صعَّدت الولايات المتحدة ضغوطاتها على إيران، فوضعت الحرس الثوري الإيراني على قائمة التنظيمات الإرهابية، ثم ألغت الإعفاءات التي كانت منحتها للدول المستوردة للنفط الإيراني، وفرضت عقوبات على قطاعات الحديد والصلب والألمنيوم والنحاس الإيرانية، وأرسلت حاملة الطائرات لنكولن على وجه السرعة لردع إيران، كما يقول البنتاغون، عن القيام بأعمال تستهدف القوات الأميركية.
من جهتها، أوقفت إيران بيع الفائض من المواد المخصبة والماء الثقيل لرفع مخزونها من هاتين المادتين، وحذَّرت، يوم 8 مايو/أيار 2019، من احتمال رفع نسبة تخصيب اليورانيوم وتحديث مفاعل آراك للماء الثقيل، إذا فشلت بقية الدول الملتزمة بالاتفاق النووي، خلال 60 يومًا، في الوفاء بالتزاماتها في القطاعين النفطي والمصرفي. وتعد هذه الإجراءات تخليًا جزئيًّا عن الاتفاق النووي وإن كانت إيران لا تعتبرها تخليًا عن الاتفاق بل تنفيذًا لمادتيه 26 و36 اللتين تجيزان لها التحلل من بعض الالتزامات إذا لم تَفِ بقية القوى بتعهداتها الواردة في الاتفاق.
ما دواعي هذه الإجراءات المتبادلة؟ وما احتمالات انهيار الاتفاق النووي؟ وهل ستدفع نحو مواجهة مسلحة بين البلدين؟ وإلى أين تتجه المواجهة بين البلدين؟
صعّدت الولايات المتحدة ضغوطها على إيران بالتدرج في ثلاثة مجالات هامة: عسكري، واقتصادي، وسياسي لحرمان إيران من الحصول على موارد مالية تضمن الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي ومن إمكانية الرد العسكري حتى لو كان محدودًا وبالوكالة.
التصعيد العسكري: نقلت عدة تقارير عن البنتاغون اعتزامه إرسال أربع قاذفات استراتيجية، بي 52، إلى منطقة الخليج لردع أي خطط إيرانية لاستهداف القوات الأميركية بالمنطقة. وسبق ذلك، الإسراع في إرسال حاملة الطائرات الأميركية، إبراهام لنكولن، إلى منطقة الخليج استجابة لطلب القيادة المركزية الأميركية. أما عن دواعي هذه التحركات، فقد ذكر تقرير نشرته وول ستريت جورنال أن الاستخبارات الأميركية حصلت على معلومات عن خطط إيرانية لاستعمال التفجيرات والاغتيالات والطائرات المسيَّرة لضرب القوات الأميركية في اليمن والعراق والخليج والكويت وسوريا. وذكر وزير الدفاع الأميركي بالوكالة، بات شانهان، أن تكثيف الوجود العسكري الأميركي بمقربة من إيران يقصد إلى ردعها عن تنفيذ مخططاتها وليس إلى مواجهة عسكرية بين البلدين.
التصعيد الاقتصادي: فرضت الولايات المتحدة، في الأسبوع الأول من مايو/أيار 2019، عقوبات على قطاعات معدنية إيرانية تشمل الحديد والصلب والألمنيوم والنحاس، وهددت بمعاقبة من لا يلتزم بها. ورفضت من قبل، في منتصف شهر أبريل/نيسان 2019، تجديد الإعفاءات التي منحتها لبعض الدول التي تستورد النفط الإيراني، وهددت بأنها ستشرع في معاقبة كل من يستمر في استيراده بعد 1 مايو/أيار. وذكر وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أن هدف إدارته خفض الصادرات الإيرانية من النفط إلى الصفر. وتعد مداخيل النفط الإيرانية المصدر الرئيسي للعملة الصعبة بنسبة 80 بالمئة التي تحتاجها إيران لاستيراد احتياجاتها من الأسواق الخارجية. وتعاني هذه النسبة من انخفاض مستمر نتيجة عاملين رئيسيين: انخفاض الصادرات الإيرانية من النفط، فمثلًا بلغت في 2017 نحو 2.1 مليون برميل يوميًّا، بدخل 40.4 مليار دولار سنويًّا، لكن حجم الصادرات انخفض في 2018 إلى 1.7 مليون برميل يوميًّا. العامل الثاني، هو التذبذب في أسعار البترول واتجاهها نحو الانخفاض، حيث ظلت تتأرجح بين 50 و70 دولارًا للبرميل، وهو سعر منخفض بمقاييس توازنات الميزانية الإيرانية حتى في الفترة السابقة على العقوبات.
التصعيد السياسي: اعتبرت الولايات المتحدة في بداية شهر أبريل/نيسان الفائت (2019) الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية، تعد التعاملات معه تعاملات مع تنظيم إرهابي. وهي المرة الأولى التي تصنف فيها هيئة عسكرية رسمية تابعة لدولة تنظيمًا إرهابيًّا. تتفرع عن ذلك تداعيات معقدة: هل تشمل صفة الإرهاب في المنظور الأميركي الدولة الإيرانية التي تعتبر الحرس الثوري الجزء الرئيسي من قواتها المسلحة، وتتكفل بتمويله وتسليحه وتدريبه؟ وهل ستشترط الولايات المتحدة مستقبلًا على بقية الدول خاصة الدول الموقِّعة على الاتفاق النووي وقف اتصالاتها مع إيران لأنها دولة راعية للإرهاب؟ وهل تنسحب صفة التعاون مع الإرهاب على الدول التي تتعاون مع الحرس الثوري مثل دولة العراق وروسيا في سوريا؟ هل ستشترط الولايات المتحدة على إيران مستقبلًا التخلي عن الحرس الثوري كشرط لأية مفاوضات بين البلدين؟
تحرص الولايات المتحدة على خفض مداخيل الدولة الإيرانية، خاصة من العملات الصعبة، حتى تحقق هدفين رئيسيين: دفع السكان إلى التذمر من الأوضاع والانتفاض على النظام الحاكم وإسقاطه، وإرغام النظام الحاكم على توجيه موارده المتناقصة للمصروفات الداخلية بدلًا من تمويل وكلائه بالخارج.
وقد احترزت إيران لهذه الخطة بصياغة ميزانية وفق احتمالين، آخذة بعين الاعتبار تأثير العقوبات على مداخيل البلاد: ميزانية تستند على إمكانية تصدير مليون ونصف مليون برميل من النفط يوميًّا، وأخرى تأخذ في الاعتبار تشديد العقوبات وتقوم على إمكانية تصدير بواقع مليون برميل يوميًّا، مع اللجوء إلى التقشف بالحد من المصاريف الحكومية ورفع الدعم عن السلع التي تستورد بالدولار، وجرى الإبقاء على دعم اللحوم فقط من أصل 25 سلعة أساسية، وكذلك رفع الدعم عن البنزين وتغيير سعره وإلزام الشركات الخاصة بضخ مداخيلها من العملة الصعبة في السوق. وإذا فشلت هذه الإجراءات، فإن العجز الشديد في الميزانية سيُلزم الحكومة بطرح ميزانية تكميلية تمول بالاقتراض الداخلي أو باللجوء إلى صندوق الادخار الوطني. وبلغت صادرات النفط الإيرانية في أبريل/نيسان 2018، قبل شهر من انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، 2.5 مليون برميل يوميًّا.
ورغم تضارب التقديرات إلا من المتوقع أن تنخفض الصادرات النفطية الإيرانية في هذا الشهر (مايو/أيار 2019) إلى مستوى 500-700 ألف برميل يوميًّا، فيما تشير توقعات منظمة الدول المصدِّرة للنفط "أوبك"، أن تشكِّل هذه الصادرات 400-600 ألف برميل يوميًّا. ويتوقع خبراء من شركة "Energy Aspects" تراجع الصادرات النفطية الإيرانية، حتى نحو 600 ألف برميل يوميًّا.
وينذر تراجع تصدير النفط الإيراني بأزمة اقتصادية يقول صندوق النقد الدولي إنها ستؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم إلى ما يقرب من 40% وانكماش الناتج المحلي الإيراني بنسبة 3.9 في المئة في عام 2018، حسب تقديرات الصندوق الذي توقع أن ينكمش الاقتصاد الإيراني بنسبة 6 في المئة في عام 2019. ويأتي هذا التراجع بعد أن نجحت حكومة الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في خفض معدل التضخم وتحقيق نسبة نمو وصلت إلى 12.3% في العام التالي لتوقيع الاتفاق النووي وفق تقديرات البنك المركزي الإيراني، لكنه عاد إلى الانخفاض في 2017 ليصل إلى 3.7%. وفقدت العملة الإيرانية أكثر من 60 بالمئة من قيمتها العام الماضي (2018) ما أضرَّ بالتجارة الخارجية ورفع معدل التضخم السنوي.
يعتبر النظام الإيراني الخفض المتزايد لصادراته النفطية تهديدًا جديًّا يهز استقرار البلد داخليًّا، ويهدد بقاء النظام، ويضر بنفوذها الخارجي الذي يعد شبكة أمن رادعة للقوى المناوئة لها. ويراهن على ثلاث استراتيجيات لمواجهة ذلك: نجاح القوى المتبقية في الاتفاق النووي في الوفاء بالتزاماتها في المجالين النفطي والمصرفي، ويعد الموقف الأوربي في هذا الشأن هاما، وقد أبدى امتعاضا من تخلي إيران عن بعض الالتزامات التي تقول إن الاتفاق النووي يسمح لها بالتنصل منها إذا لم تف بقية الأطراف بتعهداتها، لكن يظل الموقف الأوربي رغم ذلك ملتزما بالاتفاق النووي ويسعى للحفاظ عليه ويحذر من انهياره.
• والاستئناف المتدرج للأنشطة النووية.
• وضرب المصالح الأميركية بدول الجوار.
ليست هذه الخيارات متضادة بل قد يكمل بعضها بعضًا حتى تجعل الحفاظ على الاتفاق النووي الحالي أقل الخيارات تكلفة للجميع.
الحرب واردة لكنها مستبعدة: ليس من مصلحة الولايات المتحدة وإيران في الوقت الراهن خوض حرب مباشرة لعدد من الاعتبارات تخص البلدين. بنى ترامب شعبيته الانتخابية -ضمن ما بنى- على إعادة الجنود الأميركيين إلى وطنهم، ولن يكون من مصلحته خوض حرب ستضطره من جهة إلى تعريض الجنود الأميركيين في الدول المجاورة لإيران إلى خطر القتل، ومن جهة أخرى إلى إرسال قوات أخرى إلى ساحات القتال لمنع إيران من الانتصار. ولن تتوانى إيران عن عرقلة تصدير الطاقة من مضيق هرمز لدفع أسعارها إلى الأعلى فيتضرر المستهلك الأميركي وقد يعاقب ترامب في الانتخابات الرئاسية العام القادم.
تعتمد إيران في صراعاتها المسلحة على الحرب غير المباشرة بالاعتماد على الوكلاء، وقد أثبتت هذه الاستراتيجية جدواها لأنها خارج إقليمها، وتكلفتها البشرية منخفضة، وفاعليتها العسكرية والسياسية كبيرة. وقد تختار إيران ساحات تشل حركة أميركا سياسيًّا وعسكريًّا مثل الساحة العراقية واليمنية والأفغانية. وقد تدل زيارة بومبيو إلى العراق دون غيره، عقب إلغاء إعفاءات استيراد النفط الإيراني، على تخوف إدارة ترامب من أن إيران قد تعطي الأولوية لهذه الساحة في المواجهة مع الولايات المتحدة لأنها تمتلك فيها الأفضلية السياسية والعسكرية. وقد يستأنف الحوثيون استهداف ناقلات النفط السعودية مثلًا فترتفع أسعار النفط فيتضرر المستهلك الأميركي، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تنخرط في الحرب لأن الكونغرس يعترض على ذلك. وقد تنخرط إيران بشكل أكبر إلى جانب طالبان في أفغانستان فيسقط عدد متزايد من الجنود الأميركيين وتتزايد احتمالات سقوط الحكومة الأفغانية، فتتضاءل جدوى مفاوضات الولايات المتحدة مع طالبان.
ليس من المستبعد كليًّا أن تحدث "معركة عشوائية" من خلال حادثة صدام في البحر، ترفع من احتمال وقوع مواجهات عسكرية محتملة، وإذا حدث ذلك، فسيتم العمل على تطويق آثاره العسكرية.
هناك أيضًا سيناريو محتمل تقوم فيه الولايات المتحدة بتشجيع ودعم عمل مسلح مشترك تشنُّه المملكة العربية السعودية وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة على إيران في عام 2019. وقد أرسلت إيران رسائل تحذيرية إلى هذه الأطراف مجتمعة من تبعات حدوث ذلك على الجميع خاصة في منطقة الخليج. وتعد تكاليف هذه المواجهة مكلفة جدًّا للسعودية والإمارات لأنها تعرض منشآتهما ومدنهما للقصف الإيراني وتُوقِع خسائر كبيرة بصادراتهما النفطية. لذلك، فإن احتمالات تحقق هذا السيناريو ضئيلة.
العودة المتدرجة إلى النووي: تحرص إيران على الحفاظ على الاتفاق النووي لأنه عزَّز موقفها بشركاء دوليين كبار، هم الأوروبيون وروسيا والصين، كانوا من قبل يدعمون العقوبات الأميركية، لكن لا تستطيع إيران في نفس الوقت الحفاظ على اتفاق تتحمل تبعاته ولا تحصل على مكافآته الاقتصادية الضرورية لتعافي اقتصادها. وستحاول أن تضغط باستئناف مشروعها النووي لكن دون دفع الدول المتبقية فيه إلى الخروج النهائي منه.
إذا فشلت الدول الأوروبية في الوفاء بالتزاماتها في القطاعين النفطي والمصرفي المنصوص عليها في الاتفاق النووي خلال 60 يومًا، قد تشرع طهران -كما توعدت- بتفعيل المواد 24و 26 و36 من الاتفاق النووي والتي تقضي بتخفيف مدى التزامها بالاتفاق عند عدم الوفاء ببنوده من قبل أحد الأطراف، ومن هذه الإجراءات:
• عودة التخصيب بمنشأة "نطنز" النووية بنسبة تخصيب تصل إلى 4%.
• تركيب أجهزة الطرد المركزي من الجيل الثاني (آي آر 2) والرابع (آي آر 4) في منشأة نطنز النووية.
• إنتاج وتخزين الماء الثقيل بأكثر من 130 طنًّا.
• وقف العمل بالملحق الإضافي الخاص بمعاهدة الانتشار النووي والذي سيحد من أعمال المراقبة بالنسبة لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
• وقد تشمل الإجراءات أيضًا فض الشمع الأحمر عن أجزاء من مفاعل آراك.
وقد أعلنت إيران يوم الأربعاء، 8 مايو/أيار 2019، أنها أوقفت بيع اليورانيوم المخصب والماء الثقيل.
مزيج محسوب من التصعيد: قد تجمع إيران بين التخلي عن بعض الالتزامات الواردة في الاتفاق النووي -لكن دون دفع بقية الدول إلى التخلي عنه فتضغط بذلك على شركائها الأوروبيين كي ينفذوا تعهداتهم وأن لا يرضخوا للتهديدات الأميركية، وتبعث برسالة للأميركيين بأن التهديدات لن تدفعهم إلى التنازل بل إلى مزيد من التشدد- والدفع ببعض وكلائها إلى تعطيل أو ضرب المصالح النفطية للدول التي تراهن عليها الولايات المتحدة لتعويض حصة إيران النفطية في السوق العالمية. وقد تدفع وكلاءها أيضًا إلى التضييق على القوات الأميركية من المنطقة. وتعد الساحة العراقية الأكثر احتمالًا في هذا الشأن.
قد يتجه الموقف الإيراني إلى مزيد من التشدد إذا أسفرت الانتخابات التشريعية هذا العام عن هزيمة الإصلاحيين بعد فشلهم في التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة يحسِّن الأوضاع الاقتصادية، وفوز القوى المناوئة للتفاهم مع الغرب التي قد تتخذ مزيدًا من الإجراءات في تطوير المشروع النووي لأنها الوسيلة التي أرغمت الغربيين على التفاوض وتقديم التنازلات، وتدفع الفصائل المسلحة المرتبطة بها في الخارج إلى المواجهة مع القوات الأميركية وحلفائها بالمنطقة.
سيناريو عودة إيران للتفاوض: هذا هو السيناريو المفضل للإدارة الأميركية، وهو أن تقبل إيران بإعادة التفاوض على الاتفاق النووي ليتضمن قيودًا على مشروعها الصاروخي، وإلغاء الحدود الزمنية للالتزام بالاتفاق النووي، وإلزام إيران بالامتناع عن توظيف وكلاء لبسط نفوذها الخارجي. وقد تضمنت وثيقة بومبيو، المكونة من 12 نقطة، هذه الشروط الأميركية لرفع العقوبات عن إيران. لكن من المستبعد قبول القيادة الإيرانية بها لأنها تقضي على مصداقيتها السياسية، وتجعل إيران دولة مكشوفة أمام التهديدات الأميركية والإسرائيلية.