خلصت ندوة حوارية نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات بالاشتراك مع قناة الجزيرة مباشر يوم الخميس، 20 أغسطس/آب 2020، تحت عنوان "لبنان ما بعد الانفجار ومستقبل نظامه السياسي"، وشارك فيها نخبة من الباحثين والأكاديميين اللبنانيين، إلى أن انفجار مرفأ بيروت، الذي حدث يوم 4 أغسطس/آب من الشهر الجاري، وما خلَّفه من خسائر بشرية ومادية جسيمة هو بمنزلة الزلزال الذي ضرب النظام السياسي اللبناني ووضع مصيره على المحك.
وأشار المتحدثون إلى أن المشهد السياسي بعد الانفجار لم يعد كما كان قبله، وأن تقسيم ما يعرف بقوى 8 و14 آذار الذي طبع التفاعلات السياسية اللبنانية بطابعه منذ العام 2006 لم يعد متماسكًا ولا صالحًا لاستمرار وديمومة الحياة السياسية اللبنانية، ولذلك فإن قواعد اللعبة السياسية في طريقها للتغيُّر، وقد يطول ذلك اتفاق الطائف الذي تزداد الحاجة إلى تطويره إلحاحًا يومًا بعد يوم.
وأوضح المشاركون في الندوة إلى أن انفجار مرفأ بيروت قد فتح الباب أكثر مما هو عليه راهنًا أمام التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن اللبناني، وبات الأمر ممهدًا أمام دخول لاعبين جدد؛ ما يعني مزيدًا من تعقيد المشهد، وإطالة أمد الصراعات السياسية القائمة، ما لم يُبادر اللبنانيون بإعادة هندسة نظامهم السياسي وتطويره بأنفسهم.
وكانت الندوة سابقة الذكر قد بُثَّت على شاشة الجزيرة مباشر ومنصات مركز الجزيرة للدراسات الرقمية على مواقع التواصل الاجتماعي، وشارك فيها من لبنان: حسام مطر، الأكاديمي والباحث المختص في العلاقات الدولية، ووليد فخر الدين، الأكاديمي والمحلل السياسي، ووائل سهيل نجم، الباحث والكاتب السياسي، ورئيف خوري الكاتب المختص في العلاقات الدولية.
قناعة بالتغيير واختلاف حول الشكل والمضمون
تحدَّث حسام مطر، الأكاديمي والباحث السياسي، في مداخلته عن التداعيات السياسية لانفجار مرفأ بيروت وأشار إلى أنه أحدث اتساعًا في مساحة الفراغ السياسي خارج الانقسام التقليدي بين قوى 8 و14 آذار، وأدى إلى شيوع تصور عن غياب واسع للدولة وفشلها في القيام بالحد الأدنى مما هو مطلوب منها في مثل هذه الظروف، وهو ما يمكن أن يمثِّل حاضنة شعبية لطروحات أكثر جذرية في التعامل مع الواقع اللبناني؛ طروحات تهدف لإعادة بناء الدولة ذاتها وليس فقط إنتاج حكومات جديدة كما درجت العادة. وهذه التصورات -يضيف مطر- من شأنها أن تُنتج مشاعر متناقضة لدى المواطنين من قبيل التمرد واليأس والانكفاء، وهذه المشاعر ستبقى تتراكم إلى حين أن تكتمل شروط موجة احتجاجية قادمة.
وعن إمكانية تدويل الواقع اللبناني كأثر من آثار تفجير مرفأ بيروت، قال حسام مطر: إنَّ هذا الواقع يتجه بالفعل نحو مزيد من التدويل بسبب المخاوف من انهيار شامل للدولة، وحاجة البلاد لمساعدات خارجية مالية واقتصادية وإغاثية كبيرة، وكذلك لاستثمار واستغلال اللحظة لمحاولة إضعاف حزب الله من قِبَل خصومه في الداخل والخارج؛ حيث يتجه الأميركيون -يقول مطر- لمزيد من التدخل في الشأن اللبناني وذلك للتعويض عن ضعف حلفائهم المحليين، ولمواصلة حملة الخنق ضد حزب الله، فيما يحاول الفرنسيون الاستفادة من اللحظة الراهنة لتأكيد أن لبنان جزء من مصالحهم الحيوية، ومن ثمَّ يدمجونه في مقاربتهم لمواجهة تركيا في شرق المتوسط، كما أنهم يتحسبون لانكفاء أميركي عن لبنان بحال خسارة الرئيس، دونالد ترامب، الانتخابات وعودة واشنطن للاتفاق النووي وهو ما سيعزز دور إيران الإقليمي ومنه تأثيرها في الشأن اللبناني.
ويلخِّص مطر استراتيجية الفاعلين الإقليميين والدوليين في الشأن اللبناني بقوله: إنهم يسعون نحو هذا التدخل من أجل الإمساك بتوازنات اللعبة التقليدية من ناحية، ولاختراق مساحة الفراغ المستجدة وتوظيفها لتغيير التوازنات من الآن وحتى الانتخابات النيابية بعد سنتين، من ناحية ثانية.
أما عن مستقبل النظام السياسي اللبناني في ظل التداعيات الناتجة عن انفجار مرفأ بيروت والتي اختتم حسام مطر مداخلته بها، فقد قال: إن الحادث هو جزء من مسار طويل لغياب الدولة اللبنانية الفاعلة. وقد أدى الانفجار إلى صعود النقاش مجددًا حول المستقبل السياسي للنظام اللبناني والذي تزداد القناعة يومًا بعد يوم أن قواعد اللعبة القديمة التي كانت تحكمه لم تعد قابلة للاستمرار، ولم يعد اللبنانيون يثقون بأن كارثة مشابهة لما حدث يوم الرابع من أغسطس/آب يمكن أن تحدث مستقبلًا.
وحول طبيعة التفاعلات السياسية المتعلقة بمستقبل النظام السياسي اللبناني، قال حسام مطر مختتمًا مداخلته: إنَّ اللبنانيين منقسمون بين من يحاول كسب الوقت لحماية الوضع القائم مراهنًا على تدخل الخارج، وبين من يريدون بقاء النظام لكن مع تغيير قواعد إنتاج السلطة من خلال قانون انتخاب جديد، وكذلك ثمة من يجدون أن هناك فرصة لإعادة النظر بالنظام ككل والدعوة لمؤتمر تأسيسي يقر نظامًا جديدًا.
ساحة لتصفية الحسابات والصراعات
اختار وائل سهيل نجم، الباحث والكاتب السياسي، مدخلًا تاريخيًّا لتشخيص الأزمة التي يعانيها لبنان راهنًا، فتحدث عن تكوين لبنان سياسيًّا منذ إعلان الجنرال الفرنسي، هنري غورو، ذلك من قصر الصنوبر في بيروت، عام 1920، حيث تكوَّن من متصرفية جبل لبنان التابعة للسلطنة العثمانية وبعض المناطق التي جرى ضمها من أقضية ولاية دمشق وذلك ليتم جمع الشتات المسيحي المتناثر في أقضية عكار والبقاع والجنوب. هذا "اللبنان" -يضيف نجم- ومنذ الأيام الأولى "لاستقلاله"، شهد الكثير من التجاذبات السياسية والطائفية التي لم تَغِبْ عنه حتى الوقت الراهن، ذلك لأن النظام قام منذ البداية على نوع من المحاصصة الطائفية والمذهبية ولم يقم على قاعدة المساواة والكفاءة.
واستطرد سهيل نجم قائلًا: إنَّ العقود من أربعينات حتى تسعينات القرن العشرين شهدت تجاذبات تحوَّلت إلى ثورة شعبية ثم إلى حرب أهلية وضعت أوزارها في العام 1989 بموجب وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) الذي وضع حدًّا للحرب الأهلية غير أنه لم يضع حدًّا للتجاذب والصراع السياسي.
وعن فترة الوجود السوري في لبنان، قال نجم: إنَّ الوصاية السورية المباشرة على لبنان في فترة التسعينات أمَّنت نوعًا من الاستقرار النسبي على المستوى الأمني وصولًا إلى حادثة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في العام 2005، التي أعادت إنتاج الانقسام بشكل كبير وجعلت لبنان يعيش أزمات متتالية عطَّلت المؤسسات أكثر من مرة ما أوجب إعادة إطلاقها بموجب تسوية الدوحة في العام 2008.
وعن آثار هذا الانقسام على النظام السياسي، قال: إنه خلَّف نوعًا من الترهُّل في النظام ما أتاح لمجموعات الفساد أن تتحكم بكل شيء وهو ما أدى بدوره إلى وقوع لبنان تحت ديون كبيرة تُقدَّر بتسعين مليار دولار؛ ما دفع اللبنانيين إلى الانتفاضة في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2019 ورفض كل الطبقة السياسية والمطالبة برحيلها كلها تحت شعار "كلن يعني كلن".
وفيما يتعلق برؤيته لمستقبل النظام السياسي اللبناني، أوضح سهيل نجم أنه في لبنان اليوم توجهات عديدة لتقرير مستقبل البلد؛ فهناك توجُّه لدى البعض للإمساك بكل مفاصل السلطة والهيمنة على كل شيء، في حين هناك توجه آخر نحو تغيير النظام إلى نظام مدني علماني، كما أن ثمة توجهًا لاعتماد نظام لا مركزي موسَّع على المستويين، الإداري والمالي، فضلًا عن وجود دعوة لتطوير اتفاق الطائف بما يخدم الصيغة سابقة الذكر. وكل هذه التوجهات تواجه عقبات ومعوِّقات كثيرة.
واختتم سهيل نجم مداخلته بالقول: إن لبنان اليوم ساحة لتصفية الحسابات والصراعات وقد أصبح مصيره مرهونًا بنتائج تلك الصراعات.
نحو بناء ميثاق وطني جديد
أشار وليد فخر الدين، الأكاديمي والمحلل السياسي، في مداخلته إلى أن انفجار بيروت حدث في ظل انهيار "تام للدولة والنظام السياسي والاقتصادي" ما أفقد السلطة الحاكمة "المشروعية الشعبية" اللازمة للاستمرار في الحكم، وخلص بناء على ذلك إلى أن حجم الكارثة التي حلَّت بالنظام السياسي اللبناني جرَّاء تفجير مرفأ بيروت أكبر بكثير مما قد يبدو في الظاهر، وأنه (الانفجار) قد دفع لبنان مرة أخرى إلى بؤرة الاهتمام الدولي في ظل عدد كبير من العوامل الخارجية، ولاسيما تلك المتعلقة بإيران والعراق وسوريا، وفي ظل توتر مستجد بين اليونان وتركيا، وأيضًا مع عودة الاهتمام الأميركي بالمنطقة خاصةً من بوابتي العراق عبر دعم حكومة الكاظمي وليبيا من خلال دعم ضمني لحكومة الوفاق والمجلس الرئاسي، ما يعني أن شرق المتوسط عاد مرة أخرى إلى سلَّم أولويات المجتمع الدولي.
فضلًا عن ذلك، يأتي الانفجار -والكلام لفخر الدين- في ظل تداعيات الحكم الصادر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي أدانت أحد أفراد حزب الله وما تبعها من مواقف، ولاسيما الموقف الأميركي، وبعدما أعلنه رئيس وزراء لبنان السابق، سعد الحريري، من على باب المحكمة الدولية في لاهاي، قائلًا: إنه ضحَّى كثيرًا في السابق واليوم على حزب الله أن يقدم هو التضحيات. مما يفسره الكثيرون –يقول فخر الدين- على أنه مطالبة واضحة من قِبل الحريري بخروج حزب الله من المشهد السياسي اللبناني، وبشكل ضمني خروج حليفه الأساسي، جبران باسيل، من هذا المشهد.
هذه المعطيات -يخلص فخر الدين- تؤسس لعودة بعض أشكال الصراع السابق الذي عُرف بين قوى 14 و8 آذار أو الفريق المؤيد لحزب الله والفريق المعارض له، مع الأخذ بعين الاعتبار تقاطع المصالح بين بعض مكونات 8 آذار، ولاسيما سليمان فرنجية ورئيس مجلس النواب نبيه برِّي من جهة وأقطاب 14 آذار السابقين مثل وليد جنبلاط وسمير جعجع وسعد الحريري من جهة ثانية، حول إمكانية الانقضاض على ما تبقى من التيار الوطني الحر بزعامة جبران باسيل.
وعن إمكانية استغلال القوى الإقليمية والدولية لانفجار مرفأ بيروت في تدويل الشأن اللبناني وزيادة التدخل في شؤونه أكثر مما هو موجود راهنًا، قال وليد فخر الدين: إن انفجار بيروت رمى بالأزمة اللبنانية مباشرةً في أحضان الصراع الإقليمي والدولي مع دخول لاعبين جدد إضافة إلى اللاعبين التقليديين، فإضافة إلى زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فقد شهد لبنان زيارات المبعوث الأميركي ونائب الرئيس التركي والمبعوث المصري ووزير الخارجية الإيراني والألماني؛ الأمر الذي يعكس احتدام الصراع حول لبنان في ظل الغياب شبه التام للدولة التي وجدت نفسها بعد هذا الزلزال عاجزة عن القيام بأي دور في عمليات الإغاثة وإعادة الإعمار؛ الأمر الذي رفع أصوات الكثيرين بطلب تحقيق دولي لعدم ثقة الشارع اللبناني بجدية الدولة اللبنانية في إجراء تحقيق شفاف يخرج بنتيجة.
أما عن مستقبل النظام السياسي اللبناني بعد انفجار مرفأ بيروت، فقال فخر الدين: إنه يصعب التكهن اليوم بتطورات المشهد السياسي اللبناني في الفترة المقبلة، لكننا نؤكد أن المنظومة السياسية في لبنان لم تعد قادرة على الاستمرار في المرحلة المقبلة كما كانت عليه قبلها، لكن هذا -يستدرك فخر الدين- لا يعني أننا بالضرورة سائرون نحو تعديل دستوري يُحدث تغييرًا أساسيًّا في شكل النظام السياسي إنما لا شك فيه أن ثمة تعديلًا أساسيًّا سيحدث خلال الفترة الانتقالية المقبلة.
واختتم وليد فخر الدين مداخلته بالقول: نحن على أبواب إعادة بناء ميثاق وطني جديد لكن الإرادة السياسية لم تتوافر بعد.
من ضيق الأقليات إلى رحاب الوطن
من جانبه، قائل رئيف خوري، أستاذ القانون الدستوري والعلاقات الدولية: إنَّ الرأي العام اللبناني يتجه حاليًّا نحو أطروحات سياسية وطنية أكثر منها طائفية، وهو من المؤشرات الإيجابية التي يجب تعزيزها والبناء عليها.
وأوضح خوري أن انفجار مرفأ بيروت عمل على تآكل وتفكيك كتلة التيار الوطني الحر، وأسقط التفاهم الذي عُقد بين حزب الله وهذا التيار في "مار مخايل"، عام 2006. وأضاف أن سقوط حكومة رئيس الوزراء، حسان دياب، في هذا السياق يعني استبعاد انتخاب جبران باسيل وأعضاء حزب الله، كما يعني -والكلام لرئيف خوري- أنَّ زمان فرض رئيس الجمهورية وتعطيل النظام العام للدولة، ما لم تتحقق مطالب هذا الطرف أو ذاك، قد ولَّى، ذلك لأن القناعة الآن في لبنان قد أصبحت راسخة أكثر من أي وقت مضى بأن "الدولة" هي خلاص للجميع، ولهذا فقد آن الأون لأن يخرج اللبنانيون من "تحالف الأقليات الضيِّق الى رحاب الوطن الفسيح".
وعن توجهات السياسة الخارجية للبنان بعد انفجار مرفأ بيروت وكيف يجب أن تكون، قال خوري: إن زلزال بيروت أكد على أهمية وضرورة سياسة "النأي بالنفس" والابتعاد عن المحاور الإقليمية والدولية التي لم يجْنِ لبنان من ورائها غير الخسران. وفي هذا السياق، قال: إنَّ على اللبنانيين ألا ييأسوا من إمكاناتهم الذاتية ذلك لأنه بسواعدهم يمكنهم النهوض بدولتهم ولا يعوِّلون فقط على الخارج.
وعن مستقبل النظام السياسي في لبنان بعد حادثة الانفجار وما تبعها، قال خوري: إنَّ على لبنان القادم أن يعيد النظر في الدستور وما فيه من صلاحيات لرئيس الجمهورية، وأن يزيد من صلاحيات رئيس الحكومة حتى لا تتعطل التشريعات والسياسات التي من شأنها النهوض بهذا البلد بعيدًا عن المناكفات السياسية والتحزبات الطائفية.