سوريا الجديدة: التحديات الكبرى للمرحلة الانتقالية

يواجه القادة الجدد لسوريا عقب الإطاحة ببشار الأسد عدة تحديات، أولها الأمن، وتوحيد السلاح في وزارة واحدة للدفاع، لكن هناك فصائل مسلحة لا تزال ترفض هذا المسعى. وثانيها هو التوافق على هوية الدولة، التي تكوِّن إطارًا يدمج الخلافات المتعددة، وقد كان متوقعًا أن يتحقق ذلك في المؤتمر الجامع الذي أعلنت عنه القيادة السورية الجديدة لكن يبدو أنها تعثرت في إنجازه.
الشرع يقود المرحلة الانتقالية

تحولت دمشق، خلال الشهر التالي على سقوط نظام الأسد، إلى محطٍّ لرحال كبار المسؤولين الغربيين وعدد من المسؤولين العرب، الذين أجرى أغلبهم مباحثات مباشرة مع أحمد الشرع، قائد الإدارة السورية الجديدة. ما تصدر أولوية كافة المسؤولين الغربيين في دمشق كان مطالبة القادة السوريين بحماية "الأقليات" وتمثيلها في نظام الحكم الجديد، والدعوة إلى تجنب تهديد أمن دول الجوار السوري (بما في ذلك إسرائيل، بالطبع). وقد شارك عدد من المسؤولين العرب زملاءهم الغربيين في التوكيد على ضرورة توسيع القاعدة السياسية لنظام الحكم وتمثيل كافة مكونات الشعب السوري.

معلقون ومتابعون، سيما بعض السوريين منهم، عبَّروا عن سخريتهم من القلق الغربي والعربي الرسمي على "الأقليات" السورية، وتجاهل إعلان قادة سوريا الجدد بأن المواطنة المتساوية ستكون الناظم الأساس لعلاقة الدولة السورية بشعبها. ويرى هؤلاء أن الأولوية الأولى لسوريا ما بعد الأسد ليست البحث في نظام الحكم، ولا حتى الدستور، بل ضبط الأمن، بداية من التعامل مع فلول النظام والميليشيات المسلحة، ووصولًا إلى البحث عن ومحاكمة من تورطوا في جرائم قمع الشعب وإهدار كرامته وسفك دماء أبنائه. والواضح أن كثيرًا من السوريين يرون أنه بدون قيام الدولة الجديدة بمسؤولياتها في هذا الشأن، فستتحول سوريا سريعًا إلى غابة من أعمال الثأر والانتقام.

نجيب ميقاتي، الذي التقى الشرع في دمشق، 11 يناير/ كانون الثاني 2025، في أول زيارة لرئيس وزراء لبناني لسوريا منذ 2011، بدا في المؤتمر الصحفي الذي عقده الاثنان في ختام المباحثات وكأنه يطالب بأن تعمل الإدارة السورية الجديدة، بأقصى سرعة ممكنة، على عودة اللاجئين السوريين في لبنان (الذين لم يتبق منهم الكثير، على أية حال). ولم يتردد ميقاتي في القول بأن وجود السوريين في بلاده يمثل عبئًا سياسيًّا واجتماعيًّا-اقتصاديًّا على كافة المكونات اللبنانية، في إشارة لا تخفى إلى أن الأغلبية العظمى من اللاجئين السوريين في لبنان هم من العرب السنَّة، وفي تجاهل للدور الذي لعبه حزب الله (الذي هو أحد مكونات الحكومة اللبنانية) في تدمير بلدات وقرى هؤلاء اللاجئين.

ولكن آخرين، أيضًا، حتى بين النشطين السياسيين السوريين، يرون أن استعادة ملايين اللاجئين السوريين من مهاجرهم، في تركيا ولبنان والأردن، لابد أن تكون له الأولوية، ليس فقط للظروف بالغة الصعوبة والقسوة التي تحيط بمخيمات اللاجئين السوريين، ولكن أيضًا لضرورة إعادة التوازن الديمغرافي للشعب.

تعكس وجهات النظر المختلفة حول أولويات الحكم السوري الجديد، في أغلب الأحيان، اهتمامات ومصالح وأهداف أصحابها، ممثلي دول كانوا أو فاعلين سوريين أو مراقبين للشأن السوري. كما في كافة حالات التغيير الكبرى، ليس من السهل دائمًا إيجاد إطار جامع للجدل الذي يفجِّره انتصار الثورات الشعبية في دول تُعرف بقدر من التنوع الإثني والديني، وثيقة الارتباط بمحيطها الإقليمي، وذات موقع جيوسياسي بالغ الأهمية. فيما يلي محاولة لاستطلاع قائمة مختلفة قليلًا لأبرز التحديات التي تواجه سوريا الجديدة، سواء تلك المتعلقة بالخصائص العامة لوجود الدولة، أو تلك التي تفرضها متطلبات الوضع السوري الانتقالي.

إعادة بناء المؤسسة الدفاعية

تُبنى الدول، كافة الدول، أولًا على أكتاف الجند، ثم يأتي بعد ذلك دور الوزراء والقضاة والتجار والمهندسين. على عاتق الجند، تقع مسؤولية حفظ أمن البلاد، وحراسة حدودها، وفرض سيادتها على الأرض والشعب. بدون مؤسسة دفاعية قادرة، يستحيل تحقق هدف الاستقرار. ولأن جيش النظام السوري المخلوع اختار منذ اندلاع الثورة السورية، في ربيع 2011، جانب النظام في مواجهة الشعب، ولأن قادة سوريا الجديدة قاتلوا طوال سنوات ضد ذلك الجيش، كان من الطبيعي أن يعاد تشكيل وزارة الدفاع.

والواضح أن القيادة السورية الجديدة اختارت إعادة بناء المؤسسة الدفاعية من جذورها، هيكلة وعاملين وجنودًا. أولى خطوات إعادة البناء كان إعلان أحمد الشرع، رئيس الإدارة السورية الجديدة، منح عدد من العسكريين من أعضاء هيئة تحرير الشام، أو التنظيمات الحليفة للهيئة في عملية "ردع العدوان"، رتبًا عسكرية. اثنان من هؤلاء مُنحا رتبة لواء، اللواء مرهف أبو قصرة، الذي أُعلن وزيرًا للدفاع، واللواء علي نور الدين نعسان، الذي أصبح قائد أركان الجيش السوري الجديد؛ بينما مُنح آخرون رتبة عميد أو عقيد. ويُعتقد أن هؤلاء الضباط هم من سيشكِّل الهيكل الأساسي للجيش الجديد، بدون أن يمنع ذلك الاستعانة بعدد من الضباط الذين سبق انشقاقهم عن جيش النظام السابق والانحياز لقوى الثورة، وعُرف أغلبهم باسم الجيش الحر، أو حتى ببعض ضباط الجيش المسرَّحين، سيما أصحاب التخصصات العسكرية الدقيقة ممن لم يثبت تورطهم في أعمال قمع الشعب وقوى الثورة.

وعلى الرغم من أن دستورًا جديدًا لم يُكتب أو يقر بعد، فقد أعلن قادة سوريا الجديدة أنهم سيضعون نهاية لنظام التجنيد الإجباري، وأن الجيش السوري سيعتمد في عديده على المتطوعين. في المرحلة الأولى، يسعى القادة السوريون إلى تحقيق هدفين في إجراء واحد: حل كافة تنظيمات الثورة المسلحة وتخليها عن سلاحها، ومن ثم انضواء منتسبيها، أو من يرغب منهم، إلى الجيش الجديد أو قوى الأمن. عقد أحمد الشرع لقاء موسعًا، في 21 ديسمبر/كانون الأول 2024، ضم أغلب قادة الفصائل المسلحة، لإقناعهم بحل تنظيماتهم والالتحاق بقوات وزارة الدفاع. وقام وزير الدفاع وقائد الأركان بعقد اجتماعات لاحقة مع قيادات فصائلية لمناقشة هيكلية الجيش والاتفاق على إجراءات ضم مسلحي التنظيمات والفصائل. وكان لافتًا توكيد وزير الدفاع على أن هيكلية الجيش الجديد ستستند إلى اعتبارات المواطنة البحتة، وليس إلى أية اعتبارات دينية أو طائفية أو مناطقية. فهل ثمة مشكلة، إذن؟

هناك عشرات من التنظيمات المسلحة التي انخرطت في غمار الثورة السورية بهذه الصورة أو تلك؛ ويقف خلف هذا التشظي عديد من الأسباب، بعضها سياسي-فكري، وبعضها إثني-قومي، وبعضها مناطقي. في إدلب المحررة وحدها، نجحت هيئة تحرير الشام، وباستخدام القوة في بعض الأحيان، في جمع التنظيمات المسلحة في إطار واحد، تحول قبل انطلاق عملية "ردع العدوان" إلى إدارة العمليات. كما أعلن مسؤولون أتراك أنهم أوصوا قادة المجموعات التي تعمل تحت مظلة جيش سوريا الوطني بالالتحاق بوزارة الدفاع الجديدة. وعلى الرغم من وجود تقارير مؤكدة تشير إلى قبول أغلب التنظيمات فكرة الحل وتسليم السلاح والانضواء في الجيش الجديد، فإن شيئًا من الغموض لا يزال يحيط بموقف عدد من التنظيمات، بينما أعلنت تنظيمات أخرى بوضوح رفض المشروع، مسوغة موقفها بهذا السبب أو ذاك.

في السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، مثلًا، قال الشيخ حكمت الهجري، الذي يجري التعامل معه باعتباره المتحدث باسم أبناء الطائفة الدرزية: إن السويداء لن تسمح بسيطرة قوات إدارة العمليات على المحافظة والمقار الحكومية فيها، وإن المسلحين الذين يتبعونه لن يسلموا سلاحهم إلا بعد إقرار دستور جديد (بمعنى، دستور يلبي مطالب الهجري في إقامة نظام حكم لا مركزي). وثمة قوى مسلحة في المحافظة الجنوبية رفضت الانصياع للهجري، وبادرت إلى الالتقاء بوزير الدفاع الجديد، معلنة موافقتها على الالتحاق بالجيش. ويُعتقد بأن عددًا من الشخصيات العامة الدرزية تدفع إلى وضع نهاية للتمرد على وزارة الدفاع، مذكِّرين بأن عزلة درزية عن دمشق ستفضي إلى تهميش الطائفة في بناء سوريا الجديدة.

في درعا، استطاع أحمد العودة منذ سنوات حشد قوة عسكرية من عدة آلاف من أبناء المحافظة. يحتفظ العودة بعلاقات وثيقة مع الأردن والإمارات وروسيا والولايات المتحدة؛ وكان قد قبل بتسوية وضعه وأنصاره في 2019، عندما أطلقت القوات الروسية في سوريا برنامج التسويات مع قوى المعارضة المسلحة. عمل العودة منذ ما بعد تحرير حلب في اليوم الثالث لعملية "ردع العدوان" على السيطرة على محافظة درعا. وبعد استقرار قيادة "ردع العدوان" في دمشق، عقد العودة لقاء مع أحمد الشرع، تم خلاله الاتفاق على تحرك قوات إدارة العمليات إلى درعا وسيطرتها على المقار الحكومية وعلى المعبر الحدودي السوري مع الأردن. ولكن ثمة تضاربًا حول ما إن كان العودة قد وافق فعلًا على التحاق قواته بوزارة الدفاع، على الرغم من أن كثيرًا من أهالي درعا، التي تعتبر حاضنة الثورة السورية الأولى، ترفض التمرد على القيادة السورية الجديدة.

بيد أن المشكلة الكبرى تتعلق بقوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها حزب كردي سوري وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني، ويتمتع بدعم أميركي. تؤكد مصادر الإدارة السورية أن مفاوضات تجري بين ممثلين عن مسلحي قوات سوريا الديمقراطية ووزارة الدفاع منذ أسابيع. وقد علَّق وزير الدفاع السوري، 19 يناير/كانون الثاني، على هذه التقارير بالإشارة إلى أن وزارته لن تقبل بمنح وضع خاص في الجيش الجديد لأي من القوى المدعوة للالتحاق بالجيش. والواضح أن تعليق وزير الدفاع كان ردًّا استباقيًّا على ما يبدو أن قيادة سوريا الديمقراطية تطالب به من وضعية خاصة، وكيانية منفصلة، في هيكلية وزارة الدفاع.

ولأن سلاح قوات سوريا الديمقراطية بات مسألة اشتباك وتقاطع بين سوريا الجديدة، وتركيا، والولايات المتحدة، فالأرجح أن اتجاه هذه المسألة لن يتكشف بصورة كافية إلا بعد تبلور موقف إدارة ترامب من الوجود الأميركي العسكري في شرق سوريا، ومن العلاقة الحمائية التي تربط القوات الأميركية بقوات سوريا الديمقراطية. وربما كانت الجهود التي يبذلها مسعود البارزاني، الذي استقبل السوري-الكردي، مظلوم عبدي، في 17 يناير/كانون الثاني، إحدى أبرز المحاولات للتوصل إلى تسوية سياسية لمعضلة السلاح الكردي في شرق سوريا، حتى قبل تولي ترامب مقاليد الحكم في واشنطن. 

توحيد الأرض وبسط سيادة المركز

يمثل توحيد سوريا واستعادة سيادة المركز على الأرض والشعب أحد التحديات الملحَّة التي تواجه الإدارة السورية، والذي يرتبط بصورة وثيقة بمشروع نزع سلاح الفصائل وإعادة بناء المؤسسة العسكرية. ولأن المناطقية سمة رئيسة لمعظم الفصائل المسلحة، فإن انضواء هذه الفصائل في وزارة الدفاع وقواتها يفضي بالضرورة إلى تيسير عملية التوحيد وبسط السيادة. ولا ينطبق هذا الوضع كما ينطبق على محافظتي السويداء ودرعا، وعلى شمال شرقي سوريا.

الواضح في السويداء أن قطاعًا ملموسًا من الرأي العام الدرزي لا يشارك الهجري والجماعات المسلحة المرتبطة به الرأي في الموقف من الإدارة السورية الجديدة. علمًا بأن المحافظة تتمتع بخصوصية تجعل فئات عديدة تميل إلى اعتماد نظام حكم في المرحل المقبلة يتصف بقدر من عدم المركزية، ولكن كثيرًا من أبناء الطائفة الدرزية يريدون أن تنطلق عملية بناء الدولة من مبدأ وحدة سوريا وشعبها ومشاركة كافة مكوناتها في الحوار حول نظام الحكم. ولكن الهجري يتمتع بدعم وتأييد عدد من الجماعات المسلحة في السويداء، وبدون تغيير حقيقي في موقفه من سلطة المركز الحالية، فقد تضطر الإدارة السورية الجديدة في مرحلة ما إلى استخدام القوة لاستعادة السويداء إلى حضن الدولة.

ويبدو الوضع في الشمال الشرقي أكثر تعقيدًا، ليس فقط لأن المقدرات المسلحة لقوات سوريا الديمقراطية، عديدًا وتسليحًا، هي قوة لا يستهان بها، ولكن أيضًا لأن السيطرة الكردية على معظم محافظتي الحسكة والرقة تتلقى الدعم من الأميركيين وتتمتع بمظلة من ألفي جندي أميركي في الشرق والشمال الشرقي السوري. وفي الوقت الذي تشير تقارير متزايدة إلى سعي إيران إلى تأسيس قنوات اتصال مع قوات سوريا الديمقراطية، فالمؤكد أن حكومة نتنياهو تضغط بكافة الوسائل لإقناع إدارة ترامب بالحفاظ على القوات الأميركية في الشرق السوري وتوفير مظلة الحماية الضرورية للمسلحين الأكراد. خلف ذلك كله، يعد وجود القوى المسلحة الكردية في شمال شرقي سوريا، وعلاقتها بحزب العمال الكردستاني، محل اهتمام كبير وقديم لتركيا. وهذا ما يجعل مصير شمال شرقي سوريا وثيق الصلة بموقف إدارة ترامب، وبالاتصالات الجارية بين أنقرة وواشنطن، وما إن كان ترامب سيقرر سحب القوات الأميركية من المنطقة.

تحيط منطقة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية بما يصل إلى ثلث مساحة سوريا، وتمثل المركز الرئيس والأكبر لزراعة القمح في البلاد؛ إضافة إلى أنها تضم معظم ثروة سوريا من النفط والغاز. ولأن هذه هي منطقة نشاط تنظيم الدولة، وتتحكم في الحدود الطويلة مع العراق ومنطقة الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق، فإن استعادتها تعد مسألة أمنية وسياسية معًا، مسألة تمس أمن واستقرار الدولة السورية الجديدة. إن كان يمكن لدمشق الصبر قليلًا إلى أن تجد طريقًا سلميًّا لفرض سيادتها على السويداء، فإن السيطرة على الشرق والشمال الشرقي باتت ضرورة حيوية، يصعب تجاهلها.

أما مشكلة درعا فالواضح أنها أقل تعقيدًا من وضعي السويداء وشمال شرقي سوريا. فمن ناحية، لم يستطع مسلحو درعا منع قوات الإدارة العسكرية في دمشق من بسط سيطرتها على مؤسسات الدولة والحكم في محافظة درعا، ولا منعها من السيطرة على المعابر الحدودية والجمركية مع الأردن. ومن ناحية أخرى، فالمؤكد أن القاعدة الشعبية والعشائرية، وأغلبية النشطاء والفعاليات السياسية في المحافظة، تقف إلى جانب الإدارة الجديدة في دمشق وترفض أي محاولة للتمرد على الحكم الجديد. معظم أهالي درعا هم من المسلمين العرب السنَّة؛ ولأن المحافظة كانت أولى مراكز الثورة على النظام السابق، فقد عانى أهلها من سياسات القمع والإبادة والتهجير التي اتبعها النظام لإخماد الثورة. ولذا، فإن أهالي درعا يرون أن انتصار الثورة هو انتصار لهم كذلك.

التوغل الإسرائيلي

بعد أيام قليلة من سقوط نظام الأسد، وما إن تأكدت سيطرة الإسلاميين السوريين في هيئة تحرير الشام وحلفائها على العاصمة دمشق، وتسلمهم مقاليد الحكم من آخر حكومات النظام السابق، حتى أطلقت الحكومة الإسرائيلية حملة عدوانية واسعة النطاق ضد سوريا. هاجمت طائرات سلاح الجو الإسرائيلي أغلب معسكرات الجيش السوري السابق ومواقع تمركزه ومخازنه، ومراكز أبحاثه، كما معظم قواعد سلاح الجو السوري، مستهدفة كافة ما تبقى من مقدرات سوريا الدفاعية. أما في منطقة الجولان الحدودية، فقد توغلت القوات الإسرائيلية عدة كيلومترات شرقًا في الجانب السوري من خط فصل القوات المعتمد دوليًّا منذ 1974، وشمالًا إلى الحدود السورية-اللبنانية، لتحتل قمة جبل الشيخ الإستراتيجية.

عملت الحكومة الإسرائيلية على استباحة السماء السورية منذ 2014، مستهدفة ما ادعت أنها مواقع تمركز إيرانية أو خطوط إمداد إيرانية لحزب الله. وعلى الرغم من أن القوات الروسية المتواجدة في سوريا تحكمت في الأمن الجوي للبلاد، إلا أن تصرفاتها توحي بأنها لم تكن معنية بمواجهة العدوان الإسرائيلي، ربما لأن موسكو لم تكن سعيدة بتوسع النفوذ الإيراني في سوريا. ولكن الحملة الإسرائيلية التي أُطلقت بعد سقوط نظام الأسد كانت مختلفة إلى حدٍّ كبير.

سوَّغت الحكومة الإسرائيلية حملتها الجوية وتوغلها البري بعدم الاطمئنان إلى نوايا الحكام الجدد في دمشق، وبضرورات التعامل مع مواقع تخزين سلاح، وخطوط إمداد حزب الله، على الرغم من إعلان قادة دمشق الجدد أنهم لن يشكلوا تهديدًا لأي من دول جوارهم الإقليمي، وبأنهم حريصون على تطهير سوريا من أية مواقع نفوذ تابعة لإيران أو حزب الله. توقف القصف الجوي الإسرائيلي بعد حوالي أسبوعين من الغارات المدمرة، ولكن التوغل أرضًا بدا وكأنه يأخذ سمة الاحتلال طويل المدى، بعد أن عملت القوات الإسرائيلية على طرد المزارعين السوريين في القرى الحدودية من قراهم ومزارعهم، وجلبت تجهيزات وأقامت منشآت؛ ما يشي بالتمركز الدائم.

للوهلة الأولى، ولأنهم أعجز عن التصدي، تجاهل القادة السوريون العدوان الإسرائيلي. ولأن الهجمات الإسرائيلية بدت وكأنها محاولة لاستفزاز دمشق إلى رد فعل ما، والعمل من ثم على تدمير القيادة السورية الجديدة وقواتها، اتسم الموقف السوري بقدر كبير من الحذر، وربما حتى بالخوف. ولكن الاحتلال الإسرائيلي يمثل في النهاية انتهاكًا فادحًا لسيادة سوريا الجديدة، وتحديًا صارخًا لقيادتها وعلاقتها بشعبها داخل المناطق المحتلة وخارجها. وليس من الواضح ما إن كان حلفاء دمشق في تركيا والسعودية وقطر يعملون على الضغط على الإدارة الأميركية لفرض انسحاب الإسرائيليين من المناطق التي توغلوا فيها، سيما بعد أن أصبحت دمشق قادرة بالفعل على فرض الأمن في هذه المناطق. كما ليس من الواضح ما إن كانت دمشق تستعد لمواجهة العدوان بوسائل أخرى، إن فشلت الاتصالات الدبلوماسية في دفع الإسرائيليين للتراجع إلى خط 1974 الفاصل.

وحدة الشعب وبروز طبقة سياسية جديدة

عمل العسكريون الذي تداولوا الحكم على سوريا عبر سلسلة من الانقلابات منذ 1963 على اقتلاع الطبقة السياسية التي قادت النضال ضد الاحتلال، وتولت من ثم مقاليد حكم دولة الاستقلال. انحدر أغلب عسكريي دولة ما بعد 1963 من الأقليات الطائفية، إلى أن تفرد العسكريون العلويون بالسلطة بعد انقلاب 1966. وقد نظر الحكام/الضباط إلى الطبقة السياسية التقليدية، التي كان أغلبيتها من أبناء المدن والأغلبية العربية السنية، باعتبارها منافسًا سياسيًّا وطائفيًّا على السواء، وعملوا بالتالي على القضاء المبرم على دورها ووجودها؛ كما عمل الضباط الانقلابيون بكافة الوسائل على منع الطبقة السياسية التقليدية من إعادة توليد نفسها، حتى بعد أن أصبحت خارج دائرة الحكم والسلطة.

والمؤكد أن هيئة تحرير الشام والقوى المتحالفة معها في عملية "ردع العدوان" مثَّلت واحدة فقط من القوى التي رسمت خارطة الثورة السورية، السياسية والعسكرية بالغة التعقيد والتشظي. طوال ما يقارب الأربعة عشرة عامًا، خاضت غمار الثورة السورية، وحملت رايتها، جماعات وتنظيمات عديدة، إضافة إلى العديد من المثقفين والنشطاء والضباط السابقين. وإن كانت طبيعة المرحلة الانتقالية تفرض نوعًا من التفرد في قيادة عملية بناء الدولة ومؤسساتها، فإن الإمعان في التفرد لن يؤدي إلا إلى بروز نظام حكم تسلطي.

الأغلبية العظمى من القوى والجماعات والشخصيات التي انخرطت في صفوف الثورة تعود إلى أصول عربية سنية، أو من الإسلاميين العرب السنة؛ ولكن هناك أيضًا من لم يكونوا من العرب السنة أو الإسلاميين. هناك سوريون أكراد وتركمان، وسوريون مسيحيون، بل وعدد من العلويين، حُسبوا على المعارضة أو شاركوا في الحراك الثوري؛ وهناك مثقفون يساريون أو قوميون أو ليبراليون، بل وعدد من البعثيين السابقين من كبار رجال الدولة، أعلنوا انحيازهم للثورة والشعب منذ مراحل الثورة الأولى.

وليس ثمة شك في أن بروز طبقة سياسية جديدة يمثل أحد الشروط الأساسية لولادة دولة جديدة ولاستقرار نظام حكمها. ستعزز الأطياف المتعددة داخل الطبقة السياسية شرعية الدولة الجديدة، ووحدة الشعب والتفافه حول دولته. ولكن لا الوحدة ولا الشرعية يمكن تحققهما بدون توافر قدر من الإجماع داخل صفوف الطبقة السياسية حول أسس الاجتماع السياسي في سوريا الجديدة. يمكن أن تختلف التيارات في الطبقة السياسية حول السياسات الاقتصادية، أو حول أولويات التعليم والصحة، ولكن من الضروري أن يجمعها اتفاق مسبق حول هوية سوريا الجديدة، وحول شروط وطبيعة تحالفاتها وخصوماتها الإقليمية والدولية، وحول القيم الكبرى للشعب السوري ودولته.          

بدون هذا القدر الضروري من الإجماع، سيتحول العمل السياسي في ظل الدولة الجديدة إلى صراع سياسي صفري. وكلما تصاعدت وتيرة الصراع السياسي، تزايدت احتمالات الانقلاب على النظام وعلى التعددية السياسية.

التوافق والأمن

أعلن قادة سوريا الجدد بعد أيام قليلة على سقوط نظام الأسد أنهم بصدد عقد مؤتمر وطني شامل من ألف إلى ألف وخمسمئة عضو للحوار، يعمل على وضع أسس بناء الدولة والتوجهات العامة للمرحلة الانتقالية وتشكيل لجنة لوضع مسودة الدستور. ولكن مشروع مؤتمر الحوار الوطني لم يلبث أن تعثر. أولًا: لأن أحدًا لم يكن لديه تصور واضح لمعايير اختيار أعضاء المؤتمر. وسرعان ما تبين أن مؤتمرًا من ألف أو ألف وخمسمئة عضو قد لا يكون طريقًا ناجعًا لحوار وطني، يحقق أي قدر من الإجماع لدى السوريين. ولم تتضح، إضافة إلى ذلك، كيفية ولادة مجلس تشريعي من حضن المؤتمر، مجلس يمنح شرعية انتقالية لقيادة المرحلة الانتقالية ولحكومتها، على السواء.

ما حدث، بالطبع، أن مشروع المؤتمر جرى تأجيله عدة مرات؛ وحتى بعد مرور ما يقارب الشهرين على سقوط النظام السابق، لم تتبلور كيفية عقد المؤتمر أو توقيت انعقاده. ولكن المرحلة الانتقالية لا يمكن أن تستمر بدون وجود هيئة وطنية، أو مجلس وطني، يعمل على وضع أسس الإجماع الوطني، يقوم بدور المرجعية الوطنية للحكم الانتقالي، ويحدد بالتالي أولويات المرحلة الانتقالية والطرق والوسائل الكفيلة بإنجاز هذه الأولويات. والواضح أن تعثر، أو تباطؤ التحرك نحو مأسسة المرحلة الانتقالية ينعكس على كافة المتطلبات الملحَّة لهذه المرحلة والأخذ بيد البلاد نحو إقامة الدولة الجديدة، ونحو وحدة الدولة وسيادتها.

تكشف سلسلة عمليات ملاحقة العصابات المسلحة، التي تتعهدها الإدارة السورية الجديدة، عن الحاجة السريعة لإعادة بناء مؤسسة أمنية ودفاعية تستجيب لحاجات البلاد. ولأن الإدارة الجديدة تحاول تجنب استخدام العنف في جهود إعادة التوحيد وفرض السيادة، فربما كان الطريق الأسلم لتجنب العنف هو وجود مؤسسة أمنية ودفاعية قادرة على إقناع القوى الانقسامية بعبث نهج مقاومة الوحدة والسيادة. وهذا ما ينطبق كذلك على متطلبات مواجهة العدوان والتوغل الإسرائيليين.

تتمتع كافة حركات التحول الثوري بما يُعرف بشرعية النصر، التي تطلقها رياح الحرية وآمال الاستقلال والازدهار. ولكن شرعية النصر هي عادة قصيرة العمر، وسرعان ما يتسبب انحسارها في اندلاع الجدل وتفاقم الانقسامات المصلحية أو فقدان الرؤية الواضحة لمسارات التقدم إلى الأمام. وهذا ما على سوريا الجديدة تجنبه بكل ما أوتيت من بصيرة وحكمة وإرادة.