تدويل قضية مقتل خاشقجي: الاحتمالات والآفاق

تلوِّح تركيا بتدويل قضية خاشقجي للوفاء بتعهداتها لكنها تواجه عقبات قانونية وسياسية عويصة وظروف دولية غير مواتية.
0a4cd816cb124f8081a67a1935730223_18.jpg
أعضاء من الرابطة الإعلامة التركية-العربية يحتجون على اختفاء خاشقجي أمام القنصلية السعودية بإسطنبول الاثنين الماضي (غيتي)

اختارت تركيا في التعامل مع قضية خاشقجي، منذ الإعلان عن اختفائه في قنصلية بلاده إلى تأكيد مقتله، الكشف عن الجريمة كاملة بكل تفاصيلها وعن المسؤولين عليها مهما كانت مستوياتهم السياسية، واتبعت لتحقيق ذلك، ثلاثة مسارات رئيسية: مسارًا جنائيًّا يجمع الأدلة ومسارًا إعلاميًّا يسرب بعضها لتحويلها إلى قضية رأي عام خاصة في الولايات المتحدة، ومسارًا سياسيًّا يحاول تفادي الصدام مع السعودية بكسب شركاء دوليين يشاركون تركيا مساعيها.

حققت هذه الاستراتيجية مكاسب مهمة، فاعترفت السعودية، نتيجة ضغوط دولية، بمقتل خاشقجي، وبمسؤولية عدد من قياداتها الأمنية، ووعدت بالتحقيق في الجريمة كاملة، ومعاقبة المسؤولين عنها. لكن تركيا لم تقتنع لأنها طرحت عددًا من الأسئلة أثارتها الأدلة التي جمعتها أو الرواية السعودية عن الجريمة، لكنها لم تحصل على إجابات مقنعة عليها، مثل معرفة هوية المتعاون التركي الذي قالت النيابة السعودية إنه استلم الجثة وأخفاها، علاوة على عدد من التسجيلات التي تشير إلى اشتراك قيادات بمكتب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لكن النيابة السعودية لم تقدم إجابات مقنعة واكتفت بالتأكيد على أنها تتكفل بالقضية وتلمِّح إلى أن النيابة التركية ترفض التعاون معها.

انتقلت تركيا إلى مرحلة جديدة للخروج من هذا الانسداد، فطالبت السعودية بتسليم المتهمين بارتكاب الجريمة لتحقق معهم النيابة التركية وتحصل منهم على الإجابات التي تشغلها، وذكرت أن مطلبها حق تكفله القوانين الدولية، لكن السعودية أصرت على أن تظل القضية بيدها.

بعد سقوط هذا الخيار لم يبق أمام تركيا للوفاء بتعهداتها إلا التلويح بتدويل القضية وتشجيع الدول المهتمة بالمشاركة في هذا المسعى.

تحديات التدويل

على الرغم من أن الطريقة التي تتعامل بها تركيا مع قضية خاشقجي تبدو محل تقدير دولي على المستويين السياسي والإنساني، إلا أنه يبقى من الصعب رفع القضية أمام محكمة دولية وتحقيق نتائج فيها باعتبارها قضية مندرجة ضمن ولاية القانون الجنائي. فلا تركيا ولا السعودية طرف في النظام الأساسي لمعاهدة روما المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية، ومقرُّها في لاهاي. وحتى إن كانا طرفيْن فيها، فإن جريمة القتل لا تدخل في اختصاص الولاية القضائية لمحكمة الجنايات الدولية، لأنه ببساطة لا يدخل في اختصاص المحكمة سوى الجرائم المنصوص عليها في بنود قرار إنشائها وهي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.

ومع ذلك، فإن لفت نظر الإعلام العالمي لتسليط الضوء عن قرب على أنشطة المملكة العربية السعودية في اليمن ساعد على طرح السؤال حول ما تفعله المملكة في اليمن. ومرة أخرى، فلا المملكة ولا اليمن من البلدان المصادقة على النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، وتظل السبيل الوحيدة الممكنة هي إحالة قضايا المواطنين السعوديين واليمنيين المتهمين بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أمام مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، لكن ذلك سيصطدم بالفيتو الأميركي المُحتمل.

المقترح الثاني يكمن في إنشاء محكمة خاصة لنظر قضية مقتل خاشقجي، بشكل حصري، تمامًا على قياس إنشاء محكمة خاصة بلبنان. وهي المحكمة التي أنشئت خصيصًا من قبل مجلس الأمن الدولي لمحاكمة من يثبت تورطهم في شنِّ هجوم 14 فبراير/شباط 2005 الذي قُتل فيه 22 شخصًا بمن فيهم رئيس وزراء لبنان الأسبق، رفيق الحريري، وجُرح فيه عشرات آخرون.

لكن، مجددًا، يبدو من الصعوبة بمكان إنشاء محكمة خاصة في غياب الموافقة السعودية عليها. يمكن أيضًا لتركيا والسعودية، كحلٍّ بديل، اللجوء إلى إنشاء محكمة دولية خاصة، أو على الأقل تشكيل فريق تحقيق دولي محايد بمشاركة محققين من دولة ثالثة. وإذا ما تم اختيار هذا المقترح، فإن محاكمة المتهمين ستجري إما في تركيا أو في المملكة أو في بلد ثالث، وذلك بالاعتماد على النتائج التي توصل إليها فريق التحقيق المشترك. لكن، يبدو من السذاجة التفكير في أن المملكة السعودية قد تقبل بأية محاكمة تركية، وهو ما كانت المملكة قد رفضته بالفعل.

وفي ظل غياب ضغوط دولية جدية، وهو الحاصل حاليًّا، فإن المملكة ترفض وستظل رافضة تشكيل فريق تحقيق دولي محايد، وستبذل قصارى جهدها لإبقاء القضية في إطار داخلي بحت. فكرة المحاكمة في دولة ثالثة تبدو خيارًا جديًّا وله سابقة في قضية لوكيربي حيث تم انعقاد محكمة أسكتلندية في هولندا وتم تطبيق القانون الأسكتلندي. لكن الأمر هنا أيضًا يتطلب اتفاقًا بين الأطراف المعنية، بالإضافة إلى ضرورة ممارسة ضغوط دولية كبيرة لقبول الفكرة. وحتى في حال حصول توافق بين الأطراف المعنية، وفي ظل غياب محكمة وطنية، فإن طبيعة القوانين واجبة التطبيق (على المستويين الموضوعي والإجرائي)، وطريقة تشكيل هيئة المحكمة، بالإضافة إلى كيفية تنفيذ الأحكام المحتمل صدورها، كلها إشكاليات تطرح تحديات جدية على مختلف الأطراف. كما أن التسجيلات التركية لحادثة قتل خاشقجي لا يمكن اعتمادها، في العديد من النظم القضائية، أدلةً يمكن تقديمها أمام المحكمة نظرًا لاعتبارها، في نظر عدد كبير من القضاة، أدلة تم الحصول عليها بطريقة غير شرعية. وبالإضافة إلى كل ما تقدَّم، فإن حتى الاعتراف لا يكفي، في تقدير العديد من النظم القضائية، للسماح بدعوة هيئة المحكمة للانعقاد والنظر في قضية جريمة قتل طالما لم يتم العثور على الجثة، أو على الأقل العثور على بعض أجزاء جثة القتيل. وكما هو معلوم، وإلى حد الآن، فإنه لم يُعثَر بعد على أي جزء من جثة خاشقجي. وبعبارة قانونية، فإن خاشقجي يُعتبر إلى حد الآن شخصًا مفقودًا.

ومع ذلك، فإن أمام تركيا إمكانية مفتوحة لتدويل قضية خاشقجي؛ حيث بإمكانها الاحتجاج بمسؤولية الدولة السعودية. لكن تركيا، وإلى حد الآن، لم تُثِر هذا الاحتجاج ولا تزال تركز على المسؤولية الجنائية الفردية في قضية مقتل خاشقجي.

من المؤكد أن مسؤولية الدولة تختلف عن مسؤولية الأفراد؛ فوفقًا للقانون المتعلق بمسؤولية الدولة، الذي تم تدوين مواده في المسودة الصادرة عن لجنة القانون الدولي عام 2001، فإن أي عمل غير مشروع دوليًّا صادر عن دولة ما يستتبع مسؤولية الدولة المعنية. ومن الواضح أن الدولة السعودية انتهكت سيادة الدولة التركية بارتكابها جريمة قتل، عبر وكلائها، داخل الأراضي التركية. لذا، فإن على المملكة العربية السعودية واجب جبر الضرر، وهو ما يعني في قضية خاشقجي، تقديم تعويض أو ترضية للجانب التركي. وتأخذ الترضية غالبًا شكل اعتذار رسمي، وهو ما لم يصدر عن المملكة، ولا طالبت به تركيا بعدُ.

تغيير في السياسات السعودية

لعبت تركيا، حتى الآن، أوراقها ببراعة؛ ففي الداخل التركي، ثمة قناعة عامة بأن جريمة قتل خاشقجي كانت فخًّا نُصب لتركيا لكنها تمكنت من الإفلات منه بمهارة. وهو ما يُعتبر في حد ذاته أمرًا كافيًا لإرضاء الإدارة التركية التي تمكنت من تحويل الأزمة لصالحها. وترى تركيا أن العالم الخارجي معجب بأدائها لأنها تُظهر علامات التعاون مع الحكومات الأجنبية خدمةً للعدالة. كما اكتسبت تركيا أيضًا وضعًا أخلاقيًّا أكثر رفعة من خلال تدويل قضية خاشقجي. هذا، وتسبب تدويل القضية أيضًا في جعل الإدارتين الحاليتين في السعودية وأميركا في وضع صعب إلى حد ما. ومع ذلك، فسيكون من السذاجة في المستقبل المنظور توقع تغيير كبير في السياسة المتبعة في المنطقة. يبقى من المحتمل أن تعمد تركيا إلى تسريب المزيد من المعلومات إذا ما رأت أن ذلك يخدم مصالحها، وستثير أنقرة جريمة قتل خاشقجي في كلماتها التي يلقيها مسؤولوها في المحافل العامة ومحاولة إبقائها على جدول الأعمال.

من وجهة نظر قانونية، فإنه من غير المحتمل تشكيل فريق تحقيق دولي فضلًا عن إمكانية تشكيل محكمة دولية خاصة. وحتى يتم هذا، فلابد من توافر ضغط دولي قوي من طرف الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. لن يكون من المعقول جدًّا التفكير في إقدام المملكة السعودية على معاقبة مجموعة الأشخاص المشاركين في جريمة قتل خاشقجي، أما بالنسبة لكبار المسؤولين السعوديين الذين لعبوا دورًا في ارتكاب الجريمة فسيظلون في مأمن من العقاب، لكن الأكيد أن القيادة السعودية ستتفادى وقوع مثل هذه الجريمة المروعة في المستقبل القريب، وخاصة داخل الأراضي التركية. 

إلى حد الآن، فإن أفضل النتائج التي حققها تدويل قضية خاشقجي، الإعلامي والسياسي، هو التوصل إلى وقف جزئي لتبادل إطلاق النار في محيط ميناء الحديدة في اليمن. ومنذ أن ساعدت قضية تدويل مقتل خاشقجي في وضع الكارثة الإنسانية في اليمن ضمن أولويات الأجندة العالمية، سارع العديد من الدول إلى إعلان وقف بيع الأسلحة إلى السعودية، وهي أسلحة ضرورية لمواصلة المملكة حربها في اليمن. وبالإضافة إلى قضية اليمن، فقد تشعر السعودية بتزايد الضغوط عليها من أجل تغيير سياستها تجاه قطر وبالتالي رفعها الحصار المضروب عليها. وباعتبار أن قطر هي الحليف الأقرب لتركيا في المنطقة، فإن حدوث انفراج في حصار قطر سيُنظر إليه على أنه مكسب لتركيا. أما فيما يتعلق بحكومة المملكة السعودية فمن غير المرجَّح إزاحة ولي العهد عن منصبه، لكن قد يتم تفويض بعض صلاحياته الواسعة لعدد من كبار شخصيات العائلة السعودية الحاكمة. قد يفضي هذا التعديل، في حالة حدوثه، إلى تحول من نظام الفرد الواحد الذي يجمع كل الصلاحيات، وهو ما أسَّس له محمد بن سلمان في السنوات الأخيرة، إلى نظام حكم أكثر توازنًا واستقرارًا وقابلية للتنبؤ بخطواته المستقبلية.