المشهد السياسي اللبناني: انتهاء مرحلة وبداية أخرى

شهد لبنان مرحلة صراع بين فريقين وصفا بالمعارضة والموالاة، وبقوى 14 آذار و8 آذار، وكادت البلاد تنزلق إلى حرب أهلية، فكان اتفاق الدوحة الذي أرسى معادلة توافقية جديدة (الديمقراطية التوافقية) فتحت باب المصالحات وأتاحت الفرصة لإعادة رسم مشهد التحالفات المحلية مرة أخرى.







 

غسَّان العزِّي


وُلِدَت الجمهورية اللبنانية المستقلة في تشرين الثاني 1943 مكبَّلة بنظامها الطائفي، وبجغرافيا سياسية سوف يعصف بها الصراع العربي-الإسرائيلي. ودفعتها التطورات الإقليمية على خلفية الحرب الباردة إلى أن تصبح "دولة حاجز" يتم عبرها تبادل الرسائل بين القوى الكبرى الدولية والإقليمية؛ فراحت تنتقل من أزمة إلى أخرى وصولاً إلى الحرب الأهلية في العام 1975, التي انتهت باتفاق الطائف (نوفمبر/تشرين الثاني 1989) في ظلِّ رعاية دولية واسعة.





إن الرؤية الواضحة لما يجري في لبنان تقتضي تركيز النظر على الدوائر الثلاثة التي يقبع في تقاطعها جيوبولتيك هذا البلد المعقد: الدائرة الدولية الواسعة، والمحيط الإقليمي شرق-الأوسطي بالتحديد, والتداعيات المترتبة على المشهد الداخلي اللبناني.
وقد حَظِيَ التدخل السوري في لبنان ابتداءً من العام 1976 بموافقة أميركية ودولية ليتحول إلى وصاية تم تجديدها غداة الاحتلال العراقي للكويت في عام 1990؛ ففي حينها اتفق وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر مع الرئيس السوري حافظ الأسد على مشاركة هذا الأخير العسكرية -ولو الرمزية- في الائتلاف الدولي ضد العراق في مقابل السماح له بالقضاء على تمرد الجنرال عون، وإطلاق يده في لبنان. وهكذا دخل البلد تحت هيمنة سورية سيطرت على الحياة السياسية فيه، وأفرغت اتفاق الطائف من محتواه حيث بقيت معظم بنوده حبرًا على ورق.

في 11 سبتمبر/أيلول2001 تعرَّض العالم بأسره -انطلاقًا من نيويورك- إلى زلزالٍ قلَبَ المعطيات الدولية رأسًا على عقب. وفي ربيع العام 2003 جاء الاحتلال الأميركي-البريطاني للعراق ليُحدثَ فجوة عميقة في العلاقة بين ضفَّتي الأطلسي. لكن لم يطُلِ الأمر حتى تبين للحلفاء الأطلسيين ضرورة رأب الصدع وتجديد الشراكة بينهما، ومِن ثَمَّ وقع نظرهم على منطقة الشرق الأوسط الزاخرة بالموارد وبالصراعات و"الأصولية الإسلامية". وكان لابد للُبنان من أن ينال حصته من هذه المتغيرات؛ فاتُّخِذ القرار الدولي (1559), بمبادرة فرنسية-أميركية, لوضع حد نهائي للوصاية السورية على لبنان تمهيدًا لنقله إلى ضفة سياسية وإستراتيجية جديدة. ودخل البلد في أتون صراع دولي-إقليمي حادّ إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005 حاولت إسرائيل استغلاله في يوليو/تموز 2006 بعدوان واسع النطاق هَدَفَ إلى القضاء على حزب الله؛ وذلك قبل أن ينتهي ذلك العدوان من دون تحقيق أهدافه سوى إحداث تدمير هائل بالبنية التحتية سبَّب مزيدًا من الخلافات والاستقطابات في الساحة اللبنانية.


إن الرؤية الواضحة لما يجري في لبنان تقتضي تركيز النظر على الدوائر الثلاثة التي يقبع في تقاطعها جيوبولتيك هذا البلد المعقد: الدائرة الدولية الواسعة، والمحيط الإقليمي شرق-الأوسطي بالتحديد, والتداعيات المترتبة على المشهد الداخلي اللبناني.


لبنان في قلب "الشرق الأوسط الكبير"
الخروج من الأزمة


لبنان في قلب "الشرق الأوسط الكبير" 


خلال القمم الثلاث التي جمعت الرئيس جورج بوش مع قادة الاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران 2004 (دبلن، سي-آيلند، إسطنبول) تم الاتفاق على طي صفحة الخلاف حول العراق الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة بين واشنطن وبعض حلفائها لاسيَّما فرنسا وألمانيا. كما تم الاتفاق على ضرورة إصلاح منطقة الشرق الأوسط الأكبر وفقًا للرؤية الجديدة المشتركة ما بين ضفتي الأطلسي  لمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، أو الأكبر (دون تحديد واضح لهذه المنطقة) الذي نشره الأميركيون في فبراير/شباط 2004. وهكذا على امتداد العامين 2004-2005 سيحتل النقاش حول دمقرطة هذه المنطقة الحيز الأوسع من الإعلام الدولي وتصريحات السياسيين الأميركيين.


ومن المنطقي بمكان النظرُ إلى القرار 1559 على أنه الوليد الأول للزواج الفرنسي-الأمريكي الجديد الذي تم في حضور أوروبا ومباركتها.


ولقد وجد لبنان نفسه في قلب هذا المشروع بمجرد صدور القرار المذكور، والذي انقسم حوله اللبنانيون بين مؤيد ورافض في وقت "أَجبرت فيه سوريا البرلمانَ اللبناني على تعديل الدستور في سبيل التجديد للرئيس لحود". واتجه البلد نحو أزمة سياسية زاد من حدَّتها محاولة اغتيال النائب مروان حمادة الذي اتُّهِمَت به دمشق وصولاً إلى الزلزال الكبير في 14 فبراير/شباط 2005 المتمثل باغتيال الرئيس رفيق الحريري. كان هذا الاغتيال بمثابة 11 سبتمبر/أيلول لبناني وَضَعَ البلاد في حمأة أزمة تهدد وجوده بالكامل، لاسيَّما أن أصابع الاتهام وُجِّهَت مباشرة إلى سوريا التي تُمسك بكل مفاصل البلد الأمنية والعسكرية والسياسية منذ حوالي ثلاثين عامًا، بمباركة إقليمية ودولية أنهاها القرار 1559 الذي رفضت سوريا وحلفاؤها تنفيذه لدى صدوره.


هكذا وُلِد التكتلان الكبيران اللذان سينقسم حولهما المشهد السياسي اللبناني على خلفية انقسام المشهد الإقليمي بين ما يُسمى بمحور الممانعة الممتد من طهران إلى غزة مرورًا بدمشق وحزب الله، ومحور آخر يجمع ما يُسمى بدول الاعتدال العربي؛ ففي الثامن من مارس/آذار 2005 نظَّم حزب الله وحلفاؤه تظاهرة حاشدة في ساحة رياض الصلح في بيروت ليشكروا سوريا في حين نظَّم مناوئوها تظاهرة حاشدة أخرى في 14 مارس/آذار بساحة الشهداء في بيروت للمطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان، وتشكيل لجنة تحقيق دولية في اغتيال الحريري. وقد تحققت كل مطالب تظاهرة 14 مارس/آذار، كما خرج سمير جعجع من السجن بعفو رئاسي خاص، وعاد الجنرال عون من منفاه. وكان موعد الانتخابات النيابية على الأبواب فتم -على عَجَل- تشكيل ائتلاف رباعي يشمل قوى من الحركتين المذكورتين وذلك دَرءًا لحرب أهلية كان الجميع يعرف كيف يمكن أن تبدأ، ولكنه يجهل أين يمكن أن تنتهي.


أصرَّت الدول الغربية على إجراء هذه الانتخابات بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان إثر ضغوط دولية وشعبية لبنانية أخرجته على عجل وبطريقة مهينة. وقد انتهت الانتخابات بفوز التحالف الرباعي الهش على خلفية انقسامات مذهبية وطائفية حادة، وتم تكليف فؤاد السنيورة بتشكيل حكومة اتحاد وطني.





رأت قوى 8 آذار في القرارات الدولية المتعلقة بإنشاء المحكمة الدولية في قضية اغتيال الحريري سيفًا مسلَّطًا على سوريا لإثنائها عن سياساتها الفلسطينية والعراقية.
لم تتمكن هذه الأخيرة من العمل بانسجام بسبب الانقسامات التي تعصف بمكوناتها الوزارية على خلفية حراك دولي يسعى لفرض تطبيق القرار 1559 الذي يعتبره حزب الله موجَّهًا ضد وجوده, كما يعمل –ذلك الحراك الدولي- على ممارسة الضغوط على إيران في ملفها النووي، في الوقت الذي يُبدي عجزًا فاضحًا عن كبح جماح السياسات الإسرائيلية في الضفة الغربية وغزة. بل وأكثر من ذلك قامت إسرائيل بشن عدوان واسع النطاق على لبنان بهدف القضاء النهائي المبرم على حزب الله إِثْر قيام الحزب في 12 يوليو/تموز 2006 بتنفيذ عملية نوعية في شمال إسرائيل انتهت بأسر جنديين إسرائيليين. وقد استمر الهجوم البري والبحري والجوي تحت غطاء أميركي معلن ودولي مستتر طيلة ثلاثة وثلاثين يومًا من دون تحقيق أهدافه. وانتهى بصدور القرار 1701 الذي أتاح للجيش اللبناني الانتشار في الجنوب، كما وسَّع من دور "اليونيفيل" وزاد من قدراتها بهدف خلق منطقة عازلة بين إسرائيل وحزب الله، ومنعِه من إعادة بناء ترسانته العسكرية.

وقد تباينت نظرة الفرقاء اللبنانيين إلى نتائج هذه الحرب؛ فعلى المستوى النفسي راح حزب الله يفاخر بنصره "الإلهي"، بينما رأى خصومُه في هذه الحرب التدميرية إضعافًا للدولة، ومصادرة لقرارها المتعلق بالحرب والسلم في بلد متنوع طائفيًّا، ولا يحمل فيه السلاح سوى طائفة مرتبطة بأجندات خارجية: إيرانية وسورية على وجه التحديد. في هذا الوقت كانت الضغوط الغربية تتزايد على إيران وسوريا بسبب مواقفهما الداعمة لحركات عراقية مسلحة تناهض الأميركيين. ورأت قوى 8 آذار في القرارات الدولية المتعلقة بإنشاء المحكمة الدولية في قضية اغتيال الحريري سيفًا مسلَّطًا على سوريا لإثنائها عن سياساتها الفلسطينية والعراقية. ومن هنا استقال الوزراء الشيعة من الحكومة -في نوفمبر/ تشرين الثاني 2006- مما حدا برئيس مجلس النواب ورئيس الجمهورية إلى الإعلان بأن هذه الحكومة -بسبب عدم تمثيل طائفة أساسية فيها- أضحت غير شرعية ومخالفة للميثاق، ولا ينبغي التعامل معها. في المقابل اعتبر الآخرون أن رئيس الجمهورية غير شرعي؛ لأن التمديد له تم تحت التهديد السوري بحسب رأيهم, أما البرلمان فأقفل أبوابه لأن رئيسه لم يعد يعترف بالحكومة.


طيلة العام 2007 عاش لبنان بدون سلطات دستورية على إيقاع تهديدات متبادلة بين الموالاة المدعومة من الغرب والمعارضة المدعومة من سوريا وإيران، هذا في الوقت الذي "اعتصمت" فيه قوى المعارضة في وسط بيروت محاصرة مقر الحكومة، حيث قبع الرئيس فؤاد السنيورة مع وزرائه.


وأكثر من ذلك انتهت ولاية الرئيس لحود من دون قدرةٍ للبرلمان على الاجتماع لانتخاب خَلَفٍ له؛ فأمسى القصر الرئاسي اللبناني شاغرًا، وساد الخوف من حرب أهلية سنية-شيعية هذه المرة، لاسيَّما أن الفتنة كانت قد أطلَّت برأسها في العراق مع الخوف من امتدادها إلى لبنان، وربما منه إلى مواضع أخرى.


قراءة هادئة في مشهد ساخن






ثمَّةَ منطقان تجاذبا المشهد السياسي اللبناني منذ العام 2005:


المنطق الأول
يرى في النظام الحاكم في دمشق سببًا لما يتعرض له البلد من تعطيل لمسيرة الاستقلال والحرية؛ ذلك أنه لم يتقبل فكرة الخروج من لبنان بعد ثلاثة عقود طويلة من الوصاية، وهو الذي قتل رفيق الحريري بعد أن حاول اغتيال الوزير مروان حمادة معتقِدًا أنهما أسهما في صدور القرار 1559، الذي وضع حدًّا "للوصاية السورية"، وجرَّد قواتِها العاملةَ في لبنان من الشرعية الدولية التي كانت تحظى بها. كما يتهم أصحاب هذا المنطق النظام السوري بأنه وراء كل الاغتيالات التي حدثت؛ ذلك أنه طالما استخدم هذه الوسيلة لأغراض سياسية منذ "اغتياله كمال جنبلاط في عام 1976". وإزاء قصور الدولة اللبنانية عن تولِّي أمنها الداخلي، وعجز القضاء اللبناني عن إجراء التحقيقات من دون مساعدة خارجية, نادى أصحاب هذا المنطق بوجوب الاستفادة من التضامن الدولي مع بلدهم المستضعَف من أجل استكمال الاستقلال، واستعادة الحرية والسيادة. والترجمة العملية لذلك هو التحقيق الدولي وتوسعه ليشمل كل التفجيرات الأمنية التي حصلت منذ عام 2004، بالإضافة إلى تشكيل محكمة دولية لمحاكمة المجرمين ومعاقبتهم؛ حيث يرون أنه إذا وصلنا إلى "الحقيقة" يمكن لنا إنجاز الاستقلال والأمن، ومن دونها فإنَّ المسلسل الإجرامي سوف يستمر من دون توقف. وغني عن البيان أن أصحاب هذا المنطق هم جماعة 14 آذار(مارس).


المنطق الثاني



طيلة العام 2007 عاش لبنان بدون سلطات دستورية على إيقاع تهديدات متبادلة بين الموالاة المدعومة من الغرب والمعارضة المدعومة من سوريا وإيران.
يرى أن ما يحصل في لبنان هو جزء مما تعيشه المنطقة برمتها الخاضعة لهجمة أميركية تنوي إعادة ترتيبها وفقًا للمصلحة الإسرائيلية، ولأجندة المحافظين الجدد. وبالتالي ففي غياب الدليل المادي على تورط سوريا في الاغتيالات؛ فإنه من التسرع بمكان توجيه الاتهام إليها وتبرئة إسرائيل، خاصةً مع علم الجميع بقدرة الموساد والسي آي إيه على القيام بمثل هذه الأفعال، وبمصلحتهما في تأليب اللبنانيين والعالم ضد سوريا بهدف إخراجها من لبنان ثم الاستمرار في الضغط عليها سعيًا وراء تنازلات منها في أكثر من ملف إقليمي، ثم إن حزب الله هو المقصود أولاً وأخيرًا بالقرار 1559، ونزع سلاحه هو مطلب إسرائيلي تبنَّاه بقوة محافظو البيت الأبيض الجدد بعد أن احتلُّوا العراق، وعاثوا فيه تنكيلاً وخرابًا. من هنا نجد عدم ثقة أصحاب هذا المنطق بالتحقيق الدولي، ورفضهم بالتالي لكل ما هو أميركي يرتدي لبوس الشرعية الدولية التي لم تتردد واشنطن في انتهاكها غير مرة وآخرها في العراق.

إنَّ انسحاب وزراء حزب الله وحلفائهم من الحكومة اللبنانية, في نوفمبر/تشرين الثاني 2006, احتجاجًا على مطالبتها مجلس الأمن بالتوسع في التحقيق الدولي ليشمل كل الاغتيالات، وتشكيل محكمة دولية فتح أزمة حُكم استبطنت تهديدًا بشلِّ الحياة السياسية برمَّتها، لاسيما أن رئيس الجمهورية قد أبدى تعاطفًا مع حزب الله برفضه ليس فقط ترؤُّس اجتماع مجلس الوزراء، ولكن أيضًا برفض انعقاده في القصر الجمهوري. وعاد الجدل الدستوري القديم إلى الاحتدام بين مقولة أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية وانصياع الأقلية، ومقولة أن لبنان لا يُحكَم إلا بالديمقراطية التوافقية؛ فلا أغلبيةَ فيه وأقليات، بل طوائف من الخطورة على السَّلم الأهلي أن تشعر أي منها بالحصار أو العزلة، أو الاستبعاد عن القرار.


لكن على الرغم من التعقيد الشديد الذي تبدو عليه الأمور، ومن المخاوف السائدة من حرب أهلية مضمَرة؛ فإن المراقب الموضوعي لابدَّ أن يُلاحظ أنه لا خلافات جوهرية بين أصحاب كل من المنطقين المذكورين, وبالتالي فإن ما يجري ليس سوى التاريخ الذي يعيد نفسه في ساحة لبنان, ساحة تصفية العديد من الصراعات الدولية والإقليمية؛ فالجميع متفقون في لبنان على أنه لا يمكن أن يُحكَم من سوريا ولا ضدَّ سوريا، وعلى أنه ينبغي معرفة الحقيقة حول استشهاد الرئيس الحريري ورفاقه وكل الاغتيالات والتفجيرات التي حصلت، وعلى أن لبنان عربيّ، وإسرائيل هي العدو، وسوريا هي شقيقة ينبغي إقامة أفضل العلاقات المميزة معها. إذن أين المشكلة؟ هل في التفاصيل حيث يقبع الشيطان؟ وهنا يجري تسلل المشكلة من المحلي إلى الإقليمي-الدولي.


حزب الله هو حزب مقاومة أساسًا، ومن المعروف أن المقاومة تحتاج -لكي تبقى على قيد الحياة- إلى دولة مجاورة تؤمِّن لها الخلفية الإستراتيجية واللوجستية؛ لذا فإنَّ تحالف حزب الله وسوريا ضروري للاثنين، ومن العبث البحث عن تفكيكه، لاسيما أن الجغرافيا تفصل الحزب عن حليفه الأيديولوجي الإيراني الذي يحكمه نظام ولاية الفقيه. وهذا الأخير لا يحوز إجماعًا حتى في الداخل الإيراني نفسه؛ الأمر الذي يسبب إحراجًا للحزب الذي يجهد للبرهنة على قدرته على الفصل ما بين قناعاته الدينية-المذهبية (ولاية الفقيه تحديدا) وانتمائه اللبناني والعربي، لكن المشكلة أن لهذا التحالف أثمانًا لا طاقة للوضع اللبناني دائمًا على تحمُّلها؛ فدفاع حزب الله عن النظام السوري -الذي يتهمه قسم من اللبنانيين بالمسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في بلدهم من كل النواحي ناهيك عن التفجيرات والاغتيالات- يُضعف موقفه، ويهدد بنزع الشرعية الوطنية عنه فيحوله إلى ميليشيا وهذا مطلب إسرائيلي.


في المقابل عاشت الأطراف الأخرى (أي  الموالاة) مأزقًا آخر؛ ذلك أن اعتمادها المفرط -ولو مضطرة- على المساعدة الدولية -والأميركية تحديدًا- جعلها رهينة لأجندات غير لبنانية، وبالتالي ضحية محتمَلة لمساومات ما. وسادتها مخاوف من احتمال التوصل إلى تسوية سورية-أميركية على حساب "الحقيقة" لاسيما مع انتشار أخبار بين الفينة والأخرى عن حوار سرِّي بين البلدين. وهذه المخاوف ناتجة عن عدم الثقة بالطرف الأميركي إضافة إلى عدم الثقة بالطرف السوري؛ مما يجعل السياسات التي تتبعها الموالاة سياسات تحكمها "الضرورة" أكثر منها "الاختيار"؛ فيغلب عليها التردد والضعف.


الخروج من الأزمة 





ما يزال اتفاق الدوحة بوصفه اتفاقًا لبنانيًّا برعاية إقليمية ودولية -على غِرار ما كان عليه اتفاق الطائف- يحكم المعادلة اللبنانية الداخلية وإن اختلفت الأطراف حِينًا على تأويله.
في بداية مايو/أيار 2008 أصدرت الحكومة اللبنانية المحاصَرة في المقرِّ الحكومي قرارًا بنقل العميد وفيق شقير الموالي لحزب الله والمسؤول عن الأمن في مطار بيروت الدولي من مركزه، وقرارًا آخر بإحالة موضوع شبكات الهاتف السلكي التي أنشأها حزب الله لصالحه الخاص إلى القضاء. وقد اعتبر الحزب هذا القرار اعتداء صارخًا يهدف إلى تجريده من سلاح الاتصالات الذي أظهر فعالية في حرب يوليو/تموز 2006. وفي السابع من مايو/أيار قامت قوات المعارضة بشن هجوم مباغت لتسيطر على العاصمة اللبنانية في أقلِّ من أربعة أيام، وتسمح للجيش اللبناني بالحلول محلها كدليل منها على أن الشرعية هي ما تتوخَّى وليس السيطرة على البلاد. ولم تتبدد مخاوف العودة إلى الحرب  الأهلية إلا بعد أن وجه أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الدعوة إلى الأطراف اللبنانية لعقد مؤتمر في الدوحة يبحث عن حل للأزمة ويعيد الأمور إلى نصابها.

مؤتمر الدوحة
لم يكن مؤتمر الدوحة لينعقد، ولا لينجح لو أنه لم يحظَ برعاية إقليمية ودولية؛ فالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كان قد نفَّذ وعده بإحداث القطيعة في السياسة الخارجية لسلفه الرئيس جاك شيراك، لاسيما مع سوريا التي انفتحت عليها باريس بطريقة لافتة في مقابل تغيير في تعاطي سوريا مع الملف اللبناني. ولم يكن ثمة مصلحة لإيران والسعودية في الوقوف موقف المتفرج على فتنة سنية-شيعية تنشب في لبنان لتشمل المنطقة. وتركيا وجدت في الأزمة اللبنانية الفرصة لتبرهن على خصب سياستها الجديدة المنفتحة على الشرق الأوسط عمومًا، والتي يمكن من خلالها تحقيق تقدم في ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، أو ربما التعويض عن هذا الانضمام الذي يواجه عقبات جمَّة.


أما الولايات المتحدة التي لم يفعل رئيسها شيئًا لحماية حلفائه اللبنانيين من هجوم حزب الله، فلم تشأ أن يَرِد في سجلها إخفاق جديد في "الديمقراطية اللبنانية الناشئة" بحسب تعبير بوش، ويضاف إلى الإخفاقات الإقليمية الأخرى. والأهم من كل ذلك القناعة السائدة في الغرب عمومًا حول العلاقة بين ضعف الدولة أو فشلها والإرهاب؛ فالإستراتيجية الأمنية القومية التي أعلنتها واشنطن في العام 2006 تصرح بأن "أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 علَّمتنا أن الدولة الضعيفة -كأفغانستان- بإمكانها أن تشكل خطرًا عظيمًا على مصالحنا الوطنية بقدر الدول القوية". كذلك فإن الاتحاد الأوروبي الذي قالت إستراتيجيته المعلنة في العام 2003: "إن إخفاق الدولة هو أحد التهديدات الخمسة الأساسية التي تواجهها أوروبا, ويرتبط هذا التهديد بالإرهاب" كما قال خافيير سولانا.


ومن المعروف أن الدولة الفاشلة تُستخدَم كقواعد وملاذات آمنة للمنظمات الإرهابية. والحال هذه لم يكن أحد في الغرب يرغب برؤية لبنان -بعد الصومال وأفغانستان- يعود لما كان عليه طيلة سنين الحرب الأهلية -في سبعينيَّات وثمانينيَّات القرن المنصرم- ملاذًا لعشرات "المنظمات الإرهابية" التي أسهمت في انتشار "الإرهاب" على المستوى العالمي؛ لذا كان لابد من العمل على نزع فتيل الانفجار، ودعم الدولة ومؤسساتها دَرءًا لانهيارها وحلول المنظمات الإرهابية محلها.


لم يكن أحد من اللاعبين الفاعلين في الشأن اللبناني يستحسن تدهورًا أمنيًّا شاملاً لاسيما بعد أن انتهت حرب مخيم البارد بانتصار الجيش اللبناني -ولو بشق النفس وبخسائر بشرية كبيرة- على تنظيم فتح الإسلام الذي قام بعمليات "إرهابية" كثيرة في لبنان بحسب التحقيقات مع مَن أُلقي القبض عليهم من قادته.


وانتهى مؤتمر الدوحة باتفاق على انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيسًا توافقيًّا، وعلى إجراء الانتخابات النيابية وفقًا لقانون صدر في العام 1960 يقسِّم الدوائر الانتخابية بحسب الأقضية، وعلى عدم الاحتكام إلى السلاح لدى نشوب الخلافات السياسية، وكذلك على تشكيل حكومة اتحاد وطني تُشرف على هذه الانتخابات. وما يزال اتفاق الدوحة بوصفه اتفاقًا لبنانيًّا برعاية إقليمية ودولية -على غِرار ما كان عليه اتفاق الطائف- يحكم المعادلة اللبنانية الداخلية وإن اختلفت الأطراف حِينًا على تأويله.


وخلال إذاعة بنود الاتفاق في الدوحة بحضور أمير قطر ورئيس وزرائها أعلن رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري عن إنهاء اعتصام المعارضة في وسط بيروت، ودعا إلى جلسة للبرلمان لانتخاب رئيس للجمهورية انعقدت فور عودة اللبنانيين من الدوحة في 25 مايو/أيار, وحضرها جمع غفير من الدبلوماسيين الأجانب وسفراء الدول الكبرى ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مع وزير خارجيته. كان هذا الحضور الدولي دليلاً قاطعًا على أن النظامين: الدولي والإقليمي يرعيان المصالحة اللبنانية، ويبغيان إبعاد شبح الحرب الأهلية أو الفتنة الطائفية رغم الاستقطاب الإقليمي؛ حيث التهديدات الأميركية لإيران، والإسرائيلية لحماس والتي عبرت عن نفسها بعدوان وحشي مريع على غزة في نهاية العام 2008م. وكان من اليسير عندها تشكيل حكومة ائتلاف وطني بزعامة السنيورة نفسه الذي كانت تمقته المعارضة.





تشكيل الحكومة واجه من الصعوبات ما أعاد الخوف من انفراط عَقد الاتفاقات والتهدئة، وعودة الاحتكام إلى السلاح، وانهيار ما تم بناؤه منذ اتفاق الدوحة.
في هذا الوقت كانت سوريا تخرج من عزلتها الدولية عبر زيارات متكررة يقوم بها لدمشق أعضاء من الكونغرس الأميركي ووزراء خارجية أوربيون والرئيس الفرنسي ساركوزي. وكان قد صدر في العام 2007م تقرير "بيكر-هاملتون" الذي يدعو الإدارة الأميركية إلى الحوار مع سوريا وإيران، كما كانت واشنطن تسعى لتوقيع اتفاق مع الحكومة العراقية يؤمِّن انسحاب قواتها من العراق في غضون العام 2011.

إذن كان ثمة مناخ إقليمي يتردد بين التهدئة والتسخين على وقع المفاوضات والتهديدات بشأن الملف النووي الإيراني، والموقف السوري من العراق والمفاوضات السورية-الإسرائيلية غير المباشرة بوساطة تركية ومباركة أوروبية. وعلى هذا الإيقاع كان الحراك السياسي اللبناني المتأزم يسير بين أطرافه المرتبطة بالخارج. لكن انتخاب الرئيس الأميركي أوباما في نوفمبر/تشرين الثاني 2008 فتح الطريق أمام الآمال بسياسة أميركية جديدة تمد اليد للعالمين: العربي والإسلامي، وتفتح حوارًا مع خصومها، وتسعى إلى حلول سياسية عادلة للأزمات؛ فتُنهي الآثار السيئة لسياسات المحافظين الجدد كما وعد الرئيس الديمقراطي خلال حملته الانتخابية. ثم إن الأزمة المالية الأميركية الحادة والتي انتقلت عدواها إلى الاقتصاد العالمي برمته بالإضافة الى إخفاقات إدارة بوش العالمية أعطت مصداقية لوعود أوباما الذي كان من المُلِحِّ أن يعمل على تغيير صورة الولايات المتحدة السلبية لدى الرأي العام في طول العالم وعرضه.كان لابد لهذا الانتخاب من أن يُخلِّف أصداء تفاؤلية في الشرق الأوسط ولبنان، ولكن قلَّل من منسوبها وصول بنيامين نتنياهو الى السلطة في إسرائيل.


تداعيات اتفاق الدوحة
كما نصَّ عليه اتفاق الدوحة جرت الانتخابات النيابية اللبنانية في الثامن من حزيران 2009 في يوم واحد من دون حوادث أمنية تُذكَر؛ فكان ذلك انتصارًا للحكومة وتأكيدًا على الرعاية الإقليمية للسَّلْم اللبناني.


وقد كشفت هذه الانتخابات عن استقطابات طائفية ومذهبية حادة، أُضيفت إلى الانقسام الحاد بين حركتي 8 و14 آذار، وذلك رغم التهدئة ومفاعيل اتفاق الدوحة الذي احترمه المعنيون، ثم كانت المفاجأة في الفوز غير المتوقع لقوى 14 آذار التي رشَّحت سعد رفيق الحريري لتشكيل الحكومة في الاستشارات المُلزمة التي قام بها رئيس الجمهورية. وقد سارع الرئيس أوباما -كما فعل كثير من نظرائه- إلى تهنئة اللبنانيين والفائزين في الانتخابات، وإلى إرسال مبعوثه الخاص جورج ميتشل إلى بيروت.


وعلى عكس المتوقع فإن تشكيل الحكومة واجه من الصعوبات ما أعاد الخوف من انفراط عَقد الاتفاقات والتهدئة، وعودة الاحتكام إلى السلاح، وانهيار ما تم بناؤه منذ اتفاق الدوحة.


خمسة أشهر طويلة من المفاوضات والمساومات على هذه الحقيبة أو تلك -لاسيما حقيبة الاتصالات ذات الطابع الأمني والمالي- حبس خلالها اللبنانيون أنفاسهم. كانت المشكلة في عدم حصول اتفاق واضح حول لبنان بين كل من سوريا والسعودية رغم المصالحة بينهما في قمة الكويت، واللقاء بين زعيميهما في 19 ديسمبر/كانون الأول 2009, على ما رأى مراقبون كثر. وبالفعل فإن زيارتي الرئيس الأسد لجدة في 23 سبتمبر/أيلول 2009، ثم الملك السعودي عبد الله لدمشق في السابع من أكتوبر/تشرين الأول, أسهمتا في حلِّ كثير من التعقيدات, كما أن تدخل أنقرة وفرنسا أسهم في حلِّ البعض الآخر. وانعقد الاتفاق على أن يزور سعد الحريري دمشق فور تشكيله حكومة الوحدة الوطنية.


كان واضحًا أن ثمة نوعين من العقبات أمام تشكيل هذه الأخيرة: أحدهما إقليمي والآخر لبناني محلي. وتبين أن التقدم في الإقليمي عبَّد الطريق أمام التفاهم الداخلي؛ فكانت الولادة القيصرية لحكومة توزعت بحسب معادلة خمسة وزراء لرئيس الجمهورية، وعشرة للمعارضة (8 آذار)، وخمسةَ عشرَ للموالاة (14 آذار). ثم كانت العقبة أيضًا في الاتفاق على البيان الوزاري لاسيما ما يتعلق منه بسلاح حزب الله والذي كان اللبنانيون قد اتفقوا في جلسات الحوار على اعتباره شأنًا داخليًّا يرتبط حلُّه بالاتفاق على الإستراتيجية الدفاعية الجديدة. ثم تمت صياغة البند السادس في البيان على أساس "حق المقاومة" وهي مفردة تحفَّظ عليها نواب ووزراء مسيحيون قريبون من رئيس الحكومة, الأمر الذي أضاف تساؤلاً جديدًا إلى التساؤلات التي فتح سبيلها وليد جنبلاط حول معنى ومستقبل حركة 14 آذار.






كشفت الانتخابات النيابية اللبنانية التي جرت في الثامن من حزيران 2009 عن استقطابات طائفية ومذهبية حادة، أُضيفت إلى الانقسام الحاد بين حركتي 8 و14 آذار، وذلك رغم التهدئة ومفاعيل اتفاق الدوحة الذي احترمه المعنيون.

وكان الزعيم الدرزي قد صرح في الثاني من أغسطس/آب 2009 بأنه لم يعُد يؤمن بضرورة استمرار تحالف 14 آذار، وأنه يفضِّل العودة إلى مبادئ حزبه الاشتراكية والعمالية، وإلى موقعه العروبي في الصراع ضد إسرائيل؛ مما يعني انضواء غير معلن تحت حركة 8 آذار، أو على الأقل الوقوف في الوسط. وجاء إطلاق سراح الضباط الأربعة ليسدد ضربة قاسية إلى فريق الموالاة الذي استخدم اعتقالهم وسيلة لاتهام سوريا باغتيال الحريري، لكنه نجح من جهة أخرى في تحقيق مطلب التبادل الدبلوماسي بين لبنان وسوريا في 9 مارس/آذار بافتتاح سفارتين لكل منهما في العاصمتين.

كان –إذن- ثمة توازن بين الأرباح والخسائر لدى كل فريق في الداخل على إيقاع توازن ما بين الأطراف الخارجية من ناحية تقاسم النفوذ. فتم تظهير المشهد السياسي الجديد الذي كرَّسته زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى دمشق في 19 ديسمبر/كانون الأول 2009 بعد استحواذ حكومته على ثقة المجلس النيابي اللبناني بإجماع أعضائه إلا واحدًا وامتناع ستة عن التصويت. وبالطبع كانت هذه الزيارة تاريخية ليس فقط بسبب ما انعقد خلالها من اتفاقات ولكن مجرد لقاء الرئيسين بشار حافظ الأسد وسعد رفيق الحريري أمام عدسات المصورين والصحافيين كان يُؤذِن بنهاية حقبة الاضطراب التي سادت العلاقات بين البلدين الشقيقين منذ العام 2005، والبرهان بالأفعال على أن ملف اغتيال الرئيس الحريري بات في عُهدة المحكمة الدولية بعيدًا عن الاتهامات المعلنة والمبطنة. وانتهت الزيارة بإعادة تكريس العلاقة المميزة اللبنانية-السورية تبعًا لما نصَّ عليه اتفاق الطائف، والموافقة على إعادة النظر -من أجل التعديل أو التطوير إذا تطلب الأمر- في الاتفاقات الموقَّعة بين البلدين منذ معاهدة الأخوَّة والتعاون والتنسيق عام 1992م, والتي انبثق عنها المجلس الأعلى السوري-اللبناني.


وبكل بساطة يمكن القول: إن هذه الزيارة تفتح صفحة جديدة ليس فقط في العلاقات بين البلدين، ولكن أيضًا في المشهد السياسي الداخلي اللبناني؛ حيث هبَّت موجة مصالحات بين كل الشخصيات والأطراف المتخاصمة تقريبًا. وعلى مشهد هذه المصالحات انتهى العام 2009، وبدأ العام الجديد الذي تميز شهره الأول باستكمال ما تبقَّى من مصالحات. وهو ما يؤكد أن الانقسام بين قوى 8 و14 آذار فقد معناه، وأن البلد يمرُّ بمرحلة انتقالية يحكمها اتفاق الدوحة الذي يبدو أنه ثبَّت تسوية دائمة حتى إشعار آخر، بعدما ساد اعتقاد أن آثاره تنتهي بانتهاء الانتخابات النيابية التي قسَّم الاتفاق دوائرها رضائيًّا، وحدَّد قانونها، كما ناط برئيس الجمهورية دورًا توافقيًّا، ووزع السلطة الإجرائية في حكومة وحدة الوطنية، وأعاد وضع سلاح حزب الله على طاولة الحوار الوطني.


في الانتظار لا يبدو أن المرحلة ستنفرج عن إلغاء للطائفية السياسية التي طال الانتظار لإلغائها, وبالتحديد منذ حكومة الاستقلال الأولى في العام 1943 التي قال بيانها الوزاري حينها: "إن الطائفية السياسية مؤقَّتة، وساعة إلغائها ستكون مباركة". وكرَّرت حكومة الاستقلال الثانية الأمر إلا أن المؤقَّت أضحى ثابتًا، والحديث عن إلغاء الطائفية راح ينتظر ظروفًا لم تكن ملائمة منذ الاستقلال مرورًا باتفاق الطائف الذي يطالب بإنشاء هيئة وطنية لدراسة كيفية إلغاء هذه الطائفية.


وقد أعلن الرئيس بِرِّي غداة تشكيل الحكومة أنه آن الأوان لتطبيق اتفاق الطائف الذي يقول بتشكيل هذه الهيئة بالإضافة إلى مجلس للشيوخ، لكنه جُوبه بعاصفة من الرفض لاسيما من الجانب المسيحي عمومًا (هنا أيضا لم يعد الانقسام موجودًا عمليًّا بين 8 و 14 آذار)؛ وذلك بذريعة أن الظروف غير ملائمة لمثل هذا البحث. أما البطريرك الماروني صفير فقال بوضوح: إنه من غير المجدي البحث في إلغاء الطائفية من النصوص وهي ما تزال في النفوس، ثم أعلن حزب الله أنه من الأفضل تأجيل البحث في المسائل الخلافية الكبرى بين اللبنانيين بغية التفرغ لمواجهة النوايا العدوانية الإسرائيلية. وهكذا من جديد يتأجَّل البحث في تطبيق هذا البند الأساسي من اتفاق الطائف.





الجيوبولتيك المعقد، والنظام الطائفي القائم على محاصصة في بدعة تُسمى "الديمقراطية التوافقية" سوف يستمران في ضمان بقاء لبنان ساحة صراع للآخرين.
بيد أن عدم المركزية الإدارية مع الإنماء المتوازن بحسب اتفاق الطائف قد يكون الإنجاز الأبرز- بعد صعوبات جمَّة وخلافات حادة على الأرجح- الذي يحققه اللبنانيون في المستقبل غير البعيد. أمَّا سلاح حزب الله فالجميع باتوا على إدراك تام بأنه باقٍ طالما أنه ما يزال للبنان أراضٍ محتلة، بل أكثر من ذلك طالما بقي الصراع العربي-الإسرائيلي من دون تسوية مع مخاطر أن تتضمن هذه التسوية توطين الفلسطينيين في لبنان المنهك بعبء المديونية. وما البحث في الإستراتيجية الدفاعية على طاولة الحوار إلا من قبيل دفع اللبنانيين لصرف الوقت في التحاور بحثًا عن صيغة من المرجَّح أنهم لن يعثروا عليها. أما عن الانقسام الآذاري (8 و 14) القائم فقد انتهى عمليًّا في انتظار تبلور تحالفات جديدة قد تُظهرها الانتخابات النيابية المقبلة في العام 2013، ولن يكون محورها تحديد هوية لبنان والتي اتُّفق على عروبتها، كما اتُّفق على العدو الإسرائيلي، وكذلك على العلاقة المميزة مع سوريا عبر علاقة جديدة غير ما كانت عليه قبل العام 2005، بدليل أن بيروت باتت تستقبل شخصيات دولية رفيعة من رئيس الجمهورية الفرنسي إلى نائب الرئيس الأميركي مرورًا بوزراء خارجية الدول العظمى، كما بات رئيس الجمهورية والحكومة اللبنانيين قادرين على التوجه إلى كل دول العالم من دون المرور بدمشق. وآخر هذه الزيارات هي ما قام به سعد الحريري في 10 يناير/كانون الثاني 2010 إلى أنقره؛ حيث وقَّع اتفاقات شبيهة بتلك الموقعة بين تركيا وسوريا في إطار مشروع استراتيجي تركي واسع في المنطقة.

في المحصلة فإن الجيوبولتيك المعقد، والنظام الطائفي القائم على محاصصة في بدعة تُسمى "الديمقراطية التوافقية" سوف يستمران في ضمان بقاء لبنان ساحة صراع للآخرين، الذين يبدو أنهم ارتأوا في الوقت الحاضر أن يوضع لبنان في صالة انتظار بانتظار ما ستؤول إليه التطورات الدولية والإقليمية، وما ستفعله إدارة أوباما تنفيذًا لوعودها بعلاقات دولية جديدة.
_______________
أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية