المواجهة مع إيران: الصواريخ الإيرانية تبدد "النشوة الإسرائيلية" سريعًا وطهران ترفع من كلفة مهاجمتها

تمضي إيران في المواجهة مع إسرائيل لكنها لم تغلق باب التفاوض بالمجمل مع الولايات المتحدة الأميركية إلا أنها تركت المسألة إلى سياق مختلف. وبدون أوراق قوة تعزز من مكتسباته لن يعود المفاوض الإيراني إلى طاولة المفاوضات، وقد تضع الجمهورية الإسلامية قرارها بعدم امتلاك سلاح نووي وراء ظهرها، وتغير من عقيدتها النووية في خطوات أولها الانسحاب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وهو ما يدفع إليه مجلس الشورى الإسلامي في إيران، أما برنامجها الصاروخي فهي ستعض عليه بالأسنان، ويبدو الحرس الثوري مستعدًّا لتقديم دماء كثيرة للحفاظ عليه.
16 يونيو 2025
الدمار الذي خلفه هجوم صاروخي إيراني في بني براك، شرق تل أبيب (أ.ف.ب)

 كانت إسرائيل تظن أن الحالة قد نضجت  في طهران وأن الإطاحة بالجمهورية الإسلامية أصبحت ممكنة، فقد فعلت العقوبات الاقتصادية فعلها، وجاء قرار أخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية بما تشتهي تل أبيب. واستطاع نتنياهو أن يُدخل ترامب في لعبة الخداع لإيران، فبينما كانت إيران تتحضر لجولة جديدة من المحادثات في عُمان، لم تكن تسير على خير ما يرام، قامت إسرائيل بمهاجمة إيران في واحدة من أكثر العمليات كلفة في تاريخ الجمهورية الإسلامية؛ إذ اغتالت فيها عددًا من أهم القيادات العسكرية والأمنية، وفي مقدمتهم قائد الحرس الثوري، حسين سلامي، وقائد القوات الجَوفضائية، أمير علي حاجي زاده، إضافة إلى اغتيال أكثر من 10 علماء نوويين إيرانيين، منهم من له مساهمات فعَّالة في تطور البرنامج النووي الإيراني، مثل فريدون عباسي  وطهرانجي. كانت الضربة شديدة الوقع على طهران؛ مما جعل البعض يشكِّك في قدرتها على الرد، ولكن إيران خيَّبت آمال أعدائها وشَفَتْ صدور حلفائها بردٍّ عنيف لم تشهده إسرائيل في تاريخها، بعد أن أصدر آية الله علي خامنئي قرارًا "بمعاقبة إسرائيل"، ووجَّه كلمة متلفزة قال فيها: إن "القوات المسلحة الإيرانية ستذيق العدو الصهيوني الرذل الويلات"، لترد إيران بهجوم استخدمت فيه الصواريخ والمسيرات وضربت أهدافًا حيوية وأحدثت دمارًا كبيرًا.

كان البرنامج النووي عنوانًا في الصراع ورأت إسرائيل فيه تهديدًا، وعارضت بشدة أي اتفاق دولي يتيح لطهران امتلاك قدرات نووية، حتى ولو كانت سلمية، وهو ما ظهر جليًّا في 2015 عندما وقَّعت إيران الاتفاق النووي مع القوى الغربية. ومع مجيء ترامب إلى السلطة رأى في ذلك الاتفاق خطأ كبيرًا ونجح نتنياهو بإقناع ترامب بالانسحاب من الاتفاق وهو ما حدث بالفعل في 2018. ورافق ذلك فرض عقوبات بالحد الأقصى استهدفت جميع القطاعات الحيوية في إيران. جاءت نتائج السياسة الأميركية عكسية، فبدلًا من تقويض البرنامج النووي الإيراني وجدت إيران في انسحاب الولايات المتحدة مدخلًا لتطوير برنامجها النووي فرفعت من مستوى تخصيب اليورانيوم ليصل إلى 60% وعززت من الأبحاث النووية وأنشأت مفاعلات جديدة وأدخلت أجيالًا متطورة من أجهزة الطرد المركزي إلى العمل. ومع عودة المحادثات بين إيران والولايات المتحدة الأميركية برعاية عُمانية عارضت إسرائيل هذه المحادثات وسَعَتْ إلى تقويضها بكل ما أوتيت من قوة وقد نجحت في ذلك حيث أُلغيت جلسة المحادثات السادسة بقرار من إيران التي رأت عبر وزير خارجيتها، عباس عراقجي، أن "دعوة إيران لضبط النفس غير مقبولة" كما أن العودة إلى طاولة المفاوضات لا معنى لها حاليًّا.

من حرب الظل إلى المواجهة المباشرة

بعد سنوات من المواجهة غير المباشرة فيما أُطلق عليه المواجهة في المنطقة الرمادية بين إيران وإسرائيل، شهد شهر أبريل/نيسان 2024 تطورًا نوعيًّا في طبيعة الصراع الإيراني-الإسرائيلي، تمثَّل في أول مواجهة عسكرية مباشرة بين الطرفين؛ فقد شنَّت إيران أول هجوم عسكري مباشر في تاريخها على إسرائيل يوم 13 أبريل/نيسان 2024، وأطلقت عليه تسمية "الوعد الصادق". وأعلنت على تليفزيونها الرسمي إطلاق مسيَّرات وصواريخ باليستية من أراضيها باتجاه إسرائيل. وقالت: إنه رد على استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق وقتل عدد من القادة العسكريين في الأول من أبريل/نيسان 2024.

تكررت المواجهة في "الوعد الصادق 2"، حيث أطلقت إيران هذه العملية، في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2024، ردًّا على اغتيال إسرائيل الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إسماعيل هنية، في 31 يوليو/تموز 2024، أثناء زيارته إلى طهران لحضور مراسم تنصيب الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان. كما عدَّت إيران هجومها انتقامًا للأمين العام السابق لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله، الذي اغتالته إسرائيل، يوم 27 سبتمبر/أيلول 2024، بغارة جوية على الضاحية الجنوبية لبيروت، وأسفرت أيضًا عن مقتل عدد من القيادات العسكرية البارزة في الحزب، إضافة إلى نائب قائد عمليات الحرس الثوري الإيراني، عباس نیلفوروشان. واستهدف الهجوم الصاروخي الإيراني لأول مرة قاعدتي سلاح الجو "نيفاتيم" و"تل نوف" الإسرائيليتين.

ما لبثت إسرائيل أن هاجمت إيران، في أكتوبر/تشرين الأول 2024، بعملية قالت إنها استهدفت الدفاعات الجوية الإيرانية، خصوصًا تلك التي تحمي المنشآت النووية في أصفهان، وكذلك تدمير منشآت تصنيع الوقود الصلب للصواريخ البالستية.

وقد شكَّلت هذه السلسلة من المواجهات تحولًا إستراتيجيًّا بعد عقود من الصراع غير المباشر عبر ساحات إقليمية متعددة، أبرزها سوريا ولبنان وغزة. لقد زلزل طوفان الأقصى الإستراتيجيات الدفاعية لكافة الأطراف ومن ذلك إسرائيل وإيران، كان من الواضح أن السياقين، الإستراتيجي والسياسي، فضلًا عن عوامل مباشرة كلها تدفع نحو المواجهة في محاولة كل طرف لتغيير معادلات القوة لصالحه.

شيئًا فشيئًا تعاظمت على مدى العقود الماضية عوامل التوتر والصراع بين إيران وإسرائيل، وتجلَّت أكثر من مرة بصورة غير مباشر. لقد عملت إيران على توسيع نفوذها الإقليمي عبر دعمها لـ"محور المقاومة" وقدمت لحلفائها الدعم والتدريب والتسليح. وفي المقابل، قادت إسرائيل حملة عسكرية واستخباراتية ممنهجة لاحتواء هذا التمدد، وقامت بعمليات اغتيال وتدمير بنى تحتية عسكرية مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني داخل إيران وخارجها، ورأت إسرائيل في سقوط نظام الأسد وخسارة إيران للساحة السورية نصرًا إستراتيجيًّا كبيرًا.

وبينما كانت إسرائيل تسعى لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بدعم غربي غير محدود كانت إيران في المقابل تراكم عناصر القوة، فطوَّرت برنامجها النووي وبرنامجها الصاروخي وأحدثت تقدمًا غير مسبوق في برنامج المسيرات، وبعد أن كانت إسرائيل ترى في برنامج إيران النووي تهديدًا وجوديًّا أصبحت ترى في نظام الجمهورية الإسلامية تهديدًا وجوديًّا ينبغي التعامل معه.

الحرس يدخل جيله الخامس

في سياق التحولات السياسية والأمنية المتسارعة التي تشهدها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أصدر القائد الأعلى، آية الله علي خامنئي، مرسومًا يقضي بتعيين اللواء محمد باكبور قائدًا عامًّا للحرس الثوري الإيراني، خلفًا للواء حسين سلامي، الذي اغتالته إسرائيل مع عدد من القيادات العسكرية إضافة إلى علماء نوويين في الهجوم الذي وقع يوم الجمعة، 13 يونيو/حزيران 2025.

ومع هذا التعيين الذي يعد مؤشرًا على التوجه نحو تعزيز القيادة الميدانية والخبرة العملياتية تكون المؤسسة الأكثر نفوذًا في النظام السياسي الإيراني قد دخلت جيلها الخامس، في ظل تعقيدات داخلية وإقليمية متزايدة.

وُلد محمد باكبور، عام 1961، في مدينة أراك الواقعة وسط البلاد، وبدأ مسيرته العسكرية في سن مبكرة؛ إذ التحق بالحرس الثوري الإيراني في أعقاب انتصار الثورة الإسلامية عام 1979. تميزت بداياته بالانخراط المباشر في العمليات العسكرية ضد الحركات الانفصالية، لاسيما في إقليم كردستان؛ حيث كانت الدولة تواجه تمردًا مسلحًا مطلع ثمانينات القرن الماضي. ومع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية، تدرَّج باكبور من موقع المقاتل الميداني إلى المناصب القيادية، فتولى قيادة كتيبة ثم لواء "نجف الأشرف"، وصولًا إلى قيادة فرقة "31 عاشوراء"، التي لعبت دورًا محوريًّا في بعض أشد المعارك ضراوة على الجبهتين الجنوبية والغربية.

وخلال العقود اللاحقة، شغل باكبور مناصب عسكرية إستراتيجية متقدمة داخل القوات البرية للحرس الثوري، شملت منصب نائب قائد العمليات، ورئيس أركان القوات البرية، قبل أن يُعيَّن قائدًا لها منذ عام 2009 وحتى عام 2025، في سابقة تُعد من أطول فترات القيادة في تاريخ الحرس. ويُعزى هذا الاستمرار إلى مزيج من الكفاءة العملياتية والولاء الأيديولوجي؛ ما عزَّز مكانته داخل النخبة العسكرية والأمنية الإيرانية.

وعلى المستوى الأكاديمي، يُعرف عن باكبور اهتمامه بالبعد المعرفي في التخطيط العسكري؛ إذ حصل على درجة الماجستير في الجغرافيا من جامعة "تربية مدرس" بطهران، وهو ما أضاف بُعدًا تحليليًّا وإستراتيجيًّا إلى خلفيته الميدانية، وجعل منه نموذجًا لضابط يجمع بين العمل العسكري والتكوين الأكاديمي. غير أن مسيرته لم تخلُ من التحديات السياسية والحقوقية؛ حيث فرضت وزارة الخزانة الأميركية والاتحاد الأوروبي عقوبات عليه بسبب ما نُسب إليه من دور في قمع احتجاجات نوفمبر/تشرين الثاني 2019. لا يزال يُنظر إليه داخل إيران كأحد أعمدة "الحرس القديم"، الذين ظلوا متمسكين بعقيدة الثورة الإسلامية وملتزمين بخط الدولة الأيديولوجي.

تُعدُّ المؤسسة العسكرية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبخاصة الحرس الثوري، عنصرًا محوريًّا في تحديد معالم السياسة الداخلية والخارجية للجمهورية الإسلامية والحفاظ على "مكتسبات الثورة"، وفق ما نص عليه الدستور الإيراني. ويكتسب تعيين القادة العسكريين في هذا الجهاز دلالة إستراتيجية تتجاوز الأطر التنظيمية التقليدية. وبتوليه قيادة الحرس الثوري، يجد اللواء محمد باكبور نفسه في موقع بالغ الحساسية، في مرحلة تتسم بتشابك التحديات الإقليمية والتصعيد الدولي؛ ما يتطلب قدرة استثنائية على إدارة الأزمات وتحقيق التوازن بين متطلبات الأمن القومي والضغوط السياسية الداخلية والخارجية. وتبقى كيفية تعامله مع هذه المرحلة محطَّ أنظار المراقبين، في ظل دور الحرس الثوري المحوري في رسم السياسات الإيرانية داخليًّا وخارجيًّا.

يقود باكبور المؤسسة لتدخل جيلها الخامس، مع ملامح تصبغ هذا الجيل، وأهمها:

  • يضم الجيل الجديد ضباطًا تلقَّوا تعليمهم في الجامعات الإيرانية، سواء في مجالات الهندسة، أو تكنولوجيا المعلومات، أو الأمن السيبراني، أو الجغرافيا العسكرية.
  • عدد كبير منهم خريجو جامعات ومؤسسات يقوم عليها الحرس الثوري، ويبرز هنا اسم جامعة الإمام الحسين؛ حيث يتم المزج بين التعليم العقائدي والمعرفة التقنية والجيوسياسية.
  • من ملامح هذا الجيل أيضًا إعطاء مزيد من التركيز على الحرب غير المتكافئة، كما أنه يتقن أدوات الحرب الهجينة، بما يشمل: العمليات السيبرانية، وتقديم التدريب ونقل المعرفة إلى شبكة الحلفاء الإقليميين مثل حزب الله وأنصار الله والمقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي.
  • يبدو هذا الجيل أكثر قدرة على إدارة أدوات استخدام المسيَّرات، ويُعلي من أهمية الحرب النفسية والإعلام الرقمي.

وفي المواجهة الدائرة، ورغم ثقل الضربة، كان من الملاحظ أن إيران عوَّضت الضرر بغرفة عمليات تعمل بكامل طاقتها. ولم يعد الرد على ضربات إسرائيل يقتصر على الليل، وتستخدم أنواعًا مختلفة من الصواريخ وتستخدم الخداع، وتُبقي إسرائيل في حالة تأهب دائم، في انتظار موجة من الهجمات الصاروخية. ولم يعد الأمر مجرد إطلاق صواريخ بل يرفع كل هجوم من مستواها وكفاءتها بموجات متتالية.  ويستخدم صواريخ تحمل ما بين 1000 إلى 1500 كيلوغرام من المتفجرات.

المواجهة المتصاعدة: خيارات إيران

باتت إيران تنظر إلى الاستهداف الإسرائيلي والمشاركة والمباركة الأميركية على أنها تهديد وجودي، وأن المسألة باتت تتجاوز نزع حق إيران في تخصيب اليورانيوم، أو حتى برنامجها النووي؛ إذ أصبح المطلوب اليوم إسقاط النظام، أو تجريد إيران من مقدرات قوتها وفي مقدمة ذلك برنامجها الصاروخي وجرها إلى طاولة المفاوضات دون أوراق قوة؛ وهو ما لا يمكن لإيران أن تقبل به. ورغم تهديدها بالرد واستهداف المصالح الأميركية إلا أن هذا الخيار تحاول إيران تجنُّبه ولا تسعى لتوسيع ساحة المواجهة، ولكنه خيار مُرٌّ قد تجد إيران أنها مجبرة عليه.

ولا تبدو السيناريوهات المحتملة لمستقبل المواجهة بين الطرفين كثيرة، وذلك في سياق إقليمي ودولي بالغ التعقيد. وقد يقود التصعيد المتبادل إلى مواجهة مفتوحة، ولا يمكن إسقاط هذا السيناريو، في ظل استمرار تبادل الضربات الجوية والصاروخية بين الطرفين، والكلفة العالية لطبيعة الاستهداف، وسيكون لذلك تبعات كثيرة ومن بينها الوصول إلى مواجهة واسعة خاصة إذا تدخلت الولايات المتحدة الأميركية بصورة صريحة ومباشرة. أما سيناريو التهدئة المشروطة عبر وسطاء إقليميين ودوليين، فهو ما ترى أطراف كثيرة ضرورة الدفع به خشية أن تتوسع المواجهة وتُهدد استقرار الخليج وتعطيل مسار الطاقة أو تعرقل الملاحة في مضيق هرمز. ويحتاج ذلك إلى إعادة صياغة "قواعد الاشتباك". وربما تتعاظم الكلف على الجانبين لتدفع نحو مفاوضات غير مباشرة وهو احتمال ضئيل بسبب معطيات كثيرة، لكن الإقليم معني قبل غيره بالسعي لإيجاد مخرج في منطقة تتداخل فيها المصالح الاقتصادية، في مجالات الطاقة والملاحة؛ مما يجعل وقف المواجهة ضرورة لهذه الأطراف.

بالنسبة لطهران، فإنها لم تغلق باب التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية لكنها تركت المسألة إلى سياق مختلف. وبدون أوراق قوة لن تعود إلى طاولة المفاوضات، وقد تضع قرارها بعدم امتلاك سلاح نووي وراء ظهرها، وتغير من عقيدتها النووية في خطوات أولها الانسحاب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وهو ما يدفع إليه مجلس الشورى الإسلامي في إيران، أما برنامجها الصاروخي فهي ستعض عليه بالأسنان، ويبدو الحرس الثوري مستعدًّا لتقديم دماء كثيرة للحفاظ عليه.

نبذة عن الكاتب