الفَبْرَكة الإعلامية وشَيْطَنَة السياسة القَطَرِية لتفجير الأزمة بالخليج

تُراجع الورقة دور الفَبْرَكَة الإعلامية ونمط الاتصال الدعائي في تفجير الأزمة السياسية الراهنة بالخليج؛ حيث يتعمَّد القائم بالدعاية خلقَ واقع سياسي جديد لشَيْطَنَة السياسة القَطَرِية ورموزها السياسية؛ مُسْتَصْحِبًا مقاربة وإجراءات سياسية مُفَصَّلَة للتعامل مع الواقع الرمزي الناشئ.
25a1f50bc00743e59052734294049daa_18.jpg
(الجزيرة)

بانطلاق الحملة الإعلامية التي شنَّتها وسائل إعلام خليجية مختلفة ضد السياسة القَطَرِية واستقلال قرارها الوطني، خلال اثني عشر يومًا* وبلغة غير مألوفة في خطاب الإعلام الخليجي، ثم انتقال الدول التي انطلقت منها الحملة الإعلامية، السعودية والإمارات ثم البحرين ومصر، إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر وفرض الحصار عليها، تنكشف استراتيجية الجهد الاتصالي للقائم بالدعاية -من خلال نشر تصريحات مُلَفَّقَة لأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، بوكالة الأنباء القطرية بعد اختراقها- وذلك لإنشاء واقع سياسي جديد يتناقض مع حقائق الواقع المحسوس أو ما هو موجود بالفعل. ورغم النفي القَطَرِي لتلك التصريحات المُفَبْرَكَة، وهذا الواقع السياسي الرمزي الناشئ أو المرغوب (مُدْرَكَات وتَمَثُّلات سياسية سلبية عن دولة قطر ورموزها السياسية)، فإن وسائل الإعلام السعودية والإماراتية والبحرينية والمصرية أيضًا، ظلت تُرَوِّج لهذه الصورة المُشَيْطِنَة لقطر. 

ويسمح هذا الاختلاق للواقع السياسي الرمزي، ووقائعه المزَيَّفَة التي ولَّدتها الحملة الإعلامية في مدى زمني محدد، باستدعاء أيضًا مداخل سياسية مُفَصَّلَة للتعامل مع متغيراته الجديدة، بمعنى أن الواقع السياسي الرمزي الناشئ عن الحملة الإعلامية التي تستهدف تشكيل صورة ذهنية سلبية عن قطر يستصحب مقاربات وإجراءات سياسية للتعامل مع تفاعلاته وتطوراته، وهذا ما يُفَسِّر مسارعة الدول التي قادت الحملة الإعلامية ليس فقط إلى قطع علاقاتها مع قطر وإنما استنفار جهدها الدبلوماسي لفرض حصار شامل عليها ومعاقبتها سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ويُمَثِّل ذلك جزءًا من الإجراءات السياسية المطلوبة بعد إنشاء الواقع السياسي الرمزي في إطار الجهد الاتصالي المُنَظَّم للقائم بالدعاية. 

وهنا، تكمن المشكلة التي تحاول الورقة مقاربتها؛ إذ ترى أن الإعلام بجهده الاتصالي المُنَظَّم لإنشاء واقعٍ سياسي رمزي وَهْمِيٍّ، يستصحب أُطُرًا وإجراءات سياسية لإدارة متغيراته ومساراته المتوقعة، ومن ثم يتحوَّل إلى ترسانة للدعاية والحرب الإعلامية التي تتجاوز التقاليد والقواعد والمبادئ الحاكمة للممارسة المهنية خدمةً لأجندة صانع القرار السياسي في خلق مواضعات سياسية جديدة والضبط الاجتماعي للرأي العام؛ وبذلك تسهم هذه الترسانة الدعائية في تفجير الأزمات السياسية، وهو ما تُظهره استراتيجيات الحملة الإعلامية ومضمون الدعاية التي استهدفت السياسة القَطَرِية ورموزها السياسية في الأزمة الخليجية الراهنة. فكيف إذن أسهمت هذه الحملة الدعائية في تفجير الأزمة؟ وما النموذج الذي يُمَثِّلُه هذا الإعلام في علاقته بالسلطة السياسية؟ وما أبعاد الصورة النمطية التي رَسَمَها لقطر؟ وما استراتيجياته في محاولة إنشاء مواضعات سياسية بشأن قطر وسياساتها الخارجية ودورها الإقليمي؟   

للإجابة عن هذا الحقل الاستفهامي تتناول الورقة ثلاثة محاور يرصد أولها أهداف الفبركة الإعلامية ودور نمط الاتصال الدعائي في محاولة خلق مواضعات سياسية جديدة وإنشاء واقع سياسي رمزي قبل الانتقال إلى المقاربات والإجراءات السياسية التي يستصحبها هذا الواقع. ويبحث المحور الثاني علاقة نمط الاتصال الدعائي أو الإعلام الدعائي بالسلطة السياسية ودوره في تفجير الأزمات السياسية، أما المحور الثالث فتخصصه الورقة لدراسة أبعاد الصورة الذهنية التي رسمتها الحملة الدعائية في الصحافة الإلكترونية الخليجية عن قطر واستراتيجيات القائم بالدعاية في بناء هذه الصورة.  

1. الفَبْرَكَة الإعلامية ونمط الاتصال الدعائي   

عندما تنخرط أية وسيلة إعلامية في جهد اتصالي مُخَطَّط ومُنَظَّم خلال فترة زمنية معيَّنة ترويجًا لقصص مُخْتَلَقَة أو بيانات مُلَفَّقَة أو تصريحات مُزَيَّفَة يُراد لها أن تكون الموضوع المُفَكَّر فيه من أجل إقناع الجمهور بسرديَّة وَهْمِيَّة، فإنها تكون اختارت الدعاية نمطًا اتصاليًّا لنشر آرائها ومواقفها ومعتقداتها (السياسية والدينية وغيرهما)، مُتَعَمِّدَةً صناعة وتشكيل اتجاهات مُؤَيِّدَة لقضيتها وأطروحاتها أو تعديل هذه الاتجاهات فكريًّا ونفسيًّا والتأثير في السلوك الجماهيري نحو الفاعلين في تلك القصص المختلقة (أفرادًا ومؤسسات وهيئات ودولًا) الذين تعتبرهم خصومًا وأعداءً. وهو ما يكشفه خطاب الحملة الدعائية لوسائل الإعلام السعودي والإماراتي والبحريني والمصري ضد السياسة القَطَرِية بعد اختلاق قصة التصريحات المنسوبة للأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. ونعني بالدعاية هنا "الجهود الاتصالية المقصودة والمدبَّرة التي يقوم بها الداعية مُسْتَهْدِفًا نقل معلومات ونشر أفكار واتجاهات معيَّنة تم إعدادها وصياغتها من حيث المضمون والشكل وطريقة العرض بأسلوب يؤدي إلى إحداث تأثير مقصود ومحسوب ومستهدف في معلومات فئات معيَّنة من الجمهور وآرائهم واتجاهاتهم ومعتقداتهم وسلوكهم؛ وذلك كله بغرض السيطرة على الرأي العام، والتحكم في السلوك الاجتماعي للجماهير بما يخدم أهداف الداعية"(1). 

وتُمَثِّل الفَبْرَكَة الإعلامية أحد تمظهرات الدعاية؛ حيث "تصطنع وسيلة الإعلام خبرًا أو واقعة لم تحدث وتحاول أن تُلْبِسَها ثوب الواقع"(2) ترويجًا لأُطُرِها (الكذب) وأجندتها السياسية من أجل إحداث التأثير المقصود في الجمهور والتحكُّم في الرأي العام. وفي هذا السياق لم تُقَدِّم وسائل الإعلام السعودي والإماراتي من خلال التصريحات المنسوبة للشيخ تميم -بشأن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وعلاقة قطر بإيران والسعودية وحركة حماس والسلطة الفلسطينية- سوى قصةٍ مُفَبْرَكَةٍ وبيانٍ مُخْتَلَقٍ مصنوعٍ لإيهام الرأي العام الخليجي والدولي بأن وجود الرموز والكلمات يؤكد حقيقة الأفعال؛ و"حيثما توجد الكلمات فهناك وقائع تقابلها"(3). لكن طريقة إخراج القصة عبر وكالة الأنباء القطرية بعد اختراقها، وجاهزية القنوات الفضائية السعودية والإماراتية، وكذلك المواقع الإخبارية، للتفاعل مع الخبر المصنوع باستضافة محلِّلين سعوديين ومصريين يعلِّقون على مضمونه دون إفساح المجال للرأي الآخر، والنفي القَطَرِي المستمر للقصة المفبركة، وإصرار وسائل الإعلام المُرَوِّجَة للدعاية على تجاهل هذا النفي وتغطيتها المستمرة لتداعيات القصة وبث كل أنواع الدعاية الهدَّامة(4) والتحريضية(5)، تُظهر أن الوقائع المصنوعة التي أُرِيدَ لها أن تكون حقائق دَامِغَة لا تُمَثِّل سوى الواقع السياسي الرمزي الناشئ أو الواقع المرغوب الذي يُؤَسِّس لمواضعات سياسية مُزَيَّفَة وسط الرأي العام وفقًا لأجندة القائم بالدعاية. 

ويهدف هذا الواقع السياسي الرمزي الناشئ إلى تركيب وبناء صورة نمطية(6) سلبية عن دولة قطر، تربط اسمها بدعم الإرهاب وتمويله واحتضان الجماعات المتطرفة (كما سنبيِّن لاحقًا في تحليل الدعاية السعودية والإماراتية والبحرينية بالمحور الثالث). وهنا، يحاول القائم بالدعاية دَمْغَ قطر وبعض مؤسساتها المدنية التي تنشط في مجال العمل الإنساني بشراكة مع الأمم المتحدة بعلامة الإرهاب حتى تبدو متجاوزة للسلوك القانوني؛ لاسيما أن وصف أي جماعة أو كيان في وسائل الإعلام بالتطرف، أو الإجرام، يتم ربطهما بشكل لا واعٍ باللاشرعية(7)، فضلًا عمَّا يترتب على هذه اليافطة (دعم الإرهاب وتمويله واحتضان جماعاته) من أبنية اجتماعية وسياسية وقانونية ونفسية تؤثِّر في الصورة العامة لأي كيان سياسي، في مقابل الشرعية التي تحظى بها الدول التي تحارب الإرهاب والفكر المتطرف. 

ويدرك القائمُ بالدعاية الأثرَ القوي لهذه العلامة على صورة الدولة التي يتم التحريض ضدها؛ فحتى لو توقَّفت وسائل الإعلام عن دعايتها وتبرَّأت مما نسبته إليها فستكون ألحقت ضررًا كبيرًا بصورتها. لذلك نفهم الدوافع التي جعلت القائم بالدعاية يتوسَّل الفبركة الإعلامية لخلق واقع رمزي ناشئ يتناقض مع الواقع المحسوس والموجود بالفعل حتى يُرَسِّخ في ذهن الجمهور وقائع وَهْمِيَّة تؤثِّر في نفوسهم (الضبط الاجتماعي) فتُوَجِّهَهُم نحو السلوك المرغوب فيه، باعتبار أن هذه الوقائع الوهمية حقائق واقعية تساعد القائم بالدعاية وصانع القرار السياسي في تحديد شكل العلاقة مع الدولة المستهدفة بالدعاية وأيضًا في رسم حدود علاقاتها مع باقي الدول الأخرى؛ حيث تستصحب الدعاية إطارًا سياسيًّا مُصَمَّمًا للتعامل مع مسارات الواقع الرمزي الناشئ ومتغيراته. 

ويمكننا إبراز العلاقة بين الفبركة الإعلامية والدعاية وتأثيرهما في الواقع المحسوس من خلال هذا الرسم البياني (رقم 1) الذي يوضح قوة الدفع التي يمتلكها كل متغير باتجاه الآخر؛ حيث يسعى القائم بالدعاية من خلال الفبركة الإعلامية إلى إنشاء واقع سياسي جديد أو الواقع المرغوب الذي لا علاقة له بالواقع المحسوس من أجل التحكُّم في الرأي العام، أي الضبط الاجتماعي والنفسي، وبعد ذلك تكون البيئة السياسية التي شكَّلها القائم بالدعاية قد توفرت فيها شروط تنزيل المقاربة أو الإجراءات السياسية المفصَّلة على مقاس الواقع المرغوب للدعاية. 

 

2. الترسانة الإعلامية وتأثيرها في الأزمة السياسية 

في مقاربة دور الإعلام وتأثيره في توتر العلاقات بين قطر والدول الخليجية الثلاث التي انطلقت منها الحملة الدعائية (الإمارات والسعودية والبحرين) مستهدفة السياسة القَطَرِية ورموزها السياسية، وإبراز مسؤوليته عن تفجير الأزمة، يُقَدِّم السياق الاتصالي لأفعال واستجابات الفاعلين في هذه الأزمة مؤشرات تُساعد في إدراك دوافع السلوكيات وغايات الأفعال؛ لأن "تحليل السياق يصبح أكثر أهمية من تحليل المضمون؛ ذلك أن الاتصال يتم تصوُّره كسيرورة مُتَحَرِّكَة ذات مستويات عديدة؛ حيث يجب على الباحث، الذي يسعى لالتقاط لحظات تدفق المعاني، أن يصف انتظام مختلف طرائق السلوك ضمن سياقٍ ما"(8). وقد لاحظنا أن القائم بالدعاية ربط انطلاق حملته الدعائية بمناسبة حفل تخرج عسكري حضره الأمير الشيخ، تميم بن حمد آل ثاني، حتى تكتسب القصة المفبركة "قيمتها الخبرية" من أهمية الحدث، وأيضًا لإضفاء أبعاد تهويلية على تصريحات القيادة القطرية وتضخيم المواقف التي عبَّرت عنها تجاه بعض الدول والشخصيات والكيانات السياسية باعتبار رمزية الحفل العسكري الذي أَطَّرَته الدعاية في سياق الصراع، وصولًا إلى الهدف الاستراتيجي المرسوم، وهو استنفار حملة سياسية إقليمية ودولية تقودها دول القائم بالدعاية لفرض الحصار على دولة قطر ومعاقبتها سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. وبالنظر إلى هذا السياق، كان لافتًا أيضًا أن القائم بالدعاية لجأ إلى عنصر المباغتة في بثِّ حملته الدعائية (الساعة الأولى من صباح الأربعاء، 24 مايو/أيار 2017) حتى لا يفسح المجال للطرف المستهدف بدعايته للردِّ أو التعليق على القصة المفبركة، وتكون الصورة السلبية التي روجَّها قد بدأت في الانتشار وسط الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي لإنشاء الواقع الرمزي المرغوب، مُسْتَعِينًا بتكرار الدعاية واستمرارها (الجدولة المستمرة) رغم النفي القَطَري للتصريحات الوهمية. 

إذن، يساعدنا هذا السياق الاتصالي للحملة الدعائية، فضلًا عن مضمون الدعاية نفسها كما سنرى لاحقًا، على فهم دور الإعلام في هذه الأزمة؛ حيث شكَّل أحد أدوات الحرب السياسية التي استخدمت الجهد الدبلوماسي والحصار البري والبحري والجوي لخنق قطر، وهو ما يعني أن الإعلام الذي استنفرته الدول التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع قطر يُمثِّل جزءًا من ترسانة المواجهة لتحقيق أهدافها السياسية والاستراتيجية، ومن ثم فإن الأزمة السياسية بدأت عبر/وفي وسائل الإعلام التي جنَّدتها الدول المعنيَّة لخدمة تلك الأهداف. وهنا، لن يكون من العسير تحديد النموذج الذي يُمَثِّلُه هذا الإعلام باعتبار دوره الوظيفي؛ حيث يلتزم بتوجهات السلطة، ويتكفَّل بالدعاية السياسية لأجندتها سلمًا وحربًا. 

وتعتبر نظريات الإعلام هذا النوع إعلامًا مُوَجَّهًا، وهو "أقرب إلى الدعاية منه إلى الإعلام، وغالبًا لا يتمتع بأية حرية، وإذا وُجِدَت فإنها بالقدر الذي تسمح به الحكومة، وأن اشتغال المواطن بالعمل الإعلامي مِنْحَة من السلطة الحاكمة ويترتب عليها التزام بالترويج لهذه السُّلطة والدفاع عن سياستها ومصالحها"(9). ولئن كان هذا النموذج يُمثِّل أحد مرتكزات نظريات الصحافة الأربع التي تمت صياغتها في الخمسينات من القرن الماضي وتعرضت لانتقادات كثيرة بالتعديل والإضافة، فإنه لا يزال يمتلك قدرة تفسيرية لعلاقة الإعلام بالسلطة خاصة في الأنظمة السلطوية المغلقة وشبه السلطوية، بل حتى في الأنظمة السلطوية الهجينة أو الأنظمة السلطوية التنافسية؛ حيث تتمتع المؤسسات الإعلامية بنوع من الاستقلالية؛ ينخرط الإعلام بتأثير السلطة وضغوطها المالية والسياسية في الحملة الدعائية. 

لذلك، فإن الإعلام الدعائي بطبيعته التعبوية والتحريضية يُشكِّل الأداة التي تُسَخِّرُها السلطة في تكوين وإنشاء الواقع الرمزي المرغوب وبناء المواضعات السياسية التي تمهِّد لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، وهو ما يعني مسؤوليته في الدفع بالبيئة السياسية إلى التوتر ومن ثم تفجير الأزمة السياسية. 

ويوضح الرسم البياني الآتي (رقم 2) ميكانيزمات السلطوية في تفجير الأزمات السياسية عبر تحكمها في المنظومة الإعلامية: 

 

وللوصول إلى هذه المرحلة (تفجير الأزمة السياسية)، تحاول السلطة السياسية التَّحكُّم في المجال العام التقليدي عبر التضييق على وسائل الإعلام المختلفة والحيلولة دون تدفُّق المعلومات التي تُعبِّر عن الرأي الآخر؛ حيث تخشى أن تكشفَ هذه الوسائلُ زيفَ الحملة الدعائية، وتفضحَ سرديات الواقع السياسي الجديد والهدف الاستراتيجي من إنشاء واقع سياسي رمزي. لذلك تدعو السلطة وسائل الإعلام المحلية إلى "ضرورة الالتزام بموقف الدولة (البحرين) وبعدم نشر ما يتضمن مساسًا بمصالحها العليا المستهدفة من تلك الإجراءات..أو نشر ما يشكِّل اعتراضًا على قراراتها أو الدول المتضامنة معها في هذا الشأن، مما يتضمن في محتواه ما ينال من هيبة البلاد واعتبارها، أو مسايرة لسياسة دولة قطر أو تبريرها، أيًّا كانت وسيلة النشر والتداول..وستُتخذ الإجراءات القانونية حيال كل من يُنسب إليه المنشور من ذلك القبيل، أو يسهم في نشره بأية صورة، وإخضاعه للمساءلة الجنائية والإدارية بحسب الأحوال"(10). 

وهذا ما يُفسِّر أيضًا قرار تلك الدول (السعودية والإمارات والبحرين)، فضلًا عن السلطة السياسية في مصر، حجب المواقع الإلكترونية لشبكة الجزيرة الإعلامية (الجزيرة نت، والجزيرة الوثائقية، والإنجليزية، ومواقع الصحف القطرية (الوطن، الراية، العرب، الشرق) ووكالة الأنباء القطرية(11). 

ولأنَّ القائم بالدعاية مَعْنِيٌّ بالضبط الاجتماعي والنفسي للرأي العام المحلي فهو يحتاج أيضًا إلى ضبط المجال العام الرَّقمي لإسكات أصوات المغرِّدين والنشطاء السياسيين وقادة الرأي الذين قد تختلف آراؤهم مع سردياته أو ينتقدون حملته الدعائية وأهدافها، لذلك منعت هذه الدول المواطنين حتى من إبداء تعاطفهم أو التعبير عن مشاعرهم الإنسانية تجاه دولة قطر أو انتقاد الإجراءات التي اتخذتها بعد فرض الحصار على الدوحة؛ فقد "حذَّرت من أي مشاركات قولًا أو كتابة على مواقع التواصل الاجتماعي أو أي وسيلة أخرى تحمل أي تعاطف مع دولة قطر أو اعتراضًا على موقفها (الإمارات) والدول الأخرى التي اتخذت مواقف حازمة ضد حكومة قطر"، بل "يتعرض الأشخاص الذين يخالفون هذه التحذيرات للسجن من 3 إلى 15 عامًا وغرامة لا تقل عن 500 ألف درهم (نحو 137 ألف دولار)(12). 

وهنا، نلاحظ أشكال التناغم والتجانس ليس فقط على مستوى الموقف السياسي بين هذه الدول، وإنما أيضًا على مستوى لغة الخطاب والتركيب المعجمي للبيانات التي تحظر على المواطنين التعاطف مع قطر وتُهدِّد المخالفين لرأيها بالسجن أو الغرامة المالية، وهو ما يبرز بصورة واضحة في مضمون الدعاية واستراتيجيات الحملة الدعائية في تشكيل الصورة النمطية عن قطر.  

3. مرتكزات الخطاب الدعائي في تشكيل صورة نمطية لقطر  

منذ اليوم الأول لانطلاق الحملة الدعائية ضد السياسة القَطَرِية واستقلال قرارها السياسي الوطني، ركز القائم بالدعاية على تشكيل صورة نمطية سلبية عن دولة قطر عبر واقع سياسي رمزي ناشئ يسمح بالضبط الاجتماعي والنفسي والتحكُّم في الرأي العام باتجاه اتخاذ الإجراءات السياسية التي يرتبها هذا الواقع. وتعتمد الدعاية استراتيجيات مختلفة في رَسْم أبعاد هذه الصورة النمطية التي روَّجتها وسائل إعلام الدول الخليجية الثلاث (السعودية والإمارات والبحرين)، وستكون الورقة معنيَّة بتحديدها انطلاقًا من مجتمع الدراسة الذي يشمل الصحف الإلكترونية(13) لتلك الدول، باعتبارها أكثر الوسائط انتشارًا بين المستخدمين، وستركز في تحليلها للخطاب الدعائي على مقالات الرأي التي تُعَدُّ أكثر الأجناس الصحفية تعبيرًا عن الأفكار والطروحات، وبيانًا للتصورات والمرجعيات الأيديولوجية، بشأن تشكيل الصورة الذهنية عن الأشخاص والجماعات والمؤسسات والدول، وأكثر تَمْثِيلًا لوظائف الخطاب الإعلامي(14)، كما أن مقالات الرأي توفر البيانات والمعطيات اللازمة بشأن تحليل أبعاد ومكونات الصورة الذهنية لدولة قطر في الخطاب الدعائي للصحافة الإلكترونية السعودية والإماراتية والبحرينية. وتستفيد الورقة في دراستها لمضمون الدعاية من التحليل النقدي للخطاب والمداخل النظرية التي أنتجتها جهود المشتغلين بالدعاية ومدارسها وأساليبها. 

‌أ. مكونات الصورة النمطية السلبية لقطر

تتشكَّل هذه الصورة من أبعاد مختلفة فكرية ونفسية وسلوكية، نبرز أهمها في:

  • دولة مارِقَة: يحرص القائم بالدعاية على ربط السياسة القطرية والسلوك السياسي للدولة بالأفعال المجرَّمة قانونًا كي تبدو كيانًا سياسيًّا مُنْفَلِتًا بخروجها على الضوابط والمواضعات السياسية والسلوكيات المتعارف عليها دوليًّا، ولا تلتزم أيضًا بالمسؤوليات القانونية في علاقاتها الدولية أو بالفاعلين غير الرسميين. وهنا، يجد الخطاب الدعائي ضالَّته في يافطة الإرهاب التي يُراد لها أن تكون لافتة أو علامة مُلْتَصِقَة بقطر مَقْرُونَة بذكر اسمها؛ لذلك يعتبرها "مقرًّا للإرهاب" باحتضانها للجماعات الإرهابية، مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" والقاعدة وجبهة النصرة وجماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس(15)، كما تدعم وتُمَوِّل نشاطات التنظيمات الإرهابية المرتبطة بالنظام الإيراني المسؤول عن كل الشرور في العالم(16). 

ونلاحظ أن هذا الخطاب يجمع المتناقضات، مثل بيانات الدول التي اتخذت قرارها بحصار قطر، عندما يربط اسم قطر بهذا الخليط المتنوع من التنظيمات التي يصفها بالإرهابية، فيجعل جماعة الإخوان المسلمين صنوًا لتنظيم الدولة الإسلامية، وحركة المقاومة الإسلامية حماس نظيرًا لتنظيم القاعدة، وهو ما يعني أن البُعد المعرفي والفكري للصورة النمطية التي يرسمها لقطر لا تمثِّل سوى الواقع السياسي المرغوب أو الواقع السياسي الرمزي الناشئ، ولا ينظر القائم بالدعاية إلى الواقع المحسوس أو ما هو موجود بالفعل؛ حيث تمثِّل قطر عضوًا مؤسسًا وفاعلًا في التحالف الدولي ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" منذ تشكيله بقيادة الولايات المتحدة، في ديسمبر/كانون الأول 2014، في الوقت الذي تتعامل فيه دولة قطر مع حماس، مثلما كانت تتعامل القاهرة والرياض مع الحركة، باعتبارها فصيلًا فلسطينيًّا مقاومًا للاحتلال الإسرائيلي كانت حتى وقت قريب جزءًا من السلطة التي يقودها محمود عباس. وقد أسهمت الدوحة، كما القاهرة والرياض، باحتضانها لجولات متعددة من أجل إنهاء الانقسام الفلسطيني والعودة للوحدة الوطنية بعد الجهود التي قادتها مصر والسعودية سابقًا. 

ولأنَّ القائم بالدعاية يُدرك أيضًا تأثير يافطة الإرهاب التي قد تُلْصَق بأي كيان سياسي وحتى الأفراد أو الجماعات، خاصة في السياق الدولي الراهن الذي يجعل محاربة الإرهاب إحدى أولويات القوى الكبرى، فهو يركز على توجيه تهمة الإرهاب لقطر وتمويلها لأنشطة التنظيمات الإرهابية؛ إذ يعلم أن التخلص من هذه العلامة (الإرهاب) التي دَمَغَ بها قطر يحتاج إلى جهود اتصالية وسياسية كبيرة حتى لو تمت تبرئتها مما نُسِب إليها. 

  • منطق اللادولة: لكي يُبرهن القائم بالدعاية على واقعية العلامة التي دَمَغَ بها قطر يحاول أن يجد لها معادلًا في المنطق الذي يحكم ممارسة الميليشيات؛ فيعتبر أن قطر تتبنَّى "منطق الميليشيا" وتبتعد عن "منطق الدولة" عبر دعمها للجماعات الإرهابية وتمويلها، لذلك فهي لا تملك -في منظوره- إرادتها بل صارت مخطوفة ومحكومة من إيران والتنظيم الدولي للإخوان(17)، وهو ما يعني أن الدولة تحولت إلى أداة للتخريب والهدم وزرع الفتنة والقلاقل وعدم الاستقرار مثلها مثل التنظيمات والجماعات التي يعتبرها القائم بالدعاية إرهابية. 

وهنا، يبدو الخطاب الدعائي مرة أخرى مُحَمَّلًا بالمتناقضات ولا يأخذ بعين الاعتبار معطيات الواقع المحسوس، أو ما هو موجود بالفعل؛ حيث يتجاهل الدور القَطَرِي في رعاية المصالحات السياسية وتسوية الأزمات (نموذج لبنان..)، وإرساء السلام في مناطق النزاع والصراع (نموذج دارفور..)، كما أن ذات الخطاب يجمع بين ما لا يمكن فيه الجمع؛ إذ كيف تكون قطر مخطوفة أو محكومة من إيران وجماعة الإخوان في ذات الوقت؟ أما منطق الميليشيا فعلامة لا تختلف عن علامة الإرهاب التي يُراد بها شَيْطَنَة قطر حتى يبدو سلوكها السياسي جانحًا عن القانون وخارجًا عن الأعراف والمواضعات السياسية الدولية. 

  • دولة وظيفية: يحاول القائم بالدعاية أن يُجَرِّد قطر من استقلال قرارها الوطني، باعتبارها كيانًا تابعًا لقوى إقليمية ودولية وحتى لفاعلين غير رسميين، فيجعلها تارة أداة في يد النظام الإيراني، مثلها مثل حزب الله أو جماعة الحوثي، وذلك لخدمة مصالح إيران الذاتية وصناعة دور لها في المنطقة، ويصف الخطاب الدعائي هذا الدور بـ"العمالة لطهران" الذي يستهدف الأمن القومي العربي والإسلامي(18)، وتارة يجعلها أداة في يد التنظيم الدولي للإخوان تسعى لشقِّ الصف الخليجي والعربي(19). ويغفل هذا الخطاب عن جوهر الأزمة السياسية الراهنة التي فجَّرها حرص دول إقليمية على فرض الوصاية على استقلال القرار الوطني القَطَرِي حتى تكون دولة تابعة تنفِّذ أجنداته السياسية في المنطقة وليست عضوًا كامل السيادة في مجلس التعاون الخليجي، فكيف إذن تقبل قطر أن تكون أداة في يد إيران أو الإخوان؟ أما قصة التنظيم الدولي للإخوان وسيطرته على الحكم في قطر، فلا تُمَثِّل سوى الواقع السياسي الرمزي المرغوب لإلصاق تهمة الإرهاب بقطر من منظور الدول التي تعتبر جماعة الإخوان إرهابية.  
  • بوق الشِّقاق والفتنة: يُقدِّم القائم بالدعاية قطر مصدرًا للفتنة من خلال قناة الجزيرة التي يعتبرها أداة للتحريض وسببًا رئيسًا في إثارة القلاقل والفتن والأزمات في المنطقة(20)؛ لأنها تتناول القضايا العربية بصورة سلبية تثير الكراهية وتغذي الخلافات والاستقطاب، وتنفخ في نار الثورات وتشجعها(21). كما يحاول هذا الخطاب ربط قناة الجزيرة بيافطة الإرهاب والتطرف لتشويه الإسلام حول العالم وزعزعة الأمن والسلم الدوليين(22) 

وهنا، لا يحتاج الباحث المنصف إلى أدلة كثيرة لبيان تهافت هذه الدعاية، فقد أُنْجِزَت مئات الرسائل والأطروحات حول قناة الجزيرة في مؤسسات جامعية تحظى بسمعة أكاديمية مرموقة، فضلًا عن الدراسات الأكاديمية، التي تؤكد أهمية الدور الذي لعبته القناة في المشهد الإعلامي العربي منذ إنشائها في أواخر العام 1996 بتحريرها للخطاب الإعلامي من هيمنة السلطة التي لا تزال في بعض الدول العربية تفرض وصايتها على المنظومة الإعلامية، كما تؤكد مساهمتها في دَمَقْرَطَة المجال العام بفسح المجال للرأي والرأي الآخر(23). 

وتُشكِّل هذه الأبعاد الأربعة (دولة مارِقَة، منطق اللادولة، دولة وظيفية، دولة الشقاق والفتنة) أهم مرتكزات الخطاب الدعائي للإعلام الذي اسْتُخْدِم في تفجير الأزمة السياسية كما يبرزها هذا الرسم البياني (رقم 3): 

 

‌ب. استراتيجيات القائم بالدعاية في بناء صورة نمطية لقطر

يعتمد القائم بالدعاية أساليب مختلفة في تشكيل الصورة النمطية عن قطر لإقناع الرأي العام بأبعادها ومكوناتها، ومن أهمها:

  • التكرار الكاذب: يركز القائم بالدعاية على ربط دولة قطر بالإرهاب في جميع المقالات، ويتكرَّر هذا الخطاب باستمرار مُرَدِّدًا أطروحة السلطة السياسية في الدول الخليجية الثلاث (السعودية والإمارات والبحرين) التي سارعت بفرض الحصار على قطر مُتَّهِمَة إياها بـ"احتضان جماعات إرهابية وطائفية، منها جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة ودعم الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران"(24). 

وهنا، يبدو الاختلاق وتزييف الحقائق واضحين عندما يحاول هذا الخطاب أن يجعل قطر مقرًّا مُعْلَنًا ومَحْضِنًا لتنظيم الدولة أو القاعدة، ويغفل -كما ذكرنا- دورها الفاعل في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، لذلك يعتقد القائم بالدعاية أن الكذب كلما كان جسيمًا ازداد تأثيره على الجمهور وأصبح من العسير تصحيحه حتى حينما يظهر أنه ليس من الواقع في شيء، مُسْتَلْهِمًا مقولة باول جوزيف غوبلز صاحب العبارة الشهيرة: "اكذب ثم اكذب...حتى يعلق شيء ما في أذهان الجماهير"(25). ويستخدم هذا الأسلوب لابتزاز كل من يفكِّر في أن يكون له موقف أو اتجاه أو سياسة تخالف السياسة التي يتبنَّاها مُصَمِّم الدعاية، وأيضًا للتشويش على علاقاته الدولية وتسميمها. 

  • التحريض والتخويف: إزاء العلامات (دولة مارِقَة، دولة وظيفية، منطق الميليشيا، بوق للفتنة) التي سعى القائم بالدعاية لأن يَدْمَغ بها قطر وأن يجعل اسمها مقرونًا بهذه التهم من أجل شَيْطَنَة أدائها وسلوكها السياسي، أَوْكَل لنفسه أيضًا مهمة التحريض عليها من خلال محاولة إحداث شرخ في علاقة القيادة السياسية بمؤسساتها السيادية، خاصة العسكرية، وكذلك المواطنين(26)، والتخويف من المصير الذي ستؤول إليه البلاد في ظل هذه القيادة وإثارة الرعب مما ينتظر بلدهم وزعزعة الثقة بنظام الحكم وإحداث نوع من الهزيمة الداخلية. وفي هذا السياق، يحاول القائم بالدعاية التهويل أيضًا من الأضرار الاقتصادية التي ستلحق بالبلاد جرَّاء الحصار المفروض عليها بريًّا وبحريًّا وجويًّا، ويُمَثِّل هذا الجهد الاتصالي "الدعاية التحريضية" التي تحدثنا عنها سابقًا، وتهدف إلى تدمير الخصم معنويَّا ونفسيًّا وفكريًّا ومُؤَسَّساتيًّا. 
  • الترويج للإشاعات: يُشكِّل هذا الأسلوب أداة مركزية في الدعاية وقد بلغ ذروته في الترويج للانقلاب داخل قطر، راسمًا السيناريوهات المتوقعة، ومُبْرِزًا الجهات التي قد تنفِّذُه(27)، وهو ترويج لا ينفصل في الواقع عن أسلوب التحريض الذي يقوم به القائم بالدعاية ضد نظام الحكم، بل يُمَثِّل الدعاية الهدَّامة التي تسعى لتخريب الدولة وتقويض نظامها الاجتماعي والسياسي. 
  • الإثارة العاطفية: يستعين هذا الأسلوب بلغة التشهير والتهكُّم والسخرية وكيل التهم وتشويه سمعة الرموز السياسية القَطَرِية وأدائها السياسي، مُسْتَخْدِمًا قاموسًا لغويًّا بعيدًا عن قواعد الممارسة الإعلامية المهنية؛ واصفًا قطر بـ"الخبيثة والصبيانية"(28)، وسلوكها السياسي بالطيش والمراهقة والممارسات الصبيانية(29)، وهو خطاب يهدف لدغدغة مشاعر الجمهور لإقناعه بصواب السياسة التي ينهجها صانع القرار السياسي والقائم بالدعاية ضد دولة قطر. 
  • الارتباط الزائف: يبدو هذا الأسلوب بوضوح من خلال الربط بين قضايا لا توجد بينها أية علاقة، مثل محاولة القائم بالدعاية ربط دولة قطر بخدمة الأجندة السياسة الإيرانية في المنطقة أو سيطرة التنظيم الدولي للإخوان على القرار السياسي الوطني القطري أو ربطها بـتقديم الدعم لـتنظيم "الدولة الإسلامية" أو القاعدة، وأيضًا ربط قناة الجزيرة بالإرهاب ونشر الفكر المتطرف، وغيرها من اليافطات التي يسعى القائم بالدعاية إلى تحويلها من واقع سياسي رمزي ناشئ إلى واقع سياسي محسوس. 
  • ادِّعاء الإجماع: يحاول القائم بالدعاية أن يعطي الانطباع بوجود إجماع يُدين السياسة القطرية والأداء السياسي لرموزها السياسية بالنظر لعدم اكتراثها بالموقف الخليجي وخرقها للصف الواحد، بينما تؤكد حقائق الواقع المحسوس فشل جهود الدول التي سارعت لفرض الحصار على قطر في استنفار حملة دولية لمقاطعتها. 

ويبيِّن هذا الرصد إدراك القائم بالدعاية لأهمية الوسائل التي يستخدمها في الترويج لخطابه الدعائي، كما يوضح أيضًا تنوعها بحسب الأهداف التي يسعى لتحقيقها، ويُظهر الرسم البياني الآتي (رقم 4) مجموع هذه الأساليب: 

 

ويمكن صياغة المعادلة الخاصة بمرتكزات الدعاية التي تُرَوِّجُها السلطة بصورة رياضية من خلال مضمون الدعاية نفسها ثم تنوع الأساليب الدعائية وتحكم هذه السلطة في المجال العام على النحو الآتي: 

مرتكزات الدعاية= مضمون دعائي + تنوع أساليب الدعاية × هيمنة السلطة على المجال العام

خاتمة 

باعتبار مضمون الدعاية وأساليبها وسيطرة السلطة على المجال العام التقليدي والمجال الرقمي، فإن الإعلام يكون في هذه الحالة تابعًا بالمطلق للسُّلطة السياسية التي تهيمن على وسائله المختلفة؛ فتجعله ناطقًا باسمها وخادمًا لأجندتها، خاصة خلال الأزمات والصراعات السياسية، وتعاقب ليس فقط الإعلام بل حتى الأفراد والمؤسسات على التعاطف مع الجهة التي تستهدفها الدعاية، وهو ما يعني تجرَّده عن المبادئ المهنية الحاكمة للممارسة الإعلامية. وبذلك تصبح الأولوية في نمط الاتصال الدعائي لمعايير مختلفة عن المصداقية والموضوعية والنزاهة والاستقلالية والحياد التي يستبدل بها التلفيق وتزييف الحقائق والكذب والتحريض والتخويف وترويج الإشاعة والسَّبُّ والقذف والارتباط الزائف بين أحداث ووقائع لا توجد بينها أية علاقة. 

ويهدف هذا النمط الاتصالي الدعائي إلى إنشاء واقع سياسي جديد لا علاقة له بالواقع المحسوس أو ما هو موجود بالفعل لتحقيق غايات مختلفة تبدأ بالضبط الاجتماعي والنفسي للرأي العام المحلي والتأثير في الرأي العام الإقليمي والدولي، مرورًا بشنِّ حرب نفسية داخل البيئة السياسية للجهة التي تستهدفها الدعاية، ويكتسب الخطاب الدعائي ذروته بمحاولة شَيْطَنَة الأفراد والجماعات والدولة التي تكون محور الدعاية، مثل الحالة القَطَرِية التي عالجتها الورقة؛ حيث سعى القائم بالدعاية إلى إنشاء واقع سياسي رمزي يُقَدِّم صورة نمطية سلبية عن قطر دامِغًا اسمها بكل العلامات التي تنزع عنها الشرعية وتجعل أداءها وسلوكها السياسي مُجَرَّمًا وخارج القانون والأعراف والمواضعات السياسية، وهو ما يُسهم في تفجير الأزمة التي تستصحب مقاربة سياسية أو إجراءات سياسية مُفَصَّلَة، مثل المقاطعة الدبلوماسية أو فرض الحصار البري والبحري والجوي الذي يُشكِّل الواقع المرغوب للقائم بالدعاية. ويُمَثِّل ذلك مقدمة للهدف الاستراتيجي للقائم بالدعاية وهو تحطيم الآخر والهيمنة عليه والسعي إلى إلغاء جميع قدراته وشلِّ فاعليته وإملاء ما يجب عليه القيام به ليكون تابعًا وفاقدًا لاستقلال قراره الوطني. 

____________________________

د. محمد الراجي، باحث بمركز الجزيرة للدراسات

مراجع

* انطلقت الحملة الإعلامية ضد قطر فجر يوم الأربعاء، 24 مايو/أيار 2017، باختراق موقع وكالة الأنباء القطرية وبثِّ بيانٍ مُفَبْرَكٍ مَنْسُوبٍ لأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، خلال حفل تخرج عسكري بالدوحة توقَّع فيه، بحسب التصريحات الملفَّقة، أن يتم عزل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بسبب المشاكل الداخلية، ووجَّه انتقادًا مُبَطَّنًا للمملكة السعودية، كما تحدث البيان عن تضامن قطر مع إيران ووصف حركة حماس بالممثل الشرعي للفلسطينيين وطالب كلًّا من مصر والإمارات والبحرين بمراجعة مواقفهم المناهضة لقطر. وحظي البيان المُفَبْرَك بعد لحظات من بثِّه على موقع وكالة الأنباء القطرية بتغطية مكثفة في قناتي العربية والعربية الحدث (السعوديتين) وسكاي نيوز عربية (الإماراتية) التي تُبَث من دبي. وتفاعلت هذه القنوات مع الخبر واستضافت محلِّلين مصريين وسعوديين وأصحاب مواقف سابقة من قطر دون أن تستضيف أي محلل قطري. ثم اتسعت دائرة الحملة الإعلامية وانخرطت فيها وسائل الإعلام السعودية والإماراتية طيلة الأيام التي سبقت قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر في 5 يونيو/حزيران 2017.

 

حسن، أحمد، "الخط الزمني لليلة الهجوم الإعلامي على قطر"، عربي 21، 25 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/حزيران 2017): https://goo.gl/B948lT

كما انخرط الإعلام المصري في الحملة الإعلامية ضد قطر، خاصة الصحف المملوكة لرجال الأعمال، صحيفة اليوم السابع وموقع انفراد ودوت مصر ودوت مصر TV وموقع صوت الأمة وموقع عين المشاهير، وفي الدستور والفجر والبوابة نيوز،،  وصحيفة الوطن، كما جاء الهجوم رسميًّا على قطر عبر موقع التليفزيون الحكومي.

الراجحي، إسلام، "بالأسماء هؤلاء من يملكون وسائل إعلام سعودية وإماراتية ومصرية تدير الهجوم على قطر"، 24 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/حزيران 2017): http://www.thenewkhalij.org/ar/node/69037

1. محمد حسن، سمير، الإعلام والاتصال بالجماهير والرأي العام، (عالم الكتب، القاهرة، 1984)، ط 1، ص 23-24.

2. شفيق، حسنين، الفبركة الإعلامية الرقمية وتضليل الجمهور، (دار فكر وفن، القاهرة، 2016)، ص 46.

3. يونان، كلود، التضليل الكلامي وآليات السيطرة على الرأي، (دار النهضة العربية، دون تاريخ)، ص 119.

4. يهدف هذا النوع من الدعاية (الهدَّامة)، كما يبدو من المعنى اللغوي للكلمة، إلى الهدم بكل أشكاله، وإسقاط المثل الأخلاقية  في عملها التخريبي الذي يستهدف كل أجهزة الدولة ومؤسساتها وصولًا إلى تقويض النظام والإطاحة به.

هلال مزاهرة، منال، الدعاية: أساليبها ومدارسها، (دار المسيرة، الأردن، 2012)، ط 1، ص 98.

وسنقوم بدراسة هذا النوع في القسم التطبيقي الخاص بتحليل مضمون الحملة الدعائية التي أطلقتها وسائل الإعلام السعودية والإماراتية والبحرينية.  

5. الدعاية التحريضية وهي التي تسعى إلى تحريض الجماهير لتقبل تغييرات جذرية تتبنَّاها الحكومة، وقد تقوم بالدعاية  التحريضية لحفز الطاقات وتحريك الأمة في حالة الحرب. ويظهر أيضًا هذا النوع من الدعاية خلال الأزمات أو يقوم بإثارتها.

هلال مزاهرة، الدعاية: أساليبها ومدراسها، ص 98. 

6. يُقصَد بالصورة النمطية استخدام الأنماط الفكرية السائدة أو الصور الذهنية السائدة عن فرد أو جماعة أو شعب وإلصاق مبادئ ونظم وأفكار بشكل يسهل قبولها لدى عامة الناس، والهدف الرئيسي من تسليط الضوء على هذه الصورة النمطية الجامدة السلبية هو إثارة الضغائن والأحقاد والكراهية ضد صاحبها.

جمال الفار، محمد، المعجم الإعلامي، (دار أسامة، الأردن، 2006)، ط 1، ص 212.

7. ديفلير، ملفين، بول روكيتش، ساندرا، نظريات وسائل الإعلام، ترجمة كمال عبد الرؤوف، (الدار الدولية للاستثمارات الثقافية، القاهرة، 2002)، ط 4، ص 3222.

8. ماتلار، أورمان وميشال، تاريخ نظريات الاتصال، ترجمة نصر الدين لعياضي والصادق رابح، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005)، ط 1، ص 81.

9. أبو زيد، فاروق، الإعلام والسلطة: إعلام السلطة وسلطة الإعلام، (عالم الكتب، القاهرة، 2007)، ط 1، ص 114.

10. "البحرين..السجن حتى 5 سنوات للمتعاطفين مع قطر"، العربية، 8 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 14 يونيو/حزيران 2017): https://goo.gl/PT1oYu

11. "حجب مواقع الجزيرة وصحف قطرية في الإمارات والسعودية والبحرين"، البيان، 25 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 14 يونيو/حزيران 2017): http://www.albayan.ae/one-world/arabs/2017-05-25-1.2958199

12. "الإمارات تحظر التعاطف مع قطر وتهدد المخالفين بالسجن أو دفع غرامة مالية"، فرانس 24، 12 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 14 يونيو/حزيران 2017): https://goo.gl/nMipKg

13. يتكون مجتمع الدراسة من الصحف الإلكترونية الآتية: الرياض وعكاظ والشرق الأوسط (السعودية)، والاتحاد والخليج (الإمارات)، والأيام والوطن (البحرين)، وبلغ عدد المقالات التي شكَّلت محور الدراسة التطبيقية 92 مقالًا نُشرت خلال الفترة الممتدة من 25 مايو/أيار إلى 8 يونيو/حزيران 2017.

14. الراجي، محمد، "الصورة الذهنية لجماعة الإخوان في الصحافة الإلكترونية المصرية"، 8 سبتمبر/أيلول 2014، (تاريخ الدخول: 13 يونيو/حزيران 20177):

http://studies.aljazeera.net/ar/mediastudies/2014/06/201461010481334765.html

15. القلاب، صالح، "قطر على خطى جماهيرية القذافي...آخر الدواء الكي"، 8 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/حزيران 2017): https://goo.gl/VyDg1P

16. الجودر، صلاح، "قطع العلاقات لتجفيف منابع الإرهاب"، الأيام، 8 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/حزيران 2017): https://goo.gl/thGUj4

17. الحمادي، محمود، "بين منطق المليشيا ومنطق الدولة"، الاتحاد، 27 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 27 مايو/أيار 2017): http://www.alittihad.ae/details.php?id=31052&y=2017

18. "عباءة خليجية نهارًا عمامة فارسية ليلًا"، عكاظ، 25 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 25 مايو/أيار 2017):

https://goo.gl/eVyYf3

19. الحمادي، "بين منطق المليشيا ومنطق الدولة"، مرجع سابق.

20. المنيف، أمجد، "قناة الجزيرة..رئة الإرهاب وبوق الشقاق"، الرياض، 31 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 17 يونيو/حزيران 2017):  http://www.alriyadh.com/1598762

21. عبد العزيز الهزاني، أمل، "قطر ومعضلة الجغرافيا"، الشرق الأوسط، 6 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2017): https://goo.gl/Mu1mSW

22. ابن عبد العزيز المرجان، عبد الرزاق، "قناة الجزيرة فأر لا يأكل الجبن"، عكاظ، 8 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/حزيران 2017): https://goo.gl/KfKv57

23. سيب، فليب، تأثير الجزيرة، ترجمة عز الدين عبد المولى، (الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2011).

24. راجع "السعودية ومصر والإمارات والبحرين تقطع العلاقات مع قطر"، هسبريس، 5 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 5 يونيو/حزيران 2017): http://www.hespress.com/international/352943.html

25. هلال المزاهرة، الدعاية: أساليبها ومدارسها، ص 251.

26. ناصر الفوزان، عبد الله، "حساب الموطن القطري"، الرياض، 7 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 7 يونيو/حزيران 2017): http://www.alriyadh.com/1600668

27. راجع "خمسة انقلابات في 46 عامًا.. والانقلاب السادس ليس ببعيد"، الرياض، 1 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 1 يونيو/حزيران 2017): http://www.alriyadh.com/1599028

28. شبكشي، حسين، "قطر..القطيعة"، الشرق الأوسط، 6 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2017): https://goo.gl/dzdyGW

29. العنزي، زياد، "قطر تأبطت شرًّا فدفعت ثمن الخيانة!"، عكاظ، 6 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2017): https://goo.gl/VGbM4q