الانسحاب الأميركي من سوريا: الأسباب والسياقات والتداعيات

قرار ترامب المفاجئ بسحب قواته من سوريا، سيكشف المليشيات الكردية أمام القوات التركية، وسيعزز من نفوذ إيران وروسيا، ويزيد من إضعاف السعودية والإمارات.
f926acf3395b46dc8d4eaf8ce842f3b0_18.jpg
القوات الأمريكية كانت تعمل على دعم وحدات حماية الشعب الكردية ـ رويترز

تسارعت التطورات في مجريات الأزمة السورية بصورة مفاجئة منذ أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2018، عن حملة عسكرية وشيكة شرق الفرات على مواقع الميليشيات الكردية السورية المتحالفة مع القوات الأميركية في المنطقة منذ 2015. ولم يكن هناك شك في جدية إعلان أردوغان، الذي تلته تقارير صحفية تفيد بوصول حشود عسكرية كثيفة إلى الحدود مع سوريا، واستعداد ما يقارب الثلاثين ألفًا من الجنود الأتراك وعناصر الجيش السوري الحر للمشاركة في العملية. في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2018، أجرى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مكالمة هاتفية مع أردوغان، تمحورت حول الحملة العسكرية التركية المتوقعة. وقد تسرب بعد هذه المكالمة ما يفيد بأن ترامب أقنع أردوغان بتأجيل العملية التركية.

بيد أن المفاجأة وقعت في وقت مبكر من 20 ديسمبر/كانون الأول، عندما غرَّد الرئيس الأميركي على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي، تويتر، معلنًا قراره بالانسحاب الأميركي العسكري من سوريا خلال مئة يوم. وقد شاع، سواء في واشنطن أم أنقرة، أن أردوغان عوضًا عن الاقتناع بتأجيل العملية العسكرية التركية شرق الفرات، كان هو من أقنع ترامب بسحب القوات الأميركية من سوريا. ومهما كان الأمر، سرعان ما اتضح أن الرئيس الأميركي اتخذ قراره دون مشاورات كافية مع وزارة الدفاع الأميركية أو كبار ضباط القيادة المركزية المسؤولة عن العمليات في سوريا، أو لجان العلاقات الخارجية والأمن والدفاع في مجلسي الكونغرس الأميركي. ولم يكن غريبًا، بالتالي، أن يتقدم وزير الدفاع، الجنرال جيمس ماتيس، باستقالته من منصبه، لخلاف في الرأي مع الرئيس، وأن يتعرض قرار ترامب المفاجئ بالانسحاب من سوريا لعاصفة من الاعتراض والشجب من كبار أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، ودوائر الأمن والدفاع في العاصمة الأميركية.

مساء 21 ديسمبر/كانون الأول 2018، وبعد مكالمة هاتفية ثانية في غضون أيام قليلة بين ترامب وأردوغان، أكدت أنقرة بالفعل تأجيل العملية العسكرية شرق الفرات، ولكن "ليس إلى أجل غير محدود". فما الذي يعنيه قرار الانسحاب من سوريا؟ وإلى أية درجة سيؤثر هذا القرار على ميزان القوى الاستراتيجي في الساحة السورية؟ وهل يصب القرار الأميركي لصالح الجهود التركية للتعامل مع خطر المسلحين الأكراد على الجانب السوري من الحدود؟ وما حجم المردود الذي قد يعود على تركيا ودورها في الساحة السورية من هذا القرار؟ وما الجهة، أو الجهات المتضررة والجهات المستفيدة من القرار الأميركي؟ وكيف يُفهم هذا القرار في إطار الدور الأميركي في الشرق الأوسط، وفي سياق سياسة مواجهة إيران في الإقليم، التي تتبناها إدارة ترامب؟

الوجود العسكري الأميركي في سوريا

يُعتقد أن هناك ما يزيد على ألفين من الجنود الأميركيين في شرق وشمالي شرق سوريا، أغلبهم من القوات الخاصة والمدربين العسكريين، موزعين على عدة مواقع في جوار الحسكة والقامشلي وعين العرب، بما في ذلك ثلاث قواعد جوية. وكذلك في عدد من المواقع على الجانب السوري من الحدود مع الأردن وفي الصحراء السورية. تحتفظ هذه القوات بسلاح ثقيل، ويدعمها غطاء جوي نشط وكثيف، وتعمل بالتعاون مع آلاف من المسلحين الأكراد في شمال شرقي سوريا، أو مجموعات صغيرة من المسلحين السوريين المعارضين للنظام في جنوب البلاد. 

يعود الوجود العسكري الأميركي في سوريا، الذي استهدف بصورة أساسية تنظيم الدولة، وليس قوات النظام السوري أو الميليشيات الشيعية المؤيدة له، إلى العام 2015. فقد أجبر اجتياح تنظيم الدولة السريع لعدد من المحافظات العراقية، في صيف 2014، وتوسع نطاق سيطرة التنظيم في سوريا، إدارة أوباما على العودة العسكرية إلى الشرق الأوسط. ولكن الأميركيين اختاروا، هذه المرة، تجنب لعب دور مباشر في المواجهة مع تنظيم الدولة، والاعتماد على حلفاء محليين، على أن يقتصر الدور الأميركي على التدريب والتخطيط والدعم اللوجستي والدعم الجوي والتدخل العسكري عند الضرورة القصوى.

في العراق، يتمثل حلفاء القوات الأميركية في الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي، أما في سوريا فقد وجد الأميركيون في قوات حماية الشعب الكردية التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني حليفًا مناسبًا، سيما بعد أن لفتت الميليشيات الكردية انتباه الأميركيين خلال المعركة مع تنظيم الدولة في مدينة عين العرب في صيف 2015. المشكلة، أن الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكافة المنظمات التابعة له، تتهمه تركيا بأنه ليس سوى فرع سوري لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابيًّا، والذي يخوض معركة مع الدولة التركية منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين. ولذا، فسرعان ما أصبحت العلاقة الأميركية مع الديمقراطي الكردستاني مصدر خلاف وتوتر في العلاقات الأميركية-التركية. إضافة إلى ذلك، أثار نشر قوات أميركية في سوريا، دون غطاء قانوني أممي، ولا دعوة من الحكومة السورية، اعتراضات في دمشق وفي موسكو، سيما بعد أن أصبحت الأخيرة فاعلًا أساسيًّا في المسألة السورية منذ بداية التدخل الروسي العسكري المباشر في نهاية سبتمبر/أيلول 2015.

الحقيقة، أن إدارة أوباما لم تخطط لا لإسقاط النظام السوري، ولا لموازنة التدخل الروسي في سوريا، بل عملت بالفعل على مواجهة تنظيم الدولة وحسب. ولكن، بتولي ترامب مقاليد البيت الأبيض، رأت دوائر في الإدارة الأميركية، سيما في وزارتي الدفاع والخارجية، في وجود قوات أميركية في سوريا وسيلة مهمة لخدمة استراتيجية مواجهة إيران. فقد تبنى ترامب منذ تسلمه مقاليد البيت الأبيض هدف تحجيم النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وهو ما جعل قيادات في إدارته تنظر إلى سوريا باعتبارها ساحة صراع مع إيران، وتعمل على منع إيران من تأمين خطط إمداد آمن من كرمنشاه، عبر العراق، وصولًا إلى سوريا ولبنان. وقد أخذت هذه القيادات الأميركية في التحدث بصراحة عن الربط بين الانسحاب الأميركي وإخلاء إيراني عسكري من سوريا. في المقابل، لم يُبدِ ترامب حماسًا ملحوظًا لاستمرار الوجود الأميركي العسكري في سوريا، خاصة وأنه كان قد وعد، خلال حملته الانتخابية، في انسجام مع أولوياته القومية الضيقة، بالانسحاب من أفغانستان وسوريا. فسوريا، في رؤية ترامب للأمور، ليست منطقة نفوذ أميركي، ومهما حدث هناك فهو شأن قوى الجوار السوري ومن يرغب في التورط في أزمة تلك المنطقة.

في أبريل/نيسان الماضي (2018)، أعرب ترامب عن اعتقاده بأن المعركة مع تنظيم الدولة انتهت، وأن التنظيم لم يعد يشكِّل خطرًا على الأمن القومي الأميركي، مشيرًا إلى عزمه سحب القوات الأميركية من سوريا. ولكن ضغوطًا من أركان إدارته، سيما في وزارة الدفاع، أقنعته بضرورة تأجيل قراره إلى أجل غير محدد، متعللة بأن العمليات ضد تنظيم الدولة لم تزل مستمرة وأن استراتيجية مواجهة النفوذ الإيراني تتطلب حرمان إيران والميليشيات الشيعية المرتبطة بها من السيطرة على شرق سوريا. الآن، يبدو أن الرئيس أعلن قرار الانسحاب دون أن يسبق هذا الإعلان مشاورات كافية مع أطراف إدارته الأخرى. ويبدو أن ترامب كان يعرف، قبل اتخاذ القرار، أن مثل هذه المشاورات لن تساعده في اتخاذ القرار، نظرًا لأن وزارة الدفاع، بصورة خاصة، لن تؤيد خطوة الانسحاب. فالطبيعة المفاجئة والشخصية البحتة للقرار، كانتا السبب الرئيس خلف استقالة الجنرال ماتيس، ومعارضة القرار في الكونغرس على نطاق واسع، واستقالة المبعوث الأميركي لمواجهة تنظيم الدولة، برت ماكغورك. كما أثار القرار استغراب ودهشة حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، سيما الفرنسيين، الذين تتواجد قوات لهم مع الأميركيين في سوريا. ولا تَقِلُّ إسرائيل، التي تخشى تعزيز النفوذ الإيراني ونفوذ حزب الله في سوريا، امتعاضًا من قرار ترامب، ولكن حجم الدعم الذي تقدمه إدارة ترامب لإسرائيل في مجالات عدة مختلفة جعل احتجاج نتنياهو خافتًا.

من جهة أخرى، وجد القرار ترحيبًا من موسكو، التي أبدت معارضة متكررة للوجود الأميركي العسكري في سوريا، واعتبرته دائمًا وجودًا غير شرعي. وليس ثمة شك في أن الانسحاب الأميركي من سوريا سيفسح مجالًا أوسع للجهود الروسية الساعية إلى إعادة تعزيز سيطرة نظام دمشق على البلاد وخلق مناخ سياسي للتوصل إلى حل نهائي للأزمة السورية.

السؤال الأهم، في المدى القصير، يتعلق بطبيعة الانسحاب الأميركي وتأثير هذا الانسحاب على الخطط التركية للتعامل مع منطقة نفوذ الميليشيات الكردية المتسعة في شرق الفرات.

العملية التركية شرق الفرات

تعرضت الأولويات التركية في سوريا لتغيير كبير منذ نهاية 2015 وبدايات 2016. فقد كانت أولوية تركيا، بعد تبني مجلس الأمن القومي التركي هدف الإطاحة بنظام الأسد في نهاية 2011، توفير الدعم الضروري لقوى الثورة السورية. في نهاية العام 2015، وبالرغم من أن أنقرة لم تكن سعيدة بتوجه الولايات المتحدة نحو احتضان الميليشيات الكردية التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، إلا أنها لم تعتبره خطرًا جسيمًا على أمنها القومي لأن تقديرات الأتراك أن العلاقة الأميركية-الكردية في سوريا ستكون محدودة ومؤقتة. وبمرور الوقت، سيما بعد أن أخذت إمدادات السلاح الأميركي للميليشيات الكردية في الازدياد، وأعلن ضباط القيادة المركزية عن خطط لتدريب عشرات الآلاف من المسلحين الأكراد، وأعلن الحزب الديمقراطي الكردستاني عن تأسيس منطقة حكم ذاتي شمالي سوريا، استشعرت أنقرة خطر ما يجري على الجانب السوري من الحدود. وربما يعتبر إخلال إدارة أوباما بالاتفاق مع تركيا على الانسحاب الكردي من منبج، غرب الفرات، بعد تحريرها من سيطرة تنظيم الدولة، في صيف 2016، بداية الصدام التركي-الأميركي في سوريا.

ليس ثمة شك في أن تركيا تنظر إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني ووحدات حماية الشعب باعتبارها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، وأنها بالتالي تمثل خطرًا مباشرًا على الأمن القومي التركي. ففي صيف 2016، نفذت تركيا عملية درع الفرات، التي استهدفت قوات تنظيم الدولة والميلشيات الكردية في الجانب السوري من الحدود غرب الفرات. وفي مطلع العام 2018، نفذت تركيا عملية غصن الزيتون، التي استهدفت إخراج الميلشيات الكردية كلية من منطقة عفرين، أقصى غرب الشمال السوري.

لقد تجنبت تركيا صدامًا عسكريًّا مع القوات الأميركية، التي انتشرت في منطقة منبج، بهدف توفير الحماية والغطاء للميليشيات الكردية في المدينة ومحيطها، إلا أن الضغط التركي على الأميركيين استمر بلا هوادة، وانتهى بعقد اتفاق بين الطرفين على خروج القوات الكردية من منبج وتسليمها لإدارة محلية من سكانها. ولكن، وبالرغم من أن تنفيذ الاتفاق حول منبج قطع شوطًا ملموسًا، إلا أن الأميركيين ظلوا يجرُّون خطاهم بتثاقل واضح للوصول بالاتفاق إلى نهايته. هذا التلكؤ الأميركي ترافق معه ارتفاع مستوى الخطر المترتب على تسليح الميليشيات الكردية، واتساع دائرة سيطرة تلك الميليشيات شرق الفرات، بعد طرد تنظيم الدولة من معظم الشرق السوري، سواء في مناطق تواجد الأكراد السوريين أو المناطق السكانية العربية.

ما تسرب عبر مصادر صحفية تركية وأميركية أن الاتصال الهاتفي الأول بين ترامب وأردوغان، الذي أُجري بعد إعلان أنقرة عزمها القيام بحملة عسكرية شرق الفرات، تضمن حديثًا عامًّا عن انسحاب أميركي من سوريا. والأرجح أن ما كان يقصده أردوغان من حديثه للرئيس الأميركي لم يكن الدعوة إلى انسحاب أميركي عسكري شامل، بل الانسحاب من العلاقة مع الديمقراطي الكردستاني ووحدات حماية الشعب. ولكن ترامب، الذي لم يخف يومًا رغبته في الخروج كلية من سوريا، عسكريًّا وسياسيًّا، توصل إلى قناعة بأن تركيا يمكنها تعهد ما تبقى من تنظيم الدولة في شرق الفرات.

الواضح أن إعلان ترامب انسحابًا شاملًا وسريعًا كان مفاجئًا لأنقرة أيضًا. فبالرغم من ترحيب أردوغان الحذر بقرار ترامب، إلا أن الرئيس التركي، في خطاب 21 ديسمبر/كانون الأول 2018، لم يُخف دهشته من القرار، وأن القيادة التركية لم يتسن لها ما يكفي من الوقت لبحث دلالاته وتداعياته. ولكن أردوغان، في الوقت نفسه، استجاب لطلب ترامب تأجيل العملية العسكرية التركية شرق الفرات، ربما حتى يكتمل الانسحاب الأميركي.

ما يهم الأتراك هو معرفة ما إذا كان الانسحاب الأميركي العسكري من سوريا شاملًا، أم أن الرئيس ترامب سيخضع في النهاية للضغوط، ويوافق على مجرد انسحاب جزئي. ومعرفة ما إذا كان الأميركيون سيقومون، قبل انسحابهم، باستعادة السلاح الذي قاموا بتسليمه للميليشيات الكردية، كما وعدوا من قبل. ومعرفة ما إذا كان الأميركيون يملكون تصورًا لمنع اندلاع حالة من الفوضي شرق الفرات بعد انسحابهم، بما في ذلك الحفاظ على أمن الأغلبية العربية في المنطقة، وتحديد مصير الآلاف من عناصر تنظيم الدولة، التي وقعت في أسر الميليشيات الكردية. لذلك فإن التحدي الذي يواجه أنقرة هو التوصل إلى اتفاق مع واشنطن على تنسيق خطوات الانسحاب الأميركي مع القوات التركية المحتشدة على الجانب التركي من الحدود، وضمان بدء العملية التركية العسكرية في الوقت المناسب.

عمومًا، وحتى إن مضت الأمور مع واشنطن بما يرضي الجانب التركي، فإن التحدي الثاني هو أن تقوم أنقرة بجهد دبلوماسي حثيث لإقناع روسيا وإيران بالموافقة على العملية التركية شرق الفرات، حتى يبذلا الجهد الضروري لمنع نظام الأسد من التعرض للقوات التركية وتحويل العملية إلى صدام عسكري تركي-سوري. ولكن هذا ليس التعقيد الوحيد الذي يحف بالعملية التركية المترقبة، فالعلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني ونظام الأسد كانت علاقة ملتبسة منذ سيطر مسلحو الحزب على شمال شرق سوريا.

وقد تجنَّب مسلحو الحزب الصدام مع قوات النظام، الذي ظلت أجهزته الأمنية تمارس عملها في الحسكة والقامشلي، بالرغم من سيطرة الميليشيات الكردية عليها. وحتى وقت قريب، كان ممثلو الحزب يلتقون مسؤولي النظام في دمشق لمناقشة العلاقة بين الطرفين وحدود الإدارة الذاتية التي يعمل الحزب على تأسيسها في مناطق سيطرته. وليس من المستبعد، في حال الانسحاب الأميركي، أن تقوم ميليشيات الحزب بتسليم مناطق سيطرتها لنظام الأسد، سيما تلك التي تقع في العمق السوري، بعيدًا عن الشريط الحدودي، وهو ما من شأنه أن يضع القوات التركية في مواجهة المسلحين الأكراد وقوات النظام معًا.

الدلالات الأوسع لقرار الانسحاب الأميركي وتداعياته

يفسح الانسحاب الأميركي المجال لقيام الأتراك بالعملية العسكرية شرق الفرات دون مخاطر الصدام مع القوات الأميركية، التي ربطتها بالمسلحين الأكراد شراكة عميقة ومتعددة الجوانب خلال السنوات القليلة الماضية. فالانسحاب، بهذا المعنى، سيجعل الإدارة العسكرية للعملية أسهل وأكثر يسرًا. والمتوقع أن يرافق خروج الأميركيين انشقاق العناصر العربية المسلحة المنضوية في إطار قوات سوريا الديمقراطية، التي تقودها وتشكِّل عمادها وحدات حماية الشعب الكردية. كما أن الانسحاب الأميركي سيعزز معنويات أبناء العشائر العربية المعارضين للسيطرة الكردية في مدن الأغلبية العربية، شرق وشمالي شرق سوريا، الذين تربطهم بالأتراك صلات وثيقة.

من زاوية النظر الاستراتيجية الأوسع، يصب الانسحاب الأميركي الشامل من سوريا لصالح كل من روسيا وإيران، القوتين الأساسيتين خلف نظام الأسد. فبخروج الأميركيين، تصبح تركيا الدولة الوحيدة المعادية لنظام الأسد، التي تحتفظ بقوات لها في سوريا وتسيطر على أراض سورية. ولذا، فليس من المستبعد أن يجعل الخلل الناجم في ميزان القوى التفاوض بين تركيا، من جهة، وإيران وروسيا، من جهة أخرى، حول مسار حل الأزمة السورية، أكثر صعوبة. كما سيجعل نظام الأسد وحلفاءه أكثر جرأة، على المديين القصير والمتوسط، في المطالبة بخروج القوات التركية من الأراضي السورية. وربما ستكون خطوة النظام الأولى في هذا الاتجاه، إن حصل على موافقة روسية، محاولة إخراج المعارضين المسلحين من محافظ إدلب، بغضِّ النظر عن وجود مراكز المراقبة التركية في محيط المحافظة السورية.

الدرس الأكثر دلالة للانسحاب الأميركي يخص القوميين الأكراد في الحزب الديمقراطي الكردستاني والمنظمات المتفرعة عنه، ومن خلف هؤلاء الحزب الأم، حزب العمال الكردستاني. فقد تبنى الحزب الديمقراطي الكردستاني خلال السنوات القليلة الماضية، في ظل الشراكة والدعم الأميركيين، سياسة قمعية في مناطق سيطرته المتسعة، سواء ضد القوى الكردية المخالفة أم ضد السكان العرب. ولم يتورع مسلحو الحزب عن تهجير عشرات الآلاف من السكان العرب من قراهم ومدنهم، سواء لتحقيق أمن استراتيجي، أو صناعة أغلبية كردية ديمغرافية في منطقة الحكم الذاتي المتصورة.

الآن، يدير الأميركيون ظهرهم لشركائهم الأكراد، ويتركونهم عزلًا للقوات التركية من جهة، أو قوات نظام الأسد من جهة أخرى. وكما تخلى الأميركيون، ونظام شاه إيران، عن الحركة القومية الكردية العراقية في منتصف سبعينات القرن الماضي، يتخلى الأميركيون عن نظرائهم في سوريا.

على المستوى الإقليمي، يرسل الانسحاب الأميركي رسالة لا تقل دلالة للحلفاء العرب في السعودية والخليج، الذين عوَّلوا كثيرًا على إدارة ترامب في المواجهة مع إيران. فقرار ترامب بالانسحاب من سوريا، دون حتى مجرد تشاور شكلي مع الرياض وأبوظبي، يترك فجوة هائلة في استراتيجية محاصرة إيران. ولم يعد من المستبعد أن يقرر ترامب في المستقبل القريب انسحابًا مماثلًا من أفغانستان والعراق، أو على الأقل خفضًا ملموسًا في حجم الوجود العسكري في البلدين. ولكن، وحتى دون ذلك، فمن المؤكد أن الانسحاب الشامل من سوريا يوفر كسبًا استراتيجيًّا لإيران ولنفوذها المتسع في العراق وسوريا ولبنان.