أزمة العلاقات التركية-الأميركية.. تعثر لا قطيعة

ليس ثمة خلاف على أن الأزمة الأخيرة تمثل شرخًا حقيقيًّا في العلاقات التركية-الأميركية. ولكن السؤال هو ما إن كانت، في ضوء تراكم الخلافات، في طريقها لدفع العلاقات التركية-الأميركية نحو محطة اللاعودة.
a082960b5dcd4f1ea7fe05f0fd17b567_18.jpg
حديث يجمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال قمة الناتو في يوليو/تموز 2018 (الأناضول)

في خطوة مفاجئة، أعلنت إدارة الرئيس دونالد ترامب، في مطلع أغسطس/ آب 2018، عن فرض عقوبات على وزيري الداخلية والعدل التركيين، ترتكز إلى ذات القانون المستخدم لفرض عقوبات على روسيا. وقد أعلنت واشنطن أن السبب خلف قرار العقوبات رفض أنقرة الإفراج عن القس الأميركي، أندرو برنسون، المحتجز في تركيا، منذ عشرين شهرًا، بتهم تتعلق بصلته بتنظيمي غولن وحزب العمال الكردستاني.

فعليًّا، لن يكون لقرار العقوبات على الوزيرين التركيين أثر ملموس. فما يعنيه القرار أن الحكومة الأميركية ستتحفظ على أية ممتلكات للوزيرين في الولايات المتحدة، وتفرض حظرًا على أي تعامل مع الوزيرين من قبل المواطنين الأميركيين. كلا الوزيرين، بالطبع، لا يحتفظ بأية ممتلكات في الولايات المتحدة، وليس ثمة مبرر لوجود أية تعاملات لهما مع جهات أميركية. ولكن القرار الأميركي، مع ذلك، حمل دلالات رمزية سياسية ثقيلة، ذات صلة مباشرة بطبيعة ومستقبل العلاقات التركية-الأميركية.

هذه هي المرة الأولى التي تفرض فيها إدارة أميركية عقوبات على مسؤولين حكوميين في دولة حليفة، وعضو بمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، منذ تأسيس الحلف في 1949. كما أن مسألة القس برنسون لا تبدو بالحجم الذي يستدعي اتخاذ خطوة مثل فرض عقوبات على وزراء دولة حليفة. وحتى إن كانت، فالمسؤولون الأميركيون يعرفون أن تركيا ليست دولة يمكن أن تخضع للضغوط، وأن قرار العقوبات، بالتالي، سيضيف مزيدًا من التعقيد على قضية برنسون، ويجعل من العسير إيجاد حل دبلوماسي سريع لها.

بعد أيام قليلة من الإجراء الأميركي، تحدث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 4 أغسطس/آب 2018، للمرة الأولى حول الموضوع، في سياق خطاب له لأعضاء حزب العدالة والتنمية. قال أردوغان: إن الخطوة الأميركية تنم عن عدم احترام لتركيا، وأشار إلى أنه أصدر أمرًا بفرض عقوبات مماثلة على وزيري العدل والداخلية الأميركيين.

ليس ثمة خلاف على أن هذه الأزمة تمثِّل شرخًا حقيقيًّا في العلاقات التركية-الأميركية. ولكن السؤال هو ما إن كانت، في ضوء تراكم الخلافات بين أنقرة وواشنطن، في طريقها لدفع العلاقات التركية-الأميركية نحو محطة اللاعودة. ثمة قدر من الغموض في قضية القس برنسون، لاسيما بعد أن كانت محكمة تركية قد أفرجت عنه، لأسباب صحية، ووضعته تحت إقامة منزلية إجبارية، انتظارًا لبدء محاكمته. فهل أصبحت قضية القس الأميركي القشة التي ستقصم ظهر البعير، وتُؤَسِّس لقطيعة فعلية في العلاقات التركية-الأميركية عميقة الجذور؟

قراءات ملتبسة

بعد ساعات قليلة من الإعلان عن العقوبات الأميركية، نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية تقريرًا مفاده أن واشنطن اتخذت القرار بعد أن تبيَّن أن أنقرة لن تقوم بالإفراج عن القس، الذي كان موضع تفاهم بين الرئيسين التركي والأميركي أثناء اللقاء القصير الذي جمعهما على هامش قمة حلف الناتو في بروكسل. طبقًا لهآرتس، تضمن تفاهم الرئيسيين قيام ترامب بالضغط على نتنياهو للإفراج عن الفتاة التركية (التي كانت احتجزت في إسرائيل بتهمة تقديم مساعدات لا قيمة فعلية لها لحماس)، مقابل الإفراج عن القس برنسون. ما أعطى مصداقية أولية لرواية الصفقة أن السلطات الإسرائيلية أفرجت بالفعل عن الفتاة التركية، مع الاحتفاظ بجواز سفرها في أول الأمر، ثم أعيد لها الجواز وسمح لها بالسفر. ولكن، وما أن شاعت رواية الصفقة، حتى سارعت مصادر تركية إلى التأكيد على أن الاتفاق المشار إليه بين ترامب وأردوغان لم يقع وأن أحدًا لا يجب توقع وجود صفقة حول قضيتين لا تماثل بينهما ولا يمكن وضعهما في ميزان واحد.

طبقًا لرواية صباح التركية (3 أغسطس/آب 2018)، المعروفة بتأييدها لحزب العدالة والتنمية الحاكم، جرى بالفعل اتصال بين ترامب وأردوغان قبل أيام قليلة من صدور قرار العقوبات الأميركي، وخلال الاتصال قال الرئيس الأميركي لنظيره التركي إن عدم الإفراج عن القس المحتجز سيجعل منه هدفًا لكراهية العالم المسيحي. وطبقًا لنفس الرواية، يبدو أن أردوغان رفض الاستجابة لطلب ترامب، ورد عليه بالقول: "كلانا له من يحبونه ومن يكرهونه".

ثمة من يعتقد، سواء في واشنطن أو في أنقرة، أن الخطوة الأميركية اتخذت لأسباب انتخابية محلية، وأن الرئيس ترامب، مدفوعًا بنائبه، مايك بنس، المعروف بارتباطاته وميوله المسيحية الإنجيلية، أراد إرضاء القطاع المسيحي الأصولي من قاعدة مؤيديه. فالولايات المتحدة تحث الخطى نحو انتخابات الكونغرس النصفية في نوفمبر/ تشرين ثاني 2018، وتعمل إدارة ترامب بكل ما أوتيت من جهد على أن لا يخسر الحزب الجمهوري أغلبيته في مجلسي الشيوخ والنواب. وربما كان هذا ما قصده الرئيس التركي عندما قال في خطاب 4 أغسطس/آب: إنه لن يسمح بأن تتحول تركيا إلى ورقة انتخابية داخلية، لا في أوروبا ولا في الولايات المتحدة.

مهما كان الأمر، وبالرغم من أن التعليقات الرسمية التركية على القرار الأميركي اتسمت بقدر واضح من الانضباط والرغبة في عدم التصعيد، فقد شهدت تركيا لحظة نادرة من الاصطفاف السياسي خلف حكومة أردوغان. وقد أصدرت الأحزاب التركية الممثلة في البرلمان، مجتمعة، بيانًا ندد بقرار العقوبات الأميركي، وذهب أحد البرلمانيين من الحزب الصالح إلى حد دعوة الحكومة التركية إلى مصادرة برج ترامب بمدينة إسطنبول، الذي تملكه شركة الرئيس الأميركي. وأمام هذا الاصطفاف الوطني في مواجهة الخطوة الأميركية، كان لابد لحكومة أردوغان، حتى في ظل استمرار الاتصالات الدبلوماسية بين البلدين، أن تتخذ قرارًا بالرد على ما رآه كثير من الأتراك إهانة لبلدهم.

قد تكون للطبيعة الانفعالية وسياسة المفاجآت غير المحسوبة، التي تتسم بها دبلوماسية إدارة ترامب، علاقة ما بالإجراء الأميركي ضد تركيا. ولكن تصور الأزمة الناجمة عن مسألة القس برنسون وقرار العقوبات بأنها تُمثِّل منعطفًا غير مسبوق في علاقات البلدين تصور خاطئ. الحقيقة أن العلاقات التحالفية بين تركيا والولايات المتحدة، التي تأسست في نهاية أربعينات القرن العشرين، شابتها دائمًا فترات من الخلاف والتوتر، وأن هذا الخلاف والتوتر وصل ذروته خلال العامين أو الثلاثة الماضيين، سواء في عهد أوباما أو ترامب.

علاقات تحالفية مضطربة 

عززت تركيا ما بعد الحرب من الانحياز للمعسكر الغربي الليبرالي بإصلاحات سياسية، أفسحت المجال للتعددية الحزبية والتداول على السلطة. ولكن تحول العلاقة مع المعسكر الغربي الليبرالي إلى تحالف لم يحدث إلا بعد اكتساب تركيا عضوية الناتو في العام 1952. والحقيقة، أن عضوية تركيا في الناتو كانت وليدة التهديد السوفيتي المتعاظم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، الذي تمثَّل في مطالبة ستالين بتعديل الحدود التركية مع جورجيا السوفيتية، وموافقة تركيا على وجود عسكري سوفيتي في مضيقي البوسفور والدردنيل. التهديد السوفيتي لتركيا واليونان أدى إلى إعلان مبدأ ترومان، الذي تعهد بحماية استقلال البلدين، وجاء بالأتراك واليونانيين في النهاية إلى عضوية الناتو، ومن ثم تحول تركيا إلى دولة مواجهة رئيسة في خارطة الحرب الباردة. وقد جاء الاعتراف التركي بالدولة العبرية في العام 1949 كتعبير عن حسم التوجهات التركية الخارجية، وعن الاندفاعة التركية باتجاه المعسكر الغربي الليبرالي. وبذلك أصبحت تركيا ركنًا رئيسًا في الاستراتيجية الغربية في الشرق الأوسط، في أنظمة الدفاع الغربية. ويأتي ذلك للتصدي للدول العربية القومية المناهضة للسياسات الإمبريالية الغربية، وفي توفير مجال إقليمي للدولة العبرية.

منذ النصف الثاني من الستينات، بدأت أنقرة تعيد النظر في سياسة الانحياز المطلق للكتلة الغربية، تحت تأثير قيام الولايات المتحدة بسحب صواريخ جيوبتر النووية من تركيا، كجزء من الصفقة التي وضعت نهاية للأزمة الكوبية، وبفعل رسالة الرئيس الأميركي، لندون جونسون، للحكومة التركية، في 1964، التي عبَّر فيها عن رفضه دعم الموقف التركي تجاه قبرص. استبطنت الخطوتان اعتبار تركيا مجرد ورقة في التدافع السوفيتي-الغربي، وعمقتا من الشكوك التركية في درجة الالتزام الغربي بأمن تركيا وسلامتها. ولذا، فقد أخذت أنقرة في استكشاف إمكانية إعادة بناء العلاقات مع الاتحاد السوفيتي على أسس جديدة، وتلمس إمكانيات انفتاح جزئي على الجوار الإقليمي. في العام 1967 قُطعت العلاقات التركية-الإسرائيلية لفترة وجيزة، بعد حرب حزيران/يونيو. وفي 1969 شاركت تركيا في المؤتمر التأسيسي لمنظمة القمة الإسلامية. وفي 1979 سمحت بفتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة أنقرة.

في العام 1974، تعرضت العلاقات التركية-الأميركية لمزيد من التعثر بعد أن قررت حكومة بولنت إيجيفت الائتلافية إرسال الجيش إلى شمال قبرص لحماية القبارصة الأتراك من عنف نظرائهم اليونانيين، لاسيما بعد قيام القوميين اليونانيين القبارصة بالانقلاب على حكومة الأسقف مكاريوس والإطاحة به. لم تأخذ واشنطن الدوافع التركية في الاعتبار وفرضت حظرًا على توريد السلاح لكل من تركيا وقبرص. تسبب قرار الحظر في رد فعل تركي، أدى إلى إيقاف النشاط العسكري الأميركي في قاعدة إنجرليك التركية. ولم تعد العلاقات إلى طبيعتها إلا في العام 1978، عندما رفعت إدارة كارتر حظر السلاح.

أبدت الولايات المتحدة تقبلًا واقعيًّا للانقلاب التركي العسكري في 1980، ولكن، وبالرغم من التقارير التي تشير إلى دور أميركي في الانقلاب (لم تزل تجد صدى لها حتى اليوم)، إلا أن الخلافات سرعان ما طفت على السطح من جديد بين البلدين. بعد ذلك، رفضت أنقرة فكرة تشكيل قوة عسكرية متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة للتعامل مع أزمة الرهائن الأميركيين في إيران الإسلامية، كما أحجمت عن الالتحاق بنظام العقوبات ضد إيران، مفضلة لعب دور وسيط بين طهران وواشنطن. وقد استمرت الخلافات طوال الثمانينات حول استراتيجية مواجهة التوتر المتصاعد في الخليج والاحتلال السوفيتي لأفغانستان.

لم تجد إدارة بوش الأب صعوبة في التعامل مع حكومة أوزال في أزمة الخليج الأولى، الناجمة عن احتلال العراق للكويت، في 2 أغسطس/آب 1990. ولكن طلبًا أميركيًّا من إدارة بوش الابن للسماح باستخدام الأراضي التركية، لتوفير ممر للقوات العسكرية الأميركية إلى شمال العراق، رُفض من قبل برلمان 2003 التركي، الذي كان حزب العدالة والتنمية يتمتع فيه بأغلبية مريحة. لم تغفر مجموعة المحافظين الجدد في إدارة بوش لتركيا موقفها من غزو العراق، وعزمت على إبعاد تركيا كلية من العراق الجديد، متجاهلة المصالح التركية الحيوية في البلد الجار. ولم تبدأ إدارة بوش الثانية في البحث عن دور تركي ما إلا بعد أن تدهورت أوضاع العراق الأمنية، واتسع نطاق التدخل الإيراني، وفشلت واشنطن في بناء العراق الذي تريد.

خلال إدارة باراك أوباما الأولى، اتسمت علاقات البلدين، بقدر كبير من الاستقرار، عكسته الثقة المتزايدة بين رئيس الحكومة التركية، أردوغان، والرئيس الأميركي الجديد. فتعاون البلدان بصورة وثيقة للمساعدة على الانسحاب الأميركي من العراق، وعملت إدارة أوباما على الترويج للعلاقات مع أنقرة باعتبارها نموذجًا لما تريده من علاقات مع العالم الإسلامي. ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلًا، وسرعان ما برزت الخلافات بين أنقرة وواشنطن بصورة أكثر إلحاحًا من أية مرحلة سابقة، سواء خلال السنوات الأخيرة من ولاية أوباما الثانية، أو خلال العام ونصف العام الأولين من عمر إدارة ترامب.

ملفات خلافات متراكمة 

بدأت الشكوك تنتاب أنقرة حول مصداقية إدارة أوباما بعد الانقلاب العسكري المصري على الديمقراطية، وعلى الرئيس محمد مرسي، في 3 يوليو/تموز 2013، الذي نظر إليه باعتباره حليفًا لتركيا العدالة والتنمية. لم تتوفر أدلة على دور أميركي في الانقلاب على مرسي، ولكن اعتقادًا ساد في أنقرة بأن إدارة أوباما كانت تعرف بمخطط الانقلاب مبكرًا وأنها لم تبذل جهدًا كافيًا لمنع وقوعه، إضافة إلى أن موقف الإدارة الأميركية من نظام الانقلاب ظل فاترًا ولم يعكس حرصًا أميركيًّا على دعم الديمقراطية في مصر. ولكن الموقف من الانقلاب في مصر كان مجرد بداية لسلسلة من الخلافات المحتدمة.

في صيف العام التالي، 2014، فاجأ تنظيم "الدولة الإسلامية" العالم بحركة توسع عسكري واسعة النطاق في محافظات وسط وشمالي العراق، وفي شرق وشمالي شرق سوريا. ولسبب ما، تحوَّل تحرير مدينة عين العرب/ كوباني، السورية، ذات الأغلبية الكردية، من سيطرة تنظيم الدولة، إلى قضية ذات طابع دولي. وبتوسع هذا التنظيم السريع والمدهش، اضطرت إدارة أوباما للعودة إلى الشرق الأوسط. ونظرًا لأن واشنطن لم تكن ترغب في أن تلعب القوات الأميركية دورًا مباشرًا في مواجهة تنظيم الدولة، بدأ البحث عن حلفاء محليين لتحمل أعباء المواجهة. في العراق، وجد الأميركيون ضالتهم في البيشمركة الكردية وقوات الجيش العراقي والحشد الشعبي، أما في سوريا فقد ذهب الأميركيون إلى التحالف مع قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الكردي. ولأن حزب الاتحاد الديمقراطي ليس سوى فرع لحزب العمال الكردستاني، الذي يخوض حربًا ضد الدولة التركية منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين، فقد نظر الأتراك إلى الدعم الأميركي للمسلحين الأكراد السورين بقدر كبير من الريبة والغضب.

خلال الأعوام التالية، وبالرغم الاحتجاجات التركية على السياسة الأميركية في سوريا، استمر توسع قوات الاتحاد الديمقراطي، تحت مظلة ما بات يعرف بقوات سوريا الديمقراطية، في شمال وشرق سوريا، شرقي نهر الفرات وغربه. وهذا ما اضطر تركيا إلى تبني سياسة تقارب مع روسيا وإيران، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في سوريا، التي تبلغ حدود تركيا معها ما يزيد عن 900 كيلومترًا. وبموافقة روسية، قامت تركيا بعمليتين عسكريتين كبيرتين في منطقتي الباب وعفرين، لتأمين الشريط الحدودي السوري من سيطرة قوات تنظيم الدولة والميليشيات الكردية، بحيث لم يتبق من وجود عسكري كردي غربي الفرات سوى في منطقة منبج، التي نشر الأميركيون فيها قواتهم لحماية حلفائهم الأكراد.

وفي يوليو/تموز 2018، وبعد مفاوضات شاقة، توصل الأتراك والأميركيون لاتفاق حول منبج، لم تعلن تفاصيله قط. ولكن مصادر تركية تؤكد أنه يتضمن إخلاء منبج كلية من القوات الكردية، وتسيير دوريات تركية-أميركية مشتركة لحفظ الأمن، وصولًا لإقامة إدارة محلية من أبناء المنطقة، ذات الأغلبية العربية. وقد اعتبر الاتفاق حول منبج اختراقًا مهمًّا في ملف الخلاف بالغ التعقيد بين تركيا والولايات المتحدة في سوريا، ولكن أنقرة تنظر إلى الاتفاق بصفته مجرد بداية، ليس فقط لأن الدعم الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية لم يزل مستمرًا، ولكن أيضًا لأن القلق التركي من السيطرة الكردية المسلحة شرق الفرات لا يقل عن مثيله غرب الفرات.

يتصل ملف الخلاف الثاني بين الدولتين بالتقارب بين تركيا وروسيا، الذي أخذت وتيرته في التسارع منذ المصالحة بين أنقرة وموسكو عقب إسقاط القوات التركية طائرة روسية في نهاية 2015. من وجهة نظر أنقرة، ولدت سياسة التقارب مع موسكو بسبب إحجام واشنطن عن لعب أي دور فعال في سوريا، واختلال التوازن كلية في الساحة السورية بعد بدء التدخل الروسي العسكري المباشر في خريف 2015. ولكن واشنطن ترى أن هذا التقارب يتجه نحو اكتساب طابع استراتيجي، يمكن أن يؤثر على التزامات تركيا في حلف الناتو. ولعل مسألة الاشتباك الرئيسة في هذا الملف تتعلق بقرار تركيا شراء نظام الدفاع الجوي الروسي، إس 400.

ما تقوله أنقرة إنها اضطرت لتوقيع عقد شراء منظومة إس 400؛ لأن الولايات المتحدة أحجمت طوال سنوات عن بيع تركيا منظومة دفاع جوي حديثة، بالرغم من حاجة تركيا الماسة لمثل هذه المنظومة. في المقابل، يقول الأميركيون إن نصب منظومة دفاع جوي روسية في دولة عضو بالناتو، يعني أن دفاع هذه الدولة الجوي لن يستطيع استقبال إشارات الإنذار التي ترسلها محطات الناتو. والأخطر، أن اعتماد سلاح الجو في هذه الدولة على طائرات غربية، مثل الفانتوم، يعني أن الروس سيفيدون من المعلومات المتعلقة بكيفية التعامل مع هذه الطائرات. وفي حين تؤكد أنقرة على أنها لن تتراجع عن شراء المنظومة الروسية، التي بدأت بالفعل في تسليم ثمنها، تقول إدارة ترامب إنها على استعداد، الآن، لبيع تركيا منظومة دفاع جوي مكافئة، مثل باتريوت.

أما ملف الخلافات الثالث فينبع من عواقب محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في 15 يوليو/تموز 2016، التي تؤكد أنقرة أن من وقف خلفها كان تنظيم فتح الله غولن، الداعية المقيم في ولاية بنسلفانيا منذ لجوئه للولايات المتحدة في نهاية التسعينات. ثمة شكوك لدى الأتراك بأن الأميركيين كانوا يعرفون بمخطط الانقلاب قبل وقوعه، لاسيما أن قرار الانقلاب، كما أوضحت التحقيقات، أُخذ بالفعل في مقر قيادة غولن ببنسلفانيا. ويقول المسؤولون الأتراك إنه حتى بغض النظر عن مدى المعرفة الأميركية بما كان يسعى التنظيم إلى تحقيقه، فقد قدمت أنقرة ما يكفي من الأدلة التي تُسَوِّغ تسليم غولن، وإعادته لبلادة للمحاكمة. المدهش، أن لا إدارة أوباما ولا إدارة ترامب أظهرت ما يكفي من الجدية للتعامل مع ملف غولن، الذي لا يلبث أن يغيب حتى يعود من جديد إلى جدول أعمال العلاقات بين البلدين.

إضافة إلى هذا كله، يبدو أن الموقف من إيران سيضاف سريعًا إلى قائمة الخلافات. فقد بدأ في 7 أغسطس/آب 2018 تطبيق الحزمة الأولى من العقوبات الأميركية على إيران، التي يتوقع أن تصل ذروتها في نوفمبر/ تشرين ثاني (2018)، عندما تنتهي المهلة الأميركية للشركات التي تتعامل مع النفط الإيراني، وتبدأ واشنطن في فرض عقوبات ثانوية على كل الشركات المخالفة. المسؤولون الأتراك، من جهتهم، أعلنوا في أكثر من مناسبة أنهم لن يلتزموا بالعقوبات الأميركية على إيران، وأن علاقاتهم الإيرانية ستحددها المصالح التركية وحسب.

لم يحدث من قبل، طوال هذه العلاقة التحالفية المضطربة بين تركيا والولايات المتحدة، أن شهدت علاقات البلدين هذا الكم من الخلافات. وهذا ما يجعل مسألة القس برنسون مجرد ملف واحد، وربما ليس الأهم، في قائمة متزايدة من الخلافات، التي يمس بعضها الأمن الاستراتيجي للدولة التركية. بخلاف مسألة منبج، التي بدا وكأن تركيا حققت فيها ما تريد، وإن نسبيًّا، تتعرض أنقرة لضغوط متزايدة للاستجابة للمطالب الأميركية. فإلى جانب خطوة العقوبات الرمزية على الوزيرين التركيين، أقر الكونغرس الأميركي إجراء دفاعيًّا يدعو إدارة ترامب إلى حظر تسليم 100 طائرة إف 35، بعد أن كانت تركيا سددت قيمة صفقة الطائرات وبدأ الطيارون الأتراك بالفعل التدرُّب على قيادة اثنتين منهما. وجاء إقرار الكونغرس لهذا الإجراء بهدف معاقبة تركيا على شراء منظومة إس 400 من روسيا. وبالرغم من أن إدارة ترامب ليست ملزمة بتنفيذ قرار الكونغرس، إلا أن إحجام الإدارة عن بذل جهد كاف لمنع تمرير الإجراء، يشير إلى رغبة في استخدام القرار كورقة ضغط في المفاوضات الجارية بين البلدين حول صفقة المنظومة الروسية.

قطيعة مستبعدة

يتعمق اعتقاد في عموم أوساط الطبقة الحاكمة في تركيا، وليس فقط في حزب العدالة والتنمية، بأن ثمة دوائر غربية، وأميركية على وجه الخصوص، لا تريد لتركيا احتلال موقعها الجدير بها كقوة إقليمية فعالة، وقوة اقتصادية ناهضة. ويبرز اعتقاد مقابل في أوساط أميركية، رسمية وقريبة من الرسمية، يقول بأن تركيا لم تعد بذات القيمة الاستراتيجية التي كانت عليها أثناء الحرب الباردة، لا للناتو ولا للولايات المتحدة، وأن التكلفة التي تتحملها الولايات المتحدة جراء العلاقة التحالفية مع تركيا أكبر بكثير من مردودها. باختصار، يرى هؤلاء أن تركيا يمكن إهمالها من الحسابات الاستراتيجية الأميركية دون أن يكون لذلك عواقب تذكر.

بيد أن هناك دلائل عديدة تشير إلى أن هذا الرأي، على أية حال، ليس السائد في وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين. وربما ظهر ذلك بصورة واضحة (واضحة، على الأقل، دبلوماسيًّا)، في تصريحات وزير الخارجية الأميركي، بومبيو، بعد اللقاء الذي جمعه بنظيره التركي، جاووش أغلو، على هامش مؤتمر وزراء خارجية الأسيان في سنغافورة، (3 أغسطس/آب 2018)، بعد يومين فقط من إعلان العقوبات الأميركية على الوزيرين التركيين. فقد صرَّح بومبيو بأن تركيا كانت وستظل حليفًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة، وأن خطوة العقوبات لم يُقصد بها سوى إظهار حجم ما توليه إدارة ترامب من اهتمام بقضية القس برنسون، وأن الخلافات بين البلدين يمكن أن تحل بالتفاوض خلال فترة قصيرة.

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وبغض النظر عن النهج الدبلوماسي الغريب لإدارة ترامب، ليس ثمة حليف يمكن الاعتماد عليه، على طول الحزام الممتد من البلقان حتى باكستان، سوى تركيا، سواء باعتبار ثقلها وتماسك مؤسسة الدولة، أو باعتبار التاريخ وعمق العلاقة التحالفية. وفي وقت عودة روسيا لتشكل تحديًّا استراتيجيًّا للولايات المتحدة، سواء في الشرق الأوسط، أو شرق أوروبا، أو البلطيق، أو البلقان، وتصاعد التوتر مع إيران، تزداد الحاجة لتركيا أكثر من أي وقت مضى. 

موضوعيًّا، يدرك قطاع مؤثر من الأميركيين أن توقعات تبلور تحالف تركي-روسي، أو تفاهم تركي-إيراني بعيد المدى، ليست سوى مخاوف مبالغ فيها. فتركيا لا تحتفظ بخشية تاريخية من روسيا وحسب، بل هي في تدافع استراتيجي معها في البلقان والقوقاز. ويكفي النظر إلى الموقف التركي من المسألة الأوكرانية للتأكد من حجم الهوة التي تفصل بين رؤية كل من تركيا وروسيا لمصالحها. ومهما كانت البراغماتية التي تستند إليها سياسة تركيا تجاه إيران، فإن حجم التنافس بين الدولتين في المشرق العربي والخليج أكبر بكثير من إمكانية ولادة تفاهم بعيد المدى بينهما.

من جهة أخرى، ليس من الصعب رؤية الشبكة بالغة التعقيد من الصلات التي تربط تركيا بالولايات المتحدة. فالولايات المتحدة، بالرغم من كل التخبط مؤخرًا في سياساتها الخارجية، لم تزل اللاعب الرئيس في الشرق الأوسط، وقوة بالغة التأثير في البلقان. ويمكن بالتالي أن تجعل حركة تركيا الإقليمية أكثر صعوبة. وفوق ذلك، الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة القادرة على لجم طموحات روسيا التوسعية، إن عادت خيالات التمدد جنوبًا إلى الحكام الروس. وقد لعبت العلاقة التركية-الأميركية دورًا إيجابيًّا لصالح تركيا في أوروبا خلال العقود القليلة الماضية.

أما في قطاع التسلح، فإن صناعة السلاح التركية تنمو بصورة مطردة. وتعتمد تركيا على صناعتها المحلية لتلبية ما يصل إلى 60 بالمئة من حاجاتها التسليحية. ولكن هناك مستوى من السلاح لا تزال تركيا تستورده من الخارج، وخصوصًا من الولايات المتحدة. وقد تركت عضوية تركيا في الناتو، طوال ما يقارب السبعين عامًا، أثرًا عميقًا على بنية وتدريب وتسليح وتفكير الجيش التركي، وهو ما لا يمكن تغييره بسهولة.

إضافة إلى ذلك كله، تعتبر الولايات المتحدة، القوة الاقتصادية الأكبر في العالم، بالرغم من البعد الجغرافي، الشريك التجاري الخامس لتركيا، بتبادل تجاري تجاوز العشرين مليارًا من الدولارات في العام 2017. وقد ظهرت دلالات هذه العلاقة التجارية واضحة على قيمة الليرة التركية، في الأسبوع الأول من أغسطس/ آب 2018، عندما أعلنت السلطات الأميركية بدء مراجعة للسلع التركية المسموح بدخولها إلى السوق الأميركية بدون رسوم، بعد أن فرضت أنقرة رسومًا على سلع أميركية، ردًّا على رفض واشنطن استثناء تركيا من زيادة التعرفة على واردات الحديد والصلب من أوروبا والصين والمكسيك.

بعبارة أخرى، يبلغ الاعتماد المتبادل بين تركيا والولايات المتحدة، في عدد من الصعد، مستوى يجعل من المستبعد أن تؤدي أزمة القس برنسون والعقوبات الناجمة عنها إلى قطيعة وشيكة في العلاقات، أو حتى في تغيير جوهري في طبيعة هذه العلاقات. ولكن المؤكد أن حجم الخلافات بين البلدين سيزداد وأن مراحل التوتر ستتكرر. ثمة ثقة تركية متزايدة بالنفس، وسعي حثيث إلى لعب دور مؤثر في الإقليم. وهذا ما يجعل أنقرة أكثر رغبة في تنويع علاقاتها في الساحة الدولية، وفي إقامة نوع من التوازن في العلاقات مع مختلف القوى الكبرى ومنظمات التعاون الاقتصادي والاستراتيجي متعددة الأطراف. وكلما ازداد مستوى الثقة بالنفس وتسارعت خطوات السياسة الإقليمية، اصطدمت سياسات البلدين واختلفت استحقاقات هذه السياسات.