قراءة سورية لأزمة العلاقة مع العراق

أثارت التفجيرات الدامية في بغداد يوم الأربعاء الماضي أزمة حادة بين سوريا والعراق، ويقدم هذا التقرير قراءة سورية للأزمة تؤكد أن استقرار العراق يمثل مصلحة سورية بكل المقاييس والاعتبارات، وأن الأزمة بين البلدين مفتعلة، ووراءها دوافع شتى لا علاقة لسوريا بها.







سمير التقي


أثارت التفجيرات الدامية التي هزت بغداد في يوم الأربعاء 19 أغسطس/آب الماضي وأوقعت ما يقرب من مائة قتيل، أزمة حادة بين سوريا والعراق، حيث وجه الأخير أصابع الاتهام إلى سوريا بأنها تأوي منفذي التفجيرات وطالب بإنشاء محكمة دولية لمحاكمة الجناة، ولا تزال فصول هذه الأزمة تتفاعل حتى اللحظة.


ويقدم هذا التقرير قراءة سورية للأزمة تؤكد أن استقرار العراق يمثل مصلحة سوريا بكل المقاييس والاعتبارات، وأن الأزمة بين البلدين مفتعلة وأن وراءها دوافع  شتى لا علاقة لسوريا بها.


أهمية استقرار العراق لسوريا
دوافع توجيه الاتهام


أهمية استقرار العراق لسوريا 


إن في استقرار العراق على المدين القريب والبعيد، مصلحة أكيدة لسوريا على أكثر من صعيد، وذلك سواء من وجهة نظر جيوإسترإتيجية واقتصادية أو من الزاوية الديموغرافية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يتنافى مع الاتهامات العراقية التي سيقت ضد سوريا بوقوفها خلف ما سميت بأحداث الأربعاء الدامي.


من وجهة النظر السياسية والاجتماعية



تصاعد حدة النزعات الطائفية يتناقض مع مفهوم القومية العربية ببعدها العلماني الذي يعتبر مؤسساً للتركيبة السياسية والاجتماعية الحالية في سوريا.
ليس من مصلحة سوريا في كل الأحوال أن تقوم عند خاصرتها الشرقية دولة طائفية ضعيفة مفككة، فالطائفية والتفكك والفوضى ظواهر معدية تتنقل بالضرورة عبر الحدود.

وبالتجربة التاريخية تركت الأزمة الطائفية في لبنان في سبعينيات القرن المنصرم تأثيرات سلبية على الأوضاع في الداخل السوري، وغني عن الذكر أن التركيبة الإثنية في غالبية دول بلاد الشام (أو الدول العربية في شرق المتوسط) متشابهة إلى حد يقترب من التطابق، وبالتالي فإن الأزمة الطائفية في إحدى هذه البلدان قد تنعكس بصورة مباشرة على استقرار البلدان الأخرى، والعراق ليس استثناء في هذا الشأن، إذ ترسيخ الصراع الطائفي فيه ينذر بانتقال التفكك الإثني عبر "مفعول الدومينو" إلى دول الجوار ومنها سوريا.


ومن ناحية أخرى فإن تصاعد حدة النزعات الطائفية يتناقض مع مفهوم القومية العربية ببعدها العلماني الذي يعتبر مؤسساً للتركيبة السياسية والاجتماعية الحالية في سوريا، وعليه فإن شرذمة العراق وتفتته وتحوله لدولة طوائف هو -وبصراحة تامة- خطر وجودي على سوريا، لا مداورة فيه ولا محاباة.


من وجهة النظر الجيواسترإتيجية
يمثل العراق العمق الإستراتيجي الأكبر والأكثر أهمية وضمانا لسوريا سواء كان ذلك في السياق التاريخي أم المرحلي، وفي الوقت الحاضر فإن العمق الإستراتيجي العراقي يبدو الأفضل بالنسبة لسوريا في إطار أزمة الشرق الأوسط والصراع مع إسرائيل، وعليه فإن  وجود تنسيق إستراتيجي لسوريا مع حكومة عراقية قوية يوسع حدود العمق الإستراتيجي السوري حتى إيران، وهو ما يمثل إضافة نوعية في إطار التوازن الإستراتيجي مع إسرائيل.


ونذكر هنا بأن التفاهم السياسي السوري – العراقي اعتبر في أعقاب اتفاقيات كامب ديفيد بديلا إستراتيجيا للخروج الدراماتيكي لمصر من إطار المواجهة مع إسرائيل، وهو ما يفسر وجود مصلحة إستراتيجية واضحة وحيوية لإسرائيل في الحفاظ على حالة من التوتر في العلاقات السورية – العراقية.


وإضافة إلى ما سلف، فإنه أخذنا بعين الاعتبار أن سوريا تمثل معبراً مرجحا ومناسبا للنفط العراقي باتجاه الأسواق الغربية، ومعبراً لجزء هام من الثروة المائية التي يتمتع بها العراق، فإن النتيجة تقول إن استقرار كل من البلدين هو ضرورة لكل منهما.


ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن استمرار عدم الاستقرار الأمني في العراق يعطي مبرراً أكيداً لواشنطن كي تواصل احتلالها للعراق، مع ما يترتب عن ذلك من مخاطر إستراتيجية على سوريا، لأنها تقع بحسب هذه الوضعية بين فكي كماشة: قوات أمريكية في شرقها، وجبهة غير مستقرة في جنوبها الغربي مع إسرائيل.


فوجود قواعد عسكرية أمريكية يشكل تهديداً للأمن القومي السوري، وقد صدقت المخاوف السورية عندما وقع العدوان العسكري الأمريكي على منطقة "السكرية". (مزرعة السكرية تقع في منطقة البوكمال السورية الحدودية، تعرضت في 26 أكتوبر/تشرين الثاني 2008 لهجوم من المروحيات الأميركية بداعي استهداف مقاتلين يعبرون الحدود السورية إلى العراق).


من وجهة النظر الديموغرافية



العراق غني بثرواته الطبيعية والبشرية، وتشكل سوريا للعراق ممرا هاما نحو المتوسط وبابا نحو العالم.
شكلت الأزمة العراقية ضغطا سياسيا واجتماعيا كبيرا في الداخل السوري، حيث تشكل القبائل والعشائر العراقية امتداداً ديموغرافياً طبيعيا للعشائر السورية، كما أدت إلى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين العراقيين إلى سوريا، حيث قدر عددهم إبان اشتداد الأزمة بمليوني لاجىء، وتسببوا بضغط شديد على الاقتصاد السوري والبنية التحتية من ماء وكهرباء ومرافق صحية وتربوية وسواها، وبالتالي تزايدت الضغوط المعيشية والأعباء الاقتصادية على المواطن السوري.

وباختصار يمكن القول من منظور تنموي بعيد المدى بأن الأزمة العراقية قد شكلت طفرةً ديموغرافية غير محسوبة في إطار الخطط التنموية السورية المبنية على احتساب معدل محدد من الزيادة السكانية، ومن هنا فإن غالبية الدراسات التي بحثت في كيفية تحسين الأوضاع المعيشية للسوريين، ركزت على ضرورة إنهاء أزمة اللاجئين العراقيين في سوريا.


من وجهة النظر الاقتصادية
العراق غني بثرواته الطبيعية والبشرية، وتشكل سوريا للعراق ممرا هاما نحو المتوسط وبابا نحو العالم، فهي معبر رئيسي للبضائع والمواد المتجهة نحو العراق بكل ما يمكن أن يدره على اقتصادها من عوائد، وتشكل أيضا وكما سبق الذكر معبرا ذو مزايا تفضيلية فيما يتعلق بالنفط العراقي، وبالتالي فإن الازدهار والاستقرار العراقي سينعكس بصورة واضحة على الاقتصاد السوري.


ويتشارك البلدان في نهر الفرات، ومع بروز مشكلة المياه يمكن أن يتعاونا في تنسيق مواقفهما مع تركيا للحصول على تقسيمات عادلة في حصص المياه بين هذه الدول الثلاث، كما أن العراق المستقر هو سوق محتملة للعمالة السورية التي ساهمت وتساهم في بناء دول الخليج العربي، وبالتالي هي مصدر محتمل للتحويلات المالية الداعمة للاقتصاد السوري.


ومن جانب آخر فإن قدرة المنتجات السورية على الوصول بحرية إلى السوق العراقية ستعمل على تدعيم الاقتصاد السوري وتحسين الميزان التجاري، وهو الأمر المتعذر حاليا نتيجة الأحوال الأمنية السائدة، وما يترتب عليها من إعاقة متكررة لدخول الشاحنات السورية إلى العراق، فضلاً عن المخاطر الأمنية والاعتداءات والسرقات التي تستهدف هذه الشاحنات وسائقيها داخل العراق نتيجةً للانفلات الأمني.


ومن هنا وبالنظر إلى كل ما تقدم يبدو اتهام الحكومة العراقية لسوريا بالوقوف وراء التفجيرات مجردا من المنطق السياسي، ومفتقرا للمبررات المقنعة بوجود مصلحة سورية وراء استمرار حالة الانفلات الأمني في العراق.


دوافع توجيه الاتهام 





الموقف السوري من الأزمة الأخيرة يتمثل في المطالبة بتقديم إثباتات حقيقية على تورط لاجئين عراقيين لديها في أعمال إرهابية داخل العراق، وذلك بهدف عزل ما هو أمني عما هو سياسي.
إن عجز الحكومة العراقية الحالية عن تحقيق الاستقرار الأمني في العراق لا يمكن أن يفصل بأي حال من الأحوال عن عجزها عن تحقيق الاستقرار السياسي، فقد قامت الرؤية السياسية للحكومة العراقية الحالية على أساس وراثة المنظور الاستئصالي الذي أتى به الاحتلال الأمريكي من خلال حلّه للمؤسسات السيادية العراقية كالجيش والشرطة والبنى السياسية القائمة على الرغم من تجذرها واتساع نطاق انتشارها في المجتمع العراقي، وكل ذلك بدعوى التخلص من أتباع النظام السابق، أي إن الحكومة الحالية قد ورثت ممارسة سياسية قائمة على سلوك استئصالي وتهميشي كان ملازما لحقبة الحاكم الأميركي في العراق بول بريمر وما أعقبها من تسيير شكلي عراقي للأمور السياسية عبر ما سمي "بمجلس الحكم".

وغني عن الذكر أن تحقيق المشاركة السياسية للقوى الفاعلة في المجتمع العراقي من شأنه أن يضيق دائرة الدعم المادي والنفسي واللوجستي للحلول العنيفة، ومن هنا فإن أي دور مزعوم لقوى خارجية لم يكن ليصل إلى نتيجة لولا وجود أطياف عراقية واسعة متضررة من التركيبة السياسية العراقية الحالية.


ومن هنا فإن التأزيم العراقي والمفتعل للعلاقات مع سوريا تقف وراءه دوافع شتى منها:



  • محاولة بعض الجهات العراقية التغطية على السبب الحقيقي لعجزها عن تحقيق الاستقرار الأمني، والمتمثل بضعف العملية السياسية، عبر تحميل أطراف خارجية مبررات الانفلات الأمني.
  • سعي بعض الأطراف العراقية لتعزيز مواقعها على الساحة السياسية العراقية وداخل ساحتها الطائفية عبر استنفار العداء لسوريا استعدادا للانتخابات العراقية القادمة.
  • إن تشكيل تحالف سياسي جديد في جنوب العراق استثني منه جناح المالكي قد جعل الأخير أكثر عرضة للضغوط المختلفة، وأكثر ميلا للانصياع لحاجات وتوجهات مصالح الاحتلال.
  • بعض الأطراف العراقية لا تريد أن تتمكن سوريا من بناء علاقاتها مع كافة شرائح الطيف العراقي لتشكيل نواة مشروع وطني عراقي، وذلك لأن هذه الأطراف ترى استمراريتها في الإبقاء على مشروعها الاستئصالي الذي يبقي بدوره على التوتر الأمني والسياسي.
  • لا يمكن عزل هذا الموقف العراقي الطارئ والمفاجئ والقادم من خارج أي سياق طبيعي للعلاقات بين البلدين عن جملة من المؤشرات الدولية التي تتجمع في المنطقة والهادفة إلى السعي للعودة بعقارب الساعة إلى الوراء، والسعي عبثا لإعادة دوائر الحصار السياسي الدبلوماسي حول سوريا. وليس إعادة إثارة الملف النووي السوري المزعوم ولا التطورات الأخيرة في لبنان، ولا تعثر خطوات المصالحة العربية ولا قبول الإدارة الأمريكية الضمني باستمرار نتنياهو في عمليات الاستيطان إلا مؤشرات أخرى تتجمع على المستوى الإقليمي قبيل إطلاق الإدارة الأمريكية الراهنة "لمبادرتها تجاه الشرق الأوسط".




كل ما يمكن أن تؤول إليه هذه الأزمة هو خدمة الأطراف الخارجية صاحبة المصلحة في تعكير العلاقات السورية – العراقية، وربما بعض الأطراف العراقية من داخل الحكومة وخارجها.
إن الموقف السوري من الأزمة الأخيرة يتمثل في المطالبة بتقديم إثباتات حقيقية على تورط لاجئين عراقيين لديها في أعمال إرهابية داخل العراق، وذلك بهدف عزل ما هو أمني عما هو سياسي، ومنع استخدام التفجيرات كحجة  للإضرار ببعض اللاجئين العراقيين: إن على مستوى أمنهم الشخصي، أو على مستوى المصداقية السياسية لبعض أطراف المعادلة العراقية. إذ تخشى سوريا من عمليات الانتقام التي يمكن أن تنتظر بعض هؤلاء على خلفية مواقفهم السياسية إذا ما تمت إعادتهم إلى العراق، ولذا فإن عودتهم ستكون مرهونة بتطور الحال هناك ابتداء من التحسن الأمني، ثم تحقيق مصالحة وطنية، وإشاعة روح التسامح بين العراقيين وتطور مصداقية الأجهزة الأمنية والقضائية العراقية.

النتيجة النهائية لهذه الأزمة لا يمكن أن يكون مآلها الجدي أي مسار معتبر باتجاه القضاء الدولي، خاصة وأن هناك تقارير كثيرة، عراقية رسمية وغير رسمية ودولية، تتحدث عن مستوى تفكك وضعف بعض المؤسسات الأمنية العراقية، واستشراء الرشاوى والفساد إلى أقصى الحدود فيها، كما أن هناك الكثير من الاتهامات المتبادلة بين الفرقاء العراقيين حول اختراق المخابرات الأميركية وميليشيات الطوائف بل وحتى منظمة القاعدة للعديد من البنى العليا للأجهزة الأمنية في العراق، ولا يبدو الوضع القضائي بحال أفضل.


ولذلك فإن كل هذه الادعاءات التي تتم في ظل حكومة أمر واقع لا تزال قوى الاحتلال تتحكم في العديد من مصادر قرارها، لن يكون مآلها أي عمل جدي على الصعيد الدولي، لاسيما أن الأساس في القضاء هو شموليته، والجدير بالذكر أن تدرج هذه الجريمة في سياق التحقيق في كافة الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب العراقي ودولته ومجتمعه وحضارته.


وكل ما يمكن أن تؤول إليه هذه الأزمة هو خدمة الأطراف الخارجية صاحبة المصلحة في تعكير العلاقات السورية – العراقية، وربما بعض الأطراف العراقية من داخل الحكومة وخارجها، التي تحاول استغلال آلام الشعب العراقي لتحقيق المكاسب السياسية والأمنية ذات المدى القصير، والتي لا يمكن أن تصب في المصلحة الحقيقية للشعب العراقي.
_______________
باحث سوري