العراق: تحديات ما بعد الانسحاب العسكري الأميركي الرسمي

بعد الانسحاب الأمريكي، سيواجه العراق تحديات كبيرة، يعجز نظامه السياسي الحالي عن مواجهتها، وتفتقد قيادته السياسية إلى الثقة والإجماع الضروريين لتجاوز مأزق الاصطفاف الطائفي وبناء دولة وطنية جديدة.
2011111711154541734_2.jpg

أكد الرئيس الأميركي باراك أوباما في 21 أكتوبر/ تشرين الأول أن الولايات المتحدة ستُكمل سحب قواتها من العراق بنهاية هذا العام، وذلك بعد أن أخفق العراق وأميركا في التوصل إلى اتفاق جديد لبقاء بعض القوات الأميركية في البلاد بعد موعد الانسحاب المبرم في اتفاقية 2008 الأمنية بين الدولتين.

ثمة تفسيرات عديدة لفشل المباحثات، بالرغم من رغبة واشنطن وبعض القوى العراقية النافذة في التمديد للوجود الأميركي العسكري. أحد هذه التفسيرات أن حكومة المالكي تعرضت لضغوط إيرانية هائلة، والثاني أن القيادات السياسية العراقية، المتباينة والمتدافعة، لم تستطع الاتفاق على كيفية وشروط ومدى التمديد.

من جهة أخرى، لا يبدو أن اكتمال انسحاب الأميركيين يعني بالضرورة أن العراق سيخلو نهائياً من الوجود العسكري الأميركي. الأرجح أن عدة آلاف من العسكريين الأميركيين سيبقون في البلاد، سواء تحت مسمى خبراء لتدريب القوات العراقية، أو المتعاقدين الأمنيين، أو طواقم حراسة السفارة الأميركية ودبلوماسييها. ورغم أنه من الصعب الآن الجزم بعدد هؤلاء، إلا أن وجودهم لا ينفي أن الاحتلال قد انتهى، ومعه نظام الامتيازات القانونية وامتيازات التحرك في أنحاء العراق، التي تمتعت بها قوات الاحتلال.

كيف سيعوض الأميركيون، استراتيجياً، انسحابهم من العراق حتى يحافظوا على تواجدهم الحيوي في منطقة الخليج؟ هذه بالتأكيد مسألة أخرى. المسألة الهامة الآن تتعلق بالسؤال عن قدرة  العراق على تجاوز هذا المنعطف بسلام، وعما إذا كانت المشاكل العالقة في بنية العراق الجديد وعلاقاته التحالفية أصبحت مستعصية، وعما إذا كان الأثر المعنوي للانسحاب الأميركي سيفاقم من هذه المشاكل ويدفع العراق إلى الانفجار من جديد. هذه بعض التحديات التي ينبغي للعراق التعامل معها خلال الأسابيع والأشهر القليلة القادمة.

نظام الحكم والدولة

بالرغم من أن العراق شهد انتخابات برلمانية لمرتين متتاليتين منذ انتهاء المرحلة الانتقالية، وأن حكومة المالكي الحالية هي الحكومة العراقية الثانية منذ أُعلنت النهاية القانونية لنظام الاحتلال، إلا أن قطاعاً واسعاً من العراقيين لا ينظر بعين الرضا إلى بنية دولته ونظامه الحاكم. وبينما ينتظر العراقيون منذ إقرار الدستور في استفتاء شعبي شابته الشبهات اتفاق القوى العراقية السياسية على تعديل هذا الدستور، يبدو واضحاً أنهم فقدوا ثقتهم في الطبقة السياسية الحاكمة، وفي قدرة هذه الطبقة على تلبية طموحاتهم.

يرى العراقيون العرب السنة في أغلبهم أن نظام الحكم الذي ولد من مرحلة الغزو والاحتلال هو نظام شيعي طائفي، وأن وجود غير الشيعة في النظام والدولة هو وجود هامشي وصوري في أغلبه. والأخطر أن العراق يشهد منذ 2003 تماهياً لصيقاً بين نظام الحكم ومؤسسات الدولة، بحيث أصبحت الدولة ذاتها كياناً طائفياً تسيطر القوى السياسية الشيعية على مفاصلها ومقدراتها. هذا في حين استقل العراقيون الأكراد بإقليمهم في شمال البلاد، وارتضوا الحصة التي منحت لهم في الحكومة ومؤسسات الدولة المركزية، بينما يستمرون في المطالبة بتوسيع الرقعة الجغرافية للإقليم.

تأسست سيطرة القوى الشيعية السياسية على الحكم والدولة بفعل عدة عوامل رئيسة: الأول، كان تطبيق نظام المحاصصة الإثنية والطائفية منذ اللحظات الأولى لولادة إدارة الاحتلال وقبول دول الاحتلال الضمني بأطروحة الأكثرية الشيعية. وقد أحجمت الحكومات العراقية المتعاقبة طوال السنوات الثماني الماضية عن إجراء تعداد سكاني، تتوزَّع على أساسه مقاعد البرلمان العراقي على المحافظات المختلفة.

الثاني، كان رغبة إدارة الاحتلال في بناء نظام حكم طائفي، ذي سمة شيعية بهدف إضعاف العراق من ناحية، واستخدام العراق الشيعي الديمقراطي لإثارة الشعب الإيراني ضد حكم الجمهورية الإسلامية من ناحية أخرى. أما السبب الثالث، فيتعلق بالدعم الهائل الذي تمتعت به القوى الشيعية السياسية من إيران منذ ما قبل الاحتلال وطوال السنوات التالية.

ولأن الدولة لم تزل أداة السيطرة الأهم، ومصدر الثروة الرئيس والمحرك الأكبر لعجلة الاقتصاد، يتجلى الطابع الطائفي لنظام الحكم والدولة في كافة أنحاء الحياة العراقية. فعلى سبيل المثال: تُقسَّم ميزانية المحافظات لصالح المحافظات ذات الأغلبية الشيعية، أعيد بناء المناهج الدراسية وفقاً لوجهة نظر القوى المسيطرة على الحكم، تُوزع المنح الدراسية بانحياز طائفي واضح، يجري بناء بيروقراطية الدولة وقوات الجيش والأجهزة الأمنية لتضمن سيطرة قوى التشيع السياسي، وتدار السياسية الخارجية بكافة أبعادها (السياسة والاقتصاد والتجارة والنقل) من زاوية نظر طائفية.

هذا لا يعني بالطبع أن مناطق الأكثرية الشيعية تتمتع بمستويات حياة أفضل بكثير من المناطق ذات الأكثرية السنية. فبخلاف مناطق الحكم الذاتي الكردي، يشهد العراق تعثراً بالغاً في الخدمات بما في ذلك الخدمات الضرورية، نظراً لانتشار الفساد المالي والإداري في كافة جنبات الحكم والدولة. وهذا ربما ما يُرسِّب حالة فقدان ثقة متسعة بين العراقيين وطبقة الحكم.

الجيش العراقي الجديد

ليس ثمة شك في الدور الحيوي المقدر للجيش العراقي اليوم، كما كان منذ ولادة هذا الجيش في مطلع العشرينيات من القرن الماضي. فحدود العراق المشتركة مع جارتين كبيرتين غير عربيتين، ومع أربع دول عربية أخرى، ومساحته الهائلة وتنوعه السكاني، جعلت من الجيش بوتقة الوطنية العراقية وحارس أمن البلاد واستقلالها في الآن نفسه.

وقد نقل تقرير أميركي عن رئيس أركان الجيش العراقي الفريق بابكر زيباري في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني قوله إن العراق لن يكون قادرا على حماية أجوائه وحدوده قبل عام 2020 على الأقل. وقال تقرير أعده المفتش العام الأميركي لشؤون إعادة إعمار العراق، نقلا عن زيباري، إن "العراق قد يحتاج لعدة سنوات قبل أن يتمكن من الدفاع عن نفسه ضد المخاطر الخارجية، بدون مساعدة من شركائه الدوليين". وأضاف التقرير أن "الفريق زيباري أكد أن وزارة الدفاع (العراقية) لن تكون قادرة على صدِّ أي اعتداءات خارجية قبل موعد بين 2020 و2024"، موضحاً أن "انخفاض تمويل الحكومة من أبرز أسباب التأخير."

وقال زيباري إن "العراق لن يكون قادراً على الدفاع عن أجوائه قبل 2020، في أقرب تقدير"، مشيراً إلى أن "جيشا بدون غطاء جوي يعد جيشا مكشوفاً". وكان العراق قرر شراء 18 طائرة من طراز "أف - 16" من الولايات المتحدة، لكن تسلم الطائرات ودخولها في العمل بصورة فعلية يتطلب عدة سنوات. ويُعتقد في العراق، على أية حال، أن إيران مارست ضغوطاً على رئيس الحكومة المالكي لتأخير التوقيع على صفقة شراء طائرات الفانتوم، نظراً لعدم اطمئنان إيران في هذه المرحلة لتسلح الجيش العراقي بها.

بيد أن هذه ليست مشكلة الجيش العراقي الوحيدة، ولا حتى المشكلة الأكبر. فمن ناحية، انعكست البنية الطائفية ونظام المحاصصة على بنية الجيش، حيث يعمل قادة الدولة للمحافظة على أكثرية شيعية في الجيش، بغض النظر عن شروط الكفاءة والتأهيل. وتكاد البعثات العسكرية للتدريب في الخارج تقتصر على الضباط الشيعة، بينما أُخضِع القبولُ في الكليات العسكرية لنظام محاصصة حاد. ومن ناحية أخرى، تنقسم صفوف ضباط الجيش إلى قسمين غير متعاونين في أغلب الأحيان: قسم الضباط الوطنيين المحترفين الذين يعود أغلبهم إلى الجيش السابق، وقسم المندمجين الذين أدخلوا صفوف الجيش في عملية استيعاب المسلحين من الأحزاب والقوى الشيعية المعارضة للنظام السابق، ولا يتمتعون بخلفية عسكرية نظامية ولا تدريب يذكر.

ينظر الضباط الوطنيون إلى المندمجين كعسكريين تنقصهم الكفاءة، غير جديرين بالمواقع التي يحتلونها، ويعتبرونهم عملاء للنفوذ الإيراني. بينما يعتبر المندمجون الضباط الوطنيين، سنّة كانوا أو شيعة، باعتبارهم بقايا النظام السابق. وفوق أن هذا الانقسام يخل بفاعلية الجيش ومقدراته، ويثير الشكوك حول استطاعته القيام بدوره في الدفاع عن حدود البلاد واستقلالها، فإنه أفقد الجيش كلية دوره التقليدي كحاضن للوطنية العراقية. هذا، بينما تسيطر حكومة منطقة الحكم الذاتي الكردية على الوحدات الكردية العسكرية في المنطقة التي تعتبر رسمياً جزءاً من الجيش العراقي.

أزمة إقليم صلاح الدين

صوّت مجلس محافظة صلاح الدين (27 أكتوبر/ تشرين الأول)، بأغلبية كبيرة، على بدء التحرك لإعلان المحافظة إقليماً اقتصادياً وإدارياً. وبالرغم من أن دعوات مماثلة لإنشاء أقاليم قد صدرت من قبل في محافظات جنوبية، فهذه أول خطوة تتخذها محافظة عراقية بهذا الاتجاه إن استثنينا الإقليم الكردي (الذي يضم محافظات الأكثرية الكردية الثلاث)، الذي اعتبر تمتعه بالحكم الذاتي أمراً واقعاً لم يكن للحكومة المركزية أو للعراقيين ككل حيلة في قبوله أو رفضه.

قوبلت خطوة محافظة صلاح الدين برفض صريح وغاضب من رئيس الوزراء المالكي، بالرغم من أن الدستور يكفل تشكيل الأقاليم الفيدرالية في محافظة أو أكثر. واعتبر المالكي ومقربون منه ما حدث في صلاح الدين "تحركاً نحو تقسيم البلاد" و"مؤامرة ضد الحكومة"، ومحاولة لإقامة "ملجأ آمن للبعثيين وأنصار النظام السابق". ما لم يذكره المالكي أنه شخصياً وكافة ممثلي القوى الشيعية السياسية أصروا على إدراج بند الفيدرالية في الدستور العراقي الحالي أثناء فترة إعداده، وأن هذا البند على وجه الخصوص كان موضع رفض أغلب العراقيين السنة وقواهم السياسية. اليوم، عندما اختارت محافظة ذات أكثرية سنية أن تتحول لإقليم، تثور ثائرة رئيس الحكومة وحلفائه.

ما دفع محافظة صلاح الدين لاتخاذ هذه الخطوة، كان بلا شك السياسة الطائفية التي تتبعها حكومة المالكي، والتهميش المتزايد للمحافظات ذات الأكثرية السنية. فإضافة إلى أن هذه المحافظات لم تحصل على نصيبها الذي تستحقه من مقاعد البرلمان، فإن النصيب المخصص لها من ميزانية الدولة أقل بكثير مما تستحقه سكانياً وجغرافياً. أما القشة التي قصمت ظهر البعير فكانت حملة الاعتقالات الكبيرة التي نفذتها الأجهزة الأمنية مؤخراً لمن وصفتهم ببعثيين يخططون لانقلاب على الحكومة، وكانت غالبية المعتقلين من العراقيين العرب السنة، إلى جانب قيام وزير التعليم العالي، الذي ينتمي لحزب المالكي، بفصل الآلاف من الأكاديميين والعاملين في جامعة صلاح الدين مستخدماً قانون التطهير.

ليس ثمة شك في أن تحوّل محافظة صلاح الدين إلى إقليم إداري واقتصادي سيعزز من حصتها من ميزانية المحافظات ويحررها من سيطرة وتحكم الحكومة المركزية. ولكن الخطر ينبع من أن تتلو صلاح الدين المحافظات ذات الأكثرية السنية الأخرى، الأنبار ونينوى وديالى، وتتحول الأقاليم معاً إلى كتلة سنية إدارية، يتبعها تحرك مماثل في المحافظات ذات الأكثرية الشيعية، مما يُدخل البلاد في أجواء التقسيم. وإن وصل العراق إلى مثل هذا المنعطف فستنفجر الصراعات أولا على حدود المحافظات (مثل مطالبة كربلاء بمنطقة النخيب التابعة الآن للأنبار)، وثانيا على وجود وحقوق المجموعات الشيعية والسنية المتفرقة في محافظات الأكثرية من الطائفة الأخرى، وثالثا على ثروات البلاد النفطية والمائية، ورابعا على مستقبل بغداد الكبرى. هذا، إضافة إلى النزاعات الكامنة حول حدود إقليم كردستان، الذي تسعى قياداته إلى توسيع نطاقه باتجاه كركوك والموصل و "خانقين".

ينبع رفض المالكي بالطبع من ثقة متزايدة لدى القوى الشيعية السياسية بأنها في طريقها لإحكام سيطرتها على كل العراق العربي، وهي الثقة التي لم تكن متوفرة عندما وضعت مسودة الدستور. ولكن أحداً لا يعرف كيف سيتعامل المالكي مع قرار محافظة صلاح الدين، وهو الذي لا يملك صلاحيات دستورية لمواجهته. الجهة الوحيدة التي يمكن أن تثني محافظة صلاح الدين عن المضي نحو تحقيق مشروعها هي الرأي العام العراقي السني، الذي يفقد بدوره الأمل في عدالة النظام الحالي وفي إمكانية إصلاحه.

السيطرة الإيرانية

رحب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله خامنئي، 30 أكتوبر/ تشرين الأول، بالانسحاب المزمع للقوات الأميركية من العراق المجاور، واصفاً إياه بأنه "انتصار ذهبي". ونقلت وكالة أنباء الطلبة الإيرانية عن الزعيم الإيراني قوله بعد اجتماع مع مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق إن "الموقف الموحد لكل العشائر والديانات في العراق بشأن الضغط الأميركي للحصول على حصانة قضائية لجنودها المحتلين وإكراه أميركا في نهاية الأمر على الخروج من العراق، يمثل صفحة ذهبية في تاريخ هذا البلد".

ليس من المؤكد أن كل العراقيين يرون في الانسحاب الأميركي ما يراه الزعيم الإيراني. فبينما كان يُفضِّل القادة الأكراد أن يبقى الأميركيون لعدة سنوات أخرى، إلى أن يعزز إقليم الحكم الذاتي الكردي وجوده واستقلاله وتتضح صورة التدافعات الإقليمية، تُشكِّل إيران ذاتها مصدر القلق الرئيس للعراقيين السنة ولقطاع ملموس من الشيعة القوميين العرب والعراقيين الوطنيين. ولم يخف زعماء إيرانيون خلال الشهور القليلة الماضية رؤيتهم للعراق باعتباره منطقة فراغ استراتيجي ستكون إيران من يملؤه بعد الانسحاب الأميركي.

الشائع حول النفوذ الإيراني في العراق ارتباطه بوجود قادة عراقيين بخلفيات شيعية – سياسية، يدينون لإيران بالولاء منذ مرحلة العمل السياسي المعارض لنظام صدام حسين. هذا تقدير صحيح، بالطبع، تعززه الطبيعة الطائفية لنظام الحكم العراقي وشعور قيادات الدولة الشيعية بالحاجة للدعم الإيراني الاستراتيجي في مواجهة محيط عربي غير مطمئن لنزعة العراق الجديد الطائفية. ولكن نفوذ إيران في العراق لا يقتصر على العلاقات المعقدة التي تربطها بالقيادات الشيعية–السياسية.

خلال السنوات الثماني الماضية، عملت طهران بجهد حثيث لاختراق كافة دوائر الدولة العراقية، إضافة لدعم وتنظيم قوى سياسية شيعية علنية وخفية. ويُعتقد أن أيادي النظام الإيراني تصل إلى مفاصل الجيش العراقي، وأجهزة الأمن والاستخبارات، ووزارات النفط والتجارة والاقتصاد، ومكتب رئيس الوزراء، وأغلب مجالس المحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية.

وإلى جانب الارتباط الوثيق بين طهران وتنظيمات مثل حزب الله–العراق وعصائب أهل الحق، شبه السرية، ومنظمة بدر العلنية والممثلة في البرلمان، يعتقد أن لإيران نفوذا لا يستهان به في جيش المهدي والتيار الصدري والمجلس الأعلى وحزب الدعوة.

يُفقِدُ النفوذُ الإيراني العراقَ استقلال قراره الوطني، فعلاوة على أن إيران مارست ضغوطاً لدفع الحكومة العراقية إلى عدم الموافقة على المطالب الأميركية لتمديد الوجود الأميركي العسكري، وبالتالي إلى الانسحاب الأميركي النهائي في نهاية ديسمبر/ كانون الأول المقبل، فإن المتوقع أن يؤدي الانسحاب الأميركي (مهما كان الرأي في حجم المتبقي من الأميركيين) إلى توسيع نطاق النفوذ الإيراني وإلى تعزيزه على مستوى نظام الحكم وفي المناطق وأوساط القوى السياسية الشيعية، بل وإلى تعاظم ردود الفعل السنية والوطنية. وما يجعل ملف النفوذ الإيراني أكثر تفاقماً، أنه يحمل في طياته أبعاداً إقليمية.

فبالرغم من أن الشعور السائد بين سنة العراق ودوائره الوطنية أن الدول العربية تركت العراق فريسة للنفوذ الإيراني، وأن السعودية على وجه الخصوص قد تعقد صفقة لتقاسم النفوذ مع إيران على حساب العراق، فالمؤكد أن النظام العربي ككل (إضافة إلى تركيا) ليس سعيداً بنفوذ إيران في العراق وبما يمثله ذلك في خريطة نفوذها المتسعة في المشرق العربي. وتعتقد الدول العربية المهتمة، كما تركيا، أن ليس ثمة فرصة مجدية بعد لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق، لاسيما أن الانسحاب الأميركي يأتي في مرحلة من الزلازل السياسية التي أصابت الساحة العربية ككل.

بغض النظر عن تقييم الموقف العربي، فالمؤكد أن الطابع الإقليمي للنفوذ الإيراني يجعل العراق، من حيث أراد أو لم يرد، طرفاً في التدافع المتصاعد حول مصير الملف النووي الإيراني وعلاقات إيران بالقوى الغربية، وفي التدافع المحتدم حول مصير سوريا ومستقبلها، لاسيما بعد أن أظهر المالكي والقوى الشيعية–السياسية في العراق تعاطفاً مع نظام الرئيس بشار الأسد.

الصراع على سوريا

لم تسر علاقات العراق بسوريا منذ ولادة الدولتين في صورة مريحة، سواء لاحتلالهما مجالاً جيوسياسياً واحداً أو لتحولهما إلى مركزين للحركة القومية العربية، أو لوقوعهما تحت حكم جناحين مختلفين لحزب البعث العربي. ونظراً للموقف الذي اتخذته سوريا من غزو العراق وعلاقات دمشق الوثيقة بطهران والقوى السياسية الشيعية، لعبت سوريا دوراً متعدد الأوجه في عراق ما بعد الغزو والاحتلال. ولكن اندلاع الثورة السورية، واحتمالات التغيير السياسي في دمشق، ستكون لهما تأثيرات مختلفة على التوازنات السابقة.

فبالرغم من التوتر الذي شاب علاقات بغداد بدمشق خلال السنوات القليلة الماضية، لم يكن خافياً أن معارضة سوريا للوجود الأميركي وخشيتها منه لا تعني أنها تقف في العراق ضد مصالح إيران وحلفائها. وقد اتضح أثناء الخلاف على تشكيل الحكومة العراقية الأخيرة في العام الماضي أن الموقف السوري انحاز في النهاية للإرادة الإيرانية، وأيَّد تسلّم المالكي مقاليد الحكم بالرغم من الخلافات السابقة مع رئيس الحكومة العراقية. ومن الصعب، مهما كان الرأي في علمانية نظام الحكم السوري، تجاهل وجهة النظر القائلة بأن ثمة بعداً طائفياً لسياسة سوريا تجاه العراق.

وبالنظر إلى الطابع الطائفي للحكم في العراق، والارتباط الاستراتيجي بين العراق وإيران، فإن تغييراً جوهرياً في الحكم بدمشق سيُنظر إليه بقدر كبير من القلق في بغداد، لا يقل، إن لم يزد، عن القلق الإيراني. كانت دمشق قد أعربت بصورة واضحة خلال زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم لبغداد عن عزمها التخلي كلية عن علاقاتها الخاصة بأنقرة، وعزمها الارتباط بمحور يمتد من طهران، بغداد، دمشق، وصولاً إلى بيروت. وهو ما يعكس تصوراً استراتيجياً جديداً لسوريا الأسد يجعلها أكثر قرباً من العراق الجديد وارتباطاً بمصيره.

في حال انهيار الحكم السوري وبروز حكم أكثر تعبيراً عن إرادة الشعب السوري ستفقد إيران ونظام حكم العراق الجديد حليفاً بالغ الأهمية ومركز ثقل استراتيجي يقبض على جملة من خطوط التدافع السياسي في المشرق. ولا يقل أهمية عما سبق الأثر الذي يتركه هذا التطور على قطاع واسع من القوى السياسية العراقية التي ترفض الطابع الطائفي للحكم في العراق، وتعمل على إعادة بناء الدولة العراقية الجديدة على أسس وطنية. ومهما كان الحل الذي سيصل إليه السوريون للمسألة الكردية في بلادهم، فإن سوريا ما بعد البعث ستترك أثراً آخر على مجمل المسألة الكردية في المشرق. وخلف ذلك كله، سيعاد بناء خارطة التحالفات في المشرق كله، وسيجد العراق نفسه بالتالي في بيئة إستراتيجية – سياسية جديدة.

نتائج

لم تنجح إدارة الاحتلال ولا القوى السياسية العراقية ولا حلفاء العراق الجديد في إيران، في مساعدة العراقيين على إقامة نظام سياسي مستقر في بغداد يتمتع بشرعية كافية وبدعم الأغلبية الشعبية. وبيْن دستور يولد من المشاكل أكثر مما يؤسس لحكم مستقر، وحكم طائفي أطاح بالمكاسب الوطنية العراقية في القرن الماضي، ونظام محاصصة يُفقد الشعب الثقة الضرورية بدولته وبالطبقة السياسية، وخلافات محتدمة حول الأقاليم وحدودها، وتدخلات إقليمية صريحة في الشأن العراقي، يواجه العراق جملة من التحديات مختلفة الحدة والحجم في وقت يقترب موعد الانسحاب الأميركي وتعصف بالجوار العربي متغيرات غير مسبوقة.

لنجاح العراق في مواجهة هذه التحديات، لابد من حركة إصلاح عميقة في بنية الدولة وعلاقة الدولة بالمجتمع، تستهدف إعادة بناء الجماعة العراقية الوطنية، وبناء إجماع وطني عراقي حول التوجهات الرئيسة للدولة والحكم. ولكن ذلك على الأرجح لن يحدث قريباً، فأغلب الطبقة السياسية العراقية غير مؤهل، سياسياً وأخلاقياً لقيادة مثل هذه الحركة الإصلاحية.

ولذا، فالمؤكد أن العراق سيواجه تحدياتٍ في الشهور القليلة المقبلة بدون أن يملك مناعة كافية للتعامل معها. وسيكون مستقبل العراق في المدى المنظور مفتوحاً على عدة احتمالات:

بقاء الوضع الحالي القلق على ما هو عليه، أو انفجار العنف الداخلي، إما الطائفي أو الإثني أو حول حدود الأقاليم.
سقوط حكومة المالكي، أو بقاء الحكومة بفعل العجز عن إيجاد بديل لها.
تحول العراق إلى ساحة للصراعات الإقليمية، وفي مقدمتها مستقبل سوريا وملف إيران النووي، أو بروز توافق ضمني بين القوى الإقليمية على تحييده.
المؤكد، على أية حال، أن شعور العراقيين العميق بأن بلادهم ليست في أفضل حال، سيصبح أكثر عمقاً.
____________________
بشير نافع-مؤرخ وباحث في الشؤون العربية

نبذة عن الكاتب