اليمنيين.
2- التداعيات على الاقتصاد الجزئي
تضررت المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بشكل كبير بسبب تدمير البنية التحتية، وغياب الأمن والاستقرار، فقد توقف العديد من هذه المؤسسات عن العمل بسبب نقص المواد الخام، وتدمير المنشآت، وارتفاع تكلفة النقل؛ ففقد الكثير من اليمنيين فرص العمل، وارتفعت نسب البطالة، وزادت معدلات التضخم.
ومع استمرار القتال تعرض العديد من الشركات والمصانع التابعة للقطاع الخاص للتدمير الكامل والجزئي مما أدى إلى إغلاقها، لاسيما في المدن الكبرى مثل صنعاء وعدن، وهو ما أثَّر سلبيًّا على الاقتصاد الجزئي، ودفع باليمنيين إلى الانخراط في الاقتصاد غير الرسمي (الموازي) لتأمين احتياجاتهم اليومية وأدى إلى زيادة الأنشطة غير القانونية مثل التهريب.
ونجم عن الحرب كذلك نقص حاد في توافر السلع الأساسية مثل الغذاء والدواء والوقود، فضلًا عن توقف دائم أو جزئي للعديد من الخدمات الحيوية كالكهرباء والمياه والتعليم والصحة.
ثالثًا: التداعيات الاجتماعية
خلَّفت الحرب في اليمن تداعيات اجتماعية عميقة؛ حيث وصلت تأثيراتها إلى كافة الفئات الاجتماعية والشرائح العمرية، بشكل مباشر وغير مباشر. ولم تقتصر على الجانب الإنساني فقط، بل امتدت إلى تفكيك النسيج الاجتماعي إلى حدٍّ كبير.
تسببت الحرب في نزوح ملايين السكان بحثًا عن مناطق أكثر أمانًا، مما اضطرهم إلى العيش في مخيمات تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. كما اضطر الكثير من اليمنيين إلى اللجوء للدول المجاورة. وأسهمت الحرب في اتساع رقعة الفقر، حيث وصل قرابة نصف عدد السكان إلى حافة الجوع، حتى وصفت الأمم المتحدة اليمن بأنه من أكثر دول العالم التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي وتحتاج إلى مساعدات إنسانية عاجلة.
لم تقتصر تأثيرات الحرب على نقص الغذاء، بل أصابت أغلب القطاعات الحيوية. فقد شهد القطاع الصحي انهيارًا جراء قصف المستشفيات ونقص الأدوية والمعدات الطبية، وهجرة معظم الكوادر الطبية. وانتشرت أمراض مثل الكوليرا والدفتيريا، وارتفعت معدلات وفيات الأطفال. كما شهد القطاع التعليمي تدهورًا مماثلًا؛ حيث أُغلقت آلاف المدارس وتوقف ملايين الأطفال عن مواصلة تعليمهم، مما ينذر بتأثيرات سلبية على مستقبل اليمن.
نتيجة لذلك، اضطر العديد من الأطفال إلى دخول سوق العمل، وازدهرت ظاهرة عمالة الأطفال، كما تم تجنيد الكثير منهم في الصراع المسلح على مختلف الجبهات. وكانت النساء والأطفال وذوو الاحتياجات الخاصة من أكثر الفئات تضررًا، نتيجة النقص الحاد في الرعاية الصحية والاجتماعية التي تُفترض في الأوضاع الطبيعية.
إلى جانب ذلك، عمَّقت الحرب الانقسامات داخل المجتمع اليمني على أسس مذهبية وقبلية؛ مما يجعل إعادة توحيد البلاد وترميم النسيج الاجتماعي في المستقبل تحديًا بالغ الصعوبة.
رابعًا: تحديات الحل السياسي
تواجه الأزمة اليمنية تحديات معقدة تعرقل الوصول إلى تسوية سلمية، وتتنوع هذه التحديات بين العوامل الداخلية والخارجية. فعلى الصعيد الداخلي، تمتلك الأطراف المتصارعة أجندات ومصالح متضاربة، وقد تتصادم هذه المصالح حتى داخل الفصيل الواحد، مما يضع عراقيل إضافية أمام أي تقدم نحو الحل السياسي.
إلى جانب ذلك، تُعقِّد التدخلات الإقليمية والدولية من فرص التسوية؛ حيث أصبح اليمن ساحة لصراع إقليمي بين السعودية وإيران والإمارات. فالسعودية تدعم الحكومة الشرعية، بينما تدعم إيران جماعة الحوثيين، في حين تدعم الإمارات المجلس الانتقالي الجنوبي. ونتيجة لذلك، تحول الصراع إلى حرب بالوكالة، تسعى فيها كل دولة إلى تعزيز نفوذها وتحقيق مصالحها الإقليمية، مما يزيد من تعقيد الحل السياسي.
إضافة إلى ذلك، فإن تشدد مواقف الأطراف المتنازعة وغياب الثقة المتبادلة يؤديان إلى فشل مستمر في محاولات التفاوض. كما أن بعض الأطراف تجد مصلحتها في استمرار الحرب، حيث تحقق مكاسب سياسية واقتصادية، لاسيما عندما ترتبط هذه المكاسب بالسيطرة على مواقع إستراتيجية مثل الموانئ أو موارد حيوية كالنفط والغاز.
كما أن غياب الإرادة الدولية لحل الأزمة يزيد من تعقيد الوضع، نظرًا لتضارب مصالح القوى الكبرى. ورغم هذه التحديات، تبرز بعض العوامل التي قد تفتح الباب أمام انفراج سياسي، ولو محدود، مثل التقارب السعودي-الإيراني، والوعود بإعادة إعمار ما دمرته الحرب، بالإضافة إلى الضغوط الدولية والإقليمية المتزايدة على الأطراف المتصارعة.
خامسًا: سيناريوهات مستقبلية
في ظل التعقيدات المتشابكة والمتعددة الأبعاد التي تحيط بالأزمة اليمنية، ومع تداخل العوامل الداخلية والخارجية، تبرز عدة سيناريوهات محتملة قد تحدد ملامح الحل أو استمرار الأزمة.
سيناريو التسوية السياسية
يُعتبر هذا السيناريو الأكثر تفاؤلًا، ولكنه يواجه عقبات كبيرة، أبرزها تضارب المصالح بين الأطراف المتحاربة. ورغم بعض الإشارات الإيجابية لتقارب إقليمي بين السعودية وإيران، فإن تحقيق تسوية شاملة يتطلب توافقًا دوليًّا، وهو ما يبدو صعب المنال في ظل التوترات الإقليمية الحالية. لذا، يُرجح أن هذا السيناريو لن يتحقق على المدى القصير إلا إذا حدثت تغييرات إقليمية جوهرية.
سيناريو التقسيم
قد يكون هذا السيناريو هو الأكثر احتمالًا على المدى المتوسط، في ظل الفشل المستمر لتحقيق تسوية سياسية شاملة. تقسيم اليمن إلى شمال تحت سيطرة الحوثيين وجنوب تحت سيطرة الحكومة والمجلس الانتقالي الجنوبي يبدو مُرَجَّحًا بالنظر إلى الوضع العسكري الراهن. ومع ذلك، سيؤدي هذا التقسيم إلى تعزيز الصراعات الداخلية، وقد يُفرز نزاعات جديدة بين الفصائل المختلفة في كل إقليم، مما يُعقِّد الوصول إلى حل نهائي ويزيد من تعقيدات الوضع.
سيناريو استمرار الصراع العسكري
يُعد هذا السيناريو الأكثر واقعية على المدى القريب؛ إذ تشير المؤشرات الحالية إلى استمرار الصراع دون قدرة أي طرف على تحقيق نصر حاسم؛ فالأطراف المتصارعة عالقة في مأزق عسكري، مع غياب حلول سياسية قريبة، مما يُرجِّح استمرار القتال. ورغم أن هذا السيناريو يعني استمرار المعاناة الإنسانية وتفاقم التدخلات الخارجية، فإنه الأكثر ترجيحًا في المرحلة الراهنة رغم مخاطره.
سيناريو التدخل الدولي
يعتمد هذا السيناريو على إرادة المجتمع الدولي لاتخاذ خطوة أكبر نحو حل الأزمة، ولكنه يواجه تحديات كبيرة. تردد القوى الدولية الرئيسية وتضارب المصالح الإقليمية يجعل التدخل الموسع غير مرجَّح. كما أن الأطراف المحلية قد ترفض أي تدخل دولي، مما يجعل هذا السيناريو صعب التحقيق.
السيناريو الأكثر احتمالًا هو استمرار الصراع العسكري، مع وجود احتمال أقل، على المدى المتوسط، لتحقيق تقسيم البلاد في حالة استمرار الجمود السياسي. التسوية السياسية الشاملة تبقى أقل احتمالية، إلا إذا حدث توافق إقليمي ودولي غير متوقع. أما التدخل الدولي الموسع فيبدو السيناريو الأبعد احتمالًا حاليًّا.
خاتمة
أكملت الحرب اليمنية هذا الشهر عامها العاشر، وقد أدت إلى انهيار مؤسسات الدولة وتفكك البلاد بين سيطرة الحوثيين والحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي. ومع استمرار الصراع، شهد الاقتصاد تدهورًا حادًّا، وازدادت معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي بشكل خطير. لم يعد اليمن مجرد ساحة لصراع داخلي، بل تحول إلى ميدان لتنافس إقليمي ودولي، حيث تسعى القوى الخارجية لتحقيق مصالحها عبر تحالفات مع الأطراف المحلية المتنازعة. وفي ظل غياب إرادة حقيقية من القوى الإقليمية والدولية لإنهاء الصراع، تبدو الأزمة مرشحة للاستمرار دون حل في الأفق. هذا يعني استمرار المعاناة الإنسانية، مع تفاقم الانقسامات الداخلية وتصاعد التدخلات الخارجية؛ مما يضع اليمن أمام مستقبل مجهول.