العقوبات.. خيار الغرب المتاح والعاجز ضد إيران

تقرير يستعرض نظم العقوبات التي تعرضت لها إيران لتكون تمهيدا للعقوبات التي أقرها مجلس الأمن مؤخرا، وينوه إلى أن طهران تمكنت في السابق من التحايل عليها، ويمكنها هذه المرة أيضا أن تفلت من شراكها.







 

بشير عبد الفتاح


واجهت إيران طيلة عقود ثلاثة خلت نوعين من العقوبات، اتسم أولهما بطابع انفرادي من طرف بعض الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وهو ما عرفه نظام ولاية الفقيه عقب ثورة عام 1979، وتم تجديده في صيغ أخرى عام 1996، كما تبذل واشنطن وحلفائها في أوروبا هذه الأيام جهودا حثيثة لفرض مجموعة جديدة أشد وطأة من هذا النوع على إيران، يتوقع أن تضع قيودا على وارداتها من الطاقة حيث تطال المعدات التي تستخدم في قطاعي الغاز والنفط وتكرير البترول.





أخفقت العقوبات في إجهاض مساعي نظام ولاية الفقيه لتطوير قدرات بلاده التسليحية على الصعيد الإستراتيجي بما في ذلك البرنامج النووي.
أما النوع الثاني من العقوبات التي تحاصر إيران، فقد اكتست مسحة أممية، فمنذ العام 2006، وبجريرة برنامجها النووي المثير للقلق، واجهت إيران هذا النوع من العقوبات عبر قرارات ثلاث، القرار 1737 الصادر في ديسمبر 2006، والقرار 1747 الذي صدر في مارس 2007، ثم القرار 1803 الصادر في مارس 2008، وصولا إلى القرار الأخير 1929، الذي صدر قبل أيام، ووسَّع مجال العقوبات التي سبق أن أقرها مجلس الأمن في قراراته السابقة، ما جعلها توصف بأنها الأقسى والأشمل بين العقوبات المفروضة على أية دولة، بما فيها كوريا الشمالية.

وما بين هذا النوع أو ذاك من العقوبات، أطلت برأسها علامات الاستفهام متسائلة عن مدى جدوى سياسة العقوبات وما يمكن أن تتمخض عنه من تأثير على بقاء النظام الإيراني واستمرار سياساته النووية، لاسيما تلك المتعلقة بالبرنامج النووي للجمهورية الإسلامية.


تسلح متعثر لكن متواصل
العقوبات تؤجج روح التحدي
معركة كسب الوقت متواصلة
حصاد العقوبات الهزيل


تسلح متعثر لكن متواصل 


فيما يتعلق بتقويض الطموحات التسليحية والنووية لإيران، يمكن القول إن العقوبات قد أخفقت في إجهاض مساعي نظام ولاية الفقيه لتطوير قدرات بلاده التسليحية على الصعيد الإستراتيجي بما في ذلك البرنامج النووي، فبرغم التقارير الغربية التي تؤكد تعثر وتباطؤ تلك المساعي في ظل العقوبات القاسية المفروضة على طهران، سواء من داخل المنظمة الأممية أو من خارجها، تؤكد تقديرات غربية وإسرائيلية أن في وسع إيران امتلاك القنبلة النووية في غضون عام أو ثلاثة على الأكثر. فلقد استطاعت إيران زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي المتاحة لديها من 5000 فقط عام 2006 إلى 60000 حاليا، وكشفت النقاب عن حصولها على أجهزة طرد مركزي جديدة تعمل بشكل أسرع لتخصيب اليورانيوم، كما أنشأت عددا من المواقع النووية الجديدة، وضاعفت كمية اليورانيوم منخفض التخصيب لديها من 1200 كجم إلى 2400 كجم، ووصلت بمخزونها من اليورانيوم المخصب إلى 5 كجم. وفى ذات السياق، وفى مسعى منها للتقليل من قيمة القرار 1929، أعلنت طهران أنها ستعلن خلال الأسابيع المقبلة عن إنجاز جديد فيما يتصل بإنتاج الوقود النووي محليا، كما تمكنت من الاعتماد على دول آسيوية ككوريا الشمالية في الحصول على تكنولوجيا عسكرية غربية وأمريكية متطورة برع الخبراء الإيرانيون في الاستفادة منها وتطويرها. وبرغم ما قد تنطوي عليه هكذا معلومات من مبالغات بغرض الاستهلاك المحلي والدولي، إلا أنها تؤشر، من دون شك، لقدرة إيران الهائلة على الصمود وتحقيق تطور في مجالات حساسة وهامة، وإن بوتيرة هادئة، برغم الحصار والعزلة والعقوبات الدولية.





تسنى لإيران التحايل على العقوبات الدولية بصور شتى خولتها تطوير قدراتها التكنولوجية والعسكرية والنووية بمعدلات أثارت قلق الغرب وانبهاره في آن
علاوة على ذلك، تسنى لإيران التحايل على العقوبات الدولية بصور شتى خولتها تطوير قدراتها التكنولوجية والعسكرية والنووية بمعدلات أثارت قلق الغرب وانبهاره في آن، فلقد بلغ الدهاء بالنظام الإيراني حد تغيير أسماء الشركات الإيرانية التي فرض عليها الحصار وإطلاق أسماء وهمية أو دولية عليها بل وإنزال العلم الإيراني عن السفن التجارية تلافيا للتفتيش أو المصادرة. وقد نشرت صحيفة التايمز البريطانية تقريرا استعرضت خلاله كيفية قيام السلطات البحرية الإيرانية بأكبر عملية تحايل وتمويه وتغيير في أسماء السفن وإقامة الشركات الوهمية في محاولة للالتفاف على العقوبات الدولية، وذكرت أن أكثر من عشر السفن الإيرانية الخاضعة للعقوبات لا تزال مؤمنة في بريطانيا وبرمودا، وأن عددا غير معروف من السفن التي تم إخفاء ملكيتها الحقيقية، لها صلات ببريطانيا.

فما إن وضعت الحكومتان الأمريكية والبريطانية شركة الملاحة الإيرانية "إيرسل" على القائمة السوداء قبل عامين لدورها في نقل مواد لها علاقة بالبرنامج النووي الإيراني، حتى قامت الشركة بتغيير أسماء 80 سفينة من أصل 123 تمتلكها، وإقامة شركات وهمية في ألمانيا ومالطا ودول أخرى تقوم بتسيير خطوط ملاحة يُفترض أنها مستقلة. أما السفن التي تمتلكها شركة "إيرسل" فلم تبق تحمل اسمها الأصلي سوى 46 سفينة، بينما تغيرت أسماء 73 سفينة أخرى، وانتقلت ملكيتها إلى شركات وهمية. وقد اعترفت وزارة الخزانة الأمريكية بفشلها في تتبع آثار السفن التي تغيرت أسماؤها، الأمر الذي ينطوي على احتمال أن تتعامل الشركات الأمريكية مع هذه السفن والشركات الإيرانية دون علمها أنها تخضع للعقوبات. فسفن "إيرسل" تظهر في القائمة السوداء تحت الأسماء القديمة، ولم تتم إضافة أسماء سفن أو شركات جديدة لهذه القائمة. لذا، طالب وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية ستيوارت ليفي بضرورة البحث في ما هو أبعد من القائمة السوداء، لتتبع الشركات والسفن الإيرانية التي تتحايل على العقوبات. وهذا التحايل يتم عبر شبكة شركات تعمل كواجهات تتولى استيراد المواد والسلع الممنوع تصديرها إلى إيران وخصوصاً التي لها استعمال مزدوج سلمي وعسكري لدول غير مشمولة بالعقوبات لكنها في أثناء عملية شحنها تعيد تصديرها إلى إيران. وهناك محطات عدة لهذا النوع من العمل أهمها دبي وماليزيا وهونغ كونغ وتايلاند وسنغافورة وكذلك عواصم أو مدن أوروبية.


وتوخيا منهم للتعاطي مع هذا التحايل الإيراني على العقوبات، رهن باحثون وجهات معنية أمريكية وأوروبية نجاح تلك العقوبات الجديدة بضرورة بلورة آلية لمتابعة تنفيذها وإيجاد ضمانات لمنع تحايل طهران عليها، ولتحقيق ذلك، تقدموا إلى حكوماتهم باقتراحات عدة:



  • أولها، تعاون المجتمع الدولي لتفكيك الشبكات الإيرانية التي تعمل على إيصال المواد والسلع الممنوعة إلى إيران بوسائل غير شرعية، على أن تضطلع الولايات المتحدة بالدور الأكبر في ذلك بسبب إمكاناتها الهائلة التابعة لإدارتي الهجرة والجمارك فيها والمنتشرة حول العالم.
  • وثانيها، أن تقود أمريكا وأوروبا جهداً كبيراً لكشف الوسطاء واللاعبين الدوليين الذين يقومون بالتغطية على خروقات طهران للعقوبات، دولاً كانوا أم شبكات إجرامية وشركات واجهة أم أحزاباً وجمعيات.
  • وثالثها، وضع قاعدة بيانات عن الجهات الإيرانية المتنوعة التي يفترض أن تشملها العقوبات، مؤسسات كانت أم شخصيات، بما يساعد على منع إيران من كشف كل ما يُعد لمواجهة خرقها العقوبات.
  • ورابعها، دفع أمريكا وأوروبا مجموعة الـ 5+1 ثم مجلس الأمن الدولي لتكوين فريق يتحرى جهود إيران للإفلات من العقوبات ويعمل على كشفها للمجتمع الدولي وإجهاضها.

العقوبات تؤجج روح التحدي 





برغم ما تمخضت عنه العقوبات من تأثيرات سلبية على الأوضاع الداخلية في إيران وكذا علاقاتها الإقليمية والدولية، يمكن الإدعاء بأن تلك العقوبات قد لعبت من جانب آخر دورا مهما في تأجيج روح التحدي لدى الإيرانيين وتفجير قدراتهم الإبداعية من خلال مساعيهم للتغلب على نقص المواد الضرورية.
وبرغم ما تمخضت عنه العقوبات من تأثيرات سلبية على الأوضاع الداخلية في إيران وكذا علاقاتها الإقليمية والدولية، يمكن الإدعاء بأن تلك العقوبات قد لعبت من جانب آخر دورا مهما في تأجيج روح التحدي لدى الإيرانيين وتفجير قدراتهم الإبداعية من خلال مساعيهم للتغلب على نقص المواد الضرورية، فكان طوق النجاة في الابتكار والاعتماد على الذات والاستغلال الأمثل للموارد المتاحة، ما ساعد إيران على أن تخطو خطوات مهمة للأمام فيما يخص الانطلاق ببرنامجها النووي إلى آفاق أرحب، فضلا عن تدشين برنامج فضائي وتطوير صواريخ باليستية. وما إن أعلنت موسكو تجميد صفقة صواريخ إس 300، حتى أبدى الإيرانيون استعدادا لتطوير صواريخ بديلة لها، محلية الصنع، تقوم بنفس دورها، حيث أكدت طهران أنها بدأت إنتاج نظام صاروخي مضاد للطائرات متطور. كذلك، تنامي إنتاج إيران من الغاز الطبيعي من 500 إلى 600 مليون متر مكعب يومياً، مع توقع بلوغه 900 مليون متر مكعب يومياً خلال السنوات الثلاث المقبلة. وبينما أفضت العقوبات الدولية إلى إعاقة مساعي طهران للاستفادة من مصادر الطاقة الهائلة التي بحوزتها، تملك إيران ثاني أكبر احتياطات من الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا، وتكافح منذ سنوات لتطوير مصادرها من النفط والغاز محليا وبالتعاون مع بعض الشركات الآسيوية، بما يعينها على تبوأ مكانتها كدولة مصدرة للطاقة.

وفى سبيل ذلك، وبرغم محاولات واشنطن عرقلتها، كثفت الحكومة الإيرانية جهودها لتعظيم الاستفادة من إمكانات منطقة بارس الغنية بالغاز الطبيعي جنوب البلاد. وفى هذا الإطار، أقرت منتصف شهر يونيو/حزيران الجاري مشروعين كبيرين في هذا الخصوص، كان أولهما اتفاق "خط أنابيب السلام" بتكلفة سبعة بلايين دولار لتصدير الغاز الطبيعي إلى باكستان بحلول عام 2015، بواقع مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي يومياً ولمدة 25 سنة. وسيربط هذا الخط حقل بارس الإيراني بإقليمي بلوشستان والسند جنوب باكستان، بامتداد مسافة ألف كيلومتر، أنجز منها حتى الآن 907 كيلومترات، وهو المشروع الذي تعود بداياته إلى تسعينيات القرن الماضي، وكان مقرراً في الخطة الأصلية أن يمتد من باكستان إلى الهند، لكن الأخيرة أحجمت عن المشاركة فيه بسبب تجدد التوتر في علاقاتها مع باكستان إلى جانب الضغوط الأمريكية. أما ثانيهما، فقد افتتحه الرئيس نجاد وتبلغ تكلفته 21 بليون دولار وستعكف أربع شركات إيرانية على تنفيذه، وهي "ايدرو" التابعة لـ "منظمة التنمية الصناعية"، و"بتروبارس"، و"بترو بايدار إيرانيان"، و"بترو سينا". ويُتوقّع أن يؤمّن المشروع المعروف باسم "عسلويه" 50 ألف فرصة عمل ويرفع إنتاج الغاز الإيراني إلى نحو 200 مليون متر مكعب يومياً.


وفى مسعى منه لإبراز براعة الإيرانيين في التعايش مع العقوبات وحسن استثمارها، قال أحد المسئولين الإيرانيين "لقد عشنا مع العقوبات لمدة ثلاثين عاماً، وهم لا يستطيعون أن يدفعوا بأمة عريقة مثل إيران إلى أن تجثو على ركبتيها.. إنهم لا يخيفوننا على العكس من ذلك، إننا نرحب بعقوبات جديدة من شأنها الحد من الاستهلاك والاكتفاء الذاتي، فهذه العقوبات سهلت على إيران الحد من استهلاك البنزين والعمل على استخدام الغاز الطبيعي في قطاع النقل وكثير من المؤسسات الصناعية وكذلك العمل على زيادة إنتاجه، كما ساهمت في تلاحم الشعب الإيراني مع هويته الوطنية".


ويستبعد خبراء إيرانيون أن تضاعف العقوبات من أزمة الطاقة في بلادهم لأسباب عديدة أهمها: عدم تأثر إيران بالنقص في البنزين ونجاحها في سد احتياجاتها منه بطرق عديدة، زاعمين أنه بحلول العام 2012 ستتمكن إيران من تحقيق الاكتفاء ذاتياً من البنزين المكرر بفضل اعتمادها على الاستثمارات النفطية في برنامجها لتوسيع نطاق صناعتها التكريرية، إلى جانب اتجاهها للاستثمار في معامل تكرير مشتركة بالخارج، ما من شأنه أن يضاعف إنتاجها من البنزين، كما أن إيران من أكبر الدول المنتجة للميثانول في العالم وتسعى لزيادة طاقتها الإنتاجية منه بحوالي 60%. هذا فضلا عن امتلاك إيران ثالث أكبر احتياطي من الغاز في العالم بواقع 16% من إجمالي الاحتياطي العالمي، وتسعى الهند ودول آسيوية وأوروبية إلى مد خطوط لجلب الغاز الإيراني.


معركة كسب الوقت متواصلة 





ترك قرار مجلس الأمن الذي أقر العقوبات مساحة من المرونة من شأنها أن توسع هامش المناورة الإيراني، إذ حرص القرار على ترك الباب مفتوحاً لتجميد العقوبات حالة عودة طهران إلى المفاوضات، ما من شأنه أن يتيح للنظام الإيراني مجالا للتلاعب وكسب الوقت والمماطلة.
وبرغم المبالغات الأمريكية والغربية في تقدير قوة وقسوة الجولة الرابعة من العقوبات، تبدو أمام طهران فرص عديدة للتحايل عليها، فلقد ترك قرار مجلس الأمن الذي أقرها مساحة من المرونة من شأنها أن توسع هامش المناورة الإيراني، إذ حرص القرار على ترك الباب مفتوحاً لتجميد العقوبات حالة عودة طهران إلى المفاوضات، ما من شأنه أن يتيح للنظام الإيراني مجالا للتلاعب وكسب الوقت والمماطلة، لاسيما وأنه يوجد أمام إيران مدة تسعين يوما يراجع خلالها مجلس الأمن الموقف الإيراني وفرص تطبيق القرار، وما إن تنتهي تلك المدة حتى تنشغل الولايات المتحدة بمعركة انتخابات التجديد النصفي للكونجرس. وفيما أعلنت الدول الخمس الكبرى إضافة إلى ألمانيا أنها تمضى متوافقة في مسار العقوبات، تعن أمام طهران فرص ممكنة لاستثمار تباين أو اختلاف أنظمة العقوبات ووسائل تطبيقها وتتبعها من دولة لأخرى، وفى هذا السياق، أكدت شركة "لويدز" الكبرى للتأمين على السفن إن عرقلة جهودها لفرض العقوبات على السفن الإيرانية لم تأت من وسائل التحايل الإيرانية فقط، بل من اختلاف أنظمة العقوبات وطرق تطبيقها بين الدول المختلفة.

ثمة عامل آخر يمكن أن ينال من فعالية نظام العقوبات على إيران وهو افتقاد إدارة أوباما لإستراتيجية واضحة وطويلة الأمد في التعامل مع البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية حال فشل تلك العقوبات، وهو ما حذر منه بعض كبار المسئولين في البنتاجون ووكالات المخابرات الأمريكية، حيث وجه وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس في شهر يناير/كانون الثاني الماضي مذكرة مصنفة إلى مستشار الأمن القومي جيمس جونز حذر فيها من المخاطر المحتملة لغياب السياسة الأمريكية طويلة الأمد في التعامل مع إيران، بما في ذلك الافتقاد للتحرك البديل في حال فشل سياسة المسار المزدوج الذي يجمع بين الدبلوماسية والعقوبات، الأمر الذي قد يضطر بواشنطن في نظره للقبول بإيران نووية في ظل عدم وجود خيارات أخرى ممكنة في وقت ترجِّح اعتباراتٌ عديدة استبعادَ الخيار العسكري.


ويبقى سقف تحركات المجتمع الدولي والدول الكبرى للتمادي في تغليظ العقوبات وتمديدها على إيران محكوما باعتبارات شتى مهمة، لعل من أهمها ما قد تتمخض عنه من تداعيات سلبية على الاقتصاد العالمي. فبقدر ما توجه ضربات موجعة لإيران سواء فيما يخص أوضاعها الاقتصادية أو علاقاتها الإقليمية والدولية، تبقى العقوبات مصدر إرباك حقيقي للاقتصاد الدولي وأمن الطاقة العالمي، فإلى جانب ترابط وتداخل اقتصاديات الدول في ظل العولمة، يظل بمقدور تقييد الصادرات الإيرانية من النفط والغاز أن يسفر عن ارتفاع أسعار البترول والغاز في العالم أجمع، وفي المنتجات التي تحتوي على مشتقات بترولية؛ نتيجةَ انخفاض إنتاج إيران منهما أو امتناعها عن بيعهما للدول التي أقرت العقوبات، كون إيران ثاني أكبر مصدر للغاز وثالث أكبر مصدر للنفط عالميا. وبدوره، يشكل عزل إيران تهديدا لأمن خطوط نقل الطاقة فهي أيضا، ورغم استثنائها حتى الآن، لا تزال طريقا إستراتيجيا محتملا لخط أنابيب نابوكو الذي سينقل الغاز الطبيعي كما النفط، من دول في حوض بحر قزوين والعراق والشرق الأوسط إلى أوروبا، التي تأبى أن تبقى عرضة لتكرار أزمة انقطاع واردات النفط والغاز من الاتحاد الروسي، دون أن تفكر بالخيار الإيراني ولو على سبيل الاحتياط.


أما فيما يخص الرهان على المردود السياسي المتوقع لسياسة العقوبات على صعيد الداخل الإيراني، فيبدو أن عقبات شتى تحول دون أن تثمر الإستراتيجية الأمريكية والغربية الرامية إلى محاصرة النظام الإيراني وتأجيج معارضيه في الداخل والخارج على خلفية تعاظم التداعيات السلبية للعقوبات على الداخل الإيراني ومكانة إيران الإقليمية. فعلى عكس ما توقع الكثيرون وبدلا من أن  تفضي الجولة الرابعة من العقوبات إلى تكثيف الضغوط على النظام الإيراني عبر تشديد عزلته بما يحث الشعب والمعارضة على الخروج عليه، اضطرت القيادات الإصلاحية والمعارضة إلى التراجع عن إحياء الذكرى السنوية الأولى للانتخابات الرئاسية الأخيرة من خلال التظاهرات الاحتجاجية، بغية المحافظة على وحدة وتماسك الجبهة الداخلية في مواجهة الخارج "المتآمر" على إيران. صحيح أن النظام توعد الراغبين في التظاهر بالويل والثبور ولم يمنحهم تصاريح للقيام بتظاهراتهم، إلا أنه ما من شك في أن التوافق الدولي حول معاقبة إيران يفضي إلى شيء من التلاحم الداخلي خلف النظام الذي يدعي التصدي لأعداء إيران في الخارج دفاعا عن كرامة إيران ومشروعها النووي الطموح، ومن ثم تحرص المعارضة الإيرانية على ألا تبدو كمن يصطاد في الماء العكر فتصدق عليها اتهامات النظام بالعمالة للخارج.





سياسة العقوبات ضد إيران ظلت بطيئة ومحدودة في تأثيرها قياسا إلى قدرة النظام الإيراني على تحديها ومواصلة طموحاته النووية.
وفى حين يرى مراقبون غربيون في العقوبات آلية مهمة لكسر العمود الفقري للنظام والمتمثل في قوات الحرس الثوري والباسيج، كون العقوبات الجديدة موجهة أساسا ضدهما، فإنها من جانب آخر قد تفيد الأقطاب الآخرين داخل النظام، فانحسار هيمنة الحرس الثوري على الساحة الإيرانية قد يفسح المجال أمام تعزيز دور الملالي المحافظين داخل النظام، الأمر الذي ربما يقطع الطريق على الإصلاحيين والليبراليين. ورغم أن فئات من الشعب الإيراني شاركت في التظاهرات الاحتجاجية لأسباب اقتصادية، وأظهرت نقمة على الوضع القائم نتيجة تردي الأوضاع المعيشية بسبب العقوبات، إلا أن اشتداد الخيار الأمني لنظام ولاية الفقيه قوات الحرس الثوري والباسيج لم يترك مجالا لمن يتهمهم النظام بالكفر والخيانة والنفاق والخروج على ولي الأمر. كما أن الصوت الأعلى للمعارضة الإيرانية يكمن في الجناح الإصلاحي من التيار المحافظ بزعامة موسوى وكروبى، ولا توجد كتلة ليبرالية فاعلة يمكن الرهان عليها، في ظل غياب المرجعية الدينية للحركة المعارضة بعد رحيل آية الله منتظري في شهر ديسمبر الماضي.

أما عن حمل نظام طهران على التراجع عن طموحاته النووية، فلا تبدو العقوبات فاعلة بالقدر الكافي في هذا الخصوص، فبرغم تمكنها من إبطاء وتيرة تطوير البرنامج النووي الإيراني، أكد الرئيس الإيراني في رد فوري وسريع على قرار العقوبات الجديد، الذي قلل من قيمته، على أن العقوبات لا يمكن أن تمنع إيران من مواصلة تطوير برنامجها النووي، الذي هدد بحجبه عن الرقابة الدولية عن طريق مراجعة العلاقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، ما دفع بوزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس للاعتراف بأنه، وبرغم قدرة واشنطن وحلفائها على فرض عقوبات إضافية أشد قسوة على إيران من خارج مجلس الأمن، إلا أن هذه العقوبات ستبقى عاجزة عن حمل طهران على تغيير سلوكها النووي.


حصاد العقوبات الهزيل 


ومن ثم يمكن القول إن سياسة العقوبات ضد إيران ظلت بطيئة ومحدودة في تأثيرها قياسا إلى قدرة النظام الإيراني على تحديها ومواصلة طموحاته النووية، فما اقتطعته جولات أربعة من العقوبات الدولية الأممية المصحوبة بأخرى أحادية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من الصمود والتحدي اللذين أبداهما النظام الإيراني كان أقل بكثير من الإنجازات التي حققها ذلك النظام على أصعدة شتى. وبناء عليه، بدت العقوبات في الحالة الإيرانية، بالتحليل الأخير، كما هو الحال مع قرابة عشرين حالة دولية أخرى مماثلة، متواضعة الجدوى، إن لم تكن قد أسفرت عن نتائج معاكسة، حتى الآن سواء في ما يتصل بتقويض النظام الراهن في طهران أم فيما يخص إجهاض البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية.





ثمة عامل آخر يمكن أن ينال من فعالية نظام العقوبات على إيران وهو افتقاد إدارة أوباما لإستراتيجية واضحة وطويلة الأمد في التعامل مع البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية حال فشل تلك العقوبات.
ويبدو أن هناك تفهما من جانب إدارة أوباما لحدود التأثير المتوقع لسياسة العقوبات ضد طهران، وهو ما بدا جليا في جنوح مسؤولين أمريكيين للتضخيم من قيمة هذه العقوبات في محاولة لتوجيه رسالة واضحة في اتجاهات متنوعة بدء من الداخل الأمريكي مرورا بإسرائيل والمجتمع الدولي وانتهاء بإيران، مؤداها أن لصبر إدارة أوباما حدود وأنها لا يمكن أن تغض الطرف عن تحدي إيران لها وللمجتمع الدولي، ومن ثم توسعت في نطاق ومستوى العقوبات المفروضة على نظامها هذه المرة، مشددة على أن قرار العقوبات رقم 1929 ملزم لجميع الدول بما فيها تركيا والبرازيل ولبنان، فهذه الدول التي لم تصوت لمصلحة إقراره ستكون تحت المراقبة والمحاسبة إذا انتهكت نظام العقوبات على إيران. وهناك آليات تتضمن لجنة العقوبات وفريق خبراء لمراقبة امتثال جميع الدول لحذافير بنود القرار وتجيز زيارة البلد الذي يُشكك في إمداده إيران بالأسلحة أو يُسهل تهريب السلاح منها أو إليها أو يتسلم السلاح المحظور منها، والقيام بتحقيق توضع نتائجه أمام مجلس الأمن بهدف المحاسبة.

وتتوخى إدارة أوباما بهذه الرسالة تحقيق غاية بالغة الأهمية تتمثل في امتصاص غضب إسرائيل والقوى المساندة لها داخل الولايات المتحدة وبعض أذناب المحافظين الجدد بغية كبح جماح نوايا تل أبيب الخاصة بتوجيه ضربة عسكرية استباقية للمنشآت النووية الإيرانية، كون الإسرائيليين لا يثقون بجدوى النهج الدبلوماسي في التعاطي مع الأزمة النووية الإيرانية بنفس القدر الذي يضيقون فيه ذرعا ببطء ومحدودية تأثير سياسة العقوبات، القابلة للخرق، في كبح جماح الطموحات النووية والتطلعات الإستراتيجية لنظام ولاية الفقيه.
_______________
خبير الشؤون الإيرانية والتركية بالأهرام

نبذة عن الكاتب