غالبية الحروب تدار بأسلحة من دول ديمقراطية (رويترز) |
يبدو الربط المباشر في الأدبيات السياسية الغربية المعاصرة بين الديمقراطية والاستقرار والسلام الدولي كما لو أنه أحد بديهيات العلاقات الدولية؛ وهو ما أدى إلى انتشار بعض الفرضيات مثل:
- قليلاً ما تتحارب الدول الديمقراطية.
- الديمقراطيات أكثر نزوعًا للسلم من الدول الديكتاتورية.
- العنف الداخلي هو الأقل في الدول الديمقراطية.
لكن تفكيك مفهوم الديمقراطية والسلام الدولي إلى مكوناتهما، ومحاولة الربط بين هذه المتغيرات، يجعل الأمر أكثر التباسًا، لاسيما عند طرح التساؤلات التالية:
- ما هو المتغير الرئيسي في الديمقراطية؟ هل هي الديمقراطية السياسية أم الديمقراطية الاقتصادية أم الديمقراطية الاجتماعية؟ ذلك يعني أن أولوية أحد هذه الأبعاد الديمقراطية أمر مهم.
- ما هو المؤشر الرئيسي للسلام؟ هل هو غياب العنف العضوي المباشر أم غياب البيئة السلمية؟ فهل المنطقة التي تعرف تزايدًا في نفقاتها العسكرية تعد منطقة سلمية؟ وهل المنطقة التي تعرف حشدًا عسكريًا دوليًا هي منطقة سلمية أم ماذا؟ هل المنطقة التي تنمو فيها الأيديولوجيات المتطرفة هي منطقة سلمية؟ هل التهديد بالعنف يمثل عنفًا؟ هل امتلاك الأسلحة النووية يمثل تهديدًا للسلام الدولي؟... إلخ.
- ما هي العلاقة بين مؤشرات الديمقراطية ودرجة التطور في العلاقات السلمية في المجتمع الدولي؟ هل هذه العلاقة هي علاقة خطية (linear)؟ وهل يمكن أن تكون هذه العلاقة عكسية؟ فمثلاً السماح لأقلية بالانفصال عن دولة معينة هو تعبير عن الديمقراطية في مستوى من المستويات ولكنه من جهة أخرى قد يعكس تفككًا سياسيًا.
- هل يمكن التعبير عن هذه الشبكة من العلاقات، بناء على مؤشرات البعدين، تعبيرًا كميًا؟ بمعنى، هل يمكن قياس كل من البعدين ووضع معادلة للعلاقة بينهما؟
قياسات الديمقراطية والسلام
يميز الباحثون بين بعدين للعنف، هما:
- الأول: العنف العضوي (somatic violence)، والذي يتجسد في الإيذاء الجسدي المباشر (القتل المباشر بالحروب أو غيرها).
- الثاني: العنف البنيوي (structural violence)، والذي يتمثل في الظروف التي يعيشها الفرد ولكنها تؤدي للموت مثل الفقر والظروف البيئية السيئة نتيجة التلوث... إلخ.
1- الديمقراطية
تشير المعطيات الكمية المتوفرة حول مستوى الديمقراطية في العالم عام 2012 إلى أن حوالي نصف سكان العالم يعيشون تحت نظم "غير ديمقراطية"، كما يوضح الجدول رقم (1)، بينما نسبة السكان الذين يتمتعون بنظم ديمقراطية عالية هي 11,3% من العالم؛ مما يعني أن رحلة تحقيق الديمقراطية لا تزال طويلة.
الجدول(1): نسبة الديمقراطية في العالم عام 2012 (167 دولة) |
وعند النظر في التوزيع الجغرافي للديمقراطية طبقًا للأقاليم حتى مطلع عام 2012 كما يوضح الجدول(2)، نجد أن المعدل العام للديمقراطية في العالم يتذبذب خلال الفترة من 2006-2012 مع ميل للتراجع قليلاً، وعند المقارنة بين الأقاليم السبعة في العالم، نجد أن المنطقة العربية هي أقل مناطق العالم ديمقراطية؛ إذ إن المعدل العام في العالم حتى نهاية العام 2011 هو 5,49 من 10، وقد حقق العالم العربي 3,62 من 10، أي أن العالم العربي أقل بنسبة حوالي 18,7% عن المعدل العالمي. وتم تصنيف 15 دولة على أنها سلطوية تمامًا من بين 20 دولة (أي بنسبة 75%)، مقابل 23 نظامًا سلطويًا من أصل 44 دولة في إفريقيا غير العربية (أي بنسبة 52,3%).
مستويات الديمقراطية في الأقاليم السياسية حتى بداية عام 2012 (2) |
2- مؤشرات السلام
أشرت سابقًا إلى أن العنف ينقسم إلى نمطين، هما عضوي وآخر بنيوي، كذلك يمكن تصنيف الحروب إلى حروب داخلية وأخرى خارجية، وتشير المعطيات المتوفرة إلى أن الحروب الخارجية تتذبذب بشكل عام منذ عام 1945-2010 مع ميل للتراجع، بينما يلاحظ تزايد واضح ومطرد في الحروب الداخلية خلال الفترة من 1945-1990، بينما تميل للتراجع بعد ذلك، مع استمرار عددها أكبر من الحروب الخارجية كما يوضح الشكل رقم (1)(3).
الشكل رقم (1): مقارنة الحروب الداخلية والخارجية |
وعند الربط بين مستوى الديمقراطية ومستوى اللجوء للحرب يجب توضيح مشكلة منهجية في المقارنة، والتي تمثل، في رأينا، نقطة الضعف في أدبيات الربط الآلي بين الديمقراطية والسلام، وهي:
-
هل تتم المقارنة بين عدد الحروب ومناطقها وبين نمط النظم السياسية، أم ربط عدد القتلى في الحرب وطبيعة النظام السياسي؟
-
هل من جدوى منهجية من ربط الحرب والعنف عددًا وضحايا بمستوى الثروة في الدولة؟
-
هل من الضرورة ربط مستوى الإنفاق الدفاعي للدولة (الذي يُعد مظهرًا من مظاهر التهديد بالعنف) مع مستوى الديمقراطية؟
الثروة والسلاح وطبيعة النظم
لنتابع تحليل المؤشرات المرتبطة بهذه التساؤلات المنهجية:
أولاً: العلاقة بين نسبة القتلى وبين طبيعة النظام السياسي في الحروب وربط ذلك بمستوى الدخل في الدولة، وهو ما يوضحه الجدول رقم(3).
لو قسمنا الدول من حيث النظم السياسية إلى دول ديمقراطية، ودول شمولية (أي ليست ديمقراطية ومحكومة من تيار أو حزب لديه رؤية سياسية أو أيديولوجيا يفرضها بالقوة)، ودول سلطوية (أي محكومة بنظم تستند لمعطيات تاريخية ومكرسة بالسلطة الأمنية)، ثم لو قسمنا الدول إلى مستويات ثلاثة من حيث الدخل: دول عالية الدخل، ومتوسطة الدخل، وفقيرة، فسيكون لدينا تسعة أنماط هي دول فقيرة (ديمقراطية أو سلطوية أو شمولية) ومثلها متوسطة الدخل، وأخرى عالية الدخل.
ولو ربطنا هذه المصفوفة بعدد القتلى في الحروب خلال الفترة من 1950-2010، نجد ما يلي:
-
أعلى نسبة قتل (لكل عشرة آلاف نسمة) هي في الدول الشمولية متوسطة الدخل، تليها الدول السلطوية عالية الدخل ثم الدول الديمقراطية متوسطة الدخل، ثم تليها الدول الديمقراطية عالية الدخل، بينما أقل نسبة للقتلى هي في الدول الديمقراطية الفقيرة. ولو حولنا كل ذلك إلى معادلة، سنجد ببساطة أن أقل نسبة للجوء للعنف والقتل هي في الدول الفقيرة بغض النظر عن نمط نظامها السياسي وبنسبة تصل إلى 44% من نسبة الدول متوسطة الدخل، وحوالي 63% من الدول عالية الدخل.
-
لو حسبنا عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية فإن العدد بلغ 22,4 مليون عسكري و37,5 مليون مدني، علمًا بأن هذه الحرب كان بعض أطرافها ديمقراطيًا مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بل إن أدولف هتلر وصل بطريقة ديمقراطية.
-
دور الديمقراطية في تأجيج النزاع الإثني: في عام 2011، هناك 32 نزاعًا داخليًا، بينها 25 نزاعًا إثنيًا أو دينيًا، منها 10 دول تُصنّف على أنها ديمقراطية، وهي: تركيا، إسبانيا، روسيا، الفلبين، البيرو، المكسيك، ناميبيا، الهند، جورجيا، كولومبيا.
ذلك يعني أن الديمقراطية تؤجج النزاعات الإثنية، وهو ما نلاحظه في ليبيا بعد التغيير، سوريا، العراق، اليمن... إلخ. -
العلاقة بين الديمقراطية ونسبة القتل في العنف الاجتماعي الداخلي (لكل عشرة آلاف):
ذلك يعني أن ثقافة المجتمع السابقة على البنية الديمقراطية تلعب دورا في هذا المجال.
لجدول(3): العلاقة بين مستوى العنف وبين طبيعة النظام السياسي(4) |
ثانيًا: العلاقة بين النظام السياسي والإنفاق الدفاعي
عند قياس الدول العشرة الأولى في نسبة الإنفاق الدفاعي إلى إجمالي الناتج المحلي (GDP) في العالم وربط ذلك بمستوى الديمقراطية، سنجد النتائج التالية (5):
الجدول(4): الإنفاق الدفاعي بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي عام 2011 |
والملاحظ أن 8 من الدول العشر مصنفة غير ديمقراطية؛ مما يعني أن هناك علاقة بين النزوع للإنفاق الدفاعي وبين النزوع للطغيان السياسي لحماية النظام، لكن الربط بين الوضع الاقتصادي وبين الإنفاق الدفاعي ليس دقيقًا بشكل كبير في بعض الأحيان، فمن ناحية نلاحظ نموذجين في هذا الجانب:
-
دولاً زاد إنفاقها الدفاعي خلال العشرية الأخيرة رغم الأزمات الاقتصادية؛ فمثلاً ارتفع الإنفاق الدفاعي في آسيا (2,4%)، وفي إفريقيا (8,6%)، والشرق الأوسط (4,6%).
-
تأثير الأزمة المالية العالمية أدى لتخفيض الدول الديمقراطية لإنفاقها الدفاعي؛ ففي عام 2011 خفضت الولايات المتحدة إنفاقها (2,1%)، وفرنسا (4%) وألمانيا (1,4%)، وبريطانيا (0,6%)، كما خفضت كل من اليونان (26%)، وإسبانيا (18%) وإيطاليا (16%) وبلجيكا (12%) وأيرلندا (11%) نفقاتها الدفاعية، وهي الأكثر تضررًا بالأزمة المالية العالمية وبخاصة المديونية، بينما زاد الإنفاق الدفاعي لكل من روسيا (9,3%) وفي الصين (6,7%) وهما الأقل تأثرًا بالأزمة المالية.
ورغم أن الدول الديمقراطية أقل مشاركة في الحروب بشكل مباشر، لكنها المسؤولة عن تأجيج الحروب لأنها الأكثر بيعًا للأسلحة في العالم كما يوضح الجدول التالي(6)، مع ضرورة التنبه إلى أن الحروب خلال بداية الفترة (2004) كانت 43 حربًا دولية وأهلية، بينما كان عددها 33 حربًا خلال عام 2011، والملاحظ أن نسبة أسلحة الدول الديمقراطية الموجهة لمناطق هذه الحروب خلال الفترة كلها وصل إلى حوالي 73%، أي أن الديكتاتوريات في العالم النامي هي التي تشن الحروب والعنف العضوي، بينما الدول الديمقراطية توفر الظروف للعنف البنيوي.
كما أن الدول الديمقراطية هي الأكثر تهريبًا للأسلحة عبر سفنها إلى مناطق الحروب، وهو ما يتضح في الجدول التالي(7):
الجدول(5): مشاركة السفن في تهريب الأسلحة والمخدرات |
ثالثًا: العنف البنيوي
أشرنا إلى أن العنف البنيوي يعني المساهمة في خلق الوضع الذي يؤدي للوفاة دون الحرب المباشرة، وهو ما يبرز في الظواهر التالية:
أ- الفقر: فعند قياس مؤشر الفقر نجد المؤشرات التالية(8):
وتدل المؤشرات على أن الفروق بين الأفراد في مستويات الداخل تتزايد بشكل يقود إلى عنف متزايد؛ فعند حساب نسبة الفقراء إلى الأثرياء في العالم نجد أن الاتجاه التاريخي يشير لتزايد المسافة الفاصلة على النحو التالي(9):
وتشير المؤشرات المتوفرة إلى أن 80% من الدخل العالمي يذهب للدول الديمقراطية؛ وهو ما يعني أن الدول الديمقراطية مسؤولة عن سوء توزيع الدخل على المستوى العالمي، وهو المسؤول عن الفقر والموت الناتج عن الفقر.
ب- التلوث والذي يؤدي سنويًا إلى موت 3.3 مليون إنسان طبقًا لإحصاءات منظمة الصحة العالمية، ومن المؤكد أن فلسفة أولوية النمو الاقتصادي على حساب عدالة التوزيع مسؤولة عن زيادة التلوث. والدول الديمقراطية هي الأكثر ترويجًا لفلسفة النمو الاقتصادي، بينما الدول الشمولية كانت الأكثر ترويجًا لفكرة العدالة في توزيع الدخل.
رابعًا: التهديد بالقوة
وأبرز مؤشر على ذلك هو امتلاك السلاح النووي؛ فحاليًا هناك 6 دول تصنف على أنها ديمقراطية وتمتلك السلاح النووي بكل ما فيه من تهديد للأمن العالمي، وهناك دولتان نوويتان تعدان غير ديمقراطيتين، ويكفي أن نشير إلى أن المخزون النووي لدى الدول الديمقراطية يكفي لتدمير الكرة الأرضية 16 مرة، ويكون نصيب الفرد الواحد في العالم ما يعادل 1.5 طن من مادة التي .إن تي. ولاشك أن التهديد أو إبقاء البشرية تحت خطر هذه الأسلحة هو نوع من العنف.
عنف مباشر وعنف غير مباشر
والخلاصة
-
أن العلاقة بين الديمقراطية والسلام ليست علاقة آلية، بل هناك متغيرات وسيطة تشكّل مستوى الترابط بين المتغيرين، مثل: مستوى الثروة في المجتمع، أو معدل الإنفاق الدفاعي أو الثقافة الاجتماعية.. إلخ.
-
أن السلام لا يجوز أن يقاس باعتباره تعبيرًا عن عدم العنف، بل لابد من التركيز على البيئة التمهيدية للعنف.
-
ضرورة اعتبار العنف البنيوي جزءًا من العنف؛ وهو ما يجعل الدول الديمقراطية أكثر مسؤولية عن ظاهرة عدم الاستقرار الدولي.
وقد دلت المؤشرات على أن المسؤولية الدولية في عدم الاستقرار الدولي، لاسيما على المستوى الداخلي، تتوزع بين الدول على النحو التالي:
-
الدول الديمقراطية هي الأكثر مسؤولية عن خلق الظروف التمهيدية للعنف، وهو ما أسميناه العنف البنيوي (بيع الأسلحة، الإنفاق الدفاعي، تهريب الأسلحة، تشجيع النزاعات الانفصالية، الضغط على القطاع العام، دوامة الديون، انتشار قواعدها العسكرية... إلخ).
-
تتحمل الأنظمة السياسية الديكتاتورية مسؤولية الحروب المباشرة في أغلب الأحيان.
-
إن تزايد الحروب الداخلية على حساب الحروب الخارجية، يدل على أثر العولمة، والديمقراطية إحدى سماتها، في لجم العنف الدولي، بينما عدم القدرة على التكيف مع إيقاع التغير السريع في العالم النامي مسؤول عن انفجار العنف، وتمثل آليات العولمة إحدى أدوات الدول الديمقراطية في سياساتها الخارجية.
نخلص من ذلك إلى أن العنف العضوي يمارَس من الدول الديكتاتورية أكثر، بينما تتحمل الدول الديمقراطية على المستوى العالمي مسؤولية العنف البنيوي أكثر.
_______________________________________
وليد عبد الحي - خبير في الدراسات المستقبلية والعلاقات الدولية
المصادر
1- https://www.eiu.com/public/topical_report.aspx?campaignid=DemocracyIndex2011
2- http://www.sida.se/Global/About%20Sida/S%C3%A5%20arbetar%20vi/EIU_Democracy_Index_Dec2011.pdf
3- إضغط هنا.
4- http://www.hawaii.edu/powerkills/DP95.HTM
5- إضغط هنا.
6- congressional research service-conventioal arms transfers to developing nations,2004-2011,Washington,2012.p.27
7- إضغط هنا.
8- http://www.poverty.org.uk /
9- إضغط هنا.