تصاعدت وتيرة الاحتجاجات الشعبية في العراق بطريقة غير مسبوقة على مستوى البلاد منذ الغزو الأميركي عام 2003، وبات النظام السياسي في مواجهة صعبة مع نمط جديد من رفض ما يوصف بـ(سياسات المحاصصة والفساد)، تقوده بشكل أساسي فئات الشباب في بغداد ومعظم محافظات الجنوب والفرات الأوسط من غير أن يكون لأي حزب أو تيار سياسي أو ديني أو اجتماعي دور في قيادة هذه الاحتجاجات أو المشاركة فيها.
زاوجت السلطات العراقية بين وعود الإصلاح في إطار الدستور والفشل في حماية المتظاهرين من الاغتيالات، وظلت تتهم جهات مجهولة بارتكابها، لكن لم تحددها أو تضع حدا لممارساتها.
ما هي حدود التغييرات التي ستفرضها الاحتجاجات على بنية النظام العراقي الحالي؟
الاغتيالات والفاعل المجهول
بدأت الموجة الأولى للاحتجاجات في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي (2019) واستمرت حتى السادس من الشهر ذاته قبل أن تتوقف بقرار من منظميها بسبب الاحتفالات بأحد أهم الطقوس الشيعية، ثم استؤنفت الاحتجاجات في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول وما زالت مستمرة، وباتساع ملحوظ من حيث الأعداد الضخمة المشاركة فيها، وكذلك من حيث طبيعة المشاركين وتنوعهم الديني والطائفي والطبقي والمناطقي فضلًا عن مشاركة نسوية ملحوظة ومهمة ربما لم تحدث من قبل بهذا الشكل والاتساع.
تسبب التعامل الأمني العنيف مع الاحتجاجات في وقوع خسائر كبيرة من الضحايا، قدرتها مفوضية حقوق الإنسان في العراق بأكثر من 250 قتيلًا وأكثر من 10000 جريح وكذلك المئات من المعتقلين، علمًا بأن هذه الأرقام ليست نهائية، فربما تكون الأعداد الحقيقية أكبر من ذلك، كما أن استمرار الاستخدام المفرط للقوة قد يؤدي إلى سقوط مزيد من الضحايا.
بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) قالت في ثاني بيان لها منذ بدء الاحتجاجات إنه قد تبين لها "استمرار وقوع انتهاكات واختراقات جسيمة لحقوق الانسان أثناء الموجة الثانية من المظاهرات والتي بدأت في العراق في 25 أكتوبر"، وأضاف البيان "أن الاستخدام غير المشروع للأسلحة الفتاكة والأقل فتكًا من جانب قوات الأمن يستدعي اهتمامًا عاجلًا". أما منظمة هيومن رايتس ووتش فقالت: إن قوات الأمن العراقية "تستخدم القوة القاتلة في مواجهة المتظاهرين"، كما أصدرت منظمة العفو الدولية أكثر من تقرير حول الأحداث في العراق، شملت اتهام قوات الأمن بالتعامل مع المتظاهرين "بوحشية" واستخدام الذخيرة الحية والعنف المفرط، كما قالت في تقرير آخر: إن القنابل المسيلة للدموع التي تستخدمها قوات الأمن العراقية من نوع خاص "يخترق جماجم المتظاهرين"، وتسببت بالفعل في وفاة عدد كبير منهم وإصابة الآلاف.
برأت السلطات العراقية نفسها من هذه الاتهامات، وظلت تؤكد حرصها على سلامة المحتاجين، وامتناعها عن استعمال السلاح في مواجهتهم، وإن اعترفت في بعض المرات بالاستعمال المفرط للقوة، وظلت تحمِّل مسؤولية وقوع قتلى لطرف ثالث لم تحدد هويته.
الثروة والفساد والفقر
تمثل الاحتجاجات الراهنة ذروة الرفض الشعبي في العراق للسياسات المتبعة من قبل الحكومات المتعاقبة في العراق منذ العام 2003. تسببت هذه السياسات، حسب المحتجين، بنشر الفقر والتخلف والمرض بين غالبية أبناء الشعب، فضلًا عمَّا سببته من انقسام اجتماعي على أساس الطائفة والدين والعرق، بسبب سياسات المحاصصة والتوزيع الطائفي والعرقي للمناصب والمسؤوليات. كما توجَّه للحكومات المتعاقبة اتهامات بالفساد، يعتبر من بين الأعلى مستوى عالميًّا.
يعاني العراق من مشكلات اقتصادية كبيرة برغم أنه من بين البلدان الأغنى بالنفط عالميًّا، ففضلًا عن احتياطيه الضخم الثاني عالميًّا، فإنه يعتبر ثاني أكبر بلد منتج للنفط في منظمة أوبك بعد السعودية، ويتلقى مداخيل كبيرة من تصديره ما يقرب من 4 ملايين برميل يوميًّا، تدرُّ عليه عشرات المليارات من الدولارات، لكن هذه الواردات لم يكن لها دور يذكر في تقليل مظاهر الفقر أو تطوير البنى التحتية أو إيجاد فرص عمل؛ حيث ارتفع معدل الفقر في العراق إلى أكثر من 22 بالمئة، حسب تقديرات البنك الدولي، ويصل في بعض المحافظات الجنوبية إلى 31%، كما أن نسبة البطالة ارتفعت إلى أكثر من 42% من عدد السكان حسب اللجنة الاقتصادية في البرلمان العراقي. وقدَّرت اللجنة، في سبتمبر/أيلول 2019، عدد العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات فقط بنحو 5 ملايين شخص، عدا عدد ضخم آخر من بين الأقل تعليمًا وجميعهم من الشباب الذين يمثلون نحو ثلثي عدد السكان، وكثير منهم لم يتمكن من الاستمرار بالدراسة بسبب الفقر والمستوى المنخفض من الخدمات التعليمية في أنحاء البلاد، لاسيما خارج العاصمة بغداد أو في المناطق غير الحضرية.
يعزو العراقيون هذا الخلل الجسيم بين قدرات العراق المالية الحقيقية وبين الأوضاع الاقتصادية الصعبة لشعبه إلى الفساد وسوء الإدارة والهدر المالي الذي ميز الحكومات العراقية منذ العام 2003، وقد انخفض مستوى العراق وفق تصنيف منظمة "الشفافية الدولي من المرتبة 117 من أصل 133 دولة عام 2003، إلى المرتبة 168 من بين 180 دولة سنة 2018. وحسب تقرير لمعهد واشنطن، فإن الفساد يستنزف نحو 25% من الميزانية العامة، ويقدر ذلك بمئات المليارات من الدولارات منذ العام 2003. وكانت الحكومة الحالية قالت قبل نحو عام من تولي عادل عبد المهدي رئاستها إنه سيتم فتح 13 ألف ملف فساد وإحالتها للقضاء، لكن ما جرى عمله بهذا الخصوص بعد ذلك كان يسيرًا جدًّا، ولم يشمل من يصفهم المتظاهرون بالرؤوس الكبيرة في عمليات الفساد.
لقد تسبب سوء الإدارة والإهمال والفساد في إهدار فرص كثيرة سنحت للعراق للخروج من نفق الفقر والتخلف الذي طبعه بعد الغزو الأميركي عام 2003، لكن المشكلة كانت على الدوام تدور حول ما يوصف من قبل المتظاهرين وحتى المتخصصين، بتقاسم مصادر الثروة في البلاد بين قوى وشخصيات سيطرت على المشهد العراقي منذ ذلك التاريخ، على وفق نظام المحاصصة الذي فرض نفسه على النظام السياسي العراقي وصار عنوانًا أساسيًّا لكل الإخفاقات اللاحقة.
موجة جديدة خارج التيار السياسي المعتاد
لم يظهر خلال نحو خمسة أسابيع منذ انطلقت الموجة الأولى من الاحتجاجات في الأول من أكتوبر/تشرين الأول ما يشير إلى علاقتها بأي كيان سياسي، أو مرجعية أيديولوجية، كما أن المحتجين لم يُظهروا قيادة أو متحدثًا باسمهم، وبسبب ذلك فغالبًا ما كانت معرفة مطالب المتظاهرين الحقيقية ولاسيما على المستوى السياسي تُنسب إلى بيانات تُوقَّع باسم اللجنة المنظمة التي لا يُعرف حتى الآن أية تفاصيل عنها، أو من خلال تصريحات متفرقة لشباب مشاركين في التظاهرات من دون أن يكون لهم موقع قيادي أو تمثيلي وسط المحتجين.
وقد تدرجت المطالب، حسب هذه البيانات والتصريحات التي صدرت في بداية الموجة الأولى من الاحتجاجات في مطلع أكتوبر/تشرين الأول، من الحق في العمل إلى تحسين مستويات العيش والقضاء على الفساد إلى أن وصلت الآن إلى سقف مرتفع يتمثل بتغيير شامل للنظام السياسي الراهن، يتضمن حل البرلمان واستقالة الحكومة وتعديل الدستور، ووضع قانون جديد ومفوضية مستقلة بديلة ونزيهة للانتخابات، وإجراء انتخابات مبكرة بإشراف دولي وقضائي.
وطالب مشاركون كثر في المظاهرات بمنع الطبقة السياسية بالكامل من المشاركة في أية انتخابات مقبلة، كما أنهم غالبًا ما قاموا بتصعيد الاحتجاجات لضمان محاكمة الأشخاص المسؤولين عن عمليات القمع التي تسببت بوقوع هذه الأعداد الضخمة من الضحايا، فضلًا عن كشف الحقائق المتعلقة بقناصين (مجهولين) اعترفت الحكومة بمسؤوليتهم، لكنها لم تعلن أبدًا عن هوياتهم، عن مقتل وإصابة عشرات المتظاهرين وحتى من أفراد قوات الأمن خلال بضعة أيام في حركة الاحتجاجات الأولى.
يؤكد المتظاهرون أن الطبقة السياسية الراهنة في العراق فشلت في إدارة البلاد، وأهدرت موارده، وعطلت فرص التنمية، وفرضت نظامًا سياسيًّا طائفيًّا يقسِّم الدولة والمجتمع، ولذلك فهي غير جديرة بالاستمرار وينبغي تسليم الحكم لطبقة من التكنوقراط غير المسيسين القادرين على استغلال ثروات النفط في برامج التنمية وبناء مستقبل البلاد بها.
شراء الوقت بالوعود
خلال موجتي الاحتجاجات، سعت السلطات العراقية إلى محاولة امتصاص غضب المتظاهرين بتقديم ما وصفته بحزم إصلاحية تتعلق بالحالة المعيشية للسكان وتوفير فرص عمل لأعداد منهم، وكذلك بتقديم وعود بإصلاحات سياسية وتسريع الإجراءات القضائية ضد الأشخاص المتهمين بالفساد، لكن هذه السلطات رفضت بشكل مستمر، ما تعتبره إجراءات خارج الغطاء الدستوري لأنها تتسبب في فراغ سلطة يمكن أن يقود إلى الفوضى في البلاد، وفي مقدمة ذلك رفض أحد مطالب المتظاهرين المتمثل باستقالة الحكومة.
أبدى رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، في عدة خطابات ألقاها خلال فترة الاحتجاجات استعداده للاستقالة بشرط توفر شخصية بديلة جاهزة لتولي المنصب بشكل فوري لتلافي أي فراغ دستوري أو الدخول في مرحلة (تصريف أعمال) قد تطول وتتسبب في شلل الحكومة وعدم قدرتها على إنجاز مهام أساسية من بينها موازنة العام القادم أو تنفيذ الحزم الإصلاحية التي وعدت بتقديمها.
سواء تعلق الأمر بعبد المهدي أو رئيس الجمهورية، برهم صالح، أو برئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، أو بأي كيان أو قوة سياسية فإن الجميع أبدى (تعاطفًا) مع حركة الاحتجاج وتفهمًا لما وصفوه بـ(شرعية) مطالبها، لكن الطابع العام لخطاب النظام السياسي لاسيما الجهات الفاعلة فيه تركز على أن الوضع الحالي هو "نتيجة تراكمات طويلة منذ عام 2003 وليس مسؤولية حكومة عبد المهدي وحدها"، وأن الدولة لا تمتلك (عصا سحرية) لإنقاذ فوري للأوضاع، وأنها (جادة) بتنفيذ الوعود التي قدمتها للجمهور، فضلًا عن أنها منفتحة على أية تعديلات دستورية يمكن أن تقود إلى إصلاح النظام السياسي وتطويره، بما في ذلك تغيير طبيعته من نظام برلماني إلى رئاسي، لكن ذلك -حسب قول المسؤولين العراقيين ومنهم رئيس الوزراء- يتطلب أولًا (تطبيع) الأوضاع في البلاد، مع إمكانية استمرار التظاهر من دون التأثير على الحياة اليومية وعدم المساس بأية مؤسسات حكومية أو خاصة.
ومع إبداء الجميع في داخل الطبقة السياسية تفهمًا لما وصفوه بشرعية مطالب المتظاهرين، إلا أن بعض الجهات السياسية والمسلحة والإعلامية تحدثت عن (مؤامرة) تحركها أطراف خارجية مستفيدة من عناصر محلية اندست وسط المتظاهرين، وتريد (حرف) المظاهرات وتحقيق أجندات (مشبوهة)، بل إن أحد أبرز قادة الجماعات الشيعية المسلحة التي تعمل في إطار الحشد الشعبي، وهو زعيم جماعة (عصائب أهل الحق)، قيس الخزعلي، اتهم في حديث متلفز "واحدًا من الرؤساء الثلاث ورئيس أحد أهم الأجهزة الأمنية" دون تسميتهما بالمشاركة في مؤامرة تستهدف النظام السياسي. لكن الخزعلي لم يعلن أية تفاصيل أو يقدم أية وثائق تثبت اتهاماته، كما أن السلطات العراقية لم تبد أي رد فعل على تصريحاته.
ظهرت نظرية المؤامرة عقب بدء الاحتجاجات في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، لكنها تراجعت واختفت بعدما أظهرت الاحتجاجات قدرًا عاليًا من الاستقلالية، ومشاركة كل الفئات الشعبية فيها، لكن هذه النظرية عادت بشكل محدود وحَذِر ومن خلال أصوات قليلة تَمَثَّل أبرزها في تصريحات الخزعلي الذي يُعتبر من بين أهم قادة الجماعات المسلحة ارتباطًا بإيران، وقد جاءت تصريحاته بعد أن تعرضت مقرات جماعته في عدة محافظات جنوبية لهجمات المتظاهرين وأسفرت عن مقتل عدد من المسؤولين في الجماعة، كما جاءت أيضًا بعدما تعرضت المصالح الإيرانية في العراق إلى انتقادات واسعة وغير مسبوقة من قبل المتظاهرين، وتضمنت مهاجمة القنصلية الإيرانية في كربلاء ورفع العلم العراقي على جدارها، ومحاولة محتجين الوصول إلى مقر السفارة الإيرانية في بغداد، وهي محاولات أدت إلى رد فعل أمني عنيف أسفر عن مقتل عدد كبير من المتظاهرين في كربلاء وبغداد.
منذ بدايتها، ربطت الاحتجاجات بين الطبقة السياسية العراقية وإيران، واعتبروا طهران مسؤولة عن "استمرار الفساد، وتدمير البنى التحتية، واستنزاف موارد البلاد".
أفق الاحتجاجات
سيناريو تواصل الاحتجاجات
حتى الآن، فشل النظام السياسي العراقي في إقناع المحتجين بمصداقية التزاماته وجدية ما قدمه من (حزم إصلاحية) ووعود بالإصلاحات السياسية، ولم يتمكن سواء من خلال القمع أو الدعوات السياسية من تهدئة الاحتجاجات أو التخفيف منها، وباتت الكتل الشعبية المتظاهرة تضغط بثقة أكبر للوصول إلى ما تراه (تغييرًا شاملًا) يتضمن إعادة بناء النظام السياسي، وهو أمر أوجد هوة عميقة بين مساري النظام السياسي والحركة الاحتجاجية.
تسبب انعدام ثقة المحتجين بالنظام السياسي وبالحكومة في غلق الطريق أمام إيجاد تسوية مقبولة للوضع المتفجر في العراق، فمن جهة، يرى المحتجون أن النظام السياسي ليست لديه مصداقية، لأنه في نظرهم أخلف من قبل وعودًا عدة قدمها خلال احتجاجات سابقة، فضلًا عن أن طبيعة النظام ذاته لا تسمح بإصلاحات ذات معنى.
لا يوحي سياق الأحداث الراهنة بفرص التوصل إلى اتفاق أو تسوية يمكن أن تنهي موجة الاحتجاجات الحالية، بل يبدو من طبيعة الوضع الراهن أن الهوة تكبر لاسيما مع سقوط المزيد من الضحايا؛ الأمر الذي يدفع المحتجين إلى رفع سقف المطالب وتصعيد أساليب الاحتجاج، ويشمل ذلك غلق مزيد من الجسور الحاكمة في بغداد، ومحاصرة مؤسسات سيادية مهمة مثل مجلس الوزراء المجاور للمنطقة الخضراء ومبنى البنك المركزي فضلًا عن المؤسسات الحكومية في المحافظات. وتقابل الحكومة هذا التصعيد بتصعيد أمني مقابل، وهو ما يضع المواجهة في دائرة مغلقة ويزيد من هوة عدم الثقة بين الطرفين.
استمرار الاحتجاجات سيضع ضغوطًا كبيرة على أجهزة الدولة، خاصة الأجهزة الأمنية والعسكرية، لكن من المستبعد أن تُفقدها تماسكها أو تتمكن من تحييدها لأنها متعددة، بعضها يتبع الحكومة وبعضها يتبع قوى سياسية. لذلك، فإن حفاظ الأجهزة الأمنية على تماسكها سيحول دون تحول جوهري داخل بنية النظام.
في المدى البعيد، أوقعت هذه الاحتجاجات ضررًا كبيرًا بصورة إيران ومكانتها في العراق، لأنها تجري في المناطق التي تعد تقليديًّا حواضن للقوى السياسية المتحالفة مع إيران، وقد تبرز تداعيات هذه الاحتجاجات مستقبلًا في انخفاض شعبية حلفاء إيران في العراق، وبروز تنظيمات رافضة للتقسيمات الطائفية، وتنامي الشعور العراقي الوطني الذي يناهض كل ما هو أجنبي.
سيناريو: استمرار النظام السياسي القائم
هذا هو السيناريو الراجح على المدى القريب؛ ذلك أن طبيعة النظام السياسي في العراق تجعل من الحكومة مجرد واجهة تنفيذية لا يقود تغييرها إلى تبدل جوهري في بنية النظام ذاته وأدواته والفاعلين الأساسيين فيه، وعلى أساس هذا الواقع يطالب المحتجون بتغيير (شامل) للنظام السياسي، غير أن هذا الهدف الذي رفضته السلطات كونه غير واقعي ولا دستوريًّا يواجه أيضًا عدم قبول فئة ليست قليلة من العراقيين ترتبط بالنظام السائد، سواء من خلال الأحزاب المشاركة فيه أو القوات الأمنية التي يهمها استمراره أو أطراف عديدة في المؤسسة الدينية التي ترتبط بالقوى الحزبية الأساسية ذات النزعة الإسلامية، أو المؤسسة القبلية التي تعاظم دورها وحضورها في مرحلة ما بعد الغزو الأميركي، إلى جانب المستفيدين اقتصاديًّا ومنهم كثير من الموظفين العموميين الذين يشعرون بأمن اجتماعي نسبي، لاسيما أولئك الذين دخلوا الوظيفة من بوابات العلاقات الحزبية والشخصية، هذا فضلًا عن الأكراد الذين لم يُبدوا أي استعداد لتقديم تنازلات في ما يعتبرونه حقوقًا لهم في الدستور القائم، ولم يكن في خطابهم حماس للاحتجاجات رغم ما عبَّروا عنه رسميًّا من (تفهم) لها ولمطلبها.
هذا الواقع لابد أن يوحي بانقسام شعبي قد لا يظهر بشكل واضح بسبب قوة حضور الاحتجاجات وما يظهر من عدالتها، لكن مثل هذا الانقسام وبغضِّ النظر عن نسب المتوزعين عليه، قد يظهر في مرحلة ما، وهو بذات الوقت يشجع أطراف العملية السياسية على رفض تقديم تنازلات جوهرية تتعلق بوجود النظام السياسي نفسه، وربما كانت بعض هذه الأطراف تريد اللجوء إلى الشارع المؤيد لها مقابل الشارع المتظاهر، لكن محاولة واحدة دعت لها أطراف كانت تريد الخروج باسم المرجع الشيعي الأعلى، السيد علي السيستاني، واجهت فشلًا كبيرًا بسبب قلة عدد المشاركين في مظاهرة دعت لها، لاسيما بعدما أصدر مكتب السيستاني بيانًا نادرًا رفض فيه أي استخدام لاسمه في نشاط سياسي.
علاوة على أن إيران متحالفة مع قوى سياسية وفصائل مسلحة عراقية نافذة في النظام السياسي العراقي القائم، وستسعى للحفاظ عليه لأن العراق يعد عمقها الحيوي الذي يمنحها متنفسًا من العقوبات الأميركية ويربطها بمناطق نفوذها في سوريا ولبنان.
لذلك، قد تتكرر مستقبلًا محاولات اللجوء للشارع المضاد، لاسيما في حال استمرت الاحتجاجات وتعطلت أكثر الحياة الطبيعية، كما قد يكون هناك لجوء إلى مزيد من القمع في حال لجوء الاحتجاجات إلى تصعيد الموقف، لكن الخيار الأخير قد يقود إلى مزيد من الشجب الدولي للإجراءات الحكومية، وربما يقود إلى تدخل خارجي أوسع في غير صالح السلطات.
في كل الأحوال تعتمد السلطات في العراق على عامل الزمن، سواء بانتظار حلول الشتاء القارص الذي يضعف المشاركة في المظاهرات والاعتصامات أو بما تسببه الاحتجاجات من تعطيل للمصالح العامة وغلق للطرق أو تقليص لحجم المعروض من مواد غذائية ومستلزمات حياتية قد تجعل الاحتجاجات أقل شعبية وتمنح الحكومة فرصًا أكبر لإقناع المحتجين بقبول ما عُرض عليهم.
سيناريو انفلات الأوضاع
يحافظ المحتجون على الطابع السلمي للتظاهر لكن تزايد القمع قد يدفع بعض المحتجين إلى الاعتقاد بأن العنف المضاد هو الحل، وقد تدفع قوى داخل العراق وخارجه إلى هذا الاتجاه لكن حظوظ هذا السيناريو ضعيفة لأن ذاكرة العراقيين لا تزال تحتفظ بويلات الحرب الأهلية بعد 2003، واستيلاء تنظيم الدولة على الموصل، ومساحات واسعة بالعراق، ثم إن هناك توافقًا في المصالح بين إيران والولايات المتحدة على منع خروج الأوضاع عن السيطرة لأنه سيكون في مصلحة التنظيمات الجهادية المسلحة، خاصة تنظيم الدولة.