منذ سنوات طويلة ونحن نسمع بين حين وآخر عن حوارات متعددة المستويات تتم بين إسلاميين وبين جهات غربية، بعضها رسمي وبعضها غير ذلك، وإن ترجح أن معظمها يتم بغطاء رسمي، حتى لو كان المحاورون ينتمون إلى جهات لها صفة الاستقلالية (منظمات أهلية ومراكز أبحاث).
ياسر الزعاترة |
وعندما نتحدث عن الغرب، فنحن نتحدث ابتداءً عن الولايات المتحدة كقوة رئيسية وكبيرة لها الضلع الأكبر في الحوارات التي تجري، ومن بعدها الدول الأوروبية الغربية، فيما تابعنا في السنوات الأخيرة دخول روسيا على الخط، وبالطبع في سياق من استعادة الدور ومزاحمة الولايات المتحدة على مواقع القوة والنفوذ.
من الصعب ابتداء الخوض في مسألة الحوار من دون التعريج على تاريخ العلاقة بين الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة وبين القوى الإسلامية. وهنا ينبغي التذكير بالعلاقة الجيدة بينهما أثناء الحرب الباردة، وحتى نهاية الثمانينات، والتي تجلت في شكل من أشكال التوافق على الحرب مع الشيوعية؛ منظومة وأفكارا، مع أننا نميل إلى أن الولايات المتحدة هي التي استخدمت الإسلاميين في سياق الحرب الباردة، بينما رآه بعض الإسلاميين شكلا من أشكال اللقاء أو التوافق على مصالح مشتركة في زمن كانت أولويتهم هي تثبيت الهوية المهددة من طرف الشيوعية، وهي أولوية قدموها على مواجهة الإمبريالية الأميركية، من دون أن يتوقفوا عن هجاء هذا الأخيرة في الخطاب السياسي والإعلامي. وعلى كل حال سيكون من الطبيعي أن يبقى الجدل قائما حول صواب هذه الرؤية من عدمه.
وفيما كان التعاون في أفغانستان واحدا من أبرز تجليات ذلك اللقاء بين الطرفين، إلا أنه لم يكن الوحيد، وقد رأينا كيف وجد الإخوان المسلمون الذين اصطدموا بالنظام السوري مطلع الثمانينيات بعض العون غير المباشر من الولايات المتحدة، وبالضرورة المباشر من الدول المتعاونة معها (هذه الأخيرة لم تكن لتفعل لولا الموافقة الأمريكية)، ونتذكر كيف كان بعض رموزهم يدخلون الولايات المتحدة ويبشرون بمشروعهم ويجمعون التبرعات رغم أنهم كانوا يمارسون شكلا من أشكال الإرهاب وفق مصطلحات ما بعد الحرب الباردة، فضلا عن لغة ما بعد الحادي عشر من أيلول.
بعد نهاية الحرب الباردة انقلب الموقف وتبين للولايات المتحدة أن الإسلاميين قد أصبحوا خصوما وليسوا أصدقاء، لا سيما بعد أن أخذوا يشكلون تحديا للدول الحليفة لها في المنطقة، والتي كانت توصف بالرجعية من قبل المنظومة الشيوعية، وقد برز ذلك على نحو أكثر وضوحا إثر الاحتلال العراقي للكويت وتصدر الإسلاميون معركة المواجهة مع قرار استقدام القوات الأجنبية إلى المنطقة.
في هذه الأثناء كان الإسلاميون يصعدون بقوة في عدد من الدول، بل ربما في المنطقة برمتها، بداية بمصر وصدامات القوى الإسلامية مع النظام، إلى تونس التي فازوا فيها في انتخابات تعرضت لتزوير مفضوح، إلى الجزائر التي فجرت فيها جبهة الإنقاذ مفاجأة من العيار الثقيل، إلى السعودية والخليج حيث تيار "الصحوة" المسيّس والغاضب رغم جوهره السلفي، إلى معظم الدول العربية والإسلامية، فضلا عن فلسطين التي كان الصعود الإسلامي ممثلا في حركة المقاومة الإسلامية حماس والجهاد الإسلامي أكثر إثارة للرعب تبعا لمحورية الدولة العبرية في الإستراتيجية الأمريكية خصوصا، والغربية عموما.
ونتيجة ذلك كله تغيرت الأجندة الأميركية في العلاقة مع الإسلاميين من لغة التحالف، وأقله اللقاء إلى لغة العداء الواضح، الأمر الذي انسحب على الأنظمة المتحالفة معها، وهنا تقرر عمليا أن تبدأ معركة التحجيم لقواهم وحركاتهم، بل لعموم الظاهرة الإسلامية، وقد تراوحت تلك المعركة بين سياسة القبضة الحديدية كما هو الحال في تونس والجزائر ومصر، وبين الاستقطاب المشفوع بالضغوط كما هو الحال في السعودية وعدد من دول الخليج، فضلا عن الاستيعاب الديمقراطي كما هو الحال في عدد لا بأس به من الدول من بينها الأردن واليمن، ومن ثم الجزائر ومصر وسواها، وقد سجل هذا المسار الأخير قدرة فائقة على تحجيم الحركات الإسلامية بعد قبولها بالفتات الذي قدمته السلطات إليها.
في هذه الأثناء برز تحول مهم في الظاهرة الإسلامية تمثل في بزوغ نجم الحركات العنيفة ممثلة في السلفية الجهادية، ومنها تنظيم القاعدة، والتي انطلقت بشكل فاعل خلال النصف الثاني من التسعينيات؛ بخاصة بعد عام 1998 حين أعلنت الجبهة العالمية لجهاد اليهود والصليبيين، والتي نفذت جملة من العمليات ضد أهداف أميركية، ما لبثت أن توجت بالعملية الأكبر في الولايات المتحدة التي عرفت بغزوة نيويورك أو هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.
هناك بالطبع ما لا يقل أهمية في سياق العمل المسلح، ويتمثل في صعود الفعل الجهادي لحركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين، وإطلاقها لموجة المقاومة المسلحة منذ مطلع التسعينات، ثم تصاعد فعلها بشكل أكبر بعد عام 1994 عبر نمط "العمليات الاستشهادية" التي صارت الأكثر استخداما في الوسط الإسلامي، وصولا إلى انتفاضة الأقصى نهاية سبتمبر/ أيلول عام 2000، والتي كانت العمليات المشار إليها سمتها الأبرز، وكان أن شكلت قدرا كبيرا من التهديد الوجودي لإسرائيل، وهي معضلة لم تعرفها تلك الدولة منذ عام 67، اللهم إلا إثر عمليات الرد على مقتل "القائد الحمساوي" يحيى عياش عام 96، والتي جمعت زعماء العالم كما لم يجتمعوا تاريخيا في قمة شرم الشيخ.
منذ ذلك الحين، وربما قبل ذلك، وحتى الآن لم تتوقف الحوارات متعددة المستويات بين الغرب والإسلاميين، وهي حوارات لم توقف مسيرة المواجهة على الأرض بمختلف أشكالها، أكانت العنيفة منها، أم سياسة الاستيعاب الديمقراطي وما شابهها من سياسات.
حوارات المعرفة والاختراق
وجهة الإسلاميين في الحوار
حوارات الأميركان الجديدة مع حملة السلاح
عوائق في وجه الحوار والتفاهم
الغرب والإسلاميون والبديل
بعد نهاية الحرب الباردة انقلب الموقف وتبين للولايات المتحدة أن الإسلاميين قد أصبحوا خصوما وليسوا أصدقاء، لا سيما بعد أن أخذوا يشكلون تحديا للدول الحليفة لها في المنطقة. |
وبالنسبة للإسلاميين فإنهم يفضلون ما يمكن أن يسمى "حوارات الفهم"، والتي تكون بجلوس الغربيين مع الإسلاميين مباشرة، لأنهم يريدون أي الإسلاميون أن يعرفهم الغرب من خلال متحدثيهم هم، وليس من خلال دراسات وأبحاث يعدها آخرون قد تنطوي على سوء فهم للإسلاميين أو تستبطن مواقف معادية لهم.
ويمكن إضافة نوع آخر من الحوارات يأتي إلى جانب ما سلف وهي حوارات الاختراق، حيث دأب الغربيون على البحث عن رموز وأشخاص قابلين للاستقطاب من داخل تلك الحركات، ليس بهدف العمالة فحسب، وإنما بهدف المساعدة في "تدجينها وحرف بوصلتها".
فالغرب لم ينطلق في حواراته مع الإسلاميين من منطلق البحث عن صيغة لقبولهم كقوة فاعلة في مجتمعاتهم، وإنما من نوايا شطبهم وتحجيمهم، اللهم إلا إذا اضطرته الظروف لغير ذلك، لكن الهدف الحقيقي هو الشطب، وأقله التحجيم، وبالطبع تبعا للقناعة بأن الأنظمة القائمة هي الأفضل لتحقيق مصالحه (ثمة آراء أخرى لا تأثير لها في القرار)، فضلا عن الخوف على مصير الكيان الصهيوني من الصدام مع خطاب أيديولوجي ديني لا يؤمن بالحلول الوسط والتسويات مع من يراهم أعداءً وغزاة.
وينطلق ذلك الحوار من قناعة بالغة الأهمية لدى الغربيين قد تنطوي على قدر كبير من الغرور عنوانها قدرتهم على تدجين أية حركة مهما كانت أيديولوجيتها أو مستوى ثوريتها، وهم لا يرون القوى الإسلامية استثناء عن القاعدة، ولذلك فهم يعتقدون بقدرتهم على دفع تلك القوى نحو خلع ثوابتها ثابتا إثر الآخر لتقبل في نهاية المطاف بالدولة القطرية بصيغتها التابعة للغرب والمؤمنة بتفوقه والخائفة من سطوته، ولذلك كان التركيز الدائم على قضايا تطبيق الشريعة والجهاد والمرأة والردة والموقف من الكفار أو الآخر غير المسلم أو المسلم العلماني أو اليساري، والأهم الموقف من الكيان الصهيوني، وما إذا كانوا يعترفون بقرارات ما يسمى الشرعية الدولية أم لا.
ينسحب ذلك بالطبع، وربما كان أولوية في بعض الأحيان على القوى التي تستخدم السلاح، كما هو حال حماس والمقاومة العراقية والصومالية والأفغانية، والتي يسعون إلى دفعها نحو "نبذ العنف" والانخراط في العملية السياسية.
من هنا يمكن القول إن أية نوايا حسنة حيال الإسلاميين لم تتوفر في يوم من الأيام، والسبب هو القناعة بأن خطابهم معاد للغرب، إن لم يكن من الناحية الأيديولوجية فمن ناحية المصالح، إذ كيف لأناس يتحدثون عن الاستقلال ورفض التبعية وعن الوحدة الإسلامية أن لا يشكلوا خطرا على الغرب الذي يريد لهذه الأمة أن تبقى مجزئة، ليس من أجل مصلحة الكيان الصهيوني فحسب، بل من أجل مصالحه أيضا، هو الذي يريدها سوقا للاستهلاك ومصدرا للمواد الخام الرخيصة وعلى رأسها النفط، كما يريدها مجالا حيويا لدوره ونفوذه.
من تتبع لمسيرة الحوار بين عدد من القوى الإسلامية وبين الغرب، يمكن القول إن الطرف الإسلامي لم يكن ثقيلا ومتماسكا بما فيه الكفاية، إذ كان أقرب إلى الاستجابة لأية عروض للحوار، وقد خاض كثير من الإسلاميين عشرات الحوارات في عدد من العواصم والمنتجعات على أمل إقناع الولايات المتحدة والغرب بقبولهم، لا سيما خلال سنوات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عندما طرحت واشنطن قصة الشرق الأوسط الجديد وعنوانها أن هذه الأنظمة القائمة فاشلة، وأن فشلها هو الذي يؤدي إلى توفير البيئة الخصبة للإرهاب، لكن الموقف ما لبث أن انقلب بعد قليل من الوقت، تحديدا إثر عدد من الجولات الانتخابية التي تصدرها الإسلاميون أو حققوا فيها نتائج طيبة، مثل فلسطين ومصر.
كان واضحا أن بعض الإسلاميين قد صدقوا حكايات الغرب والحوار وإمكانية قبولهم كبديل عن الأنظمة القائمة، وذهبوا بعيدا في تصديق اللعبة، فيما رأى بعضهم الآخر في الحوار فرصة لفك الحصار من حوله، وذلك باستغلاله للضغط على الأنظمة من أجل مزيد من الإصلاح، وهنا تحديدا أدرك الغرب هذه المعادلة، إن لم يكن مدركا لها من قبل، أعني معادلة أنه ما من شيء يمكن ابتزاز الأنظمة من خلاله أفضل من التلويح لها بسيف الإصلاح.
هذه المعادلة هي التي أفرزت التخلي الأميركي عن مقولات الإصلاح، وبالطبع مقابل دفع الأنظمة من جيب القضايا الخارجية للأمة، وعلى رأسها العراق وفلسطين، لا سيما بعد أن تصدرت الأجندة الصهيونية سلم الأولويات خلال ولايتي جورج بوش الابن، وهكذا هبط السقف العربي في التعاطي مع قضايا الأمن القومي كما لم يهبط من قبل، مقابل تجاهل واشنطن لملف الإصلاح.
ولا شك أن بروز ملف التوريث في مصر قد زاد الموقف بؤسا، فضلا عن بعض صراعات الأجنحة في السعودية، وهو ما أدى إلى تراجع عربي بالغ السوء تمثل بشكل رئيس في تمرير احتلال العراق، ومن ثم سائر الخطوات المتعلقة بتشريع الوجود الأميركي فيه، إلى جانب الضغط على حماس والتواطؤ مع مساعي حصارها وسرقة فوزها الانتخابي.
كان واضحا أن بعض الإسلاميين قد صدقوا حكايات الغرب والحوار وإمكانية قبولهم كبديل عن الأنظمة القائمة، وذهبوا بعيدا في تصديق اللعبة. |
مع ذلك لم يتعلم الإسلاميون الدرس، فهم ظلوا وسيظلون على ما يبدو برسم الاستجابة لأية إشارة غربية تقدم لهم فرصة الحوار، على تفاوت بين فريق وآخر، وعلى تفاوت في الأداء بين هذه الحركة وتلك. أما بالنسبة للطرف الآخر فلم يكن من الوارد التوقف عن تلك اللقاءات ما دامت تحقق بعض الفوائد، سواء أخذت البعد الرسمي وهي قليلة، أم أخذت طابع البحث واللقاءات التي يعقدها سياسيون متقاعدون.
ثمة إشكالات كثيرة برزت خلال جولات الحوار التي نظمت طوال سنوات بين فئات إسلامية وبين الغربيين، لعل أبرزها أن المحاورين من الطرف الإسلامي لم يكونوا في الغالب من النوع القوي الذي يدرك ما يريد على نحو واضح، إذ غالبا ما كانوا يستدرجون من خلال كلام مجامل حول مواقف بوش الرعناء وسياساته السيئة، والأسوأ أن الغربيين هم من كانوا يحددون في الغالب أجندة الحوار، بل وحتى هوية من يحاورونهم من رموز الحركات وقادتها، الأمر الذي كان يكرس بعض القوة لرموز من لون معين.
نعم، لم يكن كثير من المحاورين الإسلاميين من النوع الذي يحمل رسالته بقوة، كما لم يتعاملوا مع محاوريهم بمنطق الندية، لا سيما أن أكثر تلك الحوارات قد جاءت من موقع ضعف، وفي أوقات كانت الأنظمة تحقق خلالها نجاحات مهمة في تحجيم هذه الحركة أو تلك.
أما البعد الآخر فتمثل في عدم إدراك معادلة الابتزاز التي تنطوي عليها الحوارات، أعني ابتزاز الأنظمة التي تصاب بالذعر من أنباء تواصل الغرب مع المعارضين، أكانوا إسلاميين أم غير إسلاميين، وقد كانت الحوارات تستخدم بالفعل في سياق ابتزاز مزيد من المواقف المتعلقة بالداخل أو بفلسطين أو العراق.
الجانب الآخر الذي لم يلتفت إليه بعض الإسلاميين هو المتعلق بالخسارة الشعبية التي انطوت عليها بعض تلك الحوارات واللقاءات، لا سيما تلك التي جاءت بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول حين سادت القناعة في الأوساط الشعبية بأن الغرب وأمريكا يشنون هجمة شرسة على الإسلام والمسلمين.
صحيح أن بعض الحركات والرموز قد أدركوا هذا البعد ورفضوا المشاركة في تلك الحوارات واللقاءات كي لا تجمّل "وجوه الغزاة الأمريكان ومن تواطأ معهم من الغربيين"، لكن ذلك لم يمنع انخراط آخرين فيها غير مدركين، وربما متجاهلين لتأثيراتها على شعبية الظاهرة الإسلامية.
والنتيجة كانت خسارة على مختلف الأصعدة، إذ بقي "العداء الغربي" على حاله، ووقع الابتزاز للأنظمة التي دفعت من جيب قضايا الأمة، فيما وقعت أيضا بعض الخسائر الشعبية عندما ضبط الإسلاميون متلبسين بالتناقض، إذ يوزعون خطابا يعادي الغرب ثم يحاورونه في ذات الوقت، من دون أن يلمس الناس أي تغير في الموقف من طرف العواصم الغربية حيال قضاياه وبما يمكن أن يشكل تبريرا لمشاركة الإسلاميين بتلك الحوارات، بل كان في الغالب يزداد الغرب انحيازا للاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب تصاعد عدائه للإسلام والمسلمين.
حوارات الأميركان الجديدة مع حملة السلاح
ثمة تطور برز خلال الشهور الأخيرة من مرحلة جورج بوش الابن، ثم تأكد بعد ذلك على نحو أوضح خلال مرحلة الرئيس الأميركي الجديد (أوباما)، ويتلخص التطور المذكور في حوارات هدفها الرئيس هو وقف الاستنزاف الذي تتعرض له الولايات المتحدة في عدد من المناطق، مباشرة أو بشكل غير مباشر.
برز ذلك بشكل أساسي في الصومال، حيث جرى استيعاب قيادة المحاكم الإسلامية كي لا يتحول البلد إلى مأوى للقاعدة، وهو الاستيعاب الذي أسفر عن تنصيب شيخ شريف، قائد المحاكم رئيسا للبلاد، بينما حاولوا إقناع الآخرين بالانخراط في العملية السياسية، وهو ما دخل على خطه أسامة بن لادن برسالة وصف فيها شريف بالعميل لأمريكا، وبضرورة قتاله من قبل المجاهدين.
وحدث ذات الشيء مع حركة طالبان حيث جرى الحديث عن فئات معتدلة فيها تقبل الحوار مع الأميركان، وجرت مساعي في هذا الاتجاه من خلال بعض الدول العربية والإسلامية، الأمر الذي ينطبق على فصائل المقاومة العراقية التي ما زالت تحمل السلاح، ومعظمها ذات توجه إسلامي، حيث يجري العمل على إقناعها هي الأخرى بدخول العملية السياسية.
وتعرضت حماس خلال سنوات لعملية تدجين على أمل أن تترك السلاح، إلا أن ذلك لم ينجح، فكان أن شنت الحرب على قطاع غزة، ولما لم تنجح عادت قصة الحوارات لتداهمها من جديد، مع أنها لم تتوقف عمليا.
وها إن أسبوعا أو أكثر لا يكاد يمضي حتى يكون ثمة حوار بين جهات غربية وبين ممثلين عن الحركة، الأمر الذي ترحب به بعض دوائر حماس، فيما يشبه عدم إدراك للثمن الذي ينبغي أن يدفع من أجل الاعتراف الغربي، والذي سبق لحركة فتح أن دفعته، فضلا عن التراجع الذي يصيب خطابها السياسي بين مرحلة وأخرى، بدليل حكاية الهدنة التي بدأت بعشر سنوات عند الشيخ أحمد ياسين ثم وصلت إلى صيغة التجدد التلقائي بحسب بعض المحسوبين على الاعتدال مثل أحمد يوسف وناصر الشاعر وآخرين، فضلا عن قفزات أخرى في الهواء مثل ورقة أحمد يوسف الشهيرة مع الأوروبيين التي عزف على وترها قادة السلطة وما زالوا يعزفون كدليل على قابلية حماس لتقديم التنازلات.
من يعتقد أن الغربيين، ومن ضمنهم الأميركان يمكن أن يعترفوا بحماس مع بقائها على وضعها القائم واهم إلى حد كبير،. |
هنا نذكر مرة أخرى بما سبقت الإشارة إليه من أن الهدف هو تهبيط السقف وخلع الثوابت، وليس الاعتراف المجاني، أما إذا ذكر الانفتاح البريطاني على حزب الله، فهو يدخل أولا في ذات السياق، مع العلم أن الإنجليز لا يغلقون الباب تماما في وجه أحد، وغالبا ما يتركونه مواربا، والحوار الذي جرى مع الحزب لن يكون ذا قيمة من الناحية العملية، مع العلم أننا إزاء حزب يشكل جزء من الدولة اللبنانية؛ لا أحد يماري في ذلك، وهو كان يحارب بشكل شرعي؛ لا خلاف على ذلك أيضا، ولولا بعض تهم العمليات الخارجية السابقة لما كان ثمة إشكال معه، مع أن الانحياز لهواجس إسرائيل هو الدافع الأساسي خلف الموقف السلبي منه، فضلا عن علاقته مع إيران.
من المؤكد أن ثمة عوائق كبيرة تعيق الحوار مع الغرب، وإذا لم تفكك فإن الموقف سيبقى أقرب إلى حوار الطرشان، أو لعله وسيلة من وسائل الاختراق وتغيير الخطاب. ومن أهم تلك العوائق تلك الروح الإمبريالية التي تحكم علاقة الغرب مع أمتنا، أعني روحية النهب والسيطرة والسعي إلى تكريس أمة مجزأة وتابعة.
هناك عائق يتعلق بالموقف من الكيان الإسرائيلي، إذ يبدو واضحا أن الموقف المذكور هو موضع اتفاق بين تلك القوى الغربية، ويراد من الإسلاميين أن يعترفوا كما اعترف حزب العدالة والتنمية كي يكونوا مقبولين.
هناك بالتأكيد مطلب التخلي عن فكرة تطبيق الشريعة كما تجلت في سلوك حزب العدالة والتنمية التركي، مع أن الحزب قد نفى تماما إسلاميته، وأعلن أنه حزب علماني، ولا ينبغي لأحد أن يقول له إنك تمارس التقية.
وفكرة تطبيق الشريعة، وإن كانت غير واضحة بالقدر الكافي كما يذهب البعض، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أن النص الإسلامي فيه الكثير من المحددات والخصوصيات التي ينبغي الاعتراف بها، ومن العبث الحديث عن تكريس علمانية لا تعترف بالمرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع.
على الإسلاميين أيضا أن يدركوا أن أميركا والغرب ليسو هم كل العالم وأن ينظروا إلى القوى الصاعدة الجديدة من الصين إلى روسيا والهند ودول أمريكا اللاتينية، والقصد أن لا يكون هدف إرضاء الغرب هو المهيمن على العقل الإسلامي، بل ينبغي أن يجري التركيز على اللعب على التناقضات الدولية، لا سيما في ضوء مسيرة العالم الماضية في اتجاه تعددية قطبية يبشر بها تراخي القبضة الأميركية على العالم بسبب الفشل في العراق وأفغانستان، وبسبب الأزمة المالية.
من المؤكد أن العالم ليس أميركا وأوروبا، وينبغي أن يكون ذلك حاضرا بقوة في العقل الإسلامي، كما ينبغي ألا يجري التركيز على مرحلة الاستضعاف، فقد حقق الإسلاميون نجاحات كبيرة بحملهم همّ فلسطين وقضيتها، ومن ثم إفشالهم المشروع الأميركي في العراق وأفغانستان، وهو مشروع كان مقررا أن يعيد تشكيل خريطة المنطقة على مختلف الأصعدة.
عليهم في المقابل أن يواصلوا التركيز على فضح التناقض الغربي ممثلا في الحديث عن الديمقراطية والإصلاح مقابل دعم الأنظمة الفاسدة والمتسلطة، الأمر الذي يهيل التراب على كل دعوات الحوار والتقارب.
لقد بات واضحا أن هذا الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، لن يستبدل هذه الأنظمة القائمة بالحركات الإسلامية مهما قدمت من تنازلات، لا سيما بعد أن ثبت لديه أنها لن تتخلى عن فلسطين ولن تعترف بالاحتلال، وإذا اعترف بعضها فسيأتي من هو أكثر منها راديكالية ليتسلم الراية، لأن من يتخلى عن فلسطين ستتخلى الجماهير عنه.
أما الأهم في سياق استمرار أسباب العداء فيتمثل في أن معظمها لن يتخلى عن فكرة تطبيق الشريعة، كما لن يتخلى عن أحلام وحدة الأمة وعودتها إلى مكانتها بين الأمم.
نقول ذلك بعد أن ثبت للغرب أن هذه الأنظمة التي تركز على مصالح نخبها التي سيطرت على السلطة والثروة هي الأفضل، وهي الأكثر قابلية للخضوع أمام الضغوط، ولذلك ليس ثمة شك في أنه سيفضلها على أي أحد آخر، وإذا ما تلكأت سيلوح لها بسيف الإصلاح حتى تعود عن "غيها"، ما يعني أن بعض الإسلاميين سيستخدمون في سياق ابتزاز أنظمتهم لكي تتنازل للغرب أكثر، والنتيجة هي خسارتين، خسارة شعبية، وخسارة للأوطان، مع بقاء الأنظمة الفاسدة في مكانها كم أشرنا من قبل.
على الإسلاميين ألا يكرروا خطأهم السابق عندما تحالفوا مع الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي فكان أن انفردت أميركا بالعالم، ثم استدارت نحوهم واعتبرتهم العدو الأول التالي. |
هنا ثمة قضية بالغة الأهمية، وهي أن الغرب وتحديدا الولايات المتحدة، قد تعاود التحالف مع الإسلاميين إذا تبين لها فائدتهم في مواجهة المنافسين الجدد، مثل الصين مثلا (استخدام الصينيين المسلمين)، أو روسيا (تصعيد قصة الشيشان)، مع زيادة حدة العداء مع الهند في مرحلة من المراحل بذات الطريقة، وهنا ينبغي عليهم أن يكونوا واعين لهذه المسألة سواء منهم من حمل السلاح أو القوى الأخرى، لأن عالما فيه تعددية قطبية هو أفضل للمسلمين وللإسلاميين من عالم تتزعمه أميركا.
والخلاصة أن على الإسلاميين ألا يكرروا خطأهم السابق عندما تحالفوا مع الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي فكان أن انفردت أميركا بالعالم، ثم استدارت نحوهم واعتبرتهم العدو الأول التالي، ما يعني أن من الأفضل لهم أن يساهموا في تعزيز مسيرة التعددية القطبية، لأنها كما قلنا مصلحة لهم وللأمة جمعاء، بل لكل المستضعفين في الأرض.
بقي القول إن كل ما ورد آنفا لا يعني أن نكون ضد الحوار من حيث المبدأ، فنحن مع الحوار الواضح الرؤية والأهداف، والذي يتم بشفافية أمام قواعد الحركات وأمام الجماهير وبمعرفتها، والذي يقوده أناس يعرفون ما يريدون وما تريده أمتهم بشكل جيد.
والخلاصة أيضا أن الأمر ينبغي أن يخضع لتقييم دقيق للمصالح والمفاسد، لا أن يترك مفتوحا على مصراعيه بصرف النظر عن الظروف الموضوعية المحيطة، ومن ضمنها الجهة الداعية للحوار وطريقتها في الدعوة واختيار المشاركين، فضلا عن مواقفها وخلفياتها السياسية والفكرية، مع أننا لا نخفي أن استعادتنا لما جرى على هذا الصعيد خلال سنوات طويلة تدفعنا إلى التحفظ، وربما الرفض، أكثر من القبول، فضلا عن التشجيع.
_______________
كاتب وصحفي فلسطيني