مؤتمر "الإعلام الدولي والحرب على غزة" يفكّك السرديات الغربية ويكشف آليات الإبادة الإعلامية والرقمية

الجلسة الأولى من المؤتمر (الجزيرة)

اختتمت في العاصمة القطرية، الدوحة، أعمال مؤتمر "الإعلام الدولي والحرب على غزة: مُوجِّهات الخطاب وصراع السرديات"، الذي نظّمه مركز الجزيرة للدراسات وكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة يومي 29-30 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، بمشاركة واسعة من باحثين وخبراء وأكاديميين متخصصين في الإعلام والاتصال والعلوم الاجتماعية والقانون الدولي. وعلى مدى يومين من النقاشات المكثفة، قدّم المؤتمر قراءة معمّقة للتحولات الكبرى التي شهدتها السرديات الإعلامية خلال الحرب على قطاع غزة، وكشف عن آليات الإبادة الإعلامية والرقمية وارتباطها بسياقات القوة والمعرفة في النظام الدولي المعاصر.

1
محمد المختار الخليل، مدير مركز الجزيرة للدراسات

مقاربات تأسيسية لفهم الإبادة الإعلامية

أوضح مدير مركز الجزيرة للدراسات، محمد المختار الخليل، في كلمته الافتتاحية أن المؤتمر يسعى إلى إنتاج معرفة علمية تُسهم في تفكيك الرؤية الاستعمارية المهيمنة داخل حقل الدراسات الإعلامية، وتدعم تطوير أدوات تحليلية تعزّز قدرة الباحثين والطلاب والمؤسسات الأكاديمية على فهم آليات الخطاب وتحولاته في بيئات الصراع. وبيّن أن هذا التوجّه يُمثل ركيزة أساسية لبناء إدراك نقدي يستجيب للتحولات الجيوسياسية والإعلامية الراهنة، ويمنح الفضاء البحثي زادًا معرفيًّا يُعمِّق النقاش حول وظائف الإعلام في سياقات الهيمنة وإعادة تشكيل الوعي.

وأشار الخليل إلى أن غزة تقدّم مثالًا بالغ الدلالة على هذا المسار، إذ شهدت تداخلاً واضحًا بين الفعل العسكري والفعل الإعلامي، وتجلّت فيها ممارسات كثيفة لإعادة إنتاج المعنى وتوجيه الإدراك العام. وقال إن استشهاد أعداد كبيرة من الصحفيين وتدمير البنية الإعلامية المحلية يعكس حجم الصراع على الرواية، كما يبرز أهمية المقاربات البحثية التي تربط بين الخطاب والأبعاد السياسية والجيوستراتيجية للحرب. وأكد أن تحليل هذا النموذج يوسّع الفهم الأكاديمي لطبيعة الصراعات المعاصرة التي تتحرك في الميدان وفي الوعي بالتوازي، وتشكل بذلك بيئة خصبة لدراسة التحولات في أنظمة الاتصال والإعلام.

4
مهدي رياضي، الأستاذ والعميد المشارك لشؤون البحث العلمي في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة، قطر

ومن جهته، شدّد العميد المشارك لشؤون البحث العلمي في جامعة حمد بن خليفة مهدي رياضي على أن الحرب تُخاض على جبهتين متلازمتين: جبهة الميدان وجبهة الإعلام، حيث تعمل السرديات على تشكيل الإدراك العام وإعادة تعريف الفاعلين والضحايا وأطراف الصراع. وبيّن أن فهم الخطابات المتداولة حول غزة شرطٌ لقراءة المشهد السياسي والاجتماعي العالمي بصورة أوسع.

2
هايرو لوجو-أوكاندو، عميد كلية الاتصال بجامعة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

حدود النظام الخطابي الغربي وتصدّع المركزية الإعلامية

في كلمته الرئيسة، قدّم هايرو لوجو أوكاندو، عميد كلية الاتصال بجامعة الشارقة في الإمارات العربية المتحدة، تحليلًا دقيقًا لبنية "النظام الخطابي" الغربي الذي يضع حدودًا لما يمكن قوله أو مناقشته. وأشار إلى أن الدفاع عن فلسطين غالبًا ما يُشترط أن يسبقه إعلان اعتراف بـ"حق إسرائيل في الوجود"، وهو قيدٌ يعيد إنتاج مركزية الخطاب المهيمن. غير أن هذا النظام بدأ يتصدع مع تصاعد دور وسائل التواصل الاجتماعي التي كسرت احتكار الإعلام التقليدي وفتحت فضاءات جديدة للتفاعل والاستقلال عن الوسط العائلي والسياسي التقليدي.

3
وضاح خنفر، رئيس منتدى الشرق والمدير العام الأسبق لشبكة الجزيرة الإعلامية

الخطاب الليبرالي وانكشاف بنيته الأخلاقية

وفي الكلمة الرئيسة الثانية، قدّم رئيس منتدى الشرق، المدير العام الأسبق لشبكة الجزيرة، وضاح خنفر طرحًا شاملًا تناول فيه التحولات العميقة التي أصابت الفكر الليبرالي الغربي عند اقترابه من مراكز النفوذ السياسي والعسكري، موضحًا أن هذا الفكر يتحول في تلك اللحظة إلى أداة لإنتاج الهيمنة وإعادة تشكيل المجال العام بما يخدم القوة لا القيم التي يدّعي تمثيلها. وبيّن أن هذا الانزياح فتح المجال أمام مقاربات تُهمّش الإنسان وتُسقط عنه صفاته الأخلاقية، وهي مقاربات ظهرت بجلاء في الخطابات المصاحبة للحرب على غزة، حيث أعيد توصيف الفلسطيني بطرق تُشرعن القوة وتُبقيه خارج نطاق الحساسية الأخلاقية.

وأشار خنفر إلى أن العقدين الأخيرين شهدا تراجعًا ملموسًا في موقع القوة الغربية داخل النظام الدولي، الأمر الذي كشف طبقات أعمق من الخطاب الليبرالي ترتبط بالمصلحة الإستراتيجية أكثر مما ترتبط بالقيم الحضارية التي صاغ الغرب عبرها سرديته الذاتية. ولفت إلى أن منح إسرائيل استثنائية غير مسبوقة في المجالين السياسي والإعلامي أسهم في تعليق المبادئ الليبرالية الأساسية، وفي ترسيخ خطاب نزع الإنسانية وتوسيعه ليشمل فئات أخرى داخل النظام العالمي.

وفي تحليله لتغطية الإعلام الغربي للحرب الإسرائيلية على غزة، أوضح خنفر أن المنظومة الإعلامية الغربية تتحرك داخل بنية قيمية تعيد إنتاج السلطة وتوجّه السرديات في اتجاه يبرّر القوة ويمنحها شرعية خطابية، بينما أسهم صعود الإعلام الرقمي والروايات الميدانية الفلسطينية في كشف الفجوة المتسعة بين الخطاب الرسمي والواقع الحي. وأضاف أن غزة قدّمت حالة اختبار تاريخية لهذه البنية، لأنها وضعت الجمهور العالمي أمام مشاهد مباشرة لا يمكن تأويلها بسهولة داخل الإطار السائد، ودفعت شرائح واسعة إلى مراجعة مصادر معرفتها وإعادة النظر في مسلّمات الخطاب الليبرالي ذاته.

وختم خنفر مداخلته بالتأكيد على أن الأزمة الراهنة تحمل أبعادًا قيمية عميقة تمتد إلى جوهر النظام الدولي، وأن تجاوزها يتطلب بلورة تحالف عالمي يستند إلى العدالة الاجتماعية وإلى رؤية أخلاقية أكثر اتساعًا وإنسانية. ورأى أن غزة أعادت تشكيل موازين القوة ووسّعت في الوقت نفسه موازين الوعي، إذ برزت بوصفها نقطة تحوّل نقلت الصراع إلى فضاء تتسع فيه إمكانات السرد البديل ويتقدم تأثير الروايات المتعددة على حساب الخطاب الأحادي.

اللغة وبناء صورة الفاعل الفلسطيني

خلال جلسات المؤتمر، تركزت النقاشات حول ملامح الهيمنة المعرفية في الدراسات الإعلامية الغربية، وما شهدته من تحولات بنيوية أسهمت في إعادة تشكيل صورة الفلسطيني داخل الخطاب الدولي، خاصة بعد التحولات التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر والتي أعادت صياغة موقعه من إطار الضحية إلى إطار الإدانة. وشمل النقاش الدعوة إلى بناء إطار بحثي يُعيد الاعتبار لتجارب الجنوب العالمي ويواجه المركزية الغربية التي ما تزال تتحكم في مناهج البحث الإعلامي وأدواته التفسيرية.

كما تناول المشاركون المقارنات بين الإعلام السائد والإعلام الناشط في البيئة الغربية، مع تحليل الأسس الخطابية التي تجعل الرواية المؤسسية تميل إلى تجريم الفلسطيني وتقديم السياسات الإسرائيلية في قالب "الدفاع عن النفس"، مقابل سرديات ناشطة تربط الحرب بمنظومة استعمارية ممتدة. وبرزت قراءات معمّقة للبنية المعجمية والدلالية المستخدمة في تغطية غزة، موضحة أثر الانتقال بين المبني للمعلوم والمبني للمجهول على تحديد الفاعل ورسم حدود المسؤولية.

وبحسب التحليلات المقدمة، خضع توصيف الفاعل الفلسطيني لبناء لغوي يرسمه عبر مسارات ثلاثية تتضمن نزع الإنسانية والتجريم والانحطاط الأخلاقي، من خلال استعارات تُحيله إلى كائن خطر، ومفردات تُدرجه في خانة الإجرام والعنف، وهو ما يسهم في تهيئة المتلقي لتقبّل ممارسات القوة باعتبارها فعلًا ضروريًّا أو مبررًا. وامتد النقاش إلى نماذج التغطية الإخبارية التي تناولت دور الترجمة التحريرية في تشكيل مسار التغطية الإعلامية، والمقاربات المقارنة مع الحرب الروسية–الأوكرانية، ودور الإعلام المستقل في بناء سرديات تتجاوز الإطار التقليدي لغرف الأخبار الكبرى، إضافة إلى تحليل تأثير البيئة السياسية في تشكيل التغطية الإسرائيلية واتجاهاتها التحريرية.

وفي محور آخر، تناولت المناقشات الخطاب الدعائي وتأثيره في الرأي العام العالمي، مسلّطة الضوء على استخدام خطاب نازع للإنسانية في الإعلام الإسرائيلي، وعلى تبني مؤسسات غربية لروايات مضلّلة أعادت تأطير الحدث بما يخدم أهدافًا سياسية وأمنية. وعرضت الجلسات نماذج لتفاعلات الخطاب المقاوم في ظل محاولات احتوائه وتشويهه، مؤكدة أهمية المقاربات التحليلية التي تدرس تداخل الخطاب مع شبكات القوة في لحظات الصراع الممتد.

المنصات الرقمية والمسؤولية الأخلاقية للإعلام

من أبرز محاور المؤتمر تلك المتعلقة بدور الإعلام في سياقات الإبادة الجماعية، حيث تناولت الأوراق تجارب الصحفيين الفلسطينيين وتحديات المهنية في بيئة الحرب، وسرديات الإخفاء والمكاشفة، وتحليل خطاب الكراهية في الإعلام الإسرائيلي. وأظهرت المداخلات أن عمليات نزع الإنسانية تُشكّل جزءًا من بناء ذهني وثقافي راسخ يقدّم الفلسطيني في صورة "الخطر الوجودي"، ويعيد صياغة الإدراك العام بطريقة تمنح القوة المفرطة مبررات سردية داخل منطق الصراع.

وفي الجلسات المتعلقة بمنصات التواصل الاجتماعي، برز تحليل يشير إلى تحول هذه المنصات إلى سلطة قانونية موازية تمارس التشريع والتنفيذ والقضاء عبر سياسات الحذف والحجب وتقييد الوصول. وأوضحت أوراق بحثية أن الحرب على غزة كشفت خطورة هذا النفوذ، خاصة بعد استخدام المنصات أدوات خوارزمية حجبت محتوى الحقوقيين والصحفيين الفلسطينيين، بينما رُوّج لخطاب رسمي مضاد. ودعت مداخلات متعددة إلى وضع إطار قانوني دولي يقيّد سلطة المنصات ويحمي الحقوق الرقمية للمستخدمين.

كما عرض بحث معمق لصفحة "إسرائيل تتحدث بالعربية" على فيسبوك، موضحًا كيف يجري إعادة تعريف الفاعلين وتوجيه الرواية عبر مصطلحات تخدم الاستراتيجية الإسرائيلية، مع تغييب منهجي لمفردات مثل "فلسطين" و"الفلسطينيون" واستبدالها بتسميات مثل "غزة" أو "يهودا والسامرة".

وفي جلسات المسؤولية الاجتماعية للإعلام، ناقش الباحثون دور المؤسسات الإعلامية في توثيق جرائم الحرب ودعم القانون الدولي، والحدود الأخلاقية للتغطية، ومعضلة التوفيق بين الواجب المهني والضغوط السياسية. وأكدت أوراق عدة أن صورًا التقطها مراسلون محليون في غزة أصبحت أساسًا في تحقيقات دولية، تمامًا كما حدث في البوسنة وسوريا وأوكرانيا، مما يمنح الإعلام دورًا يتجاوز الشهادة إلى صناعة الأدلة.

نحو نموذج إعلامي عالمي أكثر عدالة

وفي ختام المؤتمر، أجمع المشاركون على ضرورة إعادة بناء منظومة الإعلام الدولي بما يضمن التعددية والعدالة والقدرة على مواجهة السرديات المهيمنة. ودعوا إلى تطوير مدارس تحليلية جديدة تستفيد من تجارب الجنوب العالمي، وتعزيز التفكير النقدي لدى الجمهور، ودعم الصحفيين في مناطق النزاعات بأدوات حماية فنية وقانونية، فضلًا عن وضع إطار دولي لتنظيم سلطات المنصات الرقمية وتطوير تقنيات كشف التزييف وحماية المحتوى الحقوقي.

وأكد المشاركون أن الحرب على غزة شكّلت منعطفًا حاسمًا في تاريخ الإعلام العالمي، إذ كشفت هشاشة السرديات التقليدية وفتحت المجال أمام روايات مضادة يتسع تأثيرها يومًا بعد يوم. وأشاروا إلى أن الإبادة الإعلامية أصبحت حقلًا بحثيًّا قائمًا بذاته، وأن السنوات المقبلة ستشهد تحولات عميقة في فهم العلاقة بين الإعلام والقوة والمعرفة.