على مدى قرون طويلة ومنذ أن وصل المسلمون إلى أوروبا سواء عبر الفتوحات الإسلامية أو عبر التعاون والتواصل الثقافي والفكري، صار المكوِّن الإسلامي بمختلف جوانبه جزءًا أصيلًا من هوية القارة الأوروبية دينيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا. ويُقدَّر المسلمون في أوروبا اليوم بنحو 50 مليون شخص ينتشرون في العديد من البلدان الأوروبية بما يشكِّل نسبة 6% من إجمالي سكان القارة الأوروبية وبما يجعل الإسلام الديانة السماوية الثانية بعد المسيحية. وقد أدَّى هذا الحضور الإسلامي في أوروبا لبروز دعوات ونزعات معادية للمسلمين سعت منذ زمن لنفي المكوِّن الإسلامي عن الهوية الأوروبية والنظر إلى المسلمين الأوروبيين بوصفهم وافدًا دخيلًا على أوروبا باعتبارها قارة مسيحية خالصة، وباعتبار المسيحيين هم الأوروبيين الأصليين دون غيرهم.
وقد أخذت هذه النزعة المعادية للمكون الإسلامي في بدايتها طابعًا دينيًّا، لكنها في السنوات الأخيرة اكتست لباسًا ثقافيًّا عبر التحذير من خطورة هذه الوجود الإسلامي على الهوية الأوروبية بل وعلى أمن القارة، لكن ذلك في الحقيقة كان يُخفي وراءه أسبابًا وعوامل سياسية واقتصادية بشكل أساسي. وقد ألقى ذلك بظلاله على أوضاع المسلمين في أوروبا وطريقة التعامل معهم وفرص اندماجهم في مجتمعاتهم. وما فتئت مساحات الصراع بين أوروبا والمسلمين المقيمين بها ودينهم تتسع وتتجذر مما ولَّد شكوكًا تجاه الإسلام والمسلمين ما لبثت أن تطورت لتصبح "إسلاموفوبيا" أو كرهًا وعداءً للإسلام والمسلمين. لقد أصبح بعض الأحزاب والسياسية والهيئات المجتمعية في أوروبا يحذِّر من وجود المسلمين في تلك القارة؛ فهم صاروا خطرًا، فيما يعتبر هؤلاء أن أوروبا قارة المسيحية والمسيحيين وأن الإسلام وافد.
وتأسيسًا على هذه الرؤية نظَّم مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر، مساء الثلاثاء 14 يونيو/حزيران 2016، ندوةً حاولت تسليط الضوء على المكوِّن الإسلامي في الهوية الأوروبية ومدى تأثر أوروبا بهذا المكون وتأثيرها فيه اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا. كما نتطرق في النقاش لأوضاع وشواغل ومشاغل المسلمين في المجتمعات الأوروبية، وفرص وعقبات اندماجهم في هذه المجتمعات.
وقد شارك فيها كلٌّ من الدكتور فريد موهيتش، الباحث المتخصص في شؤون البلقان ومؤلِّف كتاب "المكوِّنات الإسلامية لهوية أوروبا". والدكتور عبد الوهاب الأفندي، رئيس برنامج العلوم السياسية لمعهد الدوحة للدراسات العليا. والدكتور محمد المختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان بكلية قطر للدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة.
الجذور التاريخية لعلاقات متحركة
ظهرت في السنوات الأخيرة أصوات أوروبية، وعلى مستوى عالٍ، تقول: إن أوروبا مسيحية وإنها أحادية الثقافة وإن الإسلام دين وافد على هذه القارة. لم يكن هذا الخطاب صدفة، بل يمكن اعتباره جزءًا من مسار تاريخي يعتبر الإسلام والمسلمين دخلاء على أوروبا. وكان من أبرز تلك المواقف التي أساءت للإسلام والمسلمين تصريح البابا بينيديكت السادس عشر حول الإسلام ونبيه ووصفه الإسلام بأنه يتجاهل دور العقل وأنه انتشر بحدِّ السيف.
والمفارقة التاريخية التي تغيب عن الكثير أن الأديان السماوية الثلاثة ظهرت كلها في مكان واحد وهو الشرق الأدنى والشرق الأوسط سواء تعلق الأمر باليهودية أو المسيحية أو الإسلام، كما بيَّن الدكتور فريد موهيتش، لذلك لا يمكن لأوروبا أن تحتكر دينًا أو تُقصي آخر. وقد ظلَّ العديد من الدوائر الأكاديمية والعلمية الأوروبية يسيء فهم علاقة أوروبا بالإسلام وينظر إلى هذا الدِّين متأثرًا بعلاقة أوروبا بالإمبراطورية العثمانية وسيادتها على مناطق أوروبية شاسعة، مع العلم بأن الإسلام دخل أوروبا أولًا على يد طارق بن زياد لا على يد العثمانيين. وقد عاش هذا الدِّين بهذه القارة منذ وصول الإسلام إلى الأندلس وتفاعلت القارة معه.
ومن اللافت أن هناك محاولة لإعادة صياغة الهوية الأوروبية ترتكز على تطهير أوروبا من موروثها الإسلامي وتوحيد أوروبا على أساس مسيحي، كما يرى د. عبد الوهاب الأفندي، وهذا حدث في عهد الحروب الصليبية في القرون الوسطى حين كان أمراؤها يتقاتلون فيما بينهم، لكنهم توحَّدوا في الحروب الصليبية. كما عُرِفت الحرب بين المسلمين والمسيحيين في إسبانيا باسم حروب الاسترداد. وتتحدث بعض المصادر التاريخية أن مجزرة مشهورة تعرَّض فيها مسلمو مقدونيا للذبح، إلا أن بعض الشعراء أنشأ قصيدة جاعلًا من تلك المأساة عملًا بطوليًّا يستدعي الفخر. هذه سرديات شكَّلت أساطير أوروبية ما فتئ إنتاجها تعاد صياغته من أجل إبعاد المسلمين عن أوروبا.
إن الأوروبيين يعرفون تاريخهم الإسلامي لكنهم يصوِّرونه غالبًا، ومن خلال سرديات يُعاد إنتاجها، على أنه حالة حرب دائمة، ويصعب عليهم التخلص من تلك الأوهام. ومن المفارقات أن هناك حروبًا وقعت في أوروبا كان المسلمون يقاتلون فيها إلى جانب أوروبا، بل ويقاتلون تحت راية دول أوروبية؛ ففي الحربين العالميتين الأولى والثانية شارك جنود مسلمون كثيرون من آسيا والشرق الأوسط مع البريطانيين كما كان ضمن الجيش الفرنسي الكثير من الجنود المسلمين من شمال إفريقيا ومن إفريقيا الغربية. وتبقى هذه السرديات الأوروبية التي تعيد إنتاج الوجه الأوروبي المعادي للإسلام بحاجة إلى سرديات مقابلة تبني الجسور وترمِّم ما أفسدته التصورات الخاطئة.
ويرى الدكتور محمد المختار الشنقيطي أن النظرة الأوروبية التقليدية للهوية الأوروبية قائمة على ثلاث دعائم: المسيحية والفكر اليوناني والمؤسسات الرومانية، وأن الإسلام يتم استبعاده ونفيه من الذاكرة الأوروبية، مع أنه جزء من هذه الهوية. فالإسلام ليس دخيلًا في أوروبا كما أن المسيحية ليست دخيلة في بلاد الإسلام. وفكرة النقاء الديني في أوروبا من تجلِّيات قراءة خاصة للتاريخ، فالإسلام كان ولا يزال مكوِّنًا من الهوية الأوروبية لكنَّه مكوَّن مكبوت. وقد يكون هذا الاستبعاد للمكوِّن الإسلامي مفيدًا للساسة على المدى القريب، لكنه مضر على المستوى البعيد؛ ذلك أن وحدة المصاير في عالم البحر الأبيض المتوسط أمر حتمي. وكما ناقش المؤرِّخ الفرنسي، فرنان بروديل، في كتابه "العالم المتوسطي" مفهوم الحضارة التي تشكَّلت حول هذا البحر: هل هي حضارة إقصائية وعنيفة أم حضارة أخوية ومسالمة؟ وقد خلص هذا المؤرخ إلى أن البحر الأبيض المتوسط عامل ترابط وتقارب.
هل يعني الاندماج الذوبان؟
لم يكن الإسلام في أوروبا مجرد ذكرى بل هو تاريخ امتد عبر قرون، وقد ترك الإسلام في أوروبا ثقافات وتلاقحًا وإرثًا وفنًّا، وهذا يعني أن المسلمين في أوروبا ليسوا غرباء بل مواطنين، كما يقول الدكتور فريد. والاندماج الذي يتم الحديث عنه لا يعني أن المسلمين خارجون عن الفضاء الأوروبي أو دخيلون فيه، فهم يشكِّلون جزءًا من رُوح البيت الأوروبي بمجمله، وأوروبا قارة متعددة الثقافات، والإسلام أعطى لأوروبا مفاهيم كالتسامح والتفاهم.
ومن الضروري أن تفهم أحزاب اليمين المتشدد في أوروبا حقائق من ضمنها أن قيام أوروبا أسهم فيه الجميع على حدٍّ سواء، وأن التاريخ الإسلامي قائم على التعايش السلمي الذي أسسته وكرسته وثيقة المدينة الموقَّعة بين الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم وبين اليهود. إن فضاء أوروبا قائم على تأثيرات ثقافية مختلفة هي التي شكَّلت الهوية الأوروبية. ولابد كما يقول فريد موهيتش من تصحيح مفهوم الاندماج فهو حق لكل من يحترم القوانين الأوروبية أيًّا كان دينه، ولا ينبغي أن يُفهم على أنه تقسيم الأدوار بين ضيف وصاحب بيت.
ويؤكد الدكتور الأفندي على أن بعض الساسة في اليمين الأوروبي المتشدد يحاول أن يرسخ مفهوم الإقصاء ونفي الآخر مما يعني استحالة الاندماج، حتى وصل الأمر أن بعض اللادينيين صاروا يؤكدون على أن هوية أوروبا هوية مسيحية. في حين يرى الدكتور الشنقيطي أن هنالك فرقًا بين الاندماج والذوبان، فالاندماج الإيجابي مطلوب والتحول من حالة المهاجِر إلى حالة المواطن مطلوبة. والساحة الأوروبية ينبغي أن تسع الجميع واعتزاز الإنسان الأوروبي بميراثه لا يعني عدم الاندماج. والخطير هو التحول إلى اندماج قسري يجعل المسلمين لا يضيفون شيئًا، في الوقت الذي لابد فيه من تنوُّع.
إن المناداة في فرنسا مثلًا بمنع الحجاب، والدعوة في سويسرا لمنع الأذان كلها مبادرات ضد القيم الأوروبية فهذا لا يوجد مثلًا في بريطانيا ولا في أميركا. إن الإسلام لا يعارض القيم الأوروبية ولكن يعارض الإقصاء.
فكرة النقاء الديني والجوهرانية الثقافية على المحك
يؤكد الدكتور فريد على أن مفهوم النقاء الديني والإقصاء على أساس المعتقد قد تغيَّر في أوروبا كثيرًا؛ مما يفسح المجال أمام التفاؤل حيث لا ينبغي أن نتشاءم كثيرًا. والمستقبل يفرض على المسلمين تقديم أنفسهم ودينهم في شكله الحقيقي. فمن المعلوم أن اليهودي كان يُنظر إليه في أوروبا نظرة إقصاء، بل إن اليهود متَّهَمون، حسب المعتقد المسيحي، بقتل السيد المسيح. وتبقى الإشكالية حول مسؤولية المسلمين أنفسهم والتعريف بدينهم؛ وهو ما يؤكد عليه الدكتور الأفندي من أن المسؤولية تقع على المسلمين لأنهم لم يطوروا إطارًا مفاهيميًّا لخطاب إسلامي تفهمه أوروبا. فالمسلمون بحاجة إلى نظرة متكاملة وعدم التركيز على الناحية السلبية.
__________________________
سيدي أحمد ولد الأمير - باحث بمركز الجزيرة للدراسات
انتهى