بين السادس والتاسع من شهر مايو/ أيار 2019، أعلنت الولايات المتحدة، وبصورة مفاجئة، توجُّه حاملة الطائرات لنكولن إلى منطقة الخليج. كما أعلنت إضافة عدد من القاذفات الاستراتيجية، بي 52، وبطاريات صواريخ باتريوت، للحشد العسكري بحريًّا وجويًّا في الخليج. المبرِّر الذي قدَّمه كبار إدارة الرئيس ترامب لهذا التصعيد العسكري، في منطقة بالغة التوتر أصلًا، هو وجود معلومات تشير إلى عزم إيران، بصورة مباشرة أو عبر أدواتها في المنطقة، تهديد أهداف أميركية أو أهداف حلفائها. وحسب مسؤولين أميركيين، يأتي إرسال قوة أميركية ضاربة إلى الخليج لإتاحة خيارات للرئيس، دونالد ترامب، في حال قامت إيران بعمل عدائي.
بصورة متزامنة، في 7 مايو/ أيار، أُعْلِن عن إلغاء زيارة مقررة لوزير الخارجية الأميركية إلى ألمانيا، وسرعان ما اتضح أن الوزير مايك بومبيو وصل إلى بغداد في زيارة استغرقت أربع ساعات فقط، التقى خلالها برئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، ورئيس الجمهورية، برهم صالح.
لم يكد بومبيو ينهي زيارته السريعة للعراق حتى قام الرئيس الأميركي ترامب، في 8 مايو/ أيار، بتوقيع قرار رئاسي جديد يوسع من نطاق العقوبات على إيران، ثقيلة الوطأة أصلًا، لتطال الصناعات المعدنية الإيرانية. وكما في حزمة العقوبات السابقة، التي شملت صناعة النفط الإيراني وتصديره، يقضي القرار الجديد بفرض عقوبات ثانوية على الشركات والمؤسسات غير الإيرانية إِنْ تعاونت مع إيران في حقل الإنتاج المعدني.
كلا الطرفين، الولايات المتحدة وإيران، يؤكد على أنه لا يرغب في دفع الأمور إلى المواجهة العسكرية. ولكن التصعيد الأميركي بطبيعته يستدعي ردًّا إيرانيًّا، لاسيما أن طهران لا ترى أنها في مواجهة مع الولايات المتحدة وحسب، بل ومع حلفائها الخلص في الإقليم كذلك: السعودية والإمارات. وقد وصل التوتر حدًّا دفع ممثلين ديمقراطيين وجمهوريين في الكونغرس إلى التحذير من تدهور الوضع، بغير تخطيط مسبق من أي من الطرفين، إلى حرب لا تحمد عواقبها، مذكِّرين بأن ترامب انتخب على وعد بوضع نهاية لتورط الولايات المتحدة في حروب الشرق الأوسط.
فعلى أي أسس يبني أطراف هذه الأزمة المتفاقمة حساباتهم؟ وأي خيارات يملكها كل من أطراف الأزمة؟ وهل توحي مؤشرات التصعيد بين الطرفين بحقيقة ما يجري بالفعل من اتصالات بينهما؟
عقب كل إجراء تتخذه إدارة ترامب ضد إيران، يكرِّر الرئيس الأميركي ومسؤولو الإدارة الرئيسيون أن واشنطن لا تريد حربًا مع إيران، بل التفاوض للتوصل إلى اتفاق جديد حول المشروع الإيراني النووي. بل إن ترامب دعا لعقد لقاء مع المرشد الإيراني، علي خامنئي، على غرار لقائه بالرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون. ترامب، بالطبع، لم يُخْف معارضته الاتفاق الذي توصلت إليه الدول الست (الولايات المتحدة والأعضاء الدائمون في مجلس الأمن، إضافة لألمانيا) بخصوص المشروع النووي الإيراني، في يوليو/ تموز 2015. وكان أعلن خلال حملته الانتخابية عزمه انسحاب أميركا من الاتفاق، ضاربًا عرض الحائط بالطبيعة الدولية للاتفاق. ولذا، فليس من الغريب أن يربط المسؤولون الأميركيون بصورة تلقائية بين العقوبات المتلاحقة والدعوة للتفاوض على اتفاق نووي جديد.
ولكن المؤكد، أيضًا، أن الدعوة الأميركية للتفاوض لا تنتهي هنا. فالتفاوض الذي يريده الأميركيون، كما صرح بوضوح مبعوت إدارة ترامب لشؤون إيران، مساء 8 مايو/ أيار، مشروط بأن تُنْهِي إيران دعمها للإرهاب، وأن يقوم النظام في طهران بتغيير إيجابي في طرق تعامله مع الشعب الإيراني. بمعنى، أن إدارة ترامب تتبع سياسة مختلفة كلية تجاه ملف إيران النووي عن تلك التي اتبعتها إدارة أوباما. ففي حين فَصَل الرئيس السابق، باراك أوباما، كلية بين الملف النووى وسائر ملفات الخلاف الأخرى مع إيران، تنتهج إدارة ترامب سياسة الحزمة الكاملة: الملف النووي، النفوذ الإيراني الإقليمي، والسياسات الإيرانية المناهضة للمصالح الأميركية في الإقليم وأمن إسرائيل.
حققت إيران في قفزات ثلاث خلال العقدين الماضيين ما يضعها على حافة الموقع المهيمن في الشرق الأوسط. فقد أحدث غزو العراق في 2003 فراغًا مباشرًا في جوار إيران العراقي اللصيق. وقد أفسح الانسحاب الأميركي من العراق بعد ذلك المجال لتعزيز هذا النفوذ، وبناء تحالف وثيق مع سوريا، كما وفَّر دعمًا هائلًا لحزب الله في لبنان. وعندما قررت إدارة أوباما العودة إلى المنطقة لمواجهة تهديد تنظيم الدولة، اضطرت لغض النظر عن النفوذ الإيراني المباشر في الساحتين العراقية والسورية، نظرًا للدور الذي لعبته إيران في محاربة التنظيم. وخلال السنوات القليلة الماضية، أصبحت إيران، بصورة عسكرية مباشرة، أو عبر حلفائها، لاعبًا رئيسًا في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ما يشير إليه التصعيد الأميركي ضد إيران، باختصار، أن أهداف إدارة ترامب تتجاوز الملف النووي. فمستوى العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على إيران لم تصل إليه أية إدارة سابقة، ولا حتى عقب احتجاز الرهائن الأميركيين في سنوات الجمهورية الإسلامية الأولى، ومؤشرات استعداد واشنطن للتعامل بالمثل مع أي استفزاز إيراني عسكري لم يعد ثمة مجال لتجاهله. وبالرغم من انتقادات الكونغرس والمنظمات الحقوقية الدولية، تستمر واشنطن في توفير الدعم اللوجستي والاستخباراتي للسعودية والإمارات في حرب اليمن. وإلى جانب استمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق، أرسلت واشنطن رسالة واضحة للنظام السوري وحلفائه الروس بأن عملية إعادة إعمار سوريا لن تبدأ قبل أن تنسحب منها إيران والميليشيات التابعة لها.
ما تراه إدارة ترامب أن الضغوط الاقتصادية على إيران ستصل في النهاية مستوى يدفع طهران إلى التفاوض حول الملف النووي ومسائل الخلاف الإقليمية على السواء. وحتى الوصول إلى تلك المحطة ستنشر واشنطن في جوار إيران الخليجي قوة ردع كافية لدفع القادة الإيرانيين للتفكير مليًّا قبل تعهد أي تحرك يهدد مصالح أميركية أو مصالح حلفاء الولايات المتحدة. في النهاية، تعمل إدارة ترامب على أن تجبر النظام الإيراني على توقيع اتفاق حول الملف النووي أكثر تشددًا، وعلى تراجع ملموس في الإقليم، لاسيما في سوريا. ويعتقد البعض في إدارة ترامب أن إيقاع هزيمة مزدوجة بنظام الجمهورية الإسلامية، مقرونة بمصاعب اقتصادية متعاظمة، سيدفع قطاعات واسعة من الشعب الإيراني إلى التحرك ضد النظام وقادته.
لم تكن إيران تسعى إلى هذه المواجهة، ولم تكن تريدها. نظرت حكومة روحاني إلى الاتفاق حول الملف النووي مع الدول الست، الذي هو في جوهره اتفاق إيراني-أميركي، باعتباره انتصارًا للإرادة الإيرانية. ولم يكن خافيًا أن إيران حققت مكاسب كبرى في العام أو العامين الأخيرين من إدارة أوباما. فقد بدأ جدار العقوبات الأميركية والدولية في التشقق، كما استعادت إيران مئات الملايين من الدولارات المحتجزة في بنوك أجنبية، في حين غضت إدارة أوباما النظر عن انتشار قوات الحرس والميلشيات الطائفية في سوريا، وعن تحول الميليشيات الموالية لإيران في العراق إلى قوات حشد رسمية قانونية، تمولها وتسلحها الدولة العراقية. وسرعان ما تحقق توافق لبناني على رئاسة الدولة وتشكيل الحكومة، ارتكز إلى توازن قوى مائل لصالح حلفاء طهران. ولم يكن مستغربًا في ظل هذا المناخ الإقليمي أن يندفع حلفاء إيران في اليمن لتحقيق سيطرة كاملة على البلاد.
لاحظت إيران بالتأكيد أن الرئيس ترامب يحمل توجهات مناهضة للاتفاق النووي والنفوذ الإيراني في الإقليم. ولكن القيادة الإيرانية حسبت أن الطابع الدولي للاتفاق، والصعوبات التي واجهتها رئاسة ترامب، منذ دخوله البيت الأبيض، توفر حماية كافية للاتفاق. وربما يمكن القول: إن طهران فوجئت بالفعل عندما اتخذ الرئيس ترامب قراره بالانسحاب من الاتفاق في مايو/ أيار 2018، وإعلان عزمه فرض عقوبات جديدة على إيران. ولكن، حتى تلك اللحظة، اعتقد القادة الإيرانيون أن رفض أوروبا وروسيا والصين القرار الأميركي سيوفر وسائل كافية لمواجهة نظام العقوبات الأميركي.
بيد أن إيران فوجئت من جديد بحجم العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب، والتي تصاعدت حزمة بعد الأخرى. كما أن الآمال الإيرانية التي عُلِّقت على الأوروبيين وقدرتهم على تأسيس نظام مستقل للتجارة مع إيران، يوفر مناعة وإن جزئية من العقوبات الأميركية، كان مبالغًا فيها. وطبقًا للمصادر الإيرانية، لم تكن المجموعة الأوروبية، حتى منتصف مايو/ أيار 2019 قد قامت بأية خطوة ذات معنى في تسهيل حركة مصادر الطاقة والمعاملات المالية الإيرانية.
على العكس، تراجع التبادل التجاري الإيراني مع ألمانيا، شريك إيران التجاري الأوروبي الرئيس، بصورة ملموسة. أما في آسيا، فقد بدأت الهند، أحد المستوردين الكبار للنفط الإيراني، في البحث عن مصادر نفط بديلة. وبالرغم من عدم توفر إحصائيات دقيقة لمستويات الصارات الإيرانية النفطية لتركيا والصين، وطبيعة التبادل الاقتصادي بين إيران وهاتين الدولتين، اللتين عارضتا العقوبات الأميركية، فليس من المتوقع أن تستطيع الشركات الصينية والتركية مقاومة نظام العقوبات طويلًا.
المشكلة التي تواجه إيران أن صادرتها من النفط والغاز للدول الأوروبية، ولتركيا والهند، وتجارتها مع هذه الدول، تتم في أغلبها مع القطاع الخاص وليس مع شركات تملكها الدولة. وحدها الصين تدير فيها الدولة قطاعًا هامًّا من صناعة الطاقة. ولذا، فحتى إن أعلنت ألمانيا، مثلًا، معارضة العقوبات على إيران، سيصعب على الدولة حماية شركات القطاع الخاص من العقوبات الثانوية التي تهدد بها واشنطن كل من يتعامل مع إيران. وحدها الشركات والبنوك التي لا تنشط، ولا تخطط للنشاط، في السوق الأميركية يمكنها مقاومة العقوبات والاستمرار في التعامل مع إيران. ولكن طبيعة السوق العالمي، والموقع الذي تحتلُّه الولايات المتحدة في هذه السوق، تجعل عدد هذه الشركات والبنوك قليلًا بالفعل، ووزنها غير ذي جدوى لمساعدة إيران على اختراق جدار الحصار الأميركي.
فماذا تبقى لإيران إذن في مواجهة ضعف موقف المجموعة الأوروبية والشكوك المحيطة بقدرة الدول الأخرى على مقاومة التهديدات الأميركية. لم يتبق في يد إيران سوى اتفاق 2015 ذاته، أو استخدام العنف، أو محاولات اختراق نظام العقوبات المتفرقة عبر أسواق بديلة مجاورة، أو اللجوء إلى كل هذه الوسائل معًا.
المؤكد، طبقًا لتقارير منظمة الطاقة النووية، أن إيران، حتى بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق، حافظت على التعهدات التي فرضها الاتفاق عليها. ولكن إعلان ترامب، في 22 أبريل/نيسان 2019، انتهاء مهلة إعفاء بعض الدول من العقوبات، وعزمه اتخاذ سلسلة من الإجراءات التصعيدية، دفع طهران في 8 مايو/أيار إلى توجيه إنذار للدول الخمس الأخرى الموقعة على الاتفاق بأنها ستعلق التزامها ببعض شروط الاتفاق إنْ لم تقم هذه الدول، خلال ستين يومًا، باتخاذ إجراءات ملموسة لمساعدة إيران على مواجهة نظام العقوبات الأميركي. وطبقًا للخارجية الإيرانية، يتعلق الإنذار بصورة خاصة بعودة إيران إلى تخصيب اليورانيوم بمستوى 20 بالمئة، وإعادة تشغيل معمل آراك الخاص بالماء الثقيل. وتشير مصادر إسرائيلية إلى أن قرار تعليق التعهدات الخاصة بتخصيب اليورانيوم والماء الثقيل يعني أن إيران سيكون بإمكانها إنتاج سلاح نووي خلال عامين، وهو الهدف الذي تنكر طهران كلية السعي إلى تحقيقه.
الإنذار الإيراني بتعليق الالتزام بتعهدات الاتفاق كان واضحًا وصريحًا. وكذلك كان رد الفعل الأوروبي. وقعت الدول الأوروبية الرئيسة، بما في ذلك بريطانيا وألمانيا وفرنسا، بيانًا مشتركًا حذرت فيه طهران من الإخلال بالتزاماتها تجاه اتفاق 2015. ولكن تعليقًا لم يصدر من الصين وروسيا، الدولتين الأخريين المعنيتين بالإنذار الإيراني.
الوسيلة الثانية التي يمكن أن تلجأ إليها إيران هي التبادلات الخفية عبر الأسواق المجاورة، مثل العراق وتركيا والإمارات، التي استخدمتها إيران من قبل للإفلات من العقوبات التي فرضتها إدارة أوباما في المرحلة السابقة على توقيع اتفاق 2015. المشكلة أن الصفقات التي يمكن عقدها في هذه الأسواق لا تكون كبيرة عادة، وأنها تتم بشروط مجحفة للجانب الإيراني، سواء في مجال بيع النفط أو الغاز، أو شراء السلع والمواد الضرورية، وأنها تتطلب غض نظر متعمدًا من حكومات هذه الدول.
أما الوسيلة الثالثة فهي الأكثر خطرًا، والتي يصعب حساب عواقبها. فقد يصل الإيرانيون في لحظة ما إلى قناعة بأن حصارًا بهذه الوطأة، تفرضه الولايات المتحدة وتتعاون السعودية (التي تعهدت بضخ ما يقارب 2 مليون برميل نفط إضافي لتعويض الحظر على صادرات النفط الإيراني) في فرضه، يتطلب ردًّا من النوع ذاته. قد لا يصل هذا الرد إلى استهداف الأميركيين أنفسهم في المنطقة، ولكنه قد يستهدف الأمن السعودي، أو البحريني، سواء باستخدام خلايا نائمة أو الحلفاء الحوثيين، أو حتى الملاحة في الخليج، إن لم يكن كليًّا فجزئيًّا. وقد سبق لرئيس الحكومة العراقية، عادل عبد المهدي، أن حذَّر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارته باريس مؤخرًا، من أن طهران يكفيها أن تلجأ لإغراق ثلاث سفن إيرانية في مضيق هرمز، ليكون ذلك كافيًا لتعطيل الملاحة عبر المضيق ورفع سعر النفط إلى ما يزيد عن 120 دولارًا للبرميل.
طبقًا لوسائل إعلام أميركية، أعرب الوزير الأميركي، مايك بومبيو، خلال زيارته للعراق عن القلق من احتمال استخدام إيران ميليشيات عراقية موالية لها لاستهداف العسكريين الأميركيين في العراق، ودعا الحكومة العراقية لإحكام سيطرتها على قوات الحشد الشعبي. كما طرح بومبيو، لمساعدة العراق على التخلص من اعتماده على إيران في تلبية احتياجاته من مشتقات النفط، مشاريع أميركية لتطوير صناعة النفط العراقية. ولكن مصادر موثوقة أكدت أن اللغة التي استخدمها بومبيو في لقائه مع رئيس الحكومة العراقية كانت أبعد ما تكون عن التهديد، بل أقرب للغة التهدئة والاستعداد للمساومة.
أوضح بومبيو لعبد المهدي أن الرئيس لا يريد حربًا مع إيران بأي صورة من الصور، ولكنه في الوقت ذاته يريد اتفاقًا جديدًا وانسحابًا إيرانيًّا من سوريا. وعندما أشار عبد المهدي إلى أن كرامة الإيرانيين لا تسمح لهم بفتح اتفاق 2015 للتفاوض من جديد، وافق بومبيو على مقترح أن يجري التفاوض على ملحق للاتفاق ليس إلا، مشيرًا إلى أن نجاح المفاوضات سيؤسس لعلاقات جديدة بين إيران والولايات المتحدة، وأن الأخيرة على استعداد للمساهمة في نهضة اقتصادية إيرانية.
في اليوم التالي لزيارة بومبيو، أرسل عبد المهدي مبعوثًا عراقيًّا لاطلاع الإيرانيين على محادثاته مع بومبيو. فوافق الإيرانيون، من حيث المبدأ، على فكرة التفاوض على ملحق إضافي لاتفاق 2015، ولكنهم اشترطوا أن تقوم واشنطن بإلغاء، أو على الأقل تجميد، سلسلة العقوبات التي فرضتها على إيران منذ أعلن الرئيس ترامب انسحابه من الاتفاق.
ما تكشفه هذه التطورات في سياق الأزمة أن كلا الطرفين يُظهر خلف الأبواب المغلقة مرونة لا تتفق كلية مع التشدد وخطوات التصعيد المعلنة. ولكن هذا لا يعني أن التصعيد وهمي. ثمة قدر من عدم الثقة المتبادل بين الطرفين يجعل من المبرر الاحتياط لنوايا الطرف الآخر. فحجم العقوبات الذي فرضته الولايات المتحدة يمكن أن يكسر ظهر الاقتصاد الإيراني، في الوقت الذي لا تبدو أوروبا ولا الصين وروسيا قادرة على توفير منافذ كافية للالتفاف على هذه العقوبات. من جهة أخرى، يمكن لقدرات إيران الذاتية، وأدواتها الأخرى المنتشرة في المنطقة، أن تشكل تهديدًا جديًّا للمصالح الأميركية ولمصالح حلفاء أميركا في السعودية والخليج عامة.
تعتقد إدارة ترامب أن منظومة العقوبات التي فرضتها على إيران ستكون كافية لتركيع القيادة الإيرانية، لاسيما أن إيران ستجد نفسها بمرور الوقت في صحبة عدد أقل من الأصدقاء، القادرين على مساعدتها. ولكن الواضح أن الولايات المتحدة لا تملك خطة بديلة في حال قررت القيادة الإيرانية الصمود في مواجهة العقوبات، وتمضية الوقت بمحاولة تدبير حاجات البلاد الضرورية بهذه الوسيلة أو تلك. هناك في واشنطن بالتأكيد شخصيات فاعلة، مثل سكرتير مجلس الأمن القومي، جون بولتون، تنتمي إلى دائرة حروب الشرق الأوسط التي تبنتها إدارة بوش الابن، وتعتقد أن حسابات تلك الحروب لم تقفل بعد، لأن ضربة موجعة كان لابد أن توجه لإيران.
وثمة مؤشرات على أن السعودية، حليف الولايات المتحدة الرئيس في المنطقة وخصم إيران اللدود، وإسرائيل، التي لم تزل قلقة من القدرات النووية الإيرانية، تأملان أيضًا أن تتطور الأزمة إلى مواجهة مسلحة بين الطرفين. ولكن أغلبية قادة الإدارة الأميركية، بما في ذلك الرئيس، لا تريد حربًا مع إيران. فإلى جانب أن ترامب وعد بخروج أميركي كامل من ساحات الحرب الشرق أوسطية، التي وصفها بباهظة التكاليف وغير مجدية، فإن حربًا مع إيران قد لا تكون قصيرة ولا دون خسائر مؤلمة، وقد توجه ضربة قاضية لاحتمالات إعادة انتخاب ترامب رئيسًا.
في الجانب الإيراني، ثمة متشددون كذلك، لاسيما في دوائر المحافظين التقليديين والحرس. وقد عارض هؤلاء اتفاق 2015 أصلًا، ويرون أن تفاوضًا جديدًا مع الأميركيين لن يؤدي إلا إلى مزيد من القيود والإهانات لإيران. ولكن روحاني وحكومته، وربما عددًا من المحيطين بمرشد الجمهورية، يدركون حجم الخراب الذي يمكن أن توقعه العقوبات بالاقتصاد الإيراني، ويعرفون أن الحرب إذا اندلعت قد لا تكون محمودة العواقب، حتى إنْ استطاعت إيران إيقاع بعض الأذى بالأميركيين وحلفائهم في الإقليم. وعندما تؤخذ الهوة المتسعة بين نظام الجمهورية الإسلامية وشعبه في الاعتبار، فلابد أن تكون مخاوف قادة النظام في طهران أكبر مما هو باد للعيان. ولا شك أن قيادات النظام لم تزل تذكر كيف احتفل الإيرانيون في الشوراع بتوقيع اتفاق 2015، والآمال التي حملها الاتفاق بخروج بلادهم من العزلة وعنق الزجاجة الاقتصادية.
وربما تبدو الأزمة اليوم أقرب إلى المسألة الكورية الشمالية قبل أن تنجح الوساطات في ترتيب لقاء الرئيس الأميركي بالرئيس الكوري الشمالي. ففي لحظة من التوتر البالغ، مضت الولايات المتحدة في حشد قطعها البحرية الضاربة ليس بعيدًا عن سواحل شبه الجزيرة الكورية، بينما أظهرت بيونغيانغ عزمًا بدا غير قابل للمساومة لتجربة مقدراتها النووية والصاروخية واستعراضها.
يمكن بالفعل للولايات المتحدة وإيران الذهاب نحو جولة جديدة من المفاوضات للتوصل إلى ملحق إضافي لاتفاق 2015، وبالنظر إلى أن إيران تواجه موقفًا حرجًا في سوريا، حيث تتواصل الضربات الإسرائيلية لقواعدها وعناصرها بدون أن تحرك الدفاعات الجوية الروسية ساكنًا، وحيث تعمل موسكو بصورة لم تعد خفية على خروج إيران وميليشياتها، فليس من المستبعد أن تقبل طهران بالانسحاب العسكري من سوريا. ولكن من المستبعد أن تحاول واشنطن إخراج إيران من لبنان والعراق واليمن. فالنفوذ الإيراني في هذه الدول يستند إلى قاعدة شعبية وسياسية ذات طابع طائفي، ومن المستحيل اقتلاعه بضغوط خارجية. هذا، علاوة على كون سياسة إدارة ترامب تقوم على دفع الحلفاء الإقليميين لتحمل مسؤولياتهم في التعامل مع التحديات الإقليمية، على أن تقوم الولايات المتحدة بتقديم ما تراه مناسبًا، وبأثمان مدفوعة مسبقًا، للجهود الحليفة. بمعنى آخر، تعتقد واشنطن ترامب أن لبنان في النهاية يمكن أن يتكفل به الإسرائيليون، كما أن إعادة التوازن إلى اليمن والعراق لابد أن يُترك للجهود العربية والسعودية.
هذا مسار ممكن بالتأكيد، ولكن من المحتمل أيضًا أن تشتعل شرارات عديدة تؤدي، سواء بقصد وتخطيط من أحد الأطراف، أو نتيجة لحسابات خاطئة، وبغير قصد، لاندلاع الحرب. عندها، لن تنتهي الأمور بطرف رابح، لا الأميركيين أو الإيرانيين، ولا السعوديين والإماراتيين والإسرائيليين.