تحوَّلت القارة الإفريقية في العقدين الأخيرين إلى ساحة أساسية لصراع وتنافس دولي محتدم بين فاعلين تقليديين -باعتبار إرث الحقبة الاستعمارية التي جعلت بعض الدول، مثل فرنسا، تستأثر بنفوذ سياسي واقتصادي وأمني في العديد من المناطق الإفريقية- وفاعلين جدد يلعبون أدورًا اقتصادية واستثمارية مهمة في القارة، مثل الصين من خلال مشروعها المعروف بـ"مبادرة الحزام والطريق"، بالإضافة إلى تركيا والهند وإيران وغيرها، فضلًا عن عودة أو ظهور الفاعل الروسي في الأعوام الأخيرة في بعض الدول (ليبيا والسودان وإفريقيا الوسطى)، حيث تتنافس وتتصارع هذه القوى على الأسواق الإفريقية، والثروات والموارد الطبيعية الهائلة. يضاف إلى ذلك الموقع الجغرافي لإفريقيا، والذي يجعل منها قارة ذات أهمية استراتيجية خاصة، حيث تحتوي على مضايق مهمة ورئيسة في طرق الملاحة الدولية؛ إذ تعتبر ثاني أكبر القارات مساحة وامتدادًا جغرافيًّا، وهو ما يفسر استراتيجيات بعض الدول المتنافسة لبناء قواعد عسكرية برية وبحرية بمناطق حيوية مختلفة داخل القارة.
وللوقوف على طبيعة هذا التنافس الدولي المحتدم في إفريقيا وفهم دوافعه وأطرافه وأبعاده، واستشراف مستقبله في ظل اختلاف الاستراتيجيات وتناقضها بين الفاعلين التقليديين والفاعلين الجدد، نظَّم مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر مؤتمرًا بحثيًّا عن بُعد، بعنوان "التنافس الدولي في إفريقيا.. دوافعه وأطرافه وأبعاده"، يومي 14-15 يوليو/تموز 2021، شارك فيه نخبة من الباحثين والخبراء والأكاديميين المتخصصين في الشأن الإفريقي والدولي. وركز في جلساته النقاشية الأربع على "دوافع التنافس الدولي في إفريقيا"، و"الأطراف المتنافسة واستراتيجياتها المختلفة"، و"الثابت والمتحول في التنافس الدولي بالقارة الإفريقية"، و"مستقبل الصراع والتنافس الدولي في إفريقيا".
1. دوافع التنافس الدولي في إفريقيا
أ- أهمية الموقع الجغرافي في صراع النفوذ الدولي
يبدو الموقع الجغرافي الاستراتيجي للقارة الإفريقية عاملًا أساسيًّا مُفسِّرًا للتنافس الدولي بين القوى الكبرى والقوى الصاعدة، كما يوضح الباحث في مركز الصومال للدراسات، عبد الله راغي. فإفريقيا هي القارة الوحيدة التي تتمتع بتواصل مباشر مع كل القارات، حيث نجد أميركا الشمالية وأميركا اللاتينية من جهة الغرب، ثم أوروبا من جهة الشمال، ثم آسيا -وخصوصًا الشرق الأوسط والمنطقة العربية- من الشمال الشرقي، ثم أستراليا من الجنوب الشرقي. لذلك تمثِّل إفريقيا حلقة أو نقطة وصل بين القارات عبر المحيطات والجزر الواقعة على البحر المتوسط. كما أن القارة الإفريقية لا تزال من المناطق التي لم تتم الاستفادة من مواردها الأساسية، خاصة البشرية وثرواتها الطبيعية، بشكل كاف. فهي تتوفر على ثروات معدنية هائلة (الذهب والنحاس واليورانيوم...) وأيضًا النفط والغاز، فضلًا عن الثروة الحيوانية والمناطق الصالحة للزراعة.
إضافة إلى هذين البعدين، وهما التواصل مع العالم والثروات الطبيعية والبشرية، أصبحت إفريقيا في الآونة الأخيرة سوقًا كبيرة للمنتجات الخارجية، خصوصًا المنتجات التي ترد إليها من جنوب شرق آسيا (الصين ودول أخرى). وهذا ما يُفسِّر، في نظر الباحث راغي، تحوَّل إفريقيا إلى منطقة صراع نفوذ بين الدول التي تتنافس على الهيمنة الاقتصادية والسياسية. فإفريقيا تمثِّل اليوم محطة أساسية لمشروع الصين (الحزام والطريق) الذي يُراد له أن يجعل العالم مرتبطًا بالصين بشكل أساسي، وترى أميركا في هذا المشروع خطرًا على هيمنتها الاقتصادية والمالية في العالم. لذلك أصبحت إفريقيا منطقة صراع بين الإرادة الأميركية والإرادة الصينية، بل إن صراعات العالم تُعبِّر عن نفسها في الساحة الإفريقية مثلما هو الشأن بالنسبة للصراع التركي-الفرنسي، الذي يُعبِّر عن نفسه في شمال وغرب إفريقيا.
ويرى الباحث راغي أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي للقارة الإفريقية كان سببًا في المعاناة التي تعيشها دول المنطقة، حيث فشل معظمها في إنتاج نموذج تنموي قادر على استيعاب الشعوب الإفريقية. فمثلًا، "تُعد دولة جيبوتي، الواقعة في منطقة القرن الإفريقي، نموذجًا مختصرًا وصورة شديدة الكثافة للمشكلة الإفريقية، أو الصراع والتنافس الدولي حول إفريقيا؛ حيث نجد دولة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها المليون، لكنها تستضيف ما يقرب من 10 قواعد عسكرية لدول استعمارية سابقة".
وتحتضن منطقة القرن الإفريقي وحدها حوالي 20 قاعدة عسكرية لم تستطع الاستفادة منها؛ إذ تشترك دولها في مشاكل أساسية، وتواجه حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار الداخلي (أزمة إعادة بناء الدولة في الصومال، والحرب في إثيوبيا، والفقر والتفاوت الطبقي في جيبوتي وكينيا، والحرب القبلية في جنوب السودان، وأزمة السلطة والشرعية في السودان). يضاف إلى ذلك غياب التنمية. فالأفارقة- بحسب الباحث راغي- خسروا ثرواتهم وموقعهم الاستراتيجي وخسروا أيضًا سيادتهم.
وقد فشلت المنظمات والتجمعات الإفريقية (الإيغاد والإيكواس واتحاد المغرب العربي...) بدورها في إدارة الصراعات والخلافات بين الدول الأعضاء، مثل أزمة سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا. وهناك أيضًا النزاع البحري بين الصومال وكينيا، وأزمة الحدود بين جيبوتي وإريتريا وهلم جرا. كما لم يستطع الاتحاد الإفريقي -بحسب الباحث راغي- حلَّ الأزمات بين الدول داخل الأطر الإفريقية، إقليمية كانت أم قارية. كما تواجه دول القارة أزمة شرعية السلطة والديمقراطية وتعثر الاقتصاد والتنمية، وكل هذه الإشكاليات الإقليمية تتداخل مع الصراعات الدولية بصورة أو أخرى. لذلك لن تتمكن الدول الإفريقية من الاستفادة من موقعها إلا إذا استطاعت أن تحل مشاكلها المتعلقة بالدولة والديمقراطية والتنمية والتعاون الإقليمي وشرعية السلطة داخلها.
ب- الطاقة في إفريقيا واستغلال الموارد الطبيعية لبناء الدولة
تُعد الموارد الطاقية، خاصة البترول والغاز، عاملًا آخر للتنافس الدولي المحتدم بين القوى الكبرى والصاعدة في القارة الإفريقية، إضافة إلى متغير الموقع الاستراتيجي، كما يرى الباحث المتخصص في العلوم السياسية، هارون با. وهذه الموارد الطاقية والثروات المعدنية لا يمكن أن تستغني عنها القوى المتنافسة في أي مجال من مجالات التصنيع وحتى في المجالات المدنية. ومن يسيطر على هذه الطاقة ويستولي على الثروات المعدنية سيتحقق له بعض مراده فيما يخص النفوذ وكذلك السيطرة والهيمنة، لذلك تحاول قوى دولية مختلفة أن تجد لها موطئ قدم في إفريقيا للحصول على هذه الموارد.
ويلاحظ الباحث هارون أن بعض الدول الإفريقية لم تستطع أن توفر لعواصمها الطاقة الكهربائية رغم امتلاكها لهذه الموارد الطاقية الهائلة، ويعزو ذلك إلى تحديات مختلفة ترتبط أساسًا بإشكالية "بناء الدولة" الذي تعيش الشعوب الإفريقية تبعاته إلى اليوم، وهو التحدي الذي يُؤطِّر الحياة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والطاقي. كما تواجه هذه الدول تحديًا آخر يتمثَّل في أزمة التمويل؛ إذ لا تجد الموارد الكافية لتمويل المشاريع في مجال الطاقة، لذلك لا تزال تعيش نوعًا من التعبية للدول الكبرى. وهناك أزمات داخلية، لاسيما الاحتراب والصراع الإثني الذي يُعيق بناء دولة قادرة على الاستفادة من ثرواتها وطاقاتها، ثم هناك سوء التدبير الذي يجعل القارة تخسر حوالي 40% من منتجاتها الزراعية بسبب انعدام الطاقة.
ويتوقع الباحث هارون أن يتغيَّر هذا الواقع في المستقبل، ويربط ذلك بعاملين أساسيين، أولهما: المعطى الديمغرافي؛ إذ تصل نسبة فئة الشباب الإفريقي إلى 65%، ولا يمكن -في نظره- أن يبقى أكثر من ثلثي السكان ساكتًا على قضايا الفساد والرشوة وسوء التدبير وغيرها من المعضلات. ثانيًا: إلحاح المطالب الاجتماعية والحياة الكريمة سيدفعان إلى المطالبة بالإصلاح، وقد ظهر ذلك على مستوى تحديد الولايات الرئاسية للحكم في بعض الدساتير. لكن إذا لم تتجاوز إفريقيا الدولة الموروثة عن حقبة الاستعمار فلا يمكن الحديث عن بناء المستقبل، الذي يتطلَّب قطيعة مع الفساد والنخبة الفاشلة لبناء دولة قادرة على تلبية مطالب شعوبها وتحقيق السيادة.
ج- الثروات المعدنية والاستثمار في النزاعات المحلية
تزخر القارة الإفريقية بالعديد من الثروات المعدنية، وقد حدَّدها الباحث الأكاديمي بجامعة الكويت، إدريس آيات، في الأحجار الكريمة، وأشهرها الياقوت والماس، ثم الذهب والفضة. وتُعد غانا وجنوب إفريقيا والسودان ومالي وبوركينافاسو من أكبر المصدرين للذهب والفضة في إفريقيا. وتستحوذ فرنسا على مناجم كل من مالي وبوركينافاسو، ثم هناك المعادن الاستراتيجية، وأشهرها الكوبالت والكروم، والتي تستخدم في الصناعات العسكرية والتكنولوجية والطبية وغيرها.
ويشير الباحث آيات إلى أن إفريقيا تمثِّل ساحة الاحتياط العالمي من الذهب بحوالي 40%، و60% من الكوبالت، و90% من البلاتين، و50% من الكولتان. وتنتج مدغشقر وحدها حوالي 40% من الياقوت العالمي. ويلاحظ أن الشركات الكبرى للتكنولوجيا دخلت على خط التنافس حول هذه المعادن، خاصة غوغل وفيسبوك وأمازون، مقابل بيتس ومجموعة علي بابا الصينية.
ويثير هذا الاحتياطي العالمي من الثروات المعدنية الإفريقية تنافسًا على مستويين هما: أولًا التنافس بين القوى الكبرى، وثانيًا التنافس بين القوى المحلية التي تحاول أن تعمل في المناجم فيتم استغلال الشركات الكبرى في قضايا النزاعات المحلية. ويلاحظ الباحث أن القوى الآسيوية، مثل الصين والهند، تتعامل مع الحكومات الإفريقية خلافًا للدول الغربية التي تحاول شركاتها الاستثمار في المناجم مع الحكومات المحلية وإنْ لم تجد طريقًا لذلك تتحالف مع قوى سياسية معارضة، وتقوم أحيانًا بتسليحها. وقد أدى الكوبالت مثلًا -بعد ارتفاع سعره- إلى استئناف الاحتراب الداخلي في الكونغو وبوروندي، كما دخلت إسرائيل على الخط في غينيا كوناكري.
ويرى الباحث آيات أن هذا التنافس يظل فرصة جيدة للقارة الإفريقية، لاسيما في ظل عالم يتجه نحو تعدد الأقطاب، لذلك فإن الحكومات الإفريقية الذكية تستطيع أن تستثمر في هذا التنافس الدولي واللعب على التناقضات. كما أن التحوُّل في موازين القوى سيجعل بعض الدول غير راضية عن الوضع وستسعى إلى تغييره مثلما تفعل روسيا والصين وتركيا وإسرائيل وبعض الدول الخليجية.
د- إفريقيا سوق للسلاح حماية لمصالح القوى الكبرى
شكَّلت فرنسا تقليديًّا –إلى جانب بريطانيا- الفاعل الكبير من الناحية العسكرية في القارة الإفريقية. ومع الوقت بدأت فرنسا، كما يشير الباحث بجامعة صباح الدين زعيم في اسطنبول، شادي إبراهيم، تقلِّل من حجم قواعدها وتعتمد على الشركات الأمنية ومجموعة من المليشيات التي تدعمها؛ إذ كانت لديها مئة قاعدة عسكرية، ولا يتجاوز عددها اليوم ست قواعد رئيسية. وقد أدى الاستعمار إلى مشاكل داخل الدول المُسْتَعْمَرَة حول ترسيم الحدود، وهو ما يثير خلافات قبلية بين الشعوب في مناطق النزاع والصراع. وتستثمر الدول الاستعمارية تلك الخلافات في تعظيم مصالحها والهيمنة على الموارد الموجودة في كل دولة.
ووفقًا لبعض التقارير، تتصدر روسيا قائمة الدول المصدرة للأسلحة إلى إفريقيا. فقد بلغت صادراتها 7 مليار دولار في عام 2000، وتبلغ حاليًّا 16 مليار دولار، أما فرنسا فانتقلت صادراتها من 4 مليار إلى 8 مليار دولار حاليًّا، بينما يبلغ متوسط صادرات أميركا من الأسلحة بين 4 و5 مليار سنويًّا. وتُصدِّر الصين ما قيمته مليار دولار، كما أن بعض الدول تدعم المتمردين من خلال الشركات الأمنية الخاصة. ويضيف الباحث إبراهيم أن بعض هذه الدول لا يُصدِّر الأسلحة للقارة الإفريقية باعتبارها سوقًا للسلاح، وإنما يستخدمها ساحة لتجريب الأسلحة، مثلما حصل في الصحراء الجزائرية خلال فترة الاستعمار الفرنسي. ويرى أن هدف هذه الدول هو التحكُّم في المناجم ومنابع النفط وخدمة الشركات الكبرى. فالصين نفسها لا تتحرَّك بهدف تنمية الدول، وإنما من أجل مصالحها الاستراتيجية في القارة الإفريقية. كما يتم استخدام الشركات الأمنية والعسكرية التي يصل عددها حوالي خمسين شركة لحماية الأنظمة التي تدعمها سياسيًّا وتوفر لها غطاء شبه شرعي في الاستيلاء على الموارد الرئيسية. وهذا ما يُفسِّر الاضطرابات والانقلابات التي تعيشها المنطقة كما حدث في تشاد ومالي. لذلك فمسألة حقوق الإنسان موضوع للاستهلاك الإعلامي، لأن التنافس الحقيقي بين القوى الدولية هو حول موارد القارة وثرواتها.
وخلافًا لما ذكره الباحث إدريس آيات، فإن "التنافس الدولي الراهن ليس جيدًا"، في نظر الباحث شادي إبراهيم، لأن المتغير الحاكم لهذا التنافس هو الصراع والهيمنة وليس التعاون والشراكة، لذلك فهو "تنافس غير محمود، لأن من يدفع الضريبة في النهاية هم شعوب القارة، حيث يُقتَل الملايين من البشر ويُهجَّر الآلاف من المدنيين في ظل أنظمة انقلابية تحت هيمنة الدول الاستعمارية السابقة".
2. الأطراف المتنافسة واستراتيجياتها المختلفة
أ- فرنسا والإرث الاستعماري لاستنزاف الثروات
يتأسس النفوذ الاستعماري لفرنسا في إفريقيا على أبعاد متعددة في الزمان والمكان، كما يشير مدير مركز إفريقيا للدراسات والخدمات الإعلامية بموريتانيا، محمد سالم ولد أعمر. وقد امتد هذا الاحتلال لأجزاء واسعة من القارة الإفريقية لمدة تزيد عن ثلاثة قرون، وهو ما مكَّن فرنسا من تركيز وجودها وتأثيرها ونفوذها وترسيخ قواعدها، وحتى صناعة وجدان داعم ومتناغم مع السياسات الفرنسية. وتمكَّنت أيضًا -يضيف ولد أعمر- من استغلال خيرات إفريقيا ونهب ثرواتها وإعادة تشكيل هوياتها وصناعة نخب تحكم نيابة عنها في إفريقيا. كما صنعت مشهد ما بعد الاستقلال؛ إذ إن معظم الأنظمة ليست سوى وجه آخر من أوجه الاحتلال الفرنسي، بل كان بعضها أكثر خدمة لفرنسا من الاستعمار نفسه، وأكثر بشاعة في التعامل مع مطامح شعوبه وآماله. كما رعت فرنسا الانقلابات العسكرية في القارة التي شهدت أكثر من مئتي انقلاب، فكانت، على سبيل المثال، راعية للانقلاب الذي أطاح بالرئيس الموريتاني المختار ولد دداه، في 10 يوليو/تموز 1978، ثم التخطيط للانقلاب الذي أطاح أيضًا بالرئيس محمد خونا ولد هيدالة، في ديسمبر/كانون الأول 1984.
ويمثِّل البعد الفرنكفوني – بحسب مدير مركز إفريقيا للدراسات والخدمات الإعلامية- جزءًا أساسيًّا من أسلحة فرنسا والاستعمار الفرنسي لاحتلال العقول والوجدان والعقائد بالتوازي مع احتلاله للبلدان والتحكُّم في ثرواتها. ويرى أن هذا البعد كان وبالًا على الدول الفرنكوفونية التي تُعد أكثر البلدان بؤسًا ثقافيًّا وانهيارًا في التعليم، لكن فرنسا تواجه اليوم منافسة من قبل الثقافة الأنغلوساكسونية، وظاهرة الاستعراب في إفريقيا، وإنْ كانت لا تحظى باهتمام الدول العربية. ويلاحظ ولد أعمر أن النفوذ الفرنسي في إفريقيا يتآكل، لكنه ليس ضعيفًا كما أنه ليس وشيك الزوال؛ إذ تتعامل السياسة الفرنسية مع إفريقيا باعتبارها منجمًا للثروات وشعوبًا قاصرة تُحدد لها سقفًا للديمقراطية لا يمكن تجاوزه.
ب- أميركا والأولوية الأمنية في إفريقيا لخدمة المصالح الإسرائيلية
يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة البليدة 2، نسيم بهلول، أن مناورات "الأسد الإفريقي 21" لا يمكن قراءتها خارج المدرك الاستراتيجي الأميركي، وموضوع تأمين مسارات واتجاهات النظرة الأميركية لأمن المنطقة، "لذلك لا تنفصل تلك المناورات عن التصور الصهيوني، حسب اعتقاده، فالولايات المتحدة هي الظل الصهيوني في المنطقة". كما تدخل هذه التدريبات في صميم الاستراتيجية الأميركية لقياس وجس نبض الجاهزية العسكرية مع ضرورة تجهيز سواعد أميركية بقفازات إفريقية. ويتوقع أن تكون لمناورات "الأسد الإفريقي 22"، التي ينتظر أن تجري في تونس، تأثيرات على مسارات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية الإفريقية. وقد تعرف إسرائيل أيضًا تحولًا استراتيجيًّا من الانخراط في أجندة القيادة الأميركية الوسطى إلى الانخراط في القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا، وهو ما سيفتح لإسرائيل هامشًا من المناورة ومراقبة منطقة شمال إفريقيا، الأمر الذي قد يُربِك الاستقرار الاستراتيجي في إفريقيا.
ويرى الأكاديمي بهلول أن التدخلات الأميركية والروسية في القارة الإفريقية قسَّمت إفريقيا إلى فسطاطين: فسطاط أميركي، وفسطاط روسي، بدل أن تكون هذه التدخلات مبنية على الشراكة. وهنا، يشير الباحث مرة أخرى إلى انخراط المغرب والسنغال في مناورات الأسد الإفريقي، ويعتبر أميركا بوابة أمامية للغرفة الخلفية الإسرائيلية بحكم العلاقات القديمة جدًّا بين المغرب والسنغال. كما أن المغرب يعتقد أن انخراطه في هذه المناورات يضيف قيمة نوعية على التوازن الاستراتيجي لصالحه.
ج- إفريقيا خزان استراتيجي للمواد الأولية للصين وشبح إعادة إنتاج الاستعمار
تُركِّز استراتيجية الصين على تأمين الحصول على الموارد الطبيعية، وإعادة تدوير احتياطاتها من النقد الأجنبي في استثمارات مربحة في الخارج، وتسهيل تطوير الشركات متعددة الجنسية، والعثور على أسواق جديدة، والتنمية الزراعية بإفريقيا لتصديرها إلى الصين. ويرى الباحث في القضايا الجيوسياسية والعلاقات الدولية، مصطفى الجالي، أن موضوع الموارد الأولية يمثِّل أولوية في الاستراتيجية الصينية؛ إذ تشير التقارير إلى أن الصين من أكبر مستوردي المواد الخام في العالم، وتشكِّل وارداتها من إفريقيا ما يناهز 80% لتلبية احتياجات السوق الداخلية وكذلك للحفاظ على النمو الاقتصادي والمساهمة في الصعود الجيوسياسي والجيواقتصادي على المستوى الإقليمي والدولي.
كما تُعد الصين من أكبر مستهلكي النفط بعد الولايات المتحدة، وفي غضون عام 2030 ستستهلك الصين 13 مليون برميل يوميًّا، وتناهز وارداتها من النفط ما يقارب 30% من المخزون الإفريقي لبلدان مثل أنغولا ونيجريا والسودان. لذلك تعزز الصين -بحسب الباحث الجالي- وجودها في هذه الدول لتنويع المصادر والكشف عن مناطق جديدة لاستخراج النفط واستغلاله. كما تستحوذ على الموارد المعدنية والمنجمية (الكوبالت والنحاس والألومينيوم) لأهميتها الاقتصادية في القطاعات التكنولوجية، مثل السيارات والأجهزة الإلكترونية. ففي العام 2013 كانت الصين تستحوذ على 1 أو 2% من الموارد الطبيعية الإفريقية، أما اليوم فإنها تستحوذ على ما يقارب 20% من مخزون الموارد الطبيعية الإفريقية. وتجد الصين منافسة حادة من القوى الكبرى (خاصة أميركا وأوروبا) على استخراج واستغلال هذه المواد نظرًا لاستثماراتها الكبيرة التي تعود للحقبة الاستعمارية. كما أصبحت إفريقيا مجالًا حيويًّا للصين في قطاع الزراعة من أجل أمنها الغذائي، لذلك تشتري الأراضي لاستغلالها في تلبية احتياجاتها الغذائية.
وتحاول الصين -بحسب الباحث الجالي- أن تُقدِّم نفسها باعتبارها أكبر دولة نامية في العالم. فقد استطاعت أن تُحقق التنمية لشعبها، كما قادت ثورة اقتصادية وصناعية كبرى. وتركز في توسيع نفوذها على عنصر الثقة لجذب الأفارقة، وتبني أيضًا سياستها باعتماد معادلة البنية التحتية التي تشمل بناء المطارات والسدود والموانئ والطرق، وتقديم المساعدات للدول الإفريقية مقابل المواد الخام والموارد الطبيعية التي تحصل عليها، إضافة إلى القروض التفضيلية والمنح والإعفاء من الديون في بعض الأحيان والمشاريع التجارية والاقتصادية والمساعدات المالية المباشرة. وفي تقييمه لحصيلة الشراكة مع الصين، يُقدِّم الباحث الجالي مؤشرات تُظهِر تطور العلاقات التجارية بين الطرفين؛ حيث وصل التبادل التجاري في العام 2020 إلى ما يناهز 187 مليار دولار. وقد حافظت الصين على تقدمها باعتبارها أكبر شريك تجاري لإفريقيا للمرة 12 على التوالي، وعززت استثماراتها وشراكاتها مع 47 دولة إفريقية؛ إذ تعتمد الصين في بناء علاقاتها التجارية على مبدأ "رابح رابح" والتركيز على عامل الثقة.
ولئن أسهمت هذه السياسة في استفادة الجانبين من بعضهما البعض، إلا أن الكفة تميل للصين، بل هناك تأثيرات سلبية كما يرى عدد من الباحثين في العلاقات الصينية-الإفريقية على القارة، حيث توجد الصين في المناطق التي تعتبر خزانًا للمواد الأولية، في حين أن حضورها نسبي في الناطق الفقيرة. كما أن اعتماد الصين على الموارد الأولية للقارة يُعيد إنتاج العلاقة مع المُسْتَعْمِر السابق، بالإضافة إلى مشكلة الديون التي تخلق وضعًا صعبًا لدول القارة.
د- روسيا وعودة النفوذ الجيوسياسي العالمي
يرى الخبير في الشؤون العسكرية والأمنية، تاج السر عبد الله محمد عمر، أن روسيا تعمل على بناء نفوذ جديد في القارة الإفريقية، لكن ليست له استراتيجية واضحة، وهو يتم من خلال البوابة الصينية بشكل غير واضح، أو بشكل خفي فيما يخص القرن الإفريقي. كما تنسق مع الصين بشكل واضح في البلطيق والبحر الصيني. ولا ترغب روسيا في منافسات شرسة، أو مواجهة مع النفوذ الأميركي في المنطقة، وتُنْشِئ قواعد عسكرية لكنها ليست مثل القواعد الأميركية والفرنسية. ويلاحظ محمد عمر أن هناك عددًا من الدول تتوجس من الوجود الروسي، لأن التجربة الروسية في سوريا كانت عنيفة وهدَّامة، لافتًا إلى الاتفاق الذي أبرمته روسيا مع إثيوبيا من أجل تطوير القوات المسلحة الإثيوبية، خاصة بعد الصراع المسلح الذي عاشته البلاد إثر أزمة إقليم تيغراي.
كما أن النفوذ الروسي -يوضح محمد عمر- يمتد في شكله العسكري إلى إريتريا التي ليست لها ولاءات؛ إذ يمكنها أن تتعامل مع المحور الأميركي والروسي والإماراتي، لذلك فهو محفوف بالمخاطر، حيث يمكن لإريتريا أن تنقضه في أي وقت. وتحاول روسيا بالتعاون مع الصين خلق محور يتوازن مع الولايات المتحدة حتى لا تظل قطبًا أحاديًّا، كما تحاول التغلغل في البحر الأحمر لكي تحمي وجودها في سوريا، لأن هذا الوجود أصبح مكشوفًا، خاصة إذا ما تحركت الولايات المتحدة التي تنفتح اليوم على السودان.
ويرى محمد عمر أن النفوذ الروسي قد يتطور بتطور الوجود الصيني، حيث تُعد بيجين المستثمر الأول في إفريقيا، وخاصة في إثيوبيا، معتمدة عل البعد الاقتصادي. كما أن روسيا يمكن أن تعتمد على المعادن، لكن شركاتها لها خلفية عسكرية مخابراتية، وهذا ما يُؤرِّق الدول الإفريقية.
3. الثابت والمتحول في التنافس الدولي في إفريقيا
أ- الدول الغربية وإفريقيا: شراكات مشروطة
يلاحظ مدير المركز الليبي للبحوث والتنمية، السنوسي بسيكري، أن العلاقات الأوروبية-الإفريقية والاتفاقات السياسية والاقتصادية بين الطرفين كانت تعكس دائمًا الرؤية الأوروبية، حيث إن تأطير هذه العلاقة يتم بمبادرة وتوجه أوروبي، لأن الاتحاد الأوروبي يعتقد فيما يُسميه "القارة الأخت"، وهي مجال استراتيجي حيوي اقتصاديًّا وأمنيًّا. وقد زاد القلق الأوروبي على مصالحه بعد الزحف الصيني الكبير والخلاف الأميركي-الصيني في الحرب التجارية بينهما.
ويشير بسيكري إلى أن روح الاستراتيجية الأوروبية التي طُرحت على الأفارقة، تم اعتُمدت لتصبح الاستراتيجية المشتركة، كانت ذات بُعْدٍ سياسي وأمني واقتصادي يقترب من المصالح الأوروبية. فالأولويات الخمس التي جاءت بها الاستراتيجية الأوروبية تركز على السلم والأمن، والديمقراطية والحكم الرشيد، وحقوق الإنسان، والتنمية المستدامة، والتغير المناخي. ولئن كانت هذه القضايا حيوية، فإنها لا تمثِّل أولوية أساسية في سلّم الأولويات الإفريقية في ظل حالة الفقر المدقع الذي يعاني منه ملايين الأفارقة، والوضع المؤسساتي الهش، وظاهرة الفساد.
وعندما نراجع هذه الاستراتيجية والشراكة وخارطة الطريق، يقول بسيكري، نجد أن تعزيز التجارة وتنميتها لِتُشَكِّل رافدًا للاتحاد الأوروبي، أخذت مجالًا حيويًّا في تطبيقات الاستراتيجية وخارطة الطريق. وقد طُرِحَت بالأساس لاحتواء الزحف الصيني والسياسة الأميركية والتدخل الروسي وأطراف أخرى صاعدة. لقد كان الهدف من الاستراتيجية وخارطة الطريق -بحسب بسيكري- هو الخوف من الأضرار التي قد تمس المصالح الأوروبية، ما دفع إلى حمايتها عبر هذه المقاربات. ولعل ما يؤكد ذلك أن تركيبة التبادل التجاري بين القارة والاتحاد الإفريقي لم يطرأ عليها أي تغيير نوعي رغم مرور 15 عامًا على الشراكة.
ويرى مدير المركز الليبي للبحوث والتنمية أن المجتمع المدني الواسع في القارة، إذا سُمِح له بالعمل والتعبير عن وجوده، سيشكِّل ضغطًا على صنّاع القرار الأفارقة لتهذيب المطالب الأوروبية في الشراكات التي طُرِحَت؛ إذ كلما تعزَّز دور المجتمع المدني، انتقلت الدول الإفريقية إلى مستوى من الديمقراطية الذاتية والحوكمة، وكلما ارتفع مستوى الاندماج بين الدول الإفريقية حققت إفريقيا مصالحها وقلَّلت من الضغوط الواقعة عليها من القوى الكبرى التي تبحث عن مصالحها الأمنية والاقتصادية قبل كل شيء.
ب- الصين والشراكات غير المقيدة
ينظر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ورقلة بالجزائر، بوحنية قوي، إلى الصين باعتبارها فاعلًا مؤثرًا في القارة الإفريقية تمضي وفق التدرج الناعم، أو الصعود السلمي الناعم، الذي يرتكز على مجموعة من المحاور ترتبط بأساس أمني. كما تعتمد على القدرات الذاتية والصبر والانفتاح وعدم تعريض أي دولة للخطر، وهو ما يجعل الصين تعمل في إطار مريح. ويرى أن بيجين تتمدد في إفريقيا وفق منظور اقتصادي أكثر من المنظور الأمني، لكن هناك قوات الإفريكوم التي تشتغل في هذا الأساس، بجانب قوى -يُسمِّيها قوي- "تحت دولتية"، وهي الشركات الأمنية متعددة الجنسيات التي تستحوذ الولايات المتحدة الأميركية على النصيب الأكبر منها، إضافة إلى فرنسا وبريطانيا وروسيا، ثم الصين التي لم تستطع أن تتمدد في هذه الفجوات الأمنية التي تسيطر عليها القوى التاريخية.
ويُحدِّد الأكاديمي بوحنية قوي الرؤية التي تنطلق منها الصين في التعامل مع إفريقيا على أساس أربع مصفوفات، أولًا: تعزيز الصورة الدولية للصين ونفوذها السياسي، ثانيًا: محاولة عزل تايوان والحيلولة دون اعتراف الدول الإفريقية باستقلالها. ثالثًا: التقاطع بين الصين وإفريقيا في مسألة عدم التدخل في شؤون الآخرين وحلحلة المشاكل بالطرق السلمية. رابعًا: دعم الشركاء الاقتصاديين في إفريقيا.
ويشير إلى بعض المؤشرات التي تؤسس للمنظور الصيني الاقتصادي في علاقته بالقارة الإفريقية؛ حيث تضاعف التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا أكثر من مئتي مرة بين 1978 و2017 ليبلغ 170 مليار دولار بعد أن كان في حدود 765 مليون دولار. كما أن هناك أكثر من ثلاثة آلاف شركة صينية تنشط في إفريقيا، وأكثر من محطة لتوليد الطاقة في 40 دولة إفريقية. لذلك تمضي الصين بخطوات متدرجة وواثقة في الاستثمار بإفريقيا، وتُقدِّم مقاربة تشبيكية متكاملة يجتمع فيها الجانب الاقتصادي والعسكري والثقافي الذي شكَّل رافعة أيديولوجية على مدار أكثر من 40 سنة، وهو ما تعوِّل عليه الصين في دبلوماسيتها الناعمة بإفريقيا.
ويختلف الباحثون، يقول الأكاديمي قوي، حول الحضور الصيني في القارة؛ إذ هناك من يعتبره استعمارًا صامتًا وهادئًا، وسيأتي يوم ليرى النور وينفجر. فالصين تتحدث لغة فوق الطاولة وأخرى تحتها كما هو الحال بالنسبة للرؤية الأميركية المحافظة التي ترى في الصين خطرًا محدقًا ودائمًا وليس شريكًا يجب التعاطي معه. ويرى أن العلاقة بين الصين والقارة الإفريقية يجب أن تقوم على "الاستقلال المتكافل"، أو "الاعتماد المتبادل"، باعتبار المصالح المتبادلة بينهما.
ج- روسيا.. إفريقيا حديقة خلفية لصراعها مع الغرب
يرى الباحث الإعلامي في شؤون تنزانيا وشرق إفريقيا، شمسان عوض التميمي، أن التحركات الروسية تنشط حاليًّا في الجانب الأمني والدفاعي بشكل أكبر، وهذا ما يُفسِّر توقيع روسيا لاتفاقيات مع أكثر من ثلاثين بلدًا إفريقيًّا ستعمل على تفعيلها في إطار رابطة التجارة والتعاون الاقتصادي الروسي مع الدول الإفريقية، التي أُنشئِت خصيصًا لهذا الأمر. كما تخطط موسكو عبر تحركاتها المستقبلية لتوسيع نطاق نفوذها عبر قوتها البحرية في البحر الأحمر، مثل مشروع إنشاء قاعدة بحرية في ميناء بورتسودان، لأنها تسعى إلى التمركز بالقرب من مسرح العمليات في ليبيا وشرق المتوسط وتعزيز علاقاتها التجارية مع السودان ودول المنطقة لحماية استثماراتها وتعزيز مصداقيتها كحصن للأمن ضد تهديدات الأمن البحري في البحر الأحمر والمحيط الهندي، واستعادة قوة أسطولها البحري في البحر الأحمر.
ويرى التميمي أن ما يجري حاليًّا بين القوى الغربية وموسكو في القارة الإفريقية هو شبة إعادة للحرب الباردة، الأمر الذي ينذر بأن الفترة المقبلة ستسفر عن صراع بين القوى العظمى في إفريقيا. وستسعى بعض القوى إلى المحافظة على مناطق نفوذها، وستحاول دول أخرى الحصول على مناطق نفوذ جديدة.
د- قوى جديدة على خط التنافس في إفريقيا
برز خلال العقدين الأخيرين فاعلون متعددون في الساحة الإفريقية، وهنا يشير الباحث بمركز البحوث الإنسانية والاجتماعية في تركيا، سرحات أوراكجي، إلى تركيا التي أصبحت لاعبًا مهمًّا في القارة الإفريقية منذ العام 2005. ويعزو هذا الحضور إلى التقارب الجغرافي بين تركيا والقارة الإفريقية، ثم النمو الديمغرافي المتشابه بينهما.
وقد ارتكزت الرؤية التركية -بحسب أوراكجي- على تعزيز العلاقات مع الدول الإفريقية من خلال افتتاح عدد من السفارات. وتدعم وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، التي تقوم بأنشطتها عبر 32 مكتبًا في القارة الإفريقية، هذا الجهد من خلال تقديم المساعدات. كما تحاول تركيا دعم التدابير التنموية، فهي تدير واحدًا من أكبر المستشفيات في القرن الإفريقي بمقديشو، ومستشفى دارفور الإقليمي، ومستشفى في ليبيا. كما أن لتركيا 45 مجلسًا اقتصاديًّا في القارة الإفريقية تُعنى أساسًا بالاستثمارات. وقد ازداد حجم التجارة التركية مع دول القارة من 3 مليارات دولار في 2003 إلى 26 مليار دولار في 2020.
ويرى الباحث أوراكجي أن التنافس الدولي على القارة والصراع على موقعها الاستراتيجي يضع ضغوطًا على إفريقيا والأفارقة، وهذا يخلق بعض الأضرار البيئية، وانتهاكات حقوق الانسان، وعَسْكَرَة المنطقة. لذلك فإن التنافس الدولي لن يكون جيدًا بالنسبة لإفريقيا، أما التعاون والتنسيق فيصبح مبدأ مهمًّا، ويعتبر تركيا شريكًا استراتيجيًّا للقارة الإفريقية.
4. مستقبل التنافس الدولي في إفريقيا
أ- الأمن بإفريقيا في استراتيجيات القوى العالمية
بدأ الاهتمام الأمني الدولي بإفريقيا مبكرًا في سياقات مختلفة، كما يلاحظ الأستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، نبيل زكاوي. لكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول أصبحت إفريقيا في خط المواجهة أمام الحرب الدولية على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة إثر ظهور جماعات متطرفة؛ حيث برزت المخاوف من تحويل القارة إلى ملاذات آمنة وساحات عمل للجماعات المتشددة. وفي السنوات الأخيرة شرعت القوى الكبرى في الاستدارة نحو القارة الإفريقية، فاجتذبت البلدان الإفريقية ذات الموارد الطبيعة قدرًا كبيرًا من الاهتمام الدولي. ويرى الأكاديمي زكاوي أن التحوُّل نحو إفريقيا تحركه المصالح الاستراتيجية المادية للقوى الكبرى، لذلك فإن اهتمامها بأمن القارة هو من باب إيجاد السياق الآمن لحماية تلك المصالح. لذلك، فإن ارتفاع الطلب على الأمن الإفريقي لا يهدف إلى إشباع الاحتياجات الاجتماعية للشعوب الإفريقية بل حماية المصالح الأجنبية.
في هذا الإطار يُفهم المنظور الأميركي للأمن الإفريقي -بحسب الأستاذ زكاوي- فهو يقوم على نهج شامل يُدمج المخاوف التقليدية المرتبطة بالإرهاب وإمدادات النفط بمجموعة من الانشغالات في سياق ما يسمى بـ"الأمن الجديد" كالاتجار بالبشر والمخدرات. أما بالنسبة إلى الجانب الأوروبي، بالرغم من كونه المتدخل العسكري الأكثر نشاطًا في القارة الإفريقية، فهو يظل أهم مزوّد للقارة الإفريقية بالمساعدات التنموية.
ويرى الأكاديمي زكاوي أن التحديات الأمنية التي تواجه القارة تتمثَّل أساسًا في التنافس الدولي من خلال الصراع على الموانئ التجارية، ومحاولات كسب النفوذ الذي تمارسه القوى الدولية، وهو ما يُسهم في تعميق الاختراق الذي يتحوَّل إلى حالة من الانكشاف الأمني. إلى جانب ذلك، هناك تحديات إقليمية بين دول القارة نفسها بسبب النزاعات الحدودية وغيرها. كما تعتبر السياسات المائية في منطقة حوض النيل مصدرًا للتهديدات الأمنية مع احتمال نشوء مواجهات مسلحة بين الدول حول الخلاف على استخدام مياه النيل. وهناك معضلة القرصنة التي تهدد حركة الملاحة في منطقة القرن الإفريقي. وثمة أيضًا التحديات المحلية، وفي مقدمتها التشظي الهوياتي للمجتمعات الإفريقية، ومعضلة الحروب الأهلية التي تحفزها العوامل الإثنية أو الدينية، ثم هناك تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تفرز ظاهرة الدول الهشة غير القادرة على بسط سيادتها على إقليمها.
ويتطلب إصلاح القطاع الأمني في إفريقيا -بحسب الأكاديمي زكاوي- شراكة عادلة بين إفريقيا والدول الخارجية، وخاصة الغربية، وهي شراكة تأخذ بعين الاعتبار المصالح الوطنية للدول الإفريقية، وفي غياب ذلك، يبقى مبدأ الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية هو الأنسب. في هذا الإطار، ينبغي إيجاد منظومة إقليمية فعالة لضمان أمن الدول الإفريقية لتكون قادرة على دعم الجهود المحلية لحماية الأمن.
ب- آفاق النفوذ الفرنسي في إفريقيا
يعزو الكاتب والمحلل السياسي المتخصص في شؤون الساحل والصحراء، إسماعيل الشيخ سيديا، ما يعتبره "انهيار النفوذ الفرنسي" في القارة الإفريقية إلى عاملين اثنين، أولًا: فشل القوات الفرنسية، وخاصة قوات برخان، في مهمتها، ما أدى إلى تناسل الجماعات المتطرفة في الساحل وانتشارها جغرافيًّا. ثم إن الخاصرة الرخوة في شمال إفريقيا (ليبيا) تم تفتيتها بقيادة فرنسية، وحيثما كان هناك تدخل فرنسي ثمة تدخل عسكري روسي إما عن طريق الشركات الأمنية أو الاتفاقيات العسكرية. ثانيًا: دعمت فرنسا بشكل واضح منذ العام 1962 المقترح الذي قدَّمه جاك فوكار للجنرال شارل ديغول، ومنذ ذلك الحين بدأت في دعم الانقلابات العسكرية والديكتاتوريات وكأن حقوق الانسان تهم فقط "الإكزاكون"، على حد تعبير الباحث.
ويلاحظ سيديا أن روسيا بدأت في العام 2006 تدخل إلى القارة الإفريقية من الزاوية الأمنية كما حصل في ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى، وكان السبب الرئيس في ذلك هو انهيار النفوذ الفرنسي. وقد كان لفرنسا 5 آلاف جندي في منطقة الساحل، وتكتيكيًّا ستسحبها في نهاية 2021 وبداية 2022.
وسيكون على فرنسا -بحسب الكاتب سيديا- أن تنزع عن نفسها صفة المُسْتَعْمِر السابق، وأن تتمثَّل دور الشريك لتأمين مصالحها. وستكون مكرهة لأن تتخلى عن قاعدة "آخُذْ أكثر مما أعطي"، وستفك ارتباطها في العام 2027 بالفرنك الإفريقي الذي تستعمله اليوم أكثر من 12 دولة حينما يحلُّ مكانه الإيكو. وستبحث فرنسا عن شركاء غير المستعمرات السابقة، لأن وصمة المُسْتَعْمِر السابق تلاحقها.
ج- هل ستظل إفريقيا تابعة لغيرها؟
يرى الصحفي والباحث في شؤون إثيوبيا والقرن الإفريقي، نور الدين عبدا، أن التحديات التي تواجه القارة الإفريقية (التحدي الاقتصادي والأمني والانفجار السكاني والنزاعات الداخلية والإقليمية) تجعل القيادة الإفريقية أمام خيار ليس سهلًا، إما القبول بالدعم الغربي المشروط سياسيًّا بمواقف وتبعيات على المستوى الدولي والإقليمي، وإما القبول بخيار الدعم الصيني الذي قد يكون أكثر مرارة على الأمد البعيد، خاصة أن الديون الصينية ستثقل كاهل هذه الدول.
وسيحتاج البيت الإفريقي لتجاوز تبعيته للدول الكبرى -بحسب الكاتب عبدا- إلى نوع من الإصلاح الكبير، ومحاولات لمِّ الشمل والاتفاق على أجندة واضحة، مثل السوق الإفريقية المشتركة، ومنطقة التجارة الحرة الإفريقية، وسنِّ تشريعات لتحرير حركة البضائع والمواطنين. ولذلك فإن البديل الأساسي هو تعزيز رؤية "عموم إفريقيا في إفريقيا نفسها".
كما أن تحدي الخروج من الاستعمار القديم -يضيف الكاتب عبدا- ليس يسيرًا، لأنه كان استعمارًا ماديًّا مباشرًا، واليوم هناك صعوبة كبيرة للمجتمعات الإفريقية في تخطي التحديات الاقتصادية والأمنية؛ إذ ليس هناك دعم بدون ثمن. فالدعم الغربي له ثمن سياسي كبير وثمن اقتصادي استراتيجي. كما أن الدعم الصيني قد يكون حلًّا لبعض المشاكل الطارئة في المرحلة الراهنة، خصوصًا في البنية التحتية، لكن يظل مكبلًا بحجم الديون والفساد. لذلك يبقى الرهان على الإمكانات الذاتية هو الحل.
د- نماذج إفريقية واعدة: الفرص والتحديات أمام النماذج الصاعدة
يرى مدير معهد سودان المستقبل للدراسات الدولية، محمد تورشين، أن الدول الإفريقية ليست كتلة واحدة، بل يمكن تقسيمها إلى أربع مجموعات: الأولى يمكن أن تحقق مكاسب كبيرة، لأن لديها سجلًا جيدًا نوعًا ما في حقوق الإنسان وأيضًا مؤشرات جيدة فيما يتعلق بالحوكمة والتداول النسبي على السلطة (جنوب إفريقيا، الجزائر، غانا، السنغال، نيجريا...). ويلاحظ أن التنافس بين القوى الكبرى على ثروات هذه الدول يعرف نوعًا من الندية، حيث لا تستطيع هذه القوى فرض إرادتها على تلك الدول بقدر كبير جدًّا، لأنها تمتلك مساحات للمناورة وفرصًا لاستقلال قرارها السياسي. ويضرب مثلًا لذلك برواندا التي لديها تعاون اقتصادي كبير مع الولايات المتحدة والصين وروسيا ومع دول صاعدة مثل تركيا والهند... وهناك المجموعة الثانية من الدول التي يصعب عليها أن تنفك من المحور الذي تدور في فلكه، مثل: مجموعة الفرنك الإفريقي في شرق وغرب إفريقيا والتي لديها ارتباطات وثيقة وتاريخية مع فرنسا. ثم هناك المجموعة الثالثة، والتي ربما ستشهد تمددًا للنموذج الروسي-الصيني، حيث من المتوقع أن يحدث تعاون استراتيجي بينها في إطار التعاون الاقتصادي وصفقات السلاح وحتى في إطار النفوذ السياسي بين روسيا والصين، بالإضافة إلى تركيا وإيران إلى حد ما (كما يحصل في الكونغو وأنغولا وموزمبيق وزامبيا وزيمبابوي).
أما دول المجموعة الرابعة فهي الدول المتنازع عليها بين القوى التقليدية ممثلة في الولايات المتحدة وفرنسا من جهة، والصين وروسيا من جهة ثانية. وعلى رأس هذه الدول السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد ومالي، والتي يصعب عليها أن تنفك من هذا التنازع والتجاذب لأهميتها الاستراتيجية. ويشير الباحث تورشين إلى النموذج السوداني، حيث تسعى روسيا بكل ما أوتيت من قوة لتثبيت الاتفاق بينها وبين الحكومة السودانية بشأن قاعدة كامينجو في البحر الأحمر، وكذلك الوضع في جمهورية إفريقيا الوسطى.
ويشيد الباحث تورشين بالنموذج الغاني الذي يعتبره من النماذج المشرفة في القارة الإفريقية، حيث نجح في وضع لبنات التحول الديمقراطي؛ إذ تمكنت النخب الغانية من إدارة حوارات سياسية مفتوحة أفضت إلى التوافق على مشروع وطني. كما نجحت كنيا في التحول من نظام الحزب الواحد إلى نظام تعددي يقوم على التداول السلمي على السلطة. وهناك أيضًا تجربة رواندا، إلا أن العامل المشترك في هذه التجارب هو الفساد، حيث يتابع اليوم بعض المسؤولين السابقين في جنوب إفريقيا بسبب ذلك. وتحتاج هذه النماذج إلى إعادة هيكلة وصياغة من أجل مكافحة الفساد، ودعم جهود الحوكمة وتحسين وضع حقوق الإنسان.
ويرى تورشين أن النموذج التونسي يظل أيضًا مهمَّا في سياق الربيع العربي. كما أن الإصلاح السياسي والاقتصادي في إفريقيا يتطلب إرادة ونخبة وطنية تقطع مع عهد التبعية والانقياد للأجنبي، وتطوير نماذج إفريقية تقوم على مبدإ إفريقيا أولًا، والاستفادة من مواردها المحلية، والإيمان بأن السلطة ليست حكرًا على فئة معينة.
ه- العلاقات العربية-الإفريقية ودورها في الحد من التنافس الدولي
أمام احتدام التنافس بين القوى الكبرى والصاعدة في القارة الإفريقية وصراعها على موارد وثروات دول المنطقة، يرى الباحث في الشؤون الإفريقية، محمد المصطفى تين، أن العلاقات العربية-الإفريقية قد تكون عاملًا مهمًّا لخدمة مصالح بلدان القارة، لاسيما أن هذه العلاقات توطدت عبر مراحل تاريخية مختلفة، مثل العلاقات السنغالية-المغربية والعلاقة السنغالية-المصرية. وقد ترسخت هذه العلاقات من خلال العامل الإقليمي (الجغرافي)؛ حيث إن حوالي نصف سكان العرب في قارة إفريقيا، و27% من أراضي البلدان العربية تقع في إفريقيا. ثم هناك العامل الديني، والعامل الثقافي الذي يربط بين الشعوب الإفريقية والعربية، مثل: السنغال والمغرب وكوت ديفوار.
وفي تقييمه للعلاقات العربية، الإفريقية خاصة في غرب إفريقيا، فإنها لم تصل إلى المأمول منها، لذلك يجب أن تتطور -في نظر الباحث تين- أكثر من وضعها الحالي، لاسيما بالنسبة لدول مثل قطر والكويت والسعودية التي كانت لها استثمارات في السنغال وغرب إفريقيا، لكنها تراجعت في السنوات الأخيرة.
ويرى أن العامل الأول لتطوير العلاقات العربية-الإفريقية بالنسبة إلى دول غرب إفريقيا يتمثَّل في تغيير الاتفاقيات الدولية التي لا تخدم مصالح الشعوب الإفريقية، بل إن القارة الإفريقية تضررت في علاقاتها مع القوى الغربية، حيث إن الشركات الفرنسية مثلًا تهيمن على القطاعات الاقتصادية في السنغال وغرب إفريقيا بما في ذلك البترول والغاز.
وفي سياق تأثير الثورات العربية على المشهد الإفريقي، يعتبر الباحث تين أن هذه الثورات كانت لها تأثيرات سلبية مثل ما جرى في ليبيا، لكن في الوقت نفسه كانت لها تأثيرات إيجابية لعل أهمها شعور الشعوب الإفريقية بالرغبة في التخلص من السياسات الفرنسية التي خنقت إفريقيا ودول غرب إفريقيا خاصة، فضلًا عن رفع وعي الشعوب الإفريقية بعدم الانقياد لسياسات رؤساء الدول التابعة لفرنسا.
خلاصة
يتعاظم اهتمام القوى الكبرى والصاعدة بالقارة الإفريقية لاعتبارات كثيرة يحددها الموقع الجغرافي الذي يجعلها قارة ذات أهمية استراتيجية خاصة، حيث تمثِّل نقطة الوصل بين جميع القارات، وتحتوي على مضايق مهمة ورئيسة في طرق الملاحة الدولية، وهو ما يُفسِّر تعدد المبادرات والمشاريع المختلفة التي تطرحها هذه القوى (الحزام والطريق، الاستراتيجية الأوروبية وخارطة الطريق...) من أجل تأمين مصالحها ونفوذها الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري. كما تُعد القارة خزانًا استراتيجيًّا للثروات المعدنية والطاقية وموئلًا للثروة الحيوانية والزراعية. ولعل هذا ما يُفسِّر أيضًا -في جزء كبير منه- التنافس الدولي بين القوى الكبرى والصاعدة في المناطق التي تزخر بهذه الثروات، وانتشار القواعد العسكرية فيها.
وأمام تراجع نفوذ بعض الفاعليين التقليديين في القارة الإفريقية، مثل النفوذ الفرنسي، يزداد حضور فاعلين آخرين مثل الصين وروسيا وتركيا وإيران والهند وغيرها من الدول، وتختلف الرؤى والمقاربات التي تنهجها هذه القوى في التعامل مع القارة، لكن تظل رغبة هؤلاء الفاعلين في تعظيم مواردها هي المحرك الرئيس لسياساتها في توسيع النفوذ، وهو ما يطرح مخاوف بشأن إعادة إنتاج ذات العلاقة مع المُسْتَعْمِر السابق للمنطقة، ونهب خيراتها واستنزاف ثرواتها وإغراقها في الديون والفساد والاحتراب الطائفي والإثني.
لذلك فإن المدخل، في نظر البعض، لحماية المصالح الوطنية للدول الإفريقية هو "الشراكة العادلة" و"الاعتماد المتبادل" و"الاستقلال المتكافل" بين إفريقيا والقوى الدولية، وخاصة الغربية. وفي غياب ذلك يبقى مبدأ الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية هو الأنسب. في هذا الإطار، ينبغي إيجاد منظومة إقليمية فعَّالة لضمان أمن الدول الإفريقية لتكون قادرة على دعم الجهود المحلية لحماية الأمن.كما أن الإصلاح السياسي والاقتصادي في إفريقيا يتطلب الانسلاخ عن نموذج الدولة الموروثة عن حقبة الاستعمار، وتوفُّر إرادة ونخبة وطنية تقطع مع عهد التبعية والانقياد للأجنبي، وتطوير نماذج إفريقية تقوم على مبدإ إفريقيا أولًا، والاستفادة من مواردها المحلية، وإرساء قواعد الحكم الديمقراطي.