حزب الله بعد نصر الله: حرب الإسناد ولبنان والمنطقة

تلقى حزب الله ضربات موجعة، إلا أنه بسبب قدراته العسكرية يبقى المنظمة الأقوى في محور المقاومة، والحزب السياسي الأكثر تأثيرًا في لبنان. ولن تتأثر مكانته كثيرًا في المستقبل، لاسيما إذا توقفت الحرب باتفاق قريب على وقف إطلاق النار.
29 سبتمبر 2024
مع غياب نصر الله، واتساع الخرق الأمني داخل منظومته القيادية، سيفقد الحزب نصيبًا من قوته، وسيتراجع دوره في المنطقة (الأناضول).

أعلن حزب الله عن مقتل أمينه العام، حسن نصر الله، في غارة شنَّتها إسرائيل، في 27 سبتمبر/أيلول 2024، استهدفت المقر المركزي للحزب وأهدافًا أخرى في الضاحية الجنوبية. جاء هذا الاغتيال بعد سلسلة من الاختراقات الأمنية والاستهدافات العسكرية المتكررة التي أصابت قادة الحزب الميدانيين وعناصر أساسية في قيادته العسكرية من الصف الأول، على رأسهم قائد أركانه، فؤاد شكر.

يعتبر نصر الله شخصية استثنائية، سواء في الوضع اللبناني أو الإقليمي أو في مواجهة إسرائيل، كما في علاقته بإيران. بغياب نصر الله، تُطوى مرحلة في تاريخ لبنان والمنطقة، وسيؤثر ذلك بالتأكيد على مجريات المواجهة الحالية سواء في غزة أو لبنان. يركز هذا التعليق على ملامح مرحلة ما بعد نصر الله وتداعيات غيابه على المواجهة الجارية، وعلى حزب الله نفسه، وعلى لبنان والمنطقة.

المواجهة الراهنة في غياب نصر الله

حققت إسرائيل باغتيالها نصر الله إنجازًا ستوظفه في المعركة الراهنة، وستكون أقرب إلى اتخاذ قرارات أكثر جرأة، منها الشروع في تدخل عسكري بري "لتطهير" بضعة كيلومترات على الضفة اللبنانية من الحدود. وقد أعلن عدد من القيادات الإسرائيلية مرارًا عن نيتهم تنفيذ هذه العملية، وقد تبقي على وجود لها هناك لتضغط في أي مفاوضات مقبلة مع لبنان، بالتوازي مع استمرار الاستهداف للضاحية وبقية المناطق، خاصة حيث حاضنة الحزب.

بالنسبة إلى حزب الله، لقد تعرضت القيادة لضربة قوية جدًّا، وربما صُفِّي معظمها أو كلها، نتيجة خرق أمني لا يمكن الجزم حتى الآن بمدى استدراك الحزب له. وسيحتاج الحزب إلى وقت غير قليل لاستعادة القدرة والسيطرة وإعادة الانتظام إلى أجهزته وهياكله. على المستوى الميداني، خسر الحزب كثيرًا من كوادره البشرية عبر الاغتيالات المباشرة عن طريق المسيرات والصواريخ الدقيقة، ونتيجة العملية الإسرائيلية الواسعة التي فجرت فيها إسرائيل أجهزة الاستدعاء "البايجر" وأجهزة التواصل الأخرى، مستعينة بتكنولوجيا متطورة جدًّا في هذا المجال.

بالمقابل، ليس واضحًا ما إذا كانت قدرات الحزب العسكرية الأساسية قد تعرضت لخرق مماثل أو أضرار كبيرة علمًا بأن تلك القدرات موزعة في شكل مجموعات قتالية كثيرة في عدد من المواقع. والأرجح أنها لم تتعرض لحد الآن لضربات استثنائية وقاصمة كما تقول إسرائيل. ولا يزال الحزب يملك ترسانة ضخمة من الأسلحة، في مقدمتها الصواريخ، حتى إنه يوصف بأقوى منظمة عسكرية في المنطقة. كما أن قدرة حزب الله على التجنيد والتدريب والتسليح عالية جدًّا بدعم من دولة العمق، إيران. وحتى الآن لا يزال الحزب يتمتع بقوى شابة لم يزج بها في الميدان بعد، وذلك ما تفصح عنه بيانات النعي السابقة. فمعظم الذين سقطوا هم من المخضرمين وقليل منهم من القوى الشابة نسبيًّا. لهذا، لا يزال حزب الله قادرًا على المواجهة العسكرية وربما تكون الحرب البرية إذا ما حصلت هي الاختبار الحقيقي لمدى قوته الباقية.

على صعيد حرب الإسناد لغزة، ليس من المتوقع أن يعلن الحزب عن وقفها، خاصة وقد أصبحت جزءًا من معركته الخاصة، دفاعًا عن نفسه وعن وجوده. كما أن الحرب الإسرائيلية على حزب الله مستمرة بهدف إضعافه وتدمير قوته العسكرية، إضافة إلى الهدف السياسي الرئيسي الذي أعلنته إسرائيل، وهو إعادة سكان الشمال إلى مناطقهم التي نزحوا منها بسبب هذه الحرب.

وضع الحزب في المعادلة اللبنانية بعد نصر الله

فرض نصر الله حضوره في الشأن اللبناني واستطاع أن يجعل حزبه لاعبًا أساسيًّا في النظام السياسي، وكان دوره أساسيًّا في إعادة ترسيم حدود السلطة ووضع صيغ سياسة جديدة لإدارة الحكم والدولة. وباتت تلك الصيغ جزءًا من دولة الطائف في لبنان بعد عام 2005، أي بعد اغتيال رئيس الحكومة آنذاك، رفيق الحريري، وانسحاب الجيش السوري من لبنان. منذ ذلك الوقت، أصبح حزب الله يوصف بالدولة داخل الدولة أو الحزب المهيمن عليها.

خلال العقدين الماضيين، شكَّل نصر الله ثنائية في الحكم والسياسة مع رئيس حركة أمل ورئيس مجلس النواب، نبيه بري، مكنته من التحول إلى رمز لقوة الطائفة الشيعية، سواء في أروقة الحكم أو في الشارع، في حين احتفظ بري بصورة السياسي وصانع قوة الطائفة في الدولة. وباغتيال نصر الله، سيلعب بري دورًا أكبر في إدارة المرحلة الحالية سياسيًّا، وفي إعادة ترتيب وضع الطائفة الشيعية وعلاقتها بالحكم في لبنان، وعلى الأغلب سيتراجع دور حزب الله، على الأقل مرحليًّا.

قد تتعرض علاقة بري مع حزب الله إلى اختبار، خاصة في المواجهة الجارية مع إسرائيل، فضلًا عن ملفات أخرى عاجلة تتعلق بانتخاب رئيس للبنان، وتنظيم علاقة الثنائي أمل وحزب الله مع بقية الطوائف اللبنانية في المرحلة المقبلة في سياق إدارة الأزمة اللبنانية. فقد تعرضت العلاقة بين أمل وحزب الله في مرحلة سابقة إلى توترات وشهدت خلافات وصلت حدَّ المواجهة العسكرية بين عامي 1988 و1990، سميت حينها بحرب الإخوة. بعد تلك المرحلة، ساد الانسجام والتفاهم في العلاقة بين نصر الله وبري، وأصبحت البيئة الشيعية موحدة في خياراتها الكبرى على المستويين، المحلي والإقليمي، رغم الاختلافات التي ظلت تبرز بين الحين والآخر بين تنظيميهما وجمهوريهما.

بالنظر إلى التجارب التي مرَّ بها حزب الله، ستكون أولويته في المرحلة القادمة التركيز على بيئته لاستعادة ثقتها، والمحافظة على مكتسباته المحلية وعلى صعيد الدولة اللبنانية. وقد اعتاد الحزب عند اشتداد المواجهة الإقليمية العودة إلى الداخل اللبناني والتحصن به وإعادة تنظيم علاقاته مع القوى اللبنانية الأخرى. فبعد حرب عام 2006، لجأ إلى تحالفات جديدة تجاوزت دوره كحركة مقاومة، فنسج تحالفات جديدة أتاحت له استعادة قوته. وقد نشأت حينها الثنائية الشهيرة، قوى السابع من أيار المؤيدة لسوريا وعلى رأسها حزب الله وحركة أمل، وقوى 14 آذار المعادية لها، وكانت تضم تيار المستقبل وعددًا من القوى المسيحية. لكن المواجهة الحالية تبدو أشد من كل ما سبقها، ولم تتضح معالمها بعد، إلا أن العنوان الأبرز لها هو إضعاف حزب الله، كما تطرحه إسرائيل وتلقى دعمًا من القوى الغربية؛ ما يعني أن هذه المواجهة ستسفر عن تحولات لبنانية داخلية، مدفوعة بضغوط من الخارج، ومن إرث خلافات حزب الله مع القوى اللبنانية الأخرى حول قضايا تتصل بنفوذ الطوائف اللبنانية ومصالحها.

دور الحزب في المنطقة بعد نصر الله

توسع دور حزب الله في المنطقة في ظل تصاعد التوترات الإقليمية وتراجع الأدوار التقليدية التي كانت تلعبها في السابق دول رئيسية مثل مصر وسوريا والعراق. فتعزز دور الحزب في العراق بعد سقوط بغداد عام 2003، وفي سوريا واليمن بعد أحداث الربيع العربي عام 2011، وهي ذات الدول التي تعزز فيها النفوذ الإيراني. وكان نصر الله شخصيًّا لاعبًا أساسيًّا في بعض هذه التطورات، حتى أصبح دوره قياديًّا في جبهة "وحدة الساحات"، وتحديدًا في "حرب الإسناد" لغزة بعد طوفان الأقصى.

مع غياب نصر الله، واتساع الخرق الأمني داخل منظومته القيادية، سيفقد الحزب نصيبًا من قوته، وسيتراجع دوره في المنطقة، لاسيما بعد أن خسر جيلًا قياديًّا من الصف الأول، راكم خبرات وعلاقات مع بقية الساحات وقواها المختلفة. وسيطرح ذلك التراجع أسئلة حول مدى تأثر بقية الجبهات، وحول طبيعة الدور الذي سيلعبه الحزب هناك في المستقبل.

من المبكر الجزم بحجم هذه التداعيات، إلا أنها حتمًا ستلقي بأعباء أكبر على إيران ودورها في المنطقة. قد يتطلب إعادة ترتيب أوراقها الإقليمية، تدخلًا مباشرًا لتعويض بعض ما كان يقوم به نصر الله، وقد يصل الأمر إلى حد إعادة تأسيس نفوذها في المنطقة من جديد، خاصة إذا لم يستطع حزب الله أن يعود لأداء دوره المركزي فيها. ومن المتوقع أن تلعب الساحات الأخرى المحسوبة على المحور أدوارًا متفاوتة في لبنان لمساعدة حزب الله في مواجهته الحالية على الأقل، وللمحافظة على المكاسب التي حققها وهو يحمل أعباء الحاضنة التي كانت تحمله. وقد دعا المرشد الإيراني علي خامنئي بقية قوى المحور لدعم الحزب، وسيتضح لاحقًا ما الذي يمكن أن تقدمه تلك الجبهات، خاصة جبهة الجولان باعتبارها الأقرب والأكثر قدرة، كونها ساحة مباشرة للنفوذ الإيراني، وفيها جماعات متعددة الجنسيات قادرة على مشاغلة إسرائيل بكفاءة عالية، إلا أن تلك الساحة محكومة بحسابات عدة، من أهمها الوجود الروسي.

حزب الله بعد نصر الله

تسلَّم نصر الله قيادة حزب الله، عام 1993، خلفًا لعباس الموسوي الذي اغتالته إسرائيل عام 1992، وأعاد تأسيس الحزب على صورته التي انتهى إليها، وهي تشبه نصر الله نفسه. فأصبح أكثر ارتباطًا بالبيئة المحلية اللبنانية وتحدياتها السياسية والطائفية، وأوثق ارتباطًا بإيران وأيديولوجيتها الدينية والسياسية وأهدافها في الإقليم، وأعطى المقاومة معنى يتجاوز فلسطين ويرتكز عليها.

من غير المتوقع أن يحافظ حزب الله على القوة والمكانة السياسية التي كان يمتاز بهما تحت قيادة حسن نصر الله، ولكن وظيفته الأساسية لن تتغير بشكل مباشر بعده، وسيصيبها التغيير مع الوقت. فليس من السهل على التنظيمات السياسية والعسكرية ملء الفراغ الذي يتركه غياب شخصيات قيادية استثنائية في ظروف معركة صعبة. كما أن نتائج هذه الحرب التي لم تنته بعد، ستحدد وظيفة حزب الله وطموحاته من جديد.

أما اختيار بديل لقيادة حزب الله، فقد يتأخر لأسباب تتعلق بظروف المعركة الحالية؛ حيث يتعذر على مجلس الشورى الاجتماع في الظروف الراهنة، وسيجعل استمرار نجاح إسرائيل في سياسة الاغتيالات الدقيقة هذه المهمة أمرًا صعبًا. وقد يلجأ الحزب لسبل غير اعتيادية في اختيار قيادة جديدة، لأن التأخر في ذلك في ظل هذه الظروف سيؤثر سلبًا في قدرته على استعادة المبادرة.

وعلى العموم، إن نشأة حزب الله وتغييره لطبيعة القيادة كلها كانت في ظروف غير طبيعية. فقد كان الحزب بعد تأسيسه، عام 1982، يقوده مجلس شورى، وهي إدارة جماعية للقرار السياسي، ثم أصبحت القيادة فردية بانتخاب الشيخ صبحي الطفيلي، عام 1989، أول أمين عام للحزب. وكان اختياره في ظروف مواجهة بين حزب الله وحركة أمل، وبقي في منصبه لعدة أشهر. ثم اختير بدلًا منه عباس الموسوي، عام 1991، وقُتل عام 1992، ليخلفه نصر الله بعد أشهر. ومع كل تغيير كانت تتغير هيكلية الحزب وطريقة صناعة القرار داخله. ومع نصر الله، أصبحت القيادة مركزية أكثر، تتمتع بصلاحيات واسعة وتتأثر بشخصه وتعكس صورته إلى حد بعيد.

خاتمة

لا يبدو أن ما تلقاه حزب الله حتى الآن من ضربات موجعة على مستوى القيادة سيمس جوهريًّا قدراته العسكرية بوصفه المنظمة الأقوى في محور المقاومة، والحزب السياسي الأكثر تأثيرًا في لبنان. ولن تتأثر مكانته كثيرًا في المستقبل، لاسيما إذا توقفت الحرب باتفاق قريب على وقف إطلاق النار، بغض النظر عن ظروفه وتفاصيله. ومع ذلك، فقد فتح اغتيال نصر الله الأفق في لبنان والمنطقة لتغيير أوسع، قد يستدعي مشاريع كبرى لإعادة ترتيب الوضع اللبناني والإقليمي. ويعزز من هذا الاتجاه أن إسرائيل استطاعت خلال أيام معدودة، ودون خسائر من جانبها، تصفية أغلب عناصر قيادة الحزب الذي يشكل رأس حربة المحور الذي تقوده إيران. فهذه الضربات يعدها نتنياهو إنجازًا تاريخيًّا ودليلًا على استعادة إسرائيل قوة الردع تحت قيادته، وربما يقدم ذلك الإنجاز لجمهوره باعتباره نصرًا معادلًا وبديلًا للنصر الذي فشل في تحقيقه في غزة.

أما حزب الله، فإن كل توصيف جديد له ولدوره في لبنان والمنطقة، يعتمد على أدائه في هذه الحرب وكيف ستكون نهايتها. ويبدو أنه سيبقى متمسكًا بما أكده أمينه العام السابق، حسن نصر الله، من أن حرب الإسناد على الجبهة اللبنانية لن تتوقف حتى تقف الحرب في غزة، ويبدو أن هذا الموقف سيكون هو عنوان المرحلة القادمة للحزب وقيادته الجديدة.

نبذة عن الكاتب