نظَّم مركز الجزيرة للدراسات، بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر، مؤتمرًا بحثيًّا، عبر تقنية التواصل المرئي، بعنوان "إفريقيا: تحديات في عالم متغيِّر"، يومي الأربعاء والخميس، 29–30 يونيو/حزيران 2022، شارك فيه نخبة من الباحثين والخبراء المختصين في الشؤون الإفريقية، وأدارها المذيعان بشبكة الجزيرة، روعة أوجيه وسالم المحروقي.
ناقش المؤتمر، الذي استمر على مدار يومين، التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها دول القارة وسبل التعامل معها، ومنها على سبيل المثال: الانقلابات العسكرية التي تزايدت في السنوات الأخيرة وأوجدت حالة من عدم الاستقرار في العديد من بلدان القارة. وكذلك التحديات الاقتصادية؛ سواء الناجمة عن تداعيات فيروس كورونا، أو الحرب الروسية على أوكرانيا. فضلًا عن الأزمات المزمنة التي ما فتئت تعاني منها القارة، وفي مقدمتها: الفساد، والنزاعات الحدودية، وانتشار الجماعات المسلحة، وعدم القدرة على استثمار الموارد الطبيعية والبشرية الكبيرة التي تتمتع بها.
كما ناقش المؤتمر التنافس الدولي المحموم على القارة الإفريقية وما يمكن أن يتمخض عنه من فرص وتحديات. واختتم المؤتمر أعماله بالحديث عن واقع وآفاق العلاقات العربية-الإفريقية والسبل الكفيلة بتعزيزها.
الحذر من سياسة المحاور
خلص المؤتمر إلى أن إفريقيا أمام جملة من التحديات الصعبة، أهمها: حالة الاستقطاب الدولي، وعودة أجواء الحرب الباردة، واشتداد الصراع بين القوى الكبرى على النفوذ والهيمنة والاستحواذ على الثروات وفرض الأجندات بالقوة، ومحاولة تفكيك النظام الدولي القائم على القطبية الواحدة إلى نظام متعدد الأقطاب يكون للصين وروسيا فيه مكان جديد.. وحذروا في هذا الصدد دول وحكومات القارة من الاستقطاب والتحيز لهذا الطرف الدولي أو ذاك، وأكدوا على ضرورة الابتعاد عن سياسة المحاور التي سبق وقسمت العالم إلى معسكرين: شيوعي ورأسمالي. وقال المتحدثون في المؤتمر: إن دول القارة الإفريقية بإمكانها أن تحول هذا الصراع وذلك التنافس إلى فرصة يمكن أن تعود عليها بالنفع، إن عرفت كيف تدير دفة علاقاتها الخارجية بين هذه الأقطاب المتنافسة بما يحقق مصالحها، وإن أحسنت استثمار ما حباها الله به من ثروات وموارد طبيعية وبشرية، ومن موقع إستراتيجي حيوي.
وفي هذا السياق، استعرض المتحدثون في المؤتمر الميزة النسبية لكل طرف من أطراف التنافس الدولي، مثل الصين وروسيا والدول الغربية، وكيفية الاستفادة منه. وأشاروا، فيما يتعلق بروسيا، إلى أن ما تعرضه روسيا من دعم أمني لأنظمة الحكم الإفريقية الموالية لها ليس خدمة مجانية وإنما يعادله في المقابل موالاةً لها ومعاداةً للغرب، وهو ما يضر على المدى البعيد بمصالح إفريقيا وأمنها واستقرارها.
كما أشاروا إلى أهمية الحذر من إسراف الدول الإفريقية في الديون التجارية الصينية، مؤكدين في هذا الصدد على أن لتلك الديون أثمانًا سياسية وأمنية وعسكرية سوف يستبين أثرها مستقبلًا. وشدَّدوا على أهمية الاستفادة من التمويل الصيني في تعزيز البنية التحتية مع الحذر في الوقت نفسه من تحويل تلك الديون إلى أداة للتبعية السياسية، وضرورة أن تكون عمليات إرساء عطاءات المشاريع والصفقات الصينية شفافة وخاضعة للرقابة، منعًا للفساد.
ونبَّه المتحدثون كذلك إلى خطورة الاعتماد كليًّا على روسيا والصين، بسبب النزعة نحو الاستبداد والحكم الشمولي التي تصبغ هاتين الدولتين ومن ثم احتمالية أن تنتقل تلك الصبغة إلى الدول الإفريقية التي تدعمانها، على حدِّ قول المتحدثين.
وعقد المتحدثون مقارنة بين الصين وروسيا من جهة والدول الغربية من جهة أخرى، ورغم أنهم أقرُّوا بازدواجية المعايير الغربية فيما يتعلق بالحرية والديمقراطية ومعايير الحكم الرشيد، فإنهم أكدوا على حاجة الدول الإفريقية الماسة لتلك القيم وأهمية الأخذ بها، بقطع النظر عن مصدرها.
مكانة لإفريقيا في النظام الدولي الجديد
استعرض المؤتمر أوضاع النظام الدولي الراهن وما أصابه من عطب نتيجة تفرُّد الولايات المتحدة الأميركية به عقب انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي، وخلصوا إلى أن العالم يشهد حاليًّا تحركًا نحو نظام متعدد القطبية سيكون لروسيا والصين فيه مكان. وأكدوا في هذا الصدد على أن بإمكان إفريقيا أن تجد لنفسها مكانًا أيضًا، وذلك لما تتمتع به من موقع إستراتيجي ولما تختزنه أرضها من ثروات وموارد، فضلًا عن ثروتها البشرية المتميزة.
وأوضح المؤتمر في هذا السياق أن المطلوب إفريقيًّا ليس الخروج من الوصاية الغربية والارتماء في أحضان الوصاية الروسية أو الصينية؛ فتكون حال دول القارة "كالمستجير من الرمضاء بالنار"، وإنما الاستقلالية، والعمل وفق مصالح الدول والشعوب الإفريقية، وليس مصالح النخب الحاكمة والمتنفذة.
كما أشاروا إلى طبيعة الحروب الراهنة والقادمة باعتبارها لم تعد قاصرة على استخدام الأسلحة والعتاد الحربي فقط وإنما باتت تشتمل على حروب معلوماتية وسيبرانية وعقوبات اقتصادية، وأن على دول القارة امتلاك الأدوات اللازمة للتعامل مع تلك التحديات جميعًا.
وشدَّدوا كذلك على ضرورة أخذ القارة الإفريقية احتياطاتها فيما يتعلق بأزمة الغذاء العالمية التي تلوح بوادرها في الأفق بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية، وفي هذا الصدد أشاروا إلى إمكانية أن تقوم إفريقيا بدور مهم ليس فقط من أجل تجنب المجاعة وإنما لتكون سلة غذاء العالم، وذلك إن أُحسِن استغلال الموارد والإمكانات.
طرق التعامل مع الانقلابات العسكرية
وفيما يتعلق بكيفية تحويل المؤسسات العسكرية الانقلابية إلى مؤسسات مهنية تقوم بمهامها الأساسية في أمن الحدود وتجاوز "المنطق الانقلابي" الذي طالما أضرَّ بالقارة، أشار المتحدثون إلى ضرورة تغيير زاوية نظر تلك المؤسسات لنفسها؛ فهي ليست "مؤسسات أبوية" كما أنها ليست "وصيَّة على الشعب"، وإنما غاية الأمر أنها مؤسسات مهنية، شأنها في ذلك شأن بقية مؤسسات الدولة؛ لها وظائف وأدوار يجب ألا تتجاوزها، وعليها ألا تنخرط في السياسة والاقتصاد.
وعن آليات تحقيق ذلك، أشار المتحدثون إلى نقاط يجب أخذها بالحسبان، أهمها: متعلق بالمؤسسات العسكرية الإفريقية ذاتها وضرورة أن تكون مؤسسات وطنية لا عرقية ولا جهوية أو طائفية أو نخبوية.. تعمل وفقًا لنصوص الدستور، الذي يجب عليها احترامه، لا العمل على تغييره ليتناسب وحكم الجنرالات العسكريين، وأن تكون تلك المؤسسات جزءًا من الدولة، لا أن تكون الدولة جزءًا منها، وأن تمارس الأجهزة الرقابية والتشريعية والقضائية مسؤولياتها إزاء التفتيش في ميزانيات تلك المؤسسات وكيفية صرفها. والأمر الآخر متعلق باستقلالية المؤسسات العسكرية ذاتها، وعدم تعاملها مع الشركات الأمنية الدولية الخاصة التي أنشأها ويديرها جنرالات سابقون في الدول الاستعمارية؛ يخدمون أجندات دولهم لا الدول الإفريقية. كما أشاروا أيضًا في هذا السياق إلى أهمية أن تكون الجيوش الإفريقية "جيوشًا وطنية"، تحارب جماعات الجريمة المنظمة التي تتاجر في تهريب البشر والأسلحة والمخدرات وتتحالف مع الإرهاب، لا أن تقيم من وراء الستار علاقات معها.
كما حذَّر المشاركون في المؤتمر مما أسموه ألاعيب وحيل الأنظمة الانقلابية الإفريقية، وبخاصة حينما يخلع الجنرال المنقلِب بزَّته العسكرية ويترشح في انتخابات صورية ويفوز فيها ليكتسب الشرعية ثم يغيِّر بعد ذلك الدستور ليبقى في الحكم دون آماد محددة.
ودعا المشاركون في اختتام المؤتمر الدول والنخب الإفريقية إلى تعزيز التعاون فيما بينها لاستثمار المميزات التي تتمتع بها، ولتقليل الاعتماد على القوى الأجنبية من خارج القارة، مع ما يتطلبه ذلك الاعتماد من أثمان سياسية وأمنية مضرة.
ولمزيد من تفاصيل ما دار في المؤتمر ومشاهدة نقاشاته وحواراته، تمكن متابعة ذلك عبر الروابط التالية:
- الجلسة الأولى: الجيوش والديمقراطية في إفريقيا
- الجلسة الثانية: الموارد الإفريقية بين التخطيط والهدر
- الجلسة الثالثة: أزمات مزمنة: أي أفق للحل؟
- الجلسة الرابعة: إفريقيا من تأثيرات كوفيد 19 إلى تجدد الصراعات الحدودية
- الجلسة الخامسة: العلاقات العربية الإفريقية: الثابت والمتغير
- الجلسة السادسة والأخيرة: إفريقيا الآفاق المستقبلية