المصدر (الجزيرة) |
يعد تراجع القوة الأمريكية هاجسا عميقا أرّق أعمدة الفكر الاستراتيجي الأميركي منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كان بول كينيدي أول من جهر به في كتابه "صعود وهبوط القوى العظمى" حول وصول الولايات المتحدة لنقطة "التمدد الزائد" لتبدأ بعدها رحلة التراجع.
غير أن انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات كتم هذا الهاجس وأيقظ نقيضًا له اختصره فرانسيس فوكوياما في "نهاية التاريخ"، واكتسح الشارع الرأسمالي إحساس بالنصر النهائي، لكنه لم يلبث أن ظللته غيوم الشكوك تدريجيًا لتطمسه تمامًا مع انفجار الأزمة المالية العالمية ومركزها الولايات المتحدة عام 2008، ليعود الألق من جديد لنظريتين، أولاهما: نظرية بول كينيدي من ناحية والأخرى نظرية الدورات الاقتصادية التي طرحها نيكولاي كوندراتيف في عشرينيات القرن الماضي.
ذلك يعني أن الولايات المتحدة انتقلت من "يقين" القوة إلى "الشك" في هذه القوة خلال ثلاثة عقود تقريبًا، وأصبح الهم لمراكز الدراسات والمفكرين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة هو التحقق من مدى صحة أي من الحالتين.
منافسون جدد
ترتب على هذه المناقشات سؤال آخر، هو: من هي القوى المرشحة لتأخذ دور الولايات المتحدة؟ ثم ما هي الاستراتيجية الأنسب للولايات المتحدة للتعامل مع القوى الصاعدة إذا اتجه المسار نحو انتصار سيناريو "الشك" في القوة والمكانة؟
يشكّل كتاب "رؤية استراتيجية"، لمستشار الأمن القومي الأميركي السابق والأكاديمي المرموق زبيغنيو بريجنسكي، مساهمة مهمة في إطار هذا الجدل الاستراتيجي حول بنية النظام الدولي القادم والقوى المركزية فيه، وحول دور الولايات المتحدة في عالم كهذا.
ويمكن تحديد الملامح الكبرى للعالم خلال المدى الزمني القصير والمتوسط (2025 وما بعدها) طبقًا لدراسة بريجنسكي في الآتي:
-
لن تكون الولايات المتحدة متمتعة بذات المكانة الدولية والتفرد بالزعامة خلال الفترة المشار لها، نظرًا للتوزع الجيوسياسي الذي يصيب مؤشرات القوة المختلفة، فإذا كان المدى الجغرافي للغرب قد تقلص (بفعل انكماش الظاهرة الاستعمارية) فإن تمدده الجيوسياسي والاقتصادي تواصل. وما يؤشر على توزع القوة هو تحويل مجموعة الثمانية إلى مجموعة العشرين، أي أن المشاركين في صنع الاتجاهات الكبرى تزايدوا، وهو ما يجعل القدرة على الوصول لقرار دولي أكثر تعقيدًا. علاوة على أن إعادة توزيع القوة تسير بوتيرة أسرع مما عرفته النظم الدولية التاريخية، فخلال القرن الممتد من 1910-2010 تغير توزيع القوى خمس مرات، وسيؤدي ذلك إلى إعادة النظر في إجراءات التصويت في المنظمات الدولية مثل مجلس الأمن والبنك والصندوق الدوليين.
ويرى أن دور الغرب (المكون من الولايات المتحدة وأوروبا) في النظام الدولي المفترض مرهون بسلوك الولايات المتحدة، لاسيما أنها تتمتع "بقوة الجذب المعنوية والمادية".
-
إذا كانت الصين هي القوة الأكثر تسارعًا في الصعود، فإنها لن تتمكن من تحمل أعباء القيادة -بل ليست متعجله لهذا-، وهو ما سيجعل بنية وتفاعلات النظام الدولي أقرب للنمط "الفوضوي"، وتتعزز هذه الفوضى بالتنافس في آسيا بين القوى المركزية وعلاقات العداء بينها (الهند والصين وباكستان) من ناحية و(اليابان والصين وكوريا) من ناحية أخرى، إضافة الى عدم تماسك الاتحاد الأوروبي وتركه لأعباء الحفاظ على موقع الغرب في النظام الدولي على كاهل الولايات المتحدة.
-
لمواجهة كل ما سبق، على الولايات المتحدة أن تعمل على ترتيب أوضاعها الداخلية للتمكن من التفاعل الذكي مع التحديات الكثيرة وغير المسبوقة التي سيشهدها المجتمع الدولي، ويرى بريجنسكي أن أهم التحديات التي تواجه الولايات المتحدة تتمثل في: الديون (60% من الناتج المحلي)، والتفاوت الاجتماعي (1% يمتلكون 33,8% من الثروة القومية مقابل 50% من السكان يمتلكون 2,5% من الثروة القومية)، وفساد النزعة المادية، ونظام مالي قائم على المضاربة الجشعة، ونظام سياسي مستقطب، وجمهور أميركي لا يعرف شيئًا عن العالم (75% منهم لا يعرف مكان إيران على الخريطة)، وهو ما يسهّل للسياسيين التلاعب به كما حدث في فترة الرئيس بوش.
لكنه يرى بالمقابل عناصر قوة في أميركا، مثل: قوة اقتصادية إجمالية، وطاقة إبداعية، ودينامية سكانية، والقدرة على التعبئة، وقاعدة جغرافية، وجاذبية ديمقراطية.
غير أن بريجنسكي يشير في موضع آخر من دراسته لمشكلة أخرى للولايات المتحدة وهي صورتها التي شوهتها تدخلاتها العسكرية الفجة بخاصة في العراق وأفغانستان، ناهيك عن فشلها في حل الصراع العربي-الإسرائيلي وتبنيها لكثير من السياسات الإسرائيلية.
-
أن دور الجماهير وما تفعله وسائل الاتصال والمواصلات في الترابط بين الثقافات والأحداث يستوجب التنبه لتداعيات ذلك على المسرح الدولي. وهو ما جعل الوقائع وتداعياتها تأخذ طابع "قفز الضفادع" في انتقالها من مكان لآخر، ويكفي مراقبة تداعيات الربيع العربي وانتقاله من دولة لأخرى.
-
أن المنطقة الأكثر أهمية من الناحية الجيوسياسية خلال الفترة القادمة ستتمحور حول "أوراسيا".
-
انتهاء دور الحملات العسكرية المباشرة كنتيجة من نتائج الصحوة السياسية العالمية -دور الجماهير- التي جعلت التكلفة أكبر كثيرًا من المراحل السابقة.
-
أن الدول الصغرى ستعاني من ضغوط القوى الإقليمية التي تجاورها، ويشير في هذا الجانب إلى نماذج مثل جورجيا (التي سيزداد النهم الروسي نحوها في حالة تراجع الولايات المتحدة)، وأفغانستان التي يؤدي الانسحاب الأميركي منها لتزايد احتمالات الحرب بين الهند وباكستان عليها، ذلك يعني أن النزاعات الإقليمية قد تشهد تزايدًا بخاصة في آسيا الشرقية والجنوبية.
-
يناقش بريجنسكي ما يسميه مشكلة المشاعات العالمية والتي قسمها إلى نمطين، هما:
-
الأول: المشاعات الاستراتيجية (البحار والفضاءات الإلكترونية والانتشار النووي.. إلخ).
-
الثاني: هو المشاعات البيئية (الموارد المائية والمناخ وتغيراته)، ويؤدي تراجع الولايات المتحدة إلى فتح المجال أمام صراعات بين الدول على هذه المشاعات.
المخرج الاستراتيجي
بعد هذا التوصيف للملامح الكبرى، يجتهد بريجنسكي في رسم استراتيجية بلاده لتحقيق مصالحها في إطار تلك الملامح، جاعلاً من شكل العلاقة مع الصين الركيزة الكبرى التي تحدد قسمات هذه الاستراتيجية، وتتمثل هذه القسمات في الآتي:
-
التطوير الداخلي وعدم الانغماس في تورطات خارجية هما مدخل الحفاظ لأميركا على مكانتها، وتعزيز علاقات التعاون مع الآخرين.
-
إذا كانت أوراسيا هي المنطقة الأكثر أهمية، وكانت العلاقة بين الشرق والغرب حاليًا هي إما التعاون المتبادل أو التدمير المشترك، فلابد من توازن جيوسياسي في أوراسيا من خلال ما يلي:
-
عدم التورط في حرب ممتدة في أفغانستان.
-
لا حل عسكريًا للمشاكل مع إيران، لا أحاديًا ولا بالتعاون مع إسرائيل، ولابد من إشراك إيران في التسويات الإقليمية. أما البديل في حالة عدم الاستجابة الإيرانية في هذا الاتجاه، فهو ضمان أمن دول المنطقة من تهديد إيران من خلال تأكيد الولايات المتحدة على أن تهديد هذه الدول هو تهديد للولايات المتحدة.
-
أن عدم تسوية النزاع شرق الأوسطي سيجعل "المصالح الأميركية تعاني كثيرًا، وسيصبح مصير إسرائيل في بيئة دولية معادية كهذه موضع شك في آخر المطاف".
-
ليكون هناك دور كبير للولايات المتحدة في أوراسيا لابد من "غرب جديد" يضم الاتحاد الأوروبي وأميركا، إلى جانب دولتين أخريين، هما: روسيا (التي لا تقبل أن يتم التعامل معها كأي دولة عادية، ولكنها عاجزة عن فرض نفسها كدولة غير عادية)، وتركيا (التي تتأورب كروسيا)، مع تشجيع التعاون مع الصين وإندونيسيا والهند.
-
أما السياسية الروسية فإن بدائلها تتمثل في: تحالف مع الصين، أو إنجاز وحدة سلافية، أو القدرة على تحقيق توجهات الرئيس فلاديمير بوتين المتمثلة في بناء علاقة روسية-أوروبية بعيدة عن أميركا.
ويحذر بريجنسكي من علاقة روسية مع الناتو بسبب ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر، ولكنه يُبدي آمالاً معلقة على نخب "التغريب" في روسيا، ويرى أن علاقة روسية-أوروبية بعيدة عن أميركا لا يُقدّر لها التقدم والتطور. -
أن الصعود الصيني يواجَه بقلق روسي وهندي وياباني من هذا الصعود، وهو أمر من المفروض أن تسعى الولايات المتحدة للعب دور "المنظم" له لكي لا يصل مرحلة مواجهات خطرة. ويعتقد أن المخاطر من الصين تأتي من ناحيتين مستقبلاً، وهما: تدني مستوى القيادة فيها أولاً وتنامي النزعة القومية الصينية ثانيًا، ويرى أن أغلب المؤشرات لا تعزز النقطة الأولى بينما ثمة ما يشير للنقطة الثانية لاسيما إذا تبنته النخبة العسكرية الصينية.
وعند تناوله للمنطقة العربية فهو يراها في إطار أوسع ضمن غرب آسيا، ولكنه يشير لبعض الجوانب في هذا السياق على النحو التالي:
-
أن تراجع الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط الكبير يقود لتكثيف العداء لإسرائيل، ويؤدي لتراجع حل الدولتين للصراع العربي-الإسرائيلي.
-
يقود التراجع الأميركي في المنطقة إلى تنامي التنافس الإيراني-الإسرائيلي، وقد يدفع أميركا للتدخل بضربات جوية لإيران، وهو ما قد يؤدي لفوائد لروسيا والصين، لكنه سيقود لتحويل إسرائيل إلى دولة فصل عنصري مما يثير الشكوك حولها.
-
قد يقود تراجع الولايات المتحدة إلى بحث دول الخليج عن سند بديل، وقد تكون الصين هي المتطلعة لذلك وهو ما قد يُحدث تحولاً عميقًا في المنطقة، ولكن التراجع الأميركي لن يقود لتغير في مستوى النشاط "الإرهابي" في المنطقة أو العالم.
ألغاز بلا حلول
اللافت للنظر في هذه الدراسة أن بريجنسكي يحدد الخطوط العريضة لاستراتيجية الولايات المتحدة في تعاملها مع كل المناطق (بل يسهب في شرح العلاقة مع المكسيك في مجال الهجرة والمخدرات، ويقدم توصيات لمواجهة هذه المشكلات مع هذه الدولة)، ولكنه يتجنب تمامًا تقديم تصور عام أو مفصل لكيفية تسوية النزاع العربي-الإسرائيلي رغم خطورة وأهمية هذا النزاع وهذه المنطقة، فهل كان ذلك "سهوًا" أم "عجزًا فكريًا" أم "نية مبيتة" لكي يتجنب أية انتقادات من جهات مختلفة؟
ويبدو لي أن سيناريوهات المستقبل في دراسة بريجنسكي تنتمي للسيناريوهات المستقبلية المرغوبة أو المفضلة (Preferable)؛ فهو لم يعطِ إيقاع التغير الأهمية الكافية عند رسمه لملامح الصورة المستقبلية؛ فالصين قفزت سبعة أضعاف في نصيبها من الناتج العالمي من 1980-2010، بينما بقيت الولايات المتحدة مكانها تقريبًا خلال نفس الفترة، فلو أسقطنا إيقاع التغير هذا على المستقبل فإن التوازن في كثير من المناطق لن يكون بالشكل الذي رسمه بريجنسكي؛ إذ إنه بنى الصورة المستقبلية استنادًا للمعطيات الحالية مفترضًا أن المسافة الفاصلة بين القوى ستبقى ذاتها دون حساب إيقاع التغير (acceleration)، كما أن التراجع يرتبط بتدني أداء آليات التكيف مع القوى المتراجعة بينما تزداد إيقاعات التكيف للقوى الصاعدة، ويكفي النظر مثلاً في حجم العلاقات التجارية للولايات المتحدة مع الأقاليم الرئيسية في العالم، ومقارنتها مع تلك التي للصين، ليتبين أثر ذلك في عملية التراجع والتقدم لكل منهما.
ولعل الواقعة التي أوردها بريجنسكي بخصوص حواره مع الرئيس الصيني تكشف درجة التعقيد في هذه المسألة؛ فقد قال للرئيس الصيني: إن أميركا تتراجع وأنتم تتقدمون، فقال له الرئيس الصيني: "أرجوكم لا تتراجعوا بسرعة!".
من ناحية أخرى، يبدو لي أن المنظومة المعرفية لبريجنسكي لا تزال أسيرة قواعد الحرب الباردة، ولكنه أحل الصين محل روسيا رغم ميله لإدارة العلاقة مع الصين على أنها لعبة غير صفرية في بعض الجوانب وبعض الأحيان.