شهد العراق في انتخابات 2010 البرلمانية أول محاولة، منذ الاحتلال وتقويض الدولة العراقية في 2003، لإعادة بناء الاجتماع السياسي في البلاد على أسس وطنية. خاضت القائمة العراقية الانتخابات ببرنامج وطني، ترأسها شيعي علماني ذو توجهات قومية، وضمت مرشحين سُنَّة وشيعة، مسلمين ومسيحيين، من أغلب محافظات العراق. عندما أُعلنت نتائج الانتخابات، اتضح أن القائمة العراقية ستكون الكتلة الأكبر في البرلمان، وكان المتوقَّع بالتالي أن يكلف رئيس القائمة بتشكيل حكومة ائتلافية تتمتع بدعم أغلبية برلمانية، فإن أخفق، يقوم رئيس الجمهورية بتكليف رئيس الكتلة البرلمانية الثانية. الذي حدث أن رئيس ثاني أكبر كتلة كان نوري المالكي، زعيم قائمة ائتلاف دولة القانون، رئيس الحكومة المنتهية ولايته، وحليف إيران الأوثق في الساحة السياسية الشيعية، هو الذي تولى تشكيل الحكومة ورئاستها.
ما جرى بعد ذلك سيظل علامة فارقة في تاريخ عراق ما بعد 2003؛ فقد تمتعت القائمة العراقية بدعم وتأييد معظم دول الجوار العربية، إضافة إلى تركيا. ولكن هذه جميعًا لم تستطع معادلة النفوذ الإيراني في العراق الجديد. لقد تكاتفت كافة القوى السياسية الشيعية، الحليفة مع إيران، في تحالف برلماني، تحت قيادة المالكي، وعملت على إصدار فتوى دستورية من المحكمة الاتحادية العليا، تفيد بأن الكتلة السياسية الأكبر هي التي تتشكل بعد انعقاد البرلمان الجديد، وليست تلك التي تخوض الانتخابات. وبانضواء القوى السياسية الشيعية كافة تحت قيادة المالكي، بات على رئيس الجمهورية تكليفه، وليس تكليف رئيس القائمة العراقية، بتشكيل الحكومة. وهكذا وُلدت حكومة المالكي الثانية، التي أدارت البلاد، في انحياز سافر لإيران وبتوجه طائفي صارخ، حتى 2014.
ما يعيشه العراق منذ انتخابات 12 مايو/أيار 2018 يستدعي ميراث انتخابات 2014 بقدر كبير من التشابه؛ فقد كشفت الجولة الأخيرة من الانتخابات البرلمانية عن تشظٍّ سياسي غير مسبوق، وبات من الضروري التقاء عدد كبير من القوى السياسية والقوائم الانتخابية، بكل ما في ذلك من صعوبة وتعقيد، لتشكيل حكومة تتمتع بدعم أغلبية برلمانية. ولكن الإيجابي في هذه الجولة الانتخابية كان صعود التوجه الوطني، غير الطائفي، لدى أكثر من قائمة من القوائم التي خاضت الانتخابات. وبدا خلال الأسابيع القليلة التي تلت إعلان النتائج الأولية أن الحراك السياسي يتجه نحو بناء تحالف أغلبية برلمانية، يعمل على تحرير إرادة العراق من التأثيرات الأجنبية، ويطرح برنامج عمل ذا صبغة وطنية وتنموية. ولكن القوى السياسية العراقية الموالية لإيران سارعت إلى إجهاض ذلك التوجه، بالعودة إلى الفرز السياسي الطائفي، وإحياء التحالف الشيعي، بهدف امتلاك التحالف حق تسمية رئيس الحكومة وحق قيادة المفاوضات لتشكيل حكومة الأغلبية البرلمانية.
فأي تصور تطرحه القوى السياسية العراقية الموالية لإيران لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة؟ وهل تتجه الأمور بالفعل نحو المحافظة على الطابع الطائفي للسياسة العراقية؟ وهل ثمة ما يشير إلى أن قوى دولية أو إقليمية يمكن أن تعادل النفوذ الإيراني في العراق؟ وفي ضوء الخلاف المحتدم حول شرعية الانتخابات، هل سينجح العراقيون في تجاوز الشبهات والاتهامات التي شابت نتائج الانتخابات؟
تشظ سياسي وانتخابات مشكوك في مصداقيتها
طارد الفأل السيئ هذه الجولة من الانتخابات العراقية منذ يوم الاقتراع؛ فطبقًا لأرقام المفوضية العليا للانتخابات، بلغت نسبة المقترعين 44.5 بالمئة ممن يحق لهم التصويت، وهي أقل نسبة اقتراع منذ ولادة دولة ما بعد 2003. يكشف هذا الانخفاض الملموس في نسبة المقترعين عن عزوف شعبي واسع النطاق عن العملية الانتخابية، وفقدان العراقيين ثقتهم في عموم الطبقة السياسية. وحتى هذه النسبة للمقترعين تعرضت لشكوك من عدة جهات ومصادر، سيما بعد أن تزايدت الاعتراضات على مصداقية الانتخابات في مناطق مثل كركوك، ودوائر المغتربين في دول الجوار، ومراكز التصويت في معسكرات اللاجئين داخل العراق. كما أثيرت أسئلة، حتى قبل يوم الانتخابات، حول أمن وسلامة نظام التصويت الإلكتروني، الذي طُبِّق للمرة الأولى في الانتخابات العراقية، وأدارته شركة كورية صغيرة، تتخذ من مدينة دبي مركزًا لها. الوجه الآخر للانتخابات، الأكبر أثرًا على العملية السياسية وإمكانية تشكيل حكومة مستقرة، كان تشظي القوى السياسية كافة، الشيعية والسنية والكردية.
بخلاف الانتخابات البرلمانية الثلاث السابقة، لم يستطع الحزبان الكرديان الرئيسان، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، الاتفاق على خوض الانتخابات في قائمة واحدة. كما شجع خوض الحزبين الانتخابات بقائمتين منفردتين، القوى الكردية الأخرى على تشكيل قوائمها الخاصة، بما في ذلك تيار التغيير، الذي انشق عن الاتحاد الوطني قبل سنوات، فدخلت بقائمتين إسلاميتين، وأخرى ذات توجه ليبرالي.
أما القوى الشيعية، فكانت أكثر انقسامًا؛ فرئيس الوزراء، حيدر العبادي، ورئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، ينتميان لحزب سياسي واحد، هو حزب الدعوة. ولكنهما خاضا الانتخابات بقائمتين مختلفتين: الأول على رأس قائمة النصر، والثاني في ائتلاف دولة القانون. إضافة إلى ذلك، خاضت الانتخابات قائمة شيعية ثالثة باسم الفتح، بقيادة هادي العامري، ضمَّت قطاعًا واسعًا من التنظيمات والميليشيات التي شكلت الحشد الشعبي، وقائمة رابعة باسم تيار الحكمة، بقيادة الحكيم، وخامسة باسم "سائرون"، احتضنت تحالف التيار الصدري والحزب الشيوعي العراقي، وعددًا من القوائم الصغيرة الأخرى والمستقلين.
السنَّة العرب، من جهتهم، خاضوا الانتخابات بعدد كبير من القوائم، أهمهما: القائمة الوطنية، التي ضمت عدة قوى سنية، بما في ذلك الحزب الإسلامي، وقادها الشيعي العلماني، إياد علاوي؛ وقائمة القرار العراقي، بقيادة أسامة النجيفي وخميس الخنجر؛ وقائمتان محليتان، واحدة في الأنبار باسم الأنبار هويتنا، وأخرى في نينوى باسم نينوى هويتنا. كما ترشح عدد من الشخصيات السنية في قائمة ائتلاف النصر، بقيادة العبادي.
بمثل هذه الخارطة الانتخابية، لم يكن متوقعًا أن تستطيع قائمة واحدة الحصول على عدد كاف من المقاعد، يجعل منها مركز جذب وثقل لبناء ائتلاف أغلبية برلمانية. بيد أن النتائج التي أُعلنت بعد ما يقارب مرور أسبوع على تنظيم الانتخابات واجهت عاصفة من الاعتراضات والشكوك.
نجحت قائمة سائرون في تحقيق 54 مقعدًا، لتصبح أكبر كتلة برلمانية في حال أُقرَّت النتائج على ما هي عليه. تلتها قائمة الفتح بـ47 مقعدًا، وائتلاف النصر بـ42 مقعدًا. أما ائتلاف دولة القانون فلم يستطع الحصول على أكثر من 26 مقعدًا، تلاه تيار الحكمة بـ19 مقعدًا. وقد شكَّل السنة العرب أغلب من أُعلن فوزهم من مرشحي قائمة الوطنية، التي حصلت على 19 مقعدًا، كما تمثلوا بصورة ملموسة في ائتلاف النصر. بخلاف ذلك، حصلت قائمة القرار على 14 مقعدًا، والأنبار هويتنا على 6 مقاعد، ونينوى هويتنا على 3 مقاعد. كرديًّا، حصل الديمقراطي الكردستاني على 25 مقعدًا، والاتحاد الوطني على 15 مقعدًا. أما حركة التغيير، التي اعتُبرت منافسًا للاتحاد الوطني في الانتخابات السابقة، فلم تحصل سوى على 6 مقاعد، بينما توزعت 12 مقعدًا أخرى في مناطق الأغلبية الكردية على عدد من الأحزاب الإسلامية والليبرالية الصغيرة.
أثارت النتائج الأولية الرسمية ردود فعل من كل الاتجاهات، وسرعان ما وجدت شكوك ما قبل يوم الاقتراع والشكوك في العملية الانتخابية صدى لها لدى القوائم التي حققت نتائج ضعيفة أو البرلمانيين الذين خسروا مواقعهم. في 28 مايو/أيار 2018، عقد البرلمان العراقي، الذي لم تنته ولايته بعد، جلسة عاصفة، شجَّع عليها رئيس البرلمان، سليم الجبوري، الذي أخفق في الاحتفاظ بمقعده البرلماني. وقد صوَّت البرلمان على عدد من القرارات التي تضمنت إلغاء أصوات المغتربين والأصوات التي أُدلي بها في مراكز اللجوء، وإعادة فرز 10 بالمئة من الأصوات في كافة أنحاء البلاد يدويًّا، للتأكد من مطابقتها للتصويت الإلكتروني، ومن ثم فرز كل الأصوات يدويًّا إن لم تكن نتائج عينة العشرة بالمئة مطابقة، وتشكيل لجنة قضائية للإشراف على عمل المفوضية العليا للانتخابات.
وافقت المحكمة العليا على فرز الأصوات يدويًّا، أعقبها إعلان المفوضية العليا عن الشروع في عملية الفرز يدويًّا بدءًا من الثلاثاء 3 يوليو/تموز 2018. وإلى أن تتم المصادقة القضائية على النتائج المعلنة وتوزيع مقاعد البرلمان الجديد، لا تزال النتائج التي أعلنتها مفوضية الانتخابات أولية.
يُعتقد أن إلغاء الانتخابات في هذه المراكز يمكن أن يعيد النظر في حجم بعض القوائم الانتخابية، سيما الفتح والاتحاد الوطني والأنبار هويتنا، ويضيف إلى حصة قوائم أخرى، مثل النصر والقرار والديمقراطي الكردستاني.
راهن الأميركيون، ومعهم السعوديون، على أن قائمة رئيس الحكومة، حيدر العبادي، ستكون الكتلة البرلمانية الأكبر، وأن العبادي سينجح في الحفاظ على منصبه في رئاسة الحكومة خلال السنوات الأربع المقبلة. ولكن النتائج لم تأت طبقًا لتوقعات الأميركيين والسعوديين.
بهذه النتائج، بات من المستحيل أن تستطيع قوة سياسية منفردة التحكم في عملية تشكيل حكومة أغلبية برلمانية آمنة ومستقرة، ليس فقط لأن أكبر كتلة برلمانية لا تضم أكثر من 54 مقعدًا، ولكن أيضًا لأن أغلب الكتل السياسية هي في الحقيقة ائتلافات من قوى سياسية متعددة وشخصيات طامحة، لا تتمتع بتماسك يمكن الثقة به. فقد حاول السيد مقتدى الصدر، الذي يقود قائمة سائرون، بالرغم من أنه شخصيًّا لم يكن مرشحًا للانتخابات، خلال الأسابيع القليلة التي تلت إعلان النتائج الأولية، قيادة المفاوضات نحو تشكيل الحكومة الجديدة. ولكن، وبالرغم من لقاء الصدر أغلب قادة القوائم والكتل السياسية الأخرى، وتوكيده المتكرر على أنه يسعى إلى تشكيل حكومة وطنية، تحافظ على استقلال القرار العراقي، تبتعد عن تقاليد المحاصصة الطائفية والإثنية، ويقودها أكفاء ومهنيون، إلا أن تحركه المبكر لم يأت بنتائج ملموسة.
لم يكن خافيًا أن الصدر لا يرغب في التحالف مع قائمتي الفتح ودولة القانون، وثيقتي الصلة بإيران، وأنه بصورة خاصة يرفض تولي نوري المالكي أو هادي العامري رئاسة الحكومة المقبلة. وليس لديه مانع من تشكيل حكومة تتمتع بدعم أغلبية 165 صوتًا أو أكثر قليلًا من برلمانيي القوى التي تشاركه رؤيته للحكم في العراق، على أن تقوم القوى السياسية غير المنضوية في الائتلاف الحكومي بدور المعارضة. ولأن الصدر كان قد قام بزيارة للسعودية في يوليو/تموز 2017، قابل خلالها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وانتقد القوى السياسية العراقية المكرسة للطائفية والموالية لإيران، تشكَّل انطباع بأنه يعيد بناء الهوية الوطنية العراقية ويقلص من هيمنة النفوذ الإيراني في العراق.
للوهلة الأولى، بدا أن الصدر يتجه للتحالف مع حيدر العبادي لتكوين الكتلة مركز الأغلبية البرلمانية والتي يمكن أن تقود عملية التشكيل الحكومي. المشكلة أن العبادي ينتمي هو الآخر لحزب الدعوة، كما يرغب بأن يحافظ على موقعه في رئاسة الحكومة. وكلا الأمرين لا يجدان ترحيبًا لدى الصدر، الذي يحتفظ بحساسية بالغة تجاه حزب الدعوة، ولا يعتقد أن العبادي، حتى إن استقال من الحزب، لديه المؤهلات الكافية لرئاسة الائتلاف الحكومي الجديد. في 8 يونيو/حزيران 2018، أُعلن عن التوصل إلى اتفاق تحالف بين سائرون، وتيار الحكمة، وقائمة الوطنية، لتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر. ولكن إياد علاوي، رئيس قائمة الوطنية، كذب الخبر، وقال: إن الأمر لم يكن أكثر من بروتوكول تعاون أولي بين الأطراف الثلاثة.
في 13 يونيو/حزيران 2018، وفي خطوة مفاجئة، التقى مقتدى الصدر بهادي العامري وأعلنا في نهاية اللقاء عن تحالف كتلتيهما: سائرون والفتح، بهدف تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر. بذلك، يكون الصدر قد تخلى عن معارضته المعلنة للتحالف مع من سبق أن وصفها بـ"الميليشيات الوقحة"، وانقلب على أولوياته السابقة، من العمل على تكوين كتلة أغلبية وطنية إلى العمل على إحياء التحالف الشيعي وامتلاك هذا التحالف قرار تسمية رئيس الحكومة وتحديد طبيعة الائتلاف الحكومي.
جاء الإعلان عن تحالف الصدر والعامري بعد يومين فقط من زيارة للعراق قام بها رجل إيران القوى في الإقليم، الجنرال قاسم سليماني، واستمرت ثلاثة أيام، التقى خلالها معظم قادة القوى السياسية الشيعية، بما في ذلك الصدر. وقد ذكرت تقارير أن سليماني دعا القيادات الشيعية إلى الائتلاف من جديد، بمن في ذلك: الصدر، والعامري، والمالكي، والعبادي، والحكيم، على أن يتفقوا بعد مشاورات بينهم على أسماء ثلاثة مرشحين لرئاسة الحكومة، يجري بعدها التوافق مع القوى السياسية الأخرى، السنية والكردية، حول الشخصية الأكثر قبولًا من مكونات العراق الرئيسة الثلاث، والأكثر مدعاة لدعم الأغلبية البرلمانية.
يعتبر الإعلان عن تحالف الصدر والعامري انتصارًا لإيران وتوكيدًا على أن نفوذها في العراق لم يزل يحتفظ بفعاليته وتأثيره، وأن لا الأميركيين ولا السعوديين يمكنهم تقويض هذا النفوذ. ولكن إعلان التحالف بين القوتين الشيعيتين الرئيستين لا يعني أن التصور الإيراني لتشكيل الحكومة العراقية المقبلة سيطبق بلا عوائق. فليس من الواضح بعد كيف يمكن التغلب على العداء المستحكم بين الصدر والمالكي، ومن سيقوم بالوساطة لعقد مصالحة ما بينهما. ولا يبدو أن الحكيم سعيد بما يدفع إليه الإيرانيون. كما أن دعوة رئيس الحكومة، العبادي، مؤيَّدًا من الأميركيين، كافة القوى السياسية في البلاد للاجتماع بعد إجازة عيد الفطر للتباحث حول تشكيل الحكومة الجديدة، تشير إلى أن العبادي لم يوقع على المقترح الإيراني بعد، وأنه سيحاول حظه بوسائل أخرى. ما يخشاه العبادي أن يمهد إحياء التحالف الشيعي، برعاية إيرانية، لإخراجه من المنافسة على رئاسة الحكومة المقبلة.
الحقيقة أن العبادي يفتقد القوة والأوراق الكافية لتحدي الإرادة الإيرانية؛ فقائمة العبادي الانتخابية، النصر، لم تأت ثالثة وحسب، بل إن عشرة من مرشحي القائمة الفائزين هم من السنة. كما أن كتلة حزب الفضيلة الشيعي المنضوية في القائمة يمكن أن تتخلى عن التحالف مع العبادي للالتحاق بالقوى الموالية لإيران. وسيصعب على العبادي، مهما كانت قدرته على الإقناع، وحتى بدعم أميركي وسعودي، حشد ما يكفي من القوى السنية والكردية لبناء أغلبية برلمانية. بدون دعم من قائمتي "سائرون" أو الفتح، لن يستطيع العبادي تحقيق هذه الأغلبية، ما يعني أن وسيلة العبادي الوحيدة للحفاظ على منصبه لدورة برلمانية ثانية، هي التفاهم مع الإيرانيين وحلفائهم.
طريق طويل نحو الحكومة الجديدة
لم يُحسم بعد الخلاف على نتائج الانتخابات، والأرجح أن الأمور تتجه نحو إلغاء محدود للأصوات في عدد من المراكز الانتخابية، مما سيترك أثرًا غير ملموس على حصص القوائم الانتخابية في البرلمان الجديد. وتصب فتوى المحكمة الاتحادية العليا، التي تقول بقدسية الأصوات، وأن الإلغاء يجب ألا يطول سوى الأصوات المشكوك فيها فقط، في هذا الاتجاه. أما إلغاء الانتخابات كلية، أو إلغاء كتل أصوات كبيرة، بحيث يترك أثرًا ملموسًا على وضع القوائم ووزنها، فيتطلب تأييدًا سياسيًا واسع النطاق ليس متوفرًا.
وعلى افتراض أن توزيع مقاعد البرلمان الجديد سيُبقي، بهذه الدرجة أو تلك، على ما أظهرته النتائج الأولية التي أعلنتها المفوضية العليا للانتخابات، فإن إيران من خلال حلفائها يبدو أنها عادت لتمسك بمعظم أوراق عملية تشكيل الحكومة المقبلة. أما رياح التفاؤل التي هبت لأسابيع قليلة، وأوحت بأن العراق يحث الخطى نحو التحرر من الطبيعة الطائفية والإثنية لدولة ما بعد 2003، ومن التأثيرات الإقليمية والدولية على قراره الوطني، فيبدو أنها أُخمدت. وسواء أنجح الإيرانيون في فرض تصورهم لتشكيل الحكومة العراقية المقبلة على كافة القادة السياسيين الشيعة أم لا، فإن حجم القوى التي تميل لإيران حتى الآن سيكون كافيًا لبناء تحالف شيعي، يقرر، بصفته الشيعية، هوية رئيس الحكومة المقبلة وأطراف ائتلاف الأغلبية البرلمانية التي ستسند إليها هذه الحكومة.
وربما لم يكن مفاجئًا، في ظل عودة إيران القوية والتوجه لإحياء التحالف الشيعي، أن تُدعى القوى العربية السنية كافة إلى اللقاء، بمبادرة من الرئيس المشارك لقائمة القرار، رجل الأعمال خميس الخنجر، بمدينة عَمَّان، في 17 يونيو/حزيران 2018، للتباحث في كيفية بناء تحالف، يتفاوض باسمهم كمكون وليس أفرادًا أو مجموعات صغيرة. بمعنى أن السنة العرب، الذين دعوا دائمًا لتجاوز المعايير الطائفية في السياسة العراقية، يضطرون هم أيضًا للتكتل طائفيًّا للمحافظة على الحد الأدنى من حقوقهم وحقوق ناخبيهم. ولكن، وفي ظل الانقسامات التي تضرب صفوفهم، ليس من الواضح كيف يمكن بناء توافق مستقر بين السياسيين السنة. ما يُتوقع، على أية حال، أنه إذا تحقق هدف بناء كتلة سُنِّيَّة، فالأرجح أن تتعاون هذه الكتلة مع مسعود بارزاني، الذي يعد بتشكيل كتلة كردية برلمانية لا يقل عددها عن أربعين نائبًا، لبناء جبهة واحدة في مفاوضات الحكومة المقبلة.
بيد أن الخسارة الناجمة عن إحياء الطائفية وعودة إيران القوية إلى العراق لا تقتصر على الساحة العراقية؛ فالأميركيون، الذين راهنوا على العبادي، والسعوديون الذين استثمروا في العبادي والصدر معًا، خرجوا خاسرين هم أيضًا. وخلال الشهور القليلة الماضية، بدأ مسؤولون سعوديون احتفالًا صاخبًا حول عودة العراق إلى الحضن العربي، بمعنى نجاح السعودية في تعزيز نفوذها في العراق. هذا الاحتفال يبدو الآن مبكرًا جدًّا. كما أن حسابات الأميركيين القائمة على إخراج الإيرانيين من سوريا، وإضعافهم في العراق، لا يُتوقع لها التحقق قريبًا، على الأقل في شقها العراقي. في أغلبيتها، لم تزل الطبقة الشيعية السياسية، في عراق ما بعد 2003، ترى في إيران عمقها الاستراتيجي، أو أنها، في أفضل الأحوال، تخشى الغضب الإيراني. وربما أكثر من سوريا بكثير، يبدو أن صيانة الاستقلال العراقي من التدخلات الخارجية وإعادة بناء الهوية العراقية على أسس وطنية تتجاوز الاصطفافات الطائفية لا تحققها الانتخابات وحدها بل تحتاج إلى إجراءات تجعل تكاليف التدخل الأجنبي والاصطفافات الطائفية مكلفة وغير مجزية.