يطرح هذا الفصل السؤال عن العناصر الغالبة على اتجاهات تطوير الإستراتيجيات الأطلسية، انطلاقا من إرادة القوى الفاعلة في حلف شمال الأطلسي أكثر من سواها، وتفاعلا مع الأرضية الدولية التي يجدها، وما يحتمل أن تشهده من تطورات يضعها في حساباته أو تتجاوز توقعاته. ويشمل السؤال تخصيصا تأثر إستراتيجيات الحلف الأطلسي بعودة فرنسا إلى عضويته الكاملة وبعلاقاته مع روسيا.
ولا تشمل الفقرات التالية المشكلات البنيوية الداخلية للحلف -مع تأكيد أهميتها- مثل الصعوبات الكبيرة التي تعترض تطوير أجهزته السياسية الإدارية لتحيط بمتطلبات توسعه الجغرافي الكبير، ومتطلبات إضافة ميادين "الشراكة" مع دول خارج نطاقه، وبتحويل طاقاته العسكرية من دفاعية إلى طاقات تدخل سريع بامتداد عالمي.
تطور إستراتيجيات الحلف
تماسك الحلف وتعدد الرؤى الأمنية داخله
عودة فرنسا إلى الحلف
العلاقات الأطلسية الروسية
العولمة العسكرية
باختصار..
لا خلاف في أن حلف شمال الأطلسي عام 2009 غير ما كان عليه عند تأسيسه عام 1949 أو عند سقوط غريمه في الشرق عام 1991، وقد مر تطوره بعدة مراحل على طريق بحثه عن أدوار عالمية جديدة، وعبَر منعطفات جوهرية لانتشار عسكري ميداني وتوسع جغرافي. إنما يبقى السؤال مطروحا حول مواطن التطور الأهم والمعالم النهائية التي ستستقر عليها مهام الحلف المستقبلية، ومدى قدرته على التلاؤم مع المتغيرات الدولية خارج نطاقه.
يبقى السؤال مطروحا حول مواطن التطور الأهم والمعالم النهائية التي ستستقر عليها مهام الحلف المستقبلية، ومدى قدرته على التلاؤم مع المتغيرات الدولية خارج نطاقه. |
وظهر التوسع العسكري الميداني عبر التدخل في البلقان منذ عام 1995 بمشاركة روسية، ثم تعثرت العلاقات مع روسيا تدريجيا حتى بلغت مرحلة المواجهة السياسية مع استقلال كوسوفا ثم الحرب الجورجية. ومن الدلالات الإستراتيجية الهامة على التوسع الميداني الشامل للحلف في البلقان، أنه كان يهدف إلى توظيف قدراته العسكرية والقتالية في إطار مهام حفظ السلام والأمن والاستقرار على الساحة الأوروبية أولاً، وبالتنسيق مع أطراف أخرى كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا، حتى لا يشكل بعض حلقات التعاون المفقودة أية عقبات أو تأثيرات سلبية على مهامه الحالية والمستقبلية، وذلك حرصاً من الحلف على تلافي أي قصور أو فشل ميداني يؤدي إلى تراجعه وانحسار دوره وتقلصه، وربما إلى إلغائه كلياً من الخريطة العالمية، ما سهل للحلف انطلاقته العسكرية في وقت لاحق كمرحلة ثانية نحو الشرق الأوسط وآسيا.
وتجاوباً مع التهديدات الجديدة التي طرأت بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأميركية، فعّل الحلف المادة الخامسة من معاهدته المتعلقة باعتبار أن "أي عدوان على إحدى الدول الأعضاء في الحلف يمثل عدواناً على بقية الأعضاء". وبتفعيل هذه المادة بات واضحاً أن الحلف أصبح ملزما بتنفيذ توجهات ورغبات واشنطن التي أعلنتها من خلال إستراتيجية "شن الحرب على الإرهاب العالمي". وبذلك وجد الحلف المبرر السياسي وآلية الانتقال الإستراتيجية من المسرح الأوروبي إلى المسرح الآسيوي نحو أفغانستان والشرق الأوسط.
وربما جاء تجاوب الحلف التلقائي والسريع مع واشنطن بسبب الثقل الإستراتيجي والسياسي والعسكري الأميركي، بالإضافة إلى أنه كان يبحث عن أدوار عسكرية جديدة على الساحة العالمية.
واستمرت خريطة الحلف بالتوسع شرقاً فضمّ أعضاء جددا من منطقة البلقان وأوروبا الشرقية، حيث وصلت حدوده إلى مسافة 400 كلم عن حدود روسيا. وقد دل ذلك التوسع الإستراتيجي على أن الحلف لا يبالي بأي طرف أو جهة أخرى -مثل روسيا في المرحلة الحالية- عندما تقتضي مصلحته ضم دول جديدة، وإن مثلت تلك الدول كأعضاء جدد من وجهة نظر روسيا خنجراً حاداً في خاصرتها من الصعب إزالته أو التعايش معه.
تماسك الحلف وتعدد الرؤى الأمنية داخله
يرتبط تماسك الحلف مستقبلا بمهام دولية جديدة على أرضية أمنية مشتركة، ولا يسهل ذلك بعدما تضاعف عدد أعضائه وامتد نطاق تطلعاته المستقبلية إلى ميادين دولية لم تكن مطروحة في برامجه. ويواجه الحلف في تحديد الأرضية الجديدة أزمة أساسية بدأت بالظهور منذ عامه الخمسين وتجسدت في التعدد الملحوظ للنظرات الإستراتيجية الأمنية لدوله، أو مجموعات دوله الأعضاء. ومن ذلك:
المحور الأميركي الكندي البريطاني أحرص على التحرك العسكري في ما وراء البحار، والعنوان هو "الحرب ضد الإرهاب"، وأهم صورها التطبيقية الحرب في أفغانستان دون ظهور مؤشرات لحسم نهائي في ساحة القتال. ورغم مشاركة الدول الأخرى في الحرب، فإن جميع القمم الأطلسية أبرزت تباين النظرة إلى التعامل معها على أرض القتال.يرتبط تماسك الحلف مستقبلا بمهام دولية جديدة على أرضية أمنية مشتركة، ولا يسهل ذلك بعدما تضاعف عدد أعضائه وامتد نطاق تطلعاته المستقبلية إلى ميادين دولية لم تكن مطروحة في برامجه. - معظم الدول الأوروبية الغربية حريصة على علاقات الود والتعاون مع الدولة الروسية المترامية الأطراف شرقا (وبدأت معالم تحرك أميركي في الاتجاه نفسه في عهد أوباما كما يظهر من مجرى مفاوضات الحد من التسلح). أما الدول الأوروبية الشرقية فتعيش على "المخاوف" من عودة الهيمنة الروسية بشكل ما، والتي ضاعفها التحرك الروسي ومظاهر التراجع الغربي نسبيا في التعامل مع حرب جورجيا.
- عودة فرنسا إلى الحلف عسكريا مقترنة بالأمل في تقوية جناحه الأوروبي على حساب جناحه الأميركي، بينما ترى ألمانيا استقرارها الأمني مرتبطا بالتوازن بين الحلف والاتحاد الأوروبي. أما بريطانيا فلم تتجاوز دورها الأشبه بامتداد الأرض الأميركية إلى قلب الساحة الأوروبية.
- منظور الأمن السائد في الجنوب الأوروبي بين البرتغال وإيطاليا يخشى "ضعفا إفريقيا" يتحول إلى "هجمة لاجئين كبرى" أو خطر أمني "إرهابي"، بينما تغلب النزاعات الإقليمية على تحديد منظور أمني آخر في جنوب أوروبا الشرقي بين اليونان وقبرص وتركيا.
- ظهور عوامل جديدة في الساحة التركية انعكست مبدئيا في القمة الستينية عبر ممانعة تركيا -قبل الحصول على ضمانات معينة- أن يتولّى رئيس الوزراء الدانماركي راسموسن الأمانة العامة للحلف. والمهم هنا عدم تردد أنقرة في التصريح بالأسباب، ومحورها موقفه السلبي في التعامل مع الإساءة الكاريكاتيرية الدانماركية لمقام النبوة، وبالتالي نظرتها إلى ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الحلف مع العالم الإسلامي.
لم تكن فرنسا غائبة عن حلف شمال الأطلسي بصورة كلية طوال فترة الحرب الباردة، إذ رغم انسحابها من قيادته العسكرية عام 1966، فإنها بقيت عضواً أساسياً في الحلف، ومن أبرز الدول المساهمة فيه من حيث الرجال والمال منذ نهاية الحرب الباردة، كما تولت قيادة عمليات أطلسية (كوسوفو وأفغانستان)، واستعاد وزير دفاعها وقائد أركان جيشها عام 1996 مقعديهما في اجتماعات الحلف.
ومن هنا فإن عودة فرنسا إلى القيادة الأطلسية الموحدة ليست إلا مجرد ترسيم لوضع قائم منذ سنوات. وقد تمت عودتها رسمياً في قمة 2009، ويثير هذا القرار جدلاً محليا بسبب تبعاته (تخلي فرنسا عن مبادئ صقلت هويتها وصاغت سياستها خلال عقود من الزمن).
تنازلت فرنسا في هذه القضية لأن الحلف لم يمنح قيادة الجنوب لقائد أوروبي، لكن باريس حصلت بالمقابل على قيادتين أطلسيتين: قيادة الحلفاء في نورثفولك بفرجينيا (قيادة مكلفة بالتفكير في مستقبل الحلف)، وقيادة الحلفاء الإقليمية في لشبونة وهي المسؤولة عن الوضع في منطقة الأطلسي وإفريقيا (دلالة على اعتراف بدور فرنسا في إفريقيا). بيد أن فرنسا ستبقى خارج لجنة التخطيط النووي الأطلسية حفاظاً على استقلال ردعها النووي، وهي ثاني هيئة أطلسية كانت غائبة عنها، وإن كانت هذه اللجنة قد أصبحت جسداً بلا روح لأنها لم تجتمع منذ أزيد من عقد من الزمن بسبب اختفاء الرعب الذي كان قائماً إبان الحرب الباردة.
تطبيع فرنسا لوضعها في حلف شمال الأطلسي سيتسبب في "خسائر" لبريطانيا وألمانيا وإيطاليا الحاضرة بقوة في قيادة الحلف، وبالتالي فستكون مجبرة على ترك مناصب للفرنسيين، مما قد يتسبب في تنافس أوروبي داخل الحلف في إطار "صراع" المناصب القيادية.
أزمة هوية الحلف مرتبطة جزئياً بصعوبة الحسم بين الحلفاء في طبيعة العلاقة مع روسيا، حتى وإن كان الاتجاه العام هو نحو اعتبارها شريكاً أكثر من خصم. |
وإذا كان الحلف يتطلع إلى دعم فرنسا الكبير في مجالات تعزيز القوى البشرية الأطلسية والقدرات العسكرية الميدانية، لاسيما اللوجستية منها، فلا يغيب في المقابل سعي فرنسا لدور إستراتيجي عسكري عالمي، أبعد من دورها الحالي السياسي عبر الاتحاد الأوروبي أو دورها الوطني (كفرنسا مستقلة القرار). كما تتطلع في هذا الإطار إلى دور كبير في منطقة الشرق الأوسط (ليس تحت المظلة الأطلسية فقط) لا سيما في الدول العربية والإسلامية، وربما تطمح إلى تجاوز ذلك نحو بناء علاقات إستراتيجية جديدة مع دول شرق وجنوب شرق آسيا في المستقبل، من خلال الأدوار الإستراتيجية للحلف إذا ما وصلت قواته إلى تلك المناطق في المستقبل.
بعد نهاية الحرب الباردة لعب الحلف دوراً أساسياً في صناعة هوية دول أوروبا الشرقية، ليضيف هذا النجاح إلى نجاحه في الحفاظ على استقرار العلاقات بين ضفتي الأطلسي -الأوروبية والأميركية- رغم الزوابع السياسية، لا سيما في فترة الاستقواء الأميركي بالأعضاء الجدد في الخلاف مع "أوروبا القديمة" حول غزو العراق.
كما أثارت المعادلة الجديدة إشكالات أخرى، منها أن بعض الأعضاء القدماء لا يشاطرون الأعضاء الجدد مدركاتهم للتهديد الروسي. وإذا كان توسيع الحلف منحه فرصة تاريخية لتجديد مسوِّغاته وجدواه كأداة استقرار وسلام في أوروبا، فإن هذه الفروق في المدركات بين أعضائه تزعزع بنيانه كحلف عسكري (تحديد مشترك للتهديد). ومن هذه الزاوية يمكن القول إن أزمة هوية الحلف مرتبطة جزئياً بصعوبة الحسم بين الحلفاء في طبيعة العلاقة مع روسيا، حتى وإن كان الاتجاه العام هو نحو اعتبارها شريكاً أكثر من خصم.
ساهم في تطور الموقف من العلاقات الأطلسية بروسيا تراجع مفعول منظومة القيم داخل الحلف أمام النظرة الأمنية (خروج السياسة الأميركية تجاه العراق على إجماع الحلف)، ويضاف إلى ذلك ظهور اختلاف المصالح بين أقطاب الحلف الغربيين أكثر مما كان عليه في حقبة الحرب الباردة، فحاجة الأوروبيين إلى مظلة نووية أميركية واقية من الخطر السوفياتي القريب، بقيت لأربعين عاما عنصرا ضاغطا على الأعضاء الأوروبيين في علاقاتهم المصلحية ولاسيما الاقتصادية والمالية مع الأميركيين. ومع سقوط معادلة الحرب العسكرية ووصول الدول الأوروبية الرئيسية إلى مستوى اقتصادي وتقني متقدم، بدأت الخلافات السياسية الأمنية تظهر على السطح تدريجيا، وازداد ذوبان "فارق الهوية" تدريجيا بين الدول الأوروبية وروسيا، وليس بين الدول الأعضاء في الحلف فقط.
بلغت أزمة العلاقات الأطلسية أقصى مداها في قضيتي كوسوفا وجورجيا، وبدأت نذر المواجهة تطفو على مفعول علاقات المشاركة، إلا أن لقاءات عام 2009 بعد وصول أوباما إلى منصب الرئاسة أوجدت -رغم استمرار الخلاف حول جورجيا وغيرها- بوادر وفاق أطلسي روسي جديد، قد يصبح أوسع نطاقا وأكثر ثباتا من علاقة "المشاركة" القائمة من قبل.
كان من المشكلات التي واجهت الحلف بعد الحرب الباردة مشكلة إعادة صياغة مهامه بتوسيع نطاقها دوليا، مع تثبيت حصيلة سقوط المعسكر الشرقي. وهنا برزت صعوبات جديدة لم تقتصر على الأبعاد العسكرية من حيث تطوير القيادات ونوعية التسلح فقط، وإنما شملت تحديد هوية الحلف على أرضية منظومة القيم كما يراها.
ولعل أبرز نقاط ضعف الحلف بعد الحرب الباردة كامنة في "قوته"، مع انفراده عالميا بموقع العملاق العسكري. وما يبدو تناقضا في هذه العبارة يضمحل عند إدراك أن عنصر الردع المتبادل في الحرب الباردة لعب دورا كبيرا في تجدد حقن الحلف الغربي بدوافع البقاء والنماء والتسلح (سباق التسلح ومواراة الخلافات الداخلية).
لعل أبرز نقاط ضعف الحلف بعد الحرب الباردة كامنة في "قوته"، مع انفراده عالميا بموقع العملاق العسكري. |
"العولمة العسكرية" للحلف على هذا النحو -مهما كانت دوافعها المباشرة- هي ما يعارضه أكثر من طرف أوروبي، والأصح هو القول إن المعارضة تنصب على "الإفراط والتسرع" في تلك العولمة، كما يؤخذ مثلا من تصريحات رسمية -فرنسية وألمانية بالخصوص- رافقت انعقاد القمة الستينية للحلف، وكشفت أن جوهر المعارضة هو رفض "عولمة الحلف بهيمنة أميركية" كما بدأت في عهد جورج بوش الابن، ولهذا كان تعقيب الرئيس الأميركي باراك أوباما متكررا خلال القمة الستينية بأسلوب "إثارة الاطمئنان" لدى الحلفاء، ولكن دون الوصول إلى صيغة حاسمة، مما دفع إلى تكرار القرار المشترك مجددا -بعدما سبق اتخاذه في عدة قمم سابقة- بتشكيل لجنة تطرح مقترحات جديدة لتعديل المهام الدولية الجديدة نسبيا، والمقررة قبل عشرة أعوام في واشنطن.
اقتصر تطوير الحلف خلال الحرب الباردة على زيادة تسلحه كما ونوعا، ولم يخرج به عن دور القوة الدفاعية الرادعة، بينما اتخذ التطوير في المرحلة التالية اتجاهين متكاملين:
- أحدهما التحول من حيث الأساس إلى حلف غربي يتوسع شرقا بمهام دولية خارج نطاقه الجغرافي، وانعكس ذلك في عبور ساحة القتال في البلقان إلى ساحة القتال في أفغانستان.
- والثاني إعادة تشكيلاته العسكرية وقياداتها ونوعية تسلحها في اتجاه القيام بمهام عسكرية على مسافات بعيدة، وبما يتلاءم مع متطلبات مواجهة ما يسمى التهديدات الأمنية اللينة أو الناعمة.
ولم تستقر الصورة الجامعة بين مهام جديدة والطاقة العسكرية المتطورة على صيغة نهائية، في حين بدأت عوامل جديدة بالظهور على الساحة الدولية، لاسيما في الشرق الآسيوي (روسيا والصين والهند) وفي العالم الإسلامي بازدياد أثر وجود المقاومة المسلحة رغم استمرار حالة التجزئة والضعف عموما.