تُظهر دراسة بيئة الصحافة الإلكترونية العربية، ومحاولة تأصيل نشأتها وسياقات تطورها ومقاربة التحديات التي يواجهها هذا القطاع الصحفي هيكليًّا وتشريعيًّا ومهنيًّا وتكنولوجيًّا واستكشاف مساراته المستقبلية، أهمية المدخل النظري لإيكولوجيا الإعلام الذي مكَّن الباحثين المشاركين في هذا الملف من استقصاء أبعاد الظاهرة (القانونية، والاقتصادية، والمهنية، والتكنولوجية، والحريات الصحفية الإلكترونية..) وبحث ديناميات التفاعل بين هذه المتغيرات وسياقاتها المركَّبة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وسمح أيضًا بتجاوز المنظور التجزيئي الذي يدرس القضايا دون مراعاة الشبكة العلائقية التي تربط أبعادها بالبيئات المتعددة المؤثرة فيها.
ففي محاولة التأصيل المعرفي لفهم سياقات نشأة الصحافة الإلكترونية العربية وتطورها، يرى الدكتور باسم الطويسي أن هذا القطاع الصحفي شهد تحولات متعددة خلال عقدين من عمره، أسهمت فيها عوامل ذاتية وعامة ارتبطت بالتكنولوجيا الجديدة وبالتحولات البيئية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث جاءت نشأة الصحافة الإلكترونية العربية وتطورها وسط بيئة تاريخية مُتَحَوِّلة ومملوءة بالمحطات التاريخية المفصلية في حياة مجتمعات المنطقة، ما جعل الصحافة الإلكترونية أداة جديدة أسهمت في إعادة تشكيل صناعة الأخبار في هذا الجزء من العالم. ويلاحظ الطويسي أن المرحلة الأولى التي تُمثِّل النشأة المبكرة للصحافة الإلكترونية العربية (1995- 1999) بقيت خلالها مشابهة تمامًا للنسخ الورقية نتيجة ضعف رؤية القائمين عليها لماهية هذا النمط من الصحافة وطبيعة التحول التاريخي الذي يشهده العالم؛ حيث لم يتغيَّر المضمون الذي يُنْشَر في النسخة الإلكترونية عن الأصل في الصحف الورقية ولا طريقة التحرير أو سرعة نشر الأخبار والمواد الصحافية؛ حيث كانت المواقع الصحفية تحتاج إلى 24 ساعة ليتمَّ تحديثها من جديد، كما هي الحال في طريقة الإخراج وعرض المحتوى فيما ذهبت بعض الصحف إلى عرض المحتوى على صيغة "بي دي إف" (PDF) أي صورة عن النسخة الأصلية.
وتُعَدُّ المرحلة الثانية التي يُسمِّيها الدكتور الطويسي مرحلة الانتشار (2000- 2010) امتدادًا للتطور الذي سبقها في مرحلة النشأة المبكرة، وتتميز هذه المرحلة بثلاث ظواهر بارزة: بدايات ظهور مواقع إخبارية إلكترونية مستقلة عن الصحافة الورقية ولا علاقة مُؤَسَّسِيَة تربط بينهما، وظهور البوابات الإلكترونية العامة التي قدَّمت خدمات إخبارية وتوثيقية عكست شكلًا من أشكال الصحافة الإلكترونية. وأخيرًا، ازدهار التدوين الصحفي الذي مارسه بالدرجة الأولى صحفيون محترفون بشكل مستقل. أما المرحلة الثالثة فيربطها الباحث بسياق ثورات الربيع العربي الذي زرع بذور مرحلة جديدة في تطور الصحافة الإلكترونية العربية جاءت نتائجها في انبثاق دور أكبر وحضور أوسع للصحافة الإلكترونية في الحياة العامة ومساهمة كبيرة في بداية تشكُّل مجال عام جديد في العالم العربي مع الثورات والتحولات العربية في عام 2011. وكان من أبرز معالم هذه المرحلة هو التوسع الكمي الكبير في الصحف الإلكترونية، وظهور صحف جديدة أكثر مهنية وأكثر قُرْبًا للمعايير الجديدة للاحتراف الصحفي الرقمي التي باتت تنضج على المستوى العالمي، مع استمرار الضعف المهني طابعًا عامًّا، وازدياد حصة الصحافة الإلكترونية من سوق الإعلانات الإعلامية التي لم تكن تكاد تُذكَر قبل عام 2010، مع استمرار تدني هذه الحصة بالمقارنة مع وسائل الإعلام التقليدية من جهة، ومع منصات الإعلام الرقمي الأخرى من جهة ثانية، وتحديدًا في ضوء ما باتت تستقطبه شبكات التواصل الاجتماعي من حصة الإعلان.
ويخلص الأكاديمي علي كريمي في دراسته لمراحل النظام القانوني للصحافة الإلكترونية العربية ومسارات تطوره إلى أن فهم القواعد التنظيمية لهذا القطاع وهدفها يتطلبان البحث عن حقيقتها ليس في متن النص القانوني المنظم لها، بل في المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نشأت في رحمه. ويرى أن تنظيم الصحافة الإلكترونية مرتبط بتطور النظام القانوني للإعلام الإلكتروني على المستوى الدولي، وهو بهذا المعنى شديد الصلة بمختلف منعرجات الشروط السياسية التي مرت بها المنطقة العربية في علاقتها بتطور وسائل الإعلام الإلكترونية، ووسائل الإعلام بصفة عامة. ولاحظ الدكتور كريمي وجود اتجاهين في العالم العربي بينهما بعض التمايز بشأن تنظيم الإعلام الإلكتروني:
- الاتجاه الأول: وهو الأكثر انتشارًا، ويسعى إلى إدراج هذه الصحافة من حيث التَّقْنِين والضَّبْط في خانة الصحافة التقليدية، فطبَّق عليها ما هو مطبَّق على هذه الأخيرة وبالخصوص الصحافة الورقية.
- الاتجاه الثاني: سارت فيه أقلية قليلة من الدول، حيث أفردت لهذه الصحافة قانونًا خاصًّا، كما أن هناك دولًا داخل الاتجاه الأول سعت إلى تأكيد الصحافة الإلكترونية في نص دستورها، وتجدر الإشارة هنا إلى دولتين مرَّتا بحالة الثورة، وهما: تونس ومصر.
وأظهرت الدراسة كيف حصل التطور في التعامل قانونيًّا مع الصحافة الإلكترونية العربية، انطلاقًا من التنظيم الخجول لها، إلى التنظيم الكامل والشامل، مع التأكيد على اعتبارها، مثلها مثل الصحافة التقليدية. ومن ثمة أكدت على ما يلي:
أولًا: لفهم عمق قواعد قانون الإعلام الإلكتروني يجب البحث عن حقيقة هذه القواعد وهدفها، وعن معانيها ومقاصدها، ليس في متن النص القانوني المنظم لها بل في المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نشأت في رحمه هذه القواعد. ومن ثم يجب الرجوع إلى البيئة التي نشأت فيها وإلى الشرط السياسي الذي في رحمه وضعت من أجل استيعاب مراميها.
ثانيًا: صعوبة المواكبة التشريعية لتطورات تكنولوجية الإعلام الحديثة؛ ذلك أن هذه الأخيرة تعرف تطورًا سريعًا، في حين أن المواكبة التشريعية لها ضعيفة جدًّا بسبب بطء مسطرة صياغة القانون، وتعقُّد المراحل التي يمر بها، والقنوات التي يَعْبُرُها. يضاف إلى ذلك ما يعتري العملية التشريعية من تعثر وتَرَهُّل، بينما تعرف هذه التكنولوجيات تطورًا سريعًا يناظر سرعة البرق.
ثالثًا: هناك اليوم ضرورة لوضع مدونة إقليمية عربية خاصة بالإعلام الإلكتروني تهتدي بها الدول عند وضعها لقوانين إعلامها الإلكتروني الداخلي، ما يفرض فصل الإعلام الإلكتروني عن الإعلام والنشر الورقي، خاصة أن بين الإعلامين اختلافًا كبيرًا كما أن بينهما وبين الإعلام السمعي البصري اختلافًا، ولكن مع ذلك فإن هذا الأخير يشتمل في الآن نفسه على الثلاثة معًا، فهو من جهة ينطبق عليه ما ينطبق على الإعلام الورقي من حيث النشر، ومن جهة ثانية ما ينطبق على الإعلام السمعي البصري لاشتماله على الصوت والصورة والكتابة.
لذلك، يرى الدكتور كريمي أن التشريع في حقل الإعلام الإلكتروني، وفي مجال الإعلام بصفة عامة، ينبغي أن ينكب على فكرة التنظيم، وألا يسرف في النص على العقوبات؛ لأن الدولة في نهاية الأمر سلطة مُنَظِّمَة، وليست سلطة زاجرة. وهي تُشَرِّع وفقًا لسلطتها على إقليمها، ولا يجوز لها أن تمدَّ تشريعها لمواقع ليست ملكًا لها، كما هي الحال فيما يخص المواقع الإلكترونية. إن هذه المواقع تبعًا لاتفاقية التجارة العالمية ليست ملكًا للدولة حتى تمنع الناس من إنشاء حساباتهم فيها، لكن في المقابل قد يمكن للدولة أن تجرِّم المحتوى الإلكتروني مثلًا، إن كان يتضمن ما قد يُعتبر جريمة جنائية. وعليه، فإن منع إنشاء المواقع والحسابات وربط ذلك بضرورة الحصول على ترخيص، فيه تجاوز لسلطات الدول الأخرى، على اعتبار أن شبكة الإنترنت ليست ملكًا لدولة بعينها.
أما دراسة الأكاديمي محمد الأمين موسى التي تناولت البعد الإيكولوجي لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية، فرصدت تحديات كبيرة تواجه الاستثمار في مجال الصحافة الإلكترونية لاسيما إذا انطلق المستثمر من النموذج الاقتصادي الذي اتبعته وسائل الإعلام التقليدية؛ لذا تحتاج الصحافة الإلكترونية إلى نموذج اقتصادي يتواءم مع الخصائص التواصلية لشبكة الويب والتواصل الإنساني عبر الإنترنت، ويستجيب للمستجدات التي تظهر مع تَغَيُّر حاجيات المتلقين للمحتوى الإعلامي وتَغَيُّر عاداتهم في التلقي؛ فثمة خدمات جديدة تظهر بكيفية متسارعة وتحتاج من يكتشف مكامن الربح فيها ويستغلها في الوقت المناسب.
وقدَّم الدكتور موسى نموذجًا لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية يرسم الملامح العامة لتنوع المداخيل (مداخيل الإعلانات، والاشتراكات، والخدمات التحريرية، والملفات الترويجية) مع التركيز على جودة المحتوى الإعلامي والقدرة على الاستفادة من مواهب الموارد البشرية ومهاراتها في تقديم خدمات إعلامية لا تتوفر في فضاءات الويب مجانًا، خاصة تلك المؤسسات والجهات التي تبحث عن المحتوى المثمر.
وفيما يتعلق بحدود تطبيق هذا النموذج وإمكانية مواكبته للمستجدات وقدرته على التكيف في المجتمعات العربية المختلفة والتي يتباين تعاطيها مع الإعلام من حيث الظروف التي توفرها الجهات الرسمية أو من حيث عادات التلقي، يرى الدكتور موسى:
- هذا النموذج الاقتصادي لا يهتم بالمداخيل التي تتخذ طابع الدعم سواء تعلق الدعم بجهات حكومية أو مراكز نفوذ لها مآرب غير اقتصادية (والمآرب الاقتصادية تعني تقديم تمويل يتم استرداده من خلال النشاط الذي تقوم به المؤسسة زائدًا الأرباح)؛ فالدعم يجعل مكونات النموذج الاقتصادي للمؤسسة الإعلامية مجرد دخل ثانوي لا تناضل المؤسسة من أجل الحصول عليه.
- نجاح هذا النموذج رهين بأداء العاملين في المؤسسة الإعلامية الإلكترونية والقائمين على أمرها انطلاقًا من وعي اقتصادي يجعل إعداد المحتوى وإعداد الشكل أكثر تلبية لحاجيات المتلقي-المستهلك. والسؤال الرئيس هنا الذي يحتاج إلى إجابة مسبقة: ما الذي يجعل المتلقي يدفع مقابل الحصول على الخدمة الإعلامية التي تُقدِّمها المؤسسة الإعلامية الإلكترونية؟
- هناك تفاعل وتكامل وانسجام بين المكونات الأربع للنموذج؛ فكل مكون يخدم المكونات الثلاثة الأخرى من خلال التمايز عنها وتقديم خدمات تناسب فئة معينة من الجمهور؛ الأمر الذي يُقَدِّم لطالب الخدمة الإعلامية خيارات عدَّة تناسب ميزانيته وجمهوره المستهدف.
- قائمة مكونات النموذج ليست نهائية، بل قابلة للتوسع أو الاستبدال أو التقلص وفقًا للسياقين التاريخي والجغرافي، وكذلك تخصص الصحيفة الإلكترونية ورؤيتها وقدرتها على ابتكار خدمات جديدة استنادًا إلى المستحدثات التكنولوجية.
وحول دور الصحافة الإلكترونية في تشكيل أو إعادة تشكيل المجال العام، يخلص الأكاديمي نصر الدين لعياضي إلى أن العوامل التي أدت بيورغن هابرماس إلى التأكيد على انحراف المجال العام، مثل انتقال صحافة الرأي إلى صحافة تجارية، وتراجع اهتمام محرري الصحف بالمصلحة العامة بعد 1870 مقابل دفاعهم عن المصالح الخاصة، إضافة إلى جنوحها نحو الترفيه، لا تزال قائمة بالنسبة للكثير من مواقع الصحف الإلكترونية العربية. لكن هذا الأمر يجب ألا يُخفي الدور النشيط الذي قامت وتقوم به هذه الصحافة في توسيع سجل الأحداث والوقائع واطلاع أكبر عدد من الناس عليها، والكشف عن التجاوزات في إدارة قضايا الشأن العام في الكويت وتونس والجزائر والمغرب، على سبيل المثال، والدفع بالمشاكل التي تطرأ على المجتمع لتكون مرئية أكثر كشرط أساسي لتحولها إلى مشاكل عمومية، باستخدام قوالب جديدة لسرد الأحداث والتجارب بشكل يثير فضول الجمهور/المستخدمين ويدفع للاهتمام بها.
ويرى الدكتور لعياضي أن تصفح مواقع الصحف الإلكترونية العربية ومتابعة تداعياتها في الفضاء الإعلامي العربي لا تؤكد تشذُّر المجال العام فحسب، بل تدعو أيضًا إلى إعادة التفكير في مفهومه وفي الأشكال التي يتجسَّد بها بعيدًا عن شروطه الأنطولوجية التي أكد عليها هابرماس: الاستعمال العمومي للعقل، ومناقشة الآراء والمقترحات المتعلقة بالشأن العام ومداولاتها، والفصل بين ما هو عام وما هو خاص، ووجود مجتمع مدني قوي ونشيط. فالفضاء العمومي في البيئة الافتراضية التي تشكِّل الصحافة الإلكترونية جزءًا من متنه يتطلب مقاربته من منظور إصدار الأحكام وليس الحجاج. الأحكام التي تفعل فعلتها في تشكيل الرأي العام العربي حول القضايا والمشاكل والأحداث التي تثيرها مواقع الصحف الإلكترونية.
وفي دراسته لواقع حرية الصحافة الإلكترونية العربية انطلاقًا من الحالة الأردنية، أوضح الدكتور محمد الراجي أن الرؤى المختلفة للفاعلين المهنيين والمعنيين بحقل الإعلام تكشف الطابعَ الإشكاليَّ لحرية الصحافة الإلكترونية في الأردن بالنظر إلى العلاقة التبادلية بين متغيرات بيئتها المهنية والقانونية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فقد أبرزت المراحل الثلاث التي تشكَّلت فيها حالة حرية الصحافة الإلكترونية وخصوصية الحامل الإلكتروني نفسه (الويب 2.0) مدى تأثير البيئة الإعلامية والاتصالية الجديدة في صَوْغ المفهوم ودلالاته وأبعاده الجديدة التي ارتبطت بـ"سقف مفتوح" ("سقف عال"، و"مستوى جيد") في معالجة قضايا الشأن العام، وهو "سقف غير مسبوق" في المشهد الإعلامي الأردني لـ"جرعاته الزائدة" قبل مرحلة التشريع حتى غدا سقفًا وهميًّا مجالًا ومنظورًا. وقد أسهم أيضًا السياق السياسي العام ودينامية الحراك الشعبي الذي تزامن مع أحداث الربيع العربي في بلورة تلك الدرجة المعيارية (مستوى جيد) التي اعتبرها البعض مكسبًا للحالة الإعلامية في الأردن، فضلًا عن بروز فاعلين جدد في المشهد الإعلامي الإلكتروني.
لكن سرعان ما تراجع هذا "السقف المفتوح" في ظل منظومة قانونية يعتبرها معظم الفاعلين المهنيين والباحثين المعنيين بحقل الإعلام تقييدًا لحرية الصحافة الإلكترونية و"نكوصًا عن المكتسبات". وهنا، يبرز مرة أخرى تأثير البيئة التشريعية والسياسية والاقتصادية باعتبارها سياقات كابحة لحرية الصحافة الإلكترونية، وهو ما يستدعي النظر في الشروط والعوامل المناسبة لتجاوز الإشكاليات التي تثيرها هذه البيئات غير الصديقة للحريات. ويرى العديد من الفاعلين المهنيين والباحثين أن الخطوة الأولى تتطلب إيجاد "بيئة صديقة للحريات" تتمثَّل في عقلية جديدة تمتلك الخبرة في إدارة ملف الإعلام؛ لأن ذهنية الدولة لا تزال -في نظر هؤلاء- محافظة في تدوير القيادات والتشريعات، وفي سنِّ القوانين وتنظيم القطاع. كما أن هذه البيئة الصديقة للحريات تحتاج لتشريعات وقوانين لا تنزع فلسفتها وروحها للتقييد والتجريم والعقاب كما يبدو في قانون الجرائم الإلكترونية الذي يعتبره البعض "عبثًا بالأمن الوطني" لتحصينه فئة ضد النقد بكل أشكاله؛ ما يؤدي إلى ظواهر سلبية تُعطِّل إنجاز مسلسل الانتقال الديمقراطي الطويل الذي يعيشه الأردن منذ العام 1989. ويرى هؤلاء المهنيون أن الذي حمى الأردن خلال فترة الربيع العربي هو مساحة النقد التي كانت تتوفر في الأردن، فكسرت التابوهات التقليدية والمحرمات السياسية والاجتماعية والثقافية؛ "لذلك، يجب التعامل مع الإعلام باعتباره جزءًا من الأمن المجتمعي وحماية الأمن الوطني والاستقرار والتنمية المستدامة وليس على مقاس بعض أجنحة السلطة".
وستكون البيئة الصديقة للحريات محصَّنة أيضًا بحق الحصول على المعلومات التي لا يزال الصحفيون يواجهون حتى اليوم صعوبات وعقبات كثيرة من أجل الوصول إليها جرَّاء البيروقراطية والهواجس الأمنية. كما أن انتشار بعض أنواع الخطاب (الكراهية، التحريض..) والشائعات والأخبار الزائفة لا يجوز النظر في نتائجها عبر المسارعة لسن القوانين وإنما البحث عن أسبابها ومعالجة جذورها. ولا يمكن أيضًا إغفال تعزيز المجال العام الذي شكَّلت فيه الصحافة الإلكترونية -خلال إحدى مراحل تطورها- منصاتٍ للنقاش العام تسمح بمشاركة تفاعلية لجميع أفراد المجتمع، وهو ما كان يُمثِّل عنصر قوتها. وقد يصبح هذا المجال أكثر فاعلية في ظل بيئة سياسية تكون صديقة للحريات.
أما الدراسة التي بحث فيها الأكاديمي المعز بن مسعود أخلاقيات الصحافة الإلكترونية العربية، فقد شخَّصت أولًا الإشكاليات التي تشترك فيها أغلب الصحف الإلكترونية، وهي بالأساس:
- غيـاب تشريع محـدد يتعامل مـع الصحافة الإلكترونية بأبعادها المختلفة، المهنية والفنية والمالية، وعلاقاتها بمؤسسات الدولة.
- عـدم وضـوح علاقة الأطراف المكوِّنة لقطاع الصحافة الإلكترونية بالنقابـات المهنية؛ على اعتبار أن النقابة هي الجهـة الأساسية المسؤولة عـن قضايـا مهنـة الصحافـة، وأن عـدم انتهـاء النقابـة إلى مفهـوم أو تصـور محـدد لعلاقـة المؤسسات الصحفيـة الإلكترونية أو الافتراضية والصحفيين الإلكترونيين بها، يبقى من المشاكل المطروحة بصفة جدية على أصحاب المهنة.
وبناء على ما تقدَّم، خلص الدكتور ابن مسعود إلى أن الإعلام الإلكتروني يجب أن يستمد قواعده الأساسية من الأخلاقيات التي تمَّ إنضاجها في حقل الإعلام التقليدي بمحامله المختلفة المكتوبة والمسموعة، والمرئية. كما أن حقل الصحافة الإلكترونية بمواصفاته التكنولوجية والتواصلية الجديدة بات يفرض التفكير في منظومة أخلاقيات خاصة به تتفاعل مع التحولات المشار إليها، فضلًا عن الحاجة الملحَّة لتطوير آليات التنظيم الذاتي والرصد، بشراكة مع جمهور مستخدمي الصحافة الإلكترونية، وكذلك شركات التكنولوجيا العملاقة، وذلك انسجامًا مع مقوِّم التفاعلية الذي يطبع هذه الصناعة.
ويرى ابن مسعود أن جزءًا من انحرافات المشاكل المطروحة على مستوى الأخلاقيات المهنية قد يُحَلُّ لو أن كبرى شركات التكنولوجيا قبلت تقمُّص دور الناشر في هذا العصر الرقمي، والاستفادة من العدد الهائل من الصحفيين الأكفاء والملمِّين بالأخلاقيات المهنية، الذين شردتهم ثورة المعلومات، لاسيما أن تلك الشركات بإمكانها تحمل التكلفة، بعد أن بلغت أسعارها التجارية أرقامًا خيالية.
من جهة أخرى، ولتجاوز بعض الأفكار السائدة التي تعتبر أن "صحافة الإنترنت" لا تتعدى أن تكون "شغبًا افتراضيًّا" -بدليل عدم توفُّر ممارسيها على تكوين صحافي؛ مما يفسر عدم احترام كتاباتهم للقواعد المتبعة عادة في الكتابة الصحفية"-، فإن جمعيات المجتمع المدني الممثِّلة لمديري وكُتَّاب المواقع الإلكترونية، وأصحاب المدونات والمنظمات غير الحكومية، على الصعيدين العربي والدولي، بإمكانها المساعدة على هيكلة الحقل الإعلامي الإلكتروني المليء بالإشكالات المتعلقة بالالتزام الأخلاقي، واحترام التقنية التي باتت الهاجس الأكبر لأرباب المهنة في الصحافة الإلكترونية على حساب الضوابط المهنية.
ولئن هُمِّشت الضوابـط المهنيـة للإعلام الجديـد، لحساب هوس بالمعايير التقنيـة التـي أصبـحت تحتل الجانب الأكبر من اهتمامات المشتغلين بالصحافة الإلكترونية العربية، والبحث عن السبق الصحفي على حساب المعايير المهنية مما فسح المجال واسعًا أمام الشائعات، إلا أن هناك بعض المحاولات لوضع مبادئ لخدمة الصحافة الإلكترونية وصحافييها، بهدف دعم المقاييس والمعايير المهنية، ودفع مبادئ الحرية الصحفية في جمع وتوزيع المعلومات، ومقاومة أية مصلحة شخصية أو أية ضغوط من قبل المهنيين قصد التأثير على الواجب الصحفي أو الإخلال بخدمة الجمهور، والمصلحة العامة. كما أن إقرار المساءلة الإعلامية التي تحقق التوازن بين حقوق الفرد والمجتمع وحق الصحفي في حرية التعبير من خلال مجالس صحفية ولجان إعلامية مستقلة وذات مصداقية، قد يكون أحد دعائم أخلاقيات العمل الإعلامي في الصحف الإلكترونية العربية، دون أن يعني ذلك طبعًا استبعاد دور القانون في تحسين جودة هذه الصحافة.
وخلصت الدراسة، التي أعدتها الأكاديمية فاطمة الزهراء السيد، حول ميكانيزمات التعايش والتنافس بين الصحافة الإلكترونية العربية ومنصات الإعلام الاجتماعي إلى أن حالة التنافسية تظل قائمة بين نمطي الصحافة الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي مع ميزات تفضيلية متزايدة لصالح الأخيرة نتيجة لتطور تكنولوجيا الهواتف المحمولة مع وجود بعض الفرص التي إذا أحسنت الصحف الإلكترونية استخدامها فقد يساعد ذلك في استعادة بريقها، مثل القدرة على إحداث توازن بين التَّحقُّق من صحة ودقة الأخبار وسرعة نشرها، وكذلك استخدام شبكات العلاقات المحلية من خلال اندماج المحررين في مجموعات الاتصال ذات الاهتمامات العامة المشتركة واستخدام الحوارات الدائرة فيها لتوليد أفكار جديدة لمحتوى صحفي إبداعي. بالإضافة إلى بذل الجهد في استقطاب المتميزين من منتجي المحتوى المكتوب أو متعدد الوسائط عبر شبكات التواصل الاجتماعي ودمج إنتاجهم بشكل تكاملي مع مضمون الموقع الإلكتروني للصحيفة.
وترى الدكتورة السيد أن هناك مسارات عديدة تستطيع الصحف الإلكترونية المضي قدمًا فيها لتتكيَّف مع واقع الاستحواذ المتزايد لشبكات التواصل الاجتماعي على اهتمامات المستخدمين الإخبارية إلا أن جميع هذه المسارات يؤدي إلى مساحة واحدة وهي الاتصال المباشر مع جمهور الشبكات والبحث عن نطاقات تعاون مشتركة لإنتاج محتوى إعلامي بشكل جديد على أن تشمل الاتصالات كلًّا من الجماهير المتفاعلة على التطبيقات العالمية وكذلك التطبيقات المحلية. لكن يبدو أن استمرار مواقع الصحف الإلكترونية مرتهن بشكل أساسي بالنجاح في مواجهة التحدي الاقتصادي. فربما تنجح سياسات المواجهة المهنية لبعض الوقت في جذب اهتمام الجمهور إلا أنه ليس من المتوقع أن تصمد على المدى البعيد في ظل التطورات التقنية التي يبدو أنها تعمل لصالح تطبيقات الاتصال عبر الهواتف المحمولة والمرتبطة في الأساس بشبكة العلاقات الشخصية. ولذلك، فإن استفادة مواقع التواصل الاجتماعي من هذه التطورات سيكون أكبر من استفادة مواقع الصحف الإلكترونية إلا إذا تخلت المؤسسة الصحفية عن نافذتها التقليدية لتزويد الجمهور بالخدمة الصحفية وفكَّكت محتواها في شكل تطبيقات متخصصة يتم إعادة تأهيل محرري الأقسام للتعامل معها، يختار منها الجمهور ما يناسب اهتماماته على أن يتم دمج محتوى التطبيقات مع محتواها المنشور عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي والذي يجب تحريره بشكل يزيد من شغف القارئ بزيارة موقع الصحيفة لمعرفة الأبعاد الكاملة للقصة الإخبارية.