أطلق حفتر عمليته العسكرية للسيطرة على العاصمة طرابلس رغم تفاهمات بينه وبين المجلس الرئاسي تقضي بنوع من تقاسم السلطة؛ الأمر الذي جعل رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، يصرِّح بأن هجوم حفتر كان طعنة في الظهر، وإخلالًا بالعهود والمواثيق.
العملية العسكرية الواسعة والتي يبدو أن التحضير لها سبق تفاهمات أبوظبي بين السراج وحفتر، وقعت قبل نحو عشرة أيام من انعقاد الملتقى الوطني الجامع الذي تعتبره الأمم المتحدة ورقتها المهمة لتسوية النزاع في ليبيا؛ مما حدا بأمينها العام، أنطونيو غوتيريس، لأن يزور طرابلس دعمًا لهذا الملتقى وحرصًا على إنجاحه.
وبرغم الغموض الذي اكتنف أجندة الملتقى وعدم الإفصاح عن معايير اختيار المشاركين فيه إلا أن أطرافًا سياسية ومكونات اجتماعية مهمة تفاعلت مع الدعوة إليه واقتصر تحفظها على طريقة ترتيب المبعوث الأممي للقاء، فجاءت العملية العسكرية لتعزز من موقف المتحفظين وتحرج الأمم المتحدة والأطراف الدولية المعنية بالقضية الليبية؛ ذلك أن وفدًا غربيًّا ممثلًا لثلاث عشرة دولة زار ليبيا خلال الشهر الماضي في مسعى لتذليل العقبات أمام انعقاد الملتقى الجامع، بل مارسوا ضغوطًا على المجلس الأعلى للدولة، الواجهة السياسية لجبهة طرابلس والغرب الليبي، للقبول بتفاهمات أبوظبي والمشاركة في الملتقى.
في هذا الأثناء، وحيث يتدفق مجرى المسار السياسي باتجاه تسوية سياسية مرتقبة، فجَّر حفتر الموقف برمته ليقوِّض كل الجهود التي دعمت المسار السياسي، ودفع بالوضع السياسي إلى تأزيم قد يصعب احتواؤه.
يذهب الكثير من التحليلات محليًّا وخارجيًّا إلى أن حفتر لم يكن ليتجرأ على الدخول في هذه المغامرة، برغم رغبته واستعداده، لولا حصوله على دعم وضوء أخضر من قبل أطراف إقليمية ودولية ساندته طوال السنوات الخمس المنصرمة، ويقرن البعض بين زيارة حفتر للرياض ولقائه بالعاهل السعودي، سلمان، وولي عهده، محمد، وبين العملية العسكرية، ويدعم هؤلاء تحليلهم بصمت السعودية وعدم تحفظها على ما وقع بعد أن عبَّر القاصي والداني عن قلقهم حيال الحرب.
ما النتيجة العسكرية المرجَّحة للهجوم على طرابلس؟ وما التداعيات السياسية المترتبة على ذلك؟
(الجزيرة) |
القوة المهاجِمة ومحاور الهجوم
خطة حفتر للسيطرة على العاصمة طرابلس تقوم على ذات الركائز التي مكَّنته من الدخول لبنغازي في أكتوبر/تشرين الأول 2014، وهي كما يلي:
- قوة كبيرة تتقدم بكثافة صوب العاصمة قادمة من الشرق والجنوب.
- تعبئة إعلامية مركزة للعملية العسكرية وللقوة المهاجمة، بهدف تهيئة الرأي العام في العاصمة ومدن الغرب الليبي، لتأييد العملية وتيسير تحركها والتضييق على أية مقاومة يمكن أن تواجه المهاجمين.
- الترتيب مع المجموعات المسلحة الموالية والمنتشرة في بعض مدن غرب وجنوب غرب العاصمة للتحرك السريع من محاور متعددة أو الالتحاق بالقوة الكبيرة القادمة من خارج إقليم طرابلس.
وصلت القوة المهاجمة دون أية مقاومة إلى غريان، عاصمة الجبل الغربي، والتي تبعد عن طرابلس نحو 100 كيلومتر جنوب غرب، ولتشكِّل أولى محاور الضغط لدخول طرابلس، وتمكنت بعد تقدم سريع من أن تصل إلى حدود طرابلس الكبرى في منطقة العزيزية التي تبعد عن مركز العاصمة نحو 40 كم، والتحق بها مقاتلون من منطقة ورشفانة، وبعض المناطق القريبة.
المحور الثاني هو محور الجنوب والذي تدير عملياته كتائب تنتسب إلى مدينة ترهونة، 70 كم جنوب طرابلس، التي اشتبكت مع القوة المقاوِمة في منطقة وادي الربيع ضمن محيط طرابلس الكبرى وبمسافة لا تتجاوز 30 كم عن قلب العاصمة.
المحور الثالث تقوده قوة منطلقة من مدن صرمان وصبراتة ومناطق أخرى قريبة، وهي مدن ساحلية تقع غرب العاصمة بمسافة 60-80 كم وكانت أولى القوات المتقدمة صوب العاصمة ونجحت في السيطرة على بوابة الـ "27" وهي أقرب نقطة للعاصمة وصلت لها القوات المهاجمة.
المحور الرابع وهو محور منطقة قصر بن غشير والمطار، ويبعد نحو 30 كم عن وسط طرابلس، وتشارك فيه قوة من قصر بن غشير ومحيطها، وهي اليوم أقرب القوات المهاجمة إلى مركز العاصمة.
الميزان العسكري
ردَّة الفعل من قبل القوات المنضوية تحت حكومة الوفاق، والأخرى المساندة لها، برغم المباغتة كانت سريعة وفعَّالة؛ حيث تم إيقاف زحف القوة المتقدمة من غرب العاصمة على الطريق الساحلي وشلها تمامًا. وكانت نتائج العملية أسر نحو 130 عنصرًا وأكثر من 40 آلية عسكرية، وتفرقت باقي القوة في المناطق المجاورة، وبذلك تم احتواء أحد محاور العملية العسكرية دون قتال منذ اليوم الأول.
تقف في مواجهة الهجوم عبر محور بن غشير والمطار قوة حماية طرابلس المكونة من أبرز المجموعات المسلحة في العاصمة، وشهد هذا المحور كرًّا وفرًّا، ونجحت القوة المقاومة في إخراج المهاجمين من حدود المطار ليتركز القتال في المنطقة المحيطة.
التطور الثالث المهم هو صد القوات المهاجمة عبر محور الجنوب الغربي والقادمة من مدينة غريان، وتصدت للهجوم المنطقة العسكرية الغربية ومقاتلوها من مدينة الزنتان والزاوية وغريان وبعض المدن القريبة منها، وهو أهم المحاور وأكبرها قوة، فقد تم دحر القوة المهاجمة لمسافة 50 كم، وتعمل القوات المدافِعة على التصدي لمحاولات التقدم باتجاه العاصمة مرة أخرى وتستعد للهجوم على معقلهم في غريان.
أيضًا، نجحت القوات التابعة لحكومة الوفاق في صد الهجوم عبر المحور الرابع في وادي الربيع، فقد تم استنزاف جزء من طاقة الكتائب المهاجمة، ومنعها من اختراق المدافعين حتى تراجعت عن بعض المواقع التي سيطرت عليها، وبرغم محاولة القوة المهاجِمة المناورة وللالتفاف إلا إنها لم تنجح في كسر قوة المقاومين، واتسمت الاشتباكات بالعنف خلال الأيام الثلاثة الماضية، ويشارك في صد الهجوم مجموعات من قوة حماية طرابلس ومصراتة وتاجوراء.
احتمالات السيطرة على طرابلس عسكريًّا
قامت العملية العسكرية للسيطرة على طرابلس على عنصر المباغتة، واعتمدت على توقع خاطئ وهو هبَّة شعبية واسعة مسانِدة للعملية تربك القوات المدافعة وتكون بمثابة الحاضنة العسكرية والاجتماعية للقوات المهاجمة، وهذا لم يقع خلال الأيام الخمسة الأولى للهجوم، وبعض الجيوب الصغيرة تم التعامل معها من قبل وزارة الداخلية؛ الأمر الذي أفقد المهاجمين الدافعية للاستمرار في التقدم بقوة وإصرار كما كان وضعهم في اليومين الأول والثاني.
من ناحية أخرى، قادت الدعوة للنفير العام التي أطلقها المجلس الرئاسي، مقرونة بردة الفعل الرافضة لحفتر من جموع عسكرية كثيرة في مدن الغرب الليبي، إلى تجمع قوات كبيرة نجحت في امتصاص الهجوم الواسع، وصارت في وضع المتحكِّم في قواعد القتال وتدافع بثبات وتتجهز للانتقال إلى وضع الهجوم.
عدد من العوامل كان فعَّالًا في صد الهجوم وامتصاص الصدمة: أولًا: الترتيبات العسكرية التي وقعت خلال العامين 2017-2018 والتي قضت بتشكيل ثلاث مناطق عسكرية في الغرب الليبي تابعة لحكومة الوفاق، وهي المنطقة العسكرية الوسطي والغربية وطرابلس، والتنسيق فيما بينها مؤخرًا. ثانيًا: الإسناد القادم من قوة حماية طرابلس وأعداد كبيرة من المقاتلين من مدن الغرب في مقدمتها مدينة مصراتة بقوتها العسكرية الجبارة التي يتفق كل المراقبين على أنها قوة حسم ترجح كفة من تسانده.
العامل الثالث الذي يعتبره مراقبون أمنيون مهمًّا في احتواء الهجوم هو نجاح قوات مساندة لحكومة الوفاق في إرباك إمدادات المهاجمين عبر السيطرة على بعض نقاط عبور مهمة في الجنوب والوسط بالقرب من منطقة الجفرة، 300 كم جنوب مدينة سرت، وهي من أهم المرتكزات اللوجستية للعملية العسكرية، علاوة على أن السيطرة على الجفرة جنوبًا وقصف مدرج قاعدة الوطية غربًا أسهما في تقليص قدرات حفتر في استخدام سلاح الجو بشكل فعال وحاسم؛ حيث انحصر نشاطه الجوي في طلعات محدودة في العدد والأثر، فيما لعب الطيران التابع لحكومة الوفاق دورًا في مساندة القوات الصادة للهجوم.
هناك العامل الاجتماعي الذي يمكن أن يتضاعف أثره في إيقاف هجوم حفتر، فمع طول مدة المعارك وسقوط المزيد من القتلى سينشأ حراك اجتماعي مناطقي قبلي يدفع المناطق والقبائل في الغرب الليبي وحتى في الشرق للضغط لوقف الحرب كونها تهدد تماسك النسيج الاجتماعي، وقد تلجأ المناطق والقبائل الداعمة للعملية العسكرية تحت الضغوط الاجتماعية إلى سحب أبنائها من جبهات القتال في حال أصرَّ حفتر على استمرار المعارك.
وأخيرًا، يمكن أن يؤدي التغير في الموقف الدولي وارتفاع لهجة الخطاب المطالِبة لحفتر بوقف الهجوم والرجوع إلى تمركزاته قبل تنفيذ العملية العسكرية إلى توقف المواجهات وانسحاب القوات المهاجمة.
التداعيات المحتملة للهجوم على طرابلس
الآثار الخطيرة للحرب التي أشعلها حفتر على تخوم العاصمة طرابلس لن تقف عند الخسائر في الأرواح وتقويض التسوية السياسية أو تعطيلها، فحتى مع فشل العملية العسكرية فإن تداعيات خطيرة تلوح في الأفق منها الشرخ الاجتماعي في المنطقة الغربية بعد تورط كتائب بل مدن في دعم الهجوم والمشاركة فيه بقوة عسكرية كبيرة.
على صعيد آخر، وباعتبار أن ما قام به حفتر يمكن أن يفضي إلى خلخلة قوته العسكرية وإضعاف نفوذه السياسي وبالتالي سيدفعه، مرحليًّا، إلى التركيز على الشرق والتخلي، ولو مؤقتًا، عن حلمه في التربع على كرسي الحكم في العاصمة، هذا سيعزز من خيار تقسيم البلاد، وينتقل بالانقسام الواقع حاليًّا إلى مرحلة أكثر تعقيدًا.
التبعات العسكرية والسياسية
بناء على ما سبق عرضه، هناك مبررات تدعم القول باحتمال فشل العملية العسكرية للسيطرة على العاصمة، وفي حال تأكد فشلها فسيكون لها تبعات عسكرية وسياسية جسيمة ستُضعف الموقف العسكري والسياسي لحفتر، وتُرجعه خطوات للوراء بعد التقدم الذي حققه بالسيطرة على الشرق والجنوب، وتفقده بعض النفوذ المتحِّصل عليه من دعم مكونات سياسية واجتماعية وعسكرية مهمة.
بمعنى أن النفوذ العسكري لحفتر والذي عظَّمه من خلال تحالفات مع مكونات عسكرية مناطقية وجهوية في الشرق والجنوب وحتى بعض مدن الغرب قد لا يحافظ على تماسكه في حال فشل هجومه على طرابلس.
هناك أيضًا الغطاء الإقليمي والدولي الذي حظي به حفتر والذي لا يمكن أن يستمر بنفس الزخم في حال فشل الهجوم؛ ذلك أن حفتر أوقع داعميه في حرج شديد بعد تحديه للمنتظم الدولي ورفضه لطلب الأمين العام للأمم المتحدة بوقف الحرب، وتعريضه التسوية السياسية، التي راهنت عليها الأطراف الدولية، للفشل.
يضاف إلى ذلك أن الصوت الخجول في البرلمان والمتحفِّظ على إطلاق اليد لحفتر ليقرر ويفعل ما يشاء يمكن أن يرتفع ويشكِّل أحد عوامل الضغط عليه للتراجع عن مواقفه من الوفاق في حال تمت محاصرة حفتر محليًّا والتضييق عليه دوليًّا وتقييده بجملة من الإجراءات العقابية العسكرية والسياسية.
على الجانب الآخر، فإن الاعتراض من قوى سياسية وعسكرية مهمة في مدن الغرب الليبي على مشاركة حفتر في أي توافق سياسي قبل وقوع الحرب الأخيرة، سيتأكد بعد أن بات الوثوق في حفتر منعدمًا وصارت الدعوة لإدماجه في الاتفاق السياسي مطلبًا صعبًا إن لم يكن مستحيلًا.