الاقتصاد المصري: تحديات وفرص ما بعد الثورة

الاقتصاد المصري أمام سيناريوهين: الإصلاحي يدخل تغييرات في النموذج السابق لكنه يحافظ على التفاوت في توزيع الثروة، والتجديدي يقيم نموذجا جديدا مبنيا على العدالة في توزيع الثروة.







 البورصة المصرية(الجزيرة)


 إبراهيم العيسوي


لقد أنجزت الثورة المصرية خلال شهرين من إجبار مبارك على التخلي عن الحكم عدداً من المهام الأساسية التي استهدفت تفكيك بنية الاستبداد والفساد للنظام السياسي الذي سيطر على مصر طوال الثلاثين عاماً الماضية. ولكن لم تزل أمام الثورة مهام أخرى كثيرة بانتظار الإنجاز.

أبرز مهام الثورة
ضرورة تغيير فلسفة التنمية وسياساتها
ملامح تدهور الأداء التنموي في عهد مبارك
الثورة تفتح آفاق التغيير
سرعة التنمية وقابليتها للاستدامة


أبرز مهام الثورة





المطلوب هو صياغة فلسفة أو إستراتيجية جديدة للتنمية تترجم الطاقة الثورية للشعب إلى طاقة تنموية عظمى. وهذه مهمة حتمية لمواجهة مشكلات بطء النمو الاقتصادي وضعف بنيته

1- استكمال هدم النظام السياسي القديم وتطهير البلاد من أدرانه، وهو ما يقتضي -على سبيل المثال- حل بؤر الفساد في المحافظات المتمثلة في المجالس المحلية، وإقصاء بقية القيادات التي عاونت على تثبيت أركان النظام السابق واستمراره من مواقعها في مختلف مؤسسات الدولة، والوصول بالتحقيقات والمحاكمات بشأن نهب المال العام وإفساد الحياة السياسية لما هو أبعد من الشريحة العليا التي يتم التركيز عليها حالياً، واسترداد الثروات المنهوبة.

2- إعادة بناء نظام الأمن الداخلي على وجه السرعة، بما يتيح استتباب الأمن في ربوع البلاد، والتخلص من إرث الدولة البوليسية وممارساتها التعسفية، وبما يجعل الشرطة في خدمة الشعب فعلاً. ولا تخفى ضرورة أن تحظى هذه المهمة بأولوية قصوى على جدول أعمال المرحلة الانتقالية، حيث يتعذر في غياب الأمن والشعور بالأمان ممارسة المواطنين لأنشطتهم الحياتية المختلفة بشكل طبيعي، وفي مقدمتها الأنشطة الاقتصادية.

3- بناء نظام سياسي جديد يرسي دعائم حكم ديمقراطي رشيد، ويهيئ مناخاً صحياً للتفاعل والتنافس بين القوى السياسية المختلفة، ويوفر فرصاً مناسبة لمراجعة التشريعات وسد ما بها من ثغرات نفذ منها الفاسدون والمفسدون وراكموا الثروات من خلال العدوان على موارد البلاد، ومن خلال ما استطاعوا بناءه من مراكز احتكارية. وهو ما يستلزم -ضمن ما يستلزم- التوافق الوطني على دستور جديد ونظام انتخابي جديد، وصياغة آليات مناسبة لتأمين نزاهة عمليات الانتخاب والاستفتاء.

4- الانتقال إلى نوعية جديدة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من السياسات التنموية. بعبارة أخرى فإن المطلوب هو صياغة فلسفة أو إستراتيجية جديدة للتنمية تترجم الطاقة الثورية للشعب إلى طاقة تنموية عظمى. وهذه مهمة حتمية لمواجهة مشكلات بطء النمو الاقتصادي وضعف بنيته، والبطالة، وانخفاض الأجور، والفقر، والتفاوتات الضخمة في توزيع الدخل والثروة، وغيرها من مشكلات التنمية التي لم يعجز نظام مبارك عن توفير حلول ناجعة لها فحسب، بل إن سياساته قد أدت إلى تفاقمها على نحو صارخ. كما تتأتى ضرورة هذه المهمة من كونها استجابة للشعارات التي رفعتها الثورة منذ اليوم الأول لها في 25 يناير/كانون الثاني 2011 ، وهي: "عيش (أي خبز)- حرية – كرامة إنسانية"، و" تغيير- حرية- عدالة اجتماعية".

وبالرغم من أن المهمة الرابعة هي موضوع هذا التقرير، إلا أنه من المهم تذكر أن هذه المهمة غير منفصلة عن المهام الثلاث الأخرى. وفي الحقيقة أن نوعية السياسات التنموية التي ستشهدها البلاد في أعقاب المرحلة الانتقالية الحالية، ومن ثم كفاءة تعاملها مع المشكلات الجوهرية للتنمية، سوف تعتمد إلى حد بعيد على مستوى إنجاز المهام الثلاث الأولى، أي على القدرة على التخلص من النظام القديم، وعلى سرعة وكفاءة استعادة الأمن، وعلى نوعية النظام السياسي الذي سيتضمنه الدستور الجديد.

بل إن مصير المهمة الرابعة يرتبط أيضاً بأسلوب إدارة المرحلة الانتقالية، وعلى وجه الخصوص ما إذا كان سيتم الالتزام بالإطار الزمني الذي حدده المجلس العسكري لهذه المرحلة وبالنهج الذي قرره للتحول إلى نظام سياسي جديد، أم سيتم العدول عنهما استجابة لحاجة بعض القوى السياسية الجديدة لمهلة أطول لتنظيم نفسها وتكوين أحزاب جديدة ولتمكينها من التواصل مع الشعب وتقديم مرشحين مناسبين في الانتخابات.






ضرورة تغيير فلسفة التنمية وسياساتها


تبنى نظام مبارك الفلسفة الاقتصادية والتنموية المعروفة في الأدبيات بالليبرالية الاقتصادية الجديدة، أو توافق واشنطن- نسبة إلى عاصمة النظام الرأسمالي العالمي التي يتواجد بها ثلاثة من أكبر مراكز صنع القرارات الاقتصادية العالمية وتوجيه السياسات، لاسيما في دول الجنوب، بما يخدم مصالح الرأسمالية العالمية على العموم، ومصالح الشركات متعدية الجنسية على الخصوص، وهي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهيئة المعونة الأمريكية. وتترجم هذه الفلسفة إلى عدد من السياسات، أبرزها ما يلي:


1- تخليص الاقتصاد من التدخلات الحكومية (وهو ما يشار إليه بكلمات خادعة مثل تحرير الاقتصاد)، ومن ثم انكماش الدور الاقتصادي للحكومة، بل وانكماش دورها الاجتماعي أيضاً.

2- الخصخصة، أي نقل المشروعات من الملك العام إلى الملك الخاص، والتي قد لا تقف عملياتها عند المشروعات الإنتاجية، بل تتعداها إلي القطاعات الخدمية كالتعليم والصحة والتأمينات.

3- الاعتماد بصفة أساسية على القطاع الخاص في ممارسة النشاط الاقتصادي وتنمية الإنتاج، وتوسيع مجالات نشاطه إلى كل القطاعات، بما في ذلك مشروعات البنية الأساسية والقطاعات الاجتماعية.

4- اعتبار آلية السوق هي الآلية الرئيسية لإدارة الاقتصاد وتشكيل مسارات التنمية، ومن ثم إطلاق حرية الحركة للأسعار، وتقليص أو بالأحرى تهميش دور التخطيط في توجيه الشئون التنموية. والملاحظ أن نظام مبارك لم يستطع الصبر على أن تحمل إحدى وزاراته اسم التخطيط، فغير اسمها في 2005 إلى وزارة التنمية الاقتصادية. وقد استعادت الوزارة اسمها القديم في ثاني حكومة تشكل بعد الثورة، وهي حكومة الدكتور عصام شرف.

5- رفع القيود عن التجارة الخارجية (وهو ما يشار إليه على سبيل التمويه بتحرير التجارة)، ودمج الاقتصاد الوطني في الاقتصاد الرأسمالي العالمي بكل ما يستوجبه هذا من فتح أبواب السوق المصري كلية أمام المنتجات الأجنبية والاستثمارات الخارجية.

في الواقع أن الحاجة إلى تغيير الفلسفة الاقتصادية والتنموية لنظام مبارك ليست مترتبة على ثورة يناير العظيمة وحدها، وذلك بالرغم من المساهمة الكبيرة للثورة في إبراز هذه الحاجة. ولكن مطلب تغيير هذه الفلسفة كان ظاهراً وملحاً قبل اندلاع الثورة، ولكنه لم يكن يجد آذاناً صاغية من النظام السابق. فقد برزت هذه الحاجة عقب وقوع الأزمة الاقتصادية العالمية في خريف 2008، ونتيجة لامتداد آثارها إلى السلبية إلى مصر؛ وهي الآثار التي لم يكن قد تم التعافي منها وقت قيام الثورة. وكما هو معروف فقد زلزلت الأزمة العالمية الأرض التي كانت سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة تقف عليها حتى في عقر دارها، وأدت إلى دعوات كثيرة للكف عن الثقة بالأسواق والقطاع الخاص الذي يلهث وراء الربح. بل إن النظام الرأسمالي ذاته قد أصبح موضع تساؤل، واجتهد الكثيرون في البحث عن بدائل له.





الحاجة إلى تغيير السياسات الاقتصادية والمسار التنموي في مصر كانت قائمة طوال الفترة الانفتاحية التي بدأت في منتصف سبعينات القرن الماضي، وبالذات في السنوات اللاحقة لتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ومع البنك الدولي في 1991 على تنفيذ برنامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي

الملاحظ أيضاً أن الحاجة إلى تغيير السياسات الاقتصادية والمسار التنموي في مصر كانت قائمة طوال الفترة الانفتاحية التي بدأت في منتصف سبعينات القرن الماضي، وبالذات في السنوات اللاحقة لتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ومع البنك الدولي في 1991 على تنفيذ برنامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي (المتعارف على الإشارة إليه حكومياً ببرنامج الإصلاح الاقتصادي)، وذلك مع بروز التداعيات السلبية لهذا البرنامج اقتصادياً واجتماعياً. ثم تجددت الحاجة إلى التغيير عندما تفاقمت هذه التداعيات في 2004 بعد ظهور ما عرف بالفكر الجديد للحزب الوطني الذي روجت له لجنة السياسات التي تولاها جمال مبارك في سياق الإعداد لتوريثه حكم البلاد.

قد صاحب إعلان هذا الفكر اندفاع قوي من جانب النظام السابق على طريق الخصخصة بوجه خاص، وعلى طريق تطبيق نسخة متطرفة من سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة.

وقد ازداد إلحاح الحاجة للتخلي عن هذه السياسات في السنوات الأخيرة التي شهدت عدداً ضخماً من الأعمال الاحتجاجية المرتبطة بالنتائج الاقتصادية والاجتماعية الوخيمة لهذه السياسات على قطاعات متعددة من الشعب المصري. ويقدر عدد الاحتجاجات خلال الفترة بين أكتوبر/تشرين الأول 2005 ويناير/كانون الثاني 2009 (أي خلال ثلاث سنوات وثلاثة شهور) بنحو 1331 احتجاجاً. وقد توزعت هذه الاحتجاجات مناصفةً تقريباً بين احتجاجات ذات طابع اقتصادي ارتباطاً بمشكلات الأجور والأسعار والبطالة والحرمان من خدمات أساسية، واحتجاجات ذات طابع سياسي ارتباطاً بقضايا الحريات ورفض التمديد لمبارك والتوريث لابنه، وغير ذلك من المطالب الديمقراطية.






ملامح تدهور الأداء التنموي في عهد مبارك


قبل تناول آفاق تغيير فلسفة التنمية وسياساتها، ينبغي التوقف قليلاً للنظر في نتائج تطبيق الفلسفة التنموية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انبثقت عنها في عهد مبارك. وسوف أركز النظر على ثلاثة جوانب للأداء التنموي، وهي: جانب الأداء الاقتصادي، وجانب الأداء الاجتماعي والسياسي، وجانب الأداء البيئي لصلته الوثيقة بقابلية النمو والتنمية للاستدامة، وإن كانت للاستدامة أبعاد أخرى متعددة إلى جانب البعد البيئي.

1- الأداء الاقتصادي:
حسب الإحصاءات الرسمية كان النمو الاقتصادي بطيئاً خلال الفترة من 1980 حتى 2005؛ إذ لم يتجاوز معدله السنوي المتوسط 4%. ولكن الإحصاءات الرسمية كان يشوبها قدر غير قليل من المبالغة في تضخيم إنجازات النظام، وعلى رأسها الإنجازات الاقتصادية. وبإعادة تقدير معدل النمو خلال تلك الفترة على أسس أكثر واقعية، تبين لي أنه كان في حدود 2.2%؛ وهو ما لا يزيد إلا بقدر طفيف على معدل نمو السكان. وفي السنوات الثلاث السابقة على وقوع الأزمة العالمية، كان معدل النمو في حدود 7% رسمياً، ولكنه قد لا يزيد على 4% بعد تدقيق الحسابات.

وإذا نظرنا إلى ركيزتين أساسيتين من ركائز النمو الاقتصادي، وهما الادخار والاستثمار، فسوف يتبين لنا ما يلي: كان معدل الادخار المحلي قبل الأزمة 16%، وهبط إلى 12.6% في سنة الأزمة، ولم يعد بعد إلى مستوى ما قبل الأزمة؛ حيث بلغ 14% في 2009/2010. كما أن معدل الاستثمار بلغ 21% قبل الأزمة، وانخفض إلى 19% في سنة الأزمة، وبقي عند هذا المستوى في 2009/2010. وهذه هي التقديرات الرسمية. ولو قارنا هذه المعدلات بما يناظرها في دول النمور الآسيوية القديمة والجديدة، وفي الصين، والتي تراوحت بين 30% و35% لمعدل الادخار، وبين 35% و40% لمعدل الاستثمار وإن كان بعض هذه الدول قد تجاوز معدل ادخارها 40%، بل و50% في بعض الأوقات- لتبين لنا مدى تواضع معدلات الادخار والاستثمار في مصر، ولظهر لنا مدى التخلف عن توفير المقومات الضرورية للنمو.

وسوف تزداد الصورة قتامةً إذا نظرنا في مقياس للادخار ذي صلة قوية بتكوين رأس المال البشري والحفاظ على الموارد الطبيعية، ومن ثم فإنه يعد مؤشراً لقابلية النمو والتنمية للاستدامة، وهو ما يطلق عليه البنك الدولي معدل الادخار الأصيل. لقد هبط هذا المعدل من 11% في 1991 إلى معدل سالب مقداره -10% في 2006؛ وهو ما يشير إلى ضعف ملحوظ في تكوين رأس المال البشري وازدياد كبير في معدل استنفاد الموارد الطبيعية ومستوى التلوث.

ولكن المشكلة لم تكن محصورة في بطء النمو فقط. فهي تكمن أيضاً في محتوى النمو ونوعيته. فالقدر الأكبر من النمو قد تحقق في القطاعات غير الإنتاجية أو الريعية كالسياحة والبترول وقناة السويس والأنشطة العقارية. وقد كان هذا النمط من النمو مصحوباً بدرجة عالية من التبديد للموارد الطبيعية، لاسيما موارد الطاقة والمياه والأراضي الصالحة للزراعة.

ومن جهة أخرى, كان هذا النمو مصحوباً بتراجع الدور الإنمائي لكل من الصناعة التحويلية والزراعة. لقد كانت مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي 16% في 2009/2010؛ وهذه هي نفس النسبة التي كانت محققة في أواخر ستينات القرن الماضي. ولا عجب والحال كذلك، أن يتحدث المتخصصون في دراسة القطاع الصناعي عن وقوع عملية تراجع أو تفكيك للصناعة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وفيما يتعلق بالزراعة، فقد انخفض نصيبها من الاستثمارات على نحو ملحوظ. وهو ما أدى إلى تباطؤ نمو الإنتاج الزراعي وتراجع مستوى الأمن الغذائي.

أضف إلى ما تقدم أن التوزيع الإقليمي (الجهوي) للنمو كان توزيعاً متحيزاً للمراكز الحضرية على حساب الريف والصعيد. كما كانت قدرة النمو المحقق على توليد فرص العمل ضعيفة للغاية. فقد دار معدل البطالة وفق التقديرات الرسمية حول 10% سنوياً في العقد الماضي، بينما لم يكن هذا المعدل يزيد على 3% في أوائل عقد السبعينات من القرن العشرين. وتشير التقديرات غير الرسمية إلى أن معدل البطالة يتراوح بين 15% و 25%. وقد قدره وزير العمل والهجرة في حكومة عصام شرف بنحو 19%.

2- الأداء الاجتماعي والسياسي:
لما كانت للتنمية السريعة والمستدامة متطلبات اجتماعية وسياسية، إلى جانب المتطلبات الاقتصادية التي تعرضنا لبعضها فيما سبق، وإلى جانب المتطلبات البيئية التي سنتناولها فيما بعد، فإننا سننظر الآن في بعض جوانب الاجتماعية والسياسية للأداء التنموي في عهد مبارك.

وهنا نلاحظ إن سياسات التنمية الرأسمالية المنفلتة ومجمل السياسات العامة قد تحيزت لمصالح القطاع الخاص الكبير على حساب المصلحة الوطنية. وقد أدى هذا التحيز إلى اتساع ضخم في الفوارق في مستويات الدخول وارتفاع كبير في مستوى الفقر، وذلك على نحو لا تظهره الإحصاءات الرسمية. فهذه الإحصاءات تقلل من حدة سوء التوزيع والفقر لاعتمادها على عينات من السكان تعجز عن التمثيل الحقيقي لكل من الفئات شديدة الفقر والفئات شديدة الثراء. كما أن الإحصاءات الرسمية تعتمد في قياس الفقر على خطوط فقر بالغة الانخفاض. ويستوي في ذلك ما يسمي بخط الفقر الأدنى الذي تبلغ نسبة الفقراء وفقاً له 21.6% من السكان، أو ما يعرف بخط الفقر الأعلى الذي تصل نسبة الفقراء تبعاً له إلى 42%، وذلك في 2008/2009.





إن سياسات التنمية الرأسمالية المنفلتة ومجمل السياسات العامة قد تحيزت لمصالح القطاع الخاص الكبير على حساب المصلحة الوطنية. وقد أدى هذا التحيز إلى اتساع ضخم في الفوارق في مستويات الدخول وارتفاع كبير في مستوى الفقر، وذلك على نحو لا تظهره الإحصاءات الرسمية

وفي تصوري أن التقدير الواقعي لنسبة الفقراء باستعمال خط فقر إنساني قد يتراوح ما بين 50% و60% من السكان. و يعزز هذا التقدير الدراسات التي رصدت الحركات الاحتجاجية التي شهدتها البلاد منذ 2000، والتي تصاعدت وتيرتها منذ 2004 عندما عرفت سياسات الليبرالية الاقتصادية دفعة كبرى، وعندما بدأت ظاهرة تعيين وزراء من رجال الأعمال، وعندما ارتفعت نسبة تمثيل رجال الأعمال في البرلمان وتولي الكثيرين منهم مسئولية قيادة عدد كبير من لجانه. كما يعزز هذا التقدير استطلاع للرأي أجرته لجنة الشفافية والنزاهة بوزارة التنمية الإدارية، والذي أشار إلى أن 66% ممن استطلعت آراءهم قرروا أن المساواة والعدل في تراجع، وأن 75% من المستجيبين ذكروا أن الفقر في ازدياد منذ 2005، وكذلك آخر تقرير للمجلس القومي لحقوق الإنسان الذي جاء فيه أن 70% من الشكاوى التي وردت إليه كانت متعلقة بالمظالم الاقتصادية والاجتماعية.

وتشير تقارير منظمات حقوقية متعددة، وكذلك المصدران الأخيران، إلى شيوع الفساد بدرجة كنا نعتقد أنها بالغة الارتفاع، ولكنها تبدو الآن متواضعة للغاية بعدما ظهر عقب الثورة من قضايا زاخرة بالفضائح والفظائع التي وصل فيها الفساد إلى حد الفجور، واتسعت فيها دائرته لتشمل ذوي السلطان والمال بمن في ذلك الرئيس المخلوع وأفراد أسرته والمقربين منهم وعدد محترم من الوزراء وكبار المسئولين وكبار رجال الأعمال الذين استطاعوا الجمع بين الثروة والسلطة. وهذا ما حدا ببعض المراقبين إلى وصف الحكم في عهد مبارك بحكم العصابة أو المافيا.

وفيما يتصل بالجانب الاجتماعي أيضاً، تلزم الإشارة إلى أن السياسات الاقتصادية في عهد مبارك -ومن قبله عهد السادات- قد أدت إلى تأجيج الصراع الطبقي وزيادة التوترات الاجتماعية، وذلك بسبب ما نتج عنها من إفقار واتساع للفجوات في توزيع الدخل والثروة وانتشار للعشوائيات(حيث يعيش ربع السكان تقريباً)، ومن ثم تدهور نوعية حياة نسبة كبيرة من السكان. ولا يمكن الفصل بين نتائج هذه السياسات وبين ما شهدته البلاد – ولم تزل تشهده- من ارتفاع في درجة التعصب الديني والتوتر الطائفي، واصطباغ ما ينشأ عنهما من منازعات بشيء غير قليل من العنف. وهذه الظواهر تؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار التي تنفّر المستثمرين المحليين والأجانب على السواء.

وفيما يتعلق بالجانب السياسي، فمن المتوافق عليه في أدبيات التنمية الحديثة أن الحكم الصالح(الحوكمة) متطلب أساسي من متطلبات التنمية السريعة والمستدامة. ومما لا شك فيه أن عهد مبارك قد افتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحكم الصالح، وأنه اتصف بدرجة عالية من الاستبداد ومن تغول السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية وتدخلها في شئون السلطة القضائية.

كما اتصف نظام مبارك بالسطوة البالغة للأجهزة الأمنية، وبالسلوك القمعي لأجهزة مباحث أمن الدولة. أضف إلى ذلك ظواهر سلبية أخرى كثيرة. منها احتكار الحزب الوطني للحياة السياسية، في حين أنه كان في الواقع جهازاً من أجهزة سلطة الحكم. ومنها تزوير الانتخابات. ومنها تحكم لجنة الأحزاب التي كانت تحت سيطرة الحكومة والحزب الوطني في الحياة الحزبية على نحو بغيض، حيث صار رجال الحكومة والحزب يختارون المعارضين على هواهم. ومنها تزاوج السلطة والثروة على نحو أفسد السياسة والاقتصاد على السواء. ولا غرابة والحال كذلك، أن يمتنع على أغلبية المواطنين المشاركة في صنع قرارات التنمية، وأن تنحرف التنمية عن المسار المتوافق مع تلبية الاحتياجات الإنسانية للمصريين.

3- الأداء البيئي:
بالرغم من أن مصر ليست دولة غنية بالموارد الطبيعية، إلا أن نمط استخدامها لهذه الموارد قد اتسم بقدر عظيم من الاستنزاف والإهدار وسوء الاستخدام. وهنا لا بد وأن نذكر سيئة أخرى من سيئات عهد مبارك، ألا وهي الإفراط في تصدير مصدر نظيف للطاقة، وهو الغاز الطبيعي، وبخاصة تصديره بثمن بخس إلى العدو الصهيوني ليدير به آلة البطش والعدوان على أهلنا في فلسطين، وليواصل سرقته للأراضي الفلسطينية، ويثبت احتلاله لغير ذلك من الأراضي العربية.

ولم يتوقف الأمر عند استنزاف وإهدار الموارد الطبيعية، بل إن مصر صارت تتعرض لمستويات بالغة الارتفاع من التلوث الذي يتلف الأرض والماء والزرع والضرع ويدمر صحة البشر. وبالرغم من الاحتمالات الكبيرة لتعرض البلاد لآثار تغير المناخ العالمي، فلم تتخذ أية إجراءات يعتد بها لمواجهة الكوارث المتوقعة. وعموماً فإن الاستثمارات التي تخصص لحماية البيئة وصون الموارد الطبيعية هزيلة للغاية. ولا غرو إذن أن تحتل مصر المرتبة 115 من بين 146 طبقاً لمؤشر الاستدامة البيئية. وحقيقة الأمر هي أن العناية بالبعد البيئي للتنمية المستدامة لم يوضع أصلاً على أجندة أصحاب القرار في عهد مبارك.

وفي الحقيقة أن نمط التنمية السائد في عهد مبارك قد أهدر عدالة توزيع الموارد بين الأجيال الحاضرة وأجيال المستقبل، فضلاً عن إهداره عدالة توزيع الموارد بين الأجيال الحاضرة، على ما سبق بيانه.






الثورة تفتح آفاق التغيير


لقد فتحت ثورة يناير أبواب الخلاص من نموذج الليبرالية الاقتصادية وتوافق واشنطن الذي سد طريق التنمية وكانت له عواقب وخيمة اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً، على ما رأينا سلفاً، وفتحت أبواب الانتقال إلى نموذج جديد للتنمية وإلى سياسات اقتصادية واجتماعية وبيئية جديدة، ويمكن هنا طرح نموذجين بديلين. وسوف يشار إلى أولهما بالنموذج الإصلاحي، بمعني أنه ينطوي على تعديلات في النموذج القديم دون المساس بجوهر توجهه الاقتصادي، ويشار إلى ثانيهما بنموذج التجديد، بمعنى أن هذا النموذج يمثل قطيعة مع النموذج القديم.




فتحت ثورة يناير أبواب الخلاص من نموذج الليبرالية الاقتصادية وتوافق واشنطن الذي سد طريق التنمية وكانت له عواقب وخيمة اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً، على ما رأينا سلفاً، وفتحت أبواب الانتقال إلى نموذج جديد للتنمية وإلى سياسات اقتصادية واجتماعية وبيئية جديدة
وليس القصد من قصر التحليل على هذين النموذجين أنهما البديلان الوحيدان الممكنان للنموذج القديم. فثمة بدائل أخرى كثيرة يمكن تقديمها، ولكنها لن تفيد كثيراً، إما لأن بعض هذه البدائل قد لا ينطوي على تمايزات جوهرية بالمقارنة بالنموذجين المقدمين، وإما لأن البعض الآخر منها قد يكون خارج حيز الإمكان من المنظور السياسي على المدى القريب كالنموذج الاشتراكي مثلاً، والذي يقتضي الوصول إليه- في تصوري- المرور بنموذج التجديد أولاً. على أية حال، فإن النموذجين المقدمين يمثلان الطريقين الرئيسيين المتفرعين من مفترق الطرق الذي أوصلنا إليه فشل النموذج القديم، والممكن السير فيهما في الأجل القريب.

 وبعد تقديم عرض موجز لأهم معالم النموذجين المقترحين، سوف يتم النظر-أولاً- في قدرة كل منهما على الوفاء بمتطلبات النمو السريع والمستدام، وثانياً في الفرص المتاحة لتطبيقهما في الواقع المصري الجديد.


النموذج الإصلاحي: مخاطر الثروة على الثورة
يحتفظ هذا النموذج بالتوجه الرأسمالي للاقتصاد، ولكن مع إفساح مجال أوسع قليلاً لتدخل الحكومة في تنظيم ومراقبة النشاط الاقتصادي، والسعي لضبط قوى السوق و الحيلولة دون انفلاتها. وسوف تتضافر السياسات المالية والنقدية من أجل تشجيع الأنشطة الاقتصادية، وتثبيط الأنشطة غير المنتجة أو الأنشطة الريعية. وبينما ستسعى هذه السياسات إلى تخفيف وطأة الفقر والحد مد من سوء توزيع الدخول، فإنها لن تمس توزيع الثروة من قريب أو بعيد.

وفي إطار هذا النموذج يستمر ابتعاد الدولة عن الإنتاج والاستثمار الإنتاجي، ويستمر الاعتماد بصفة أساسية على القطاع الخاص في تحريك عجلات الاقتصاد وتحديد مسارات التنمية. ومن المتوقع استمرار خصخصة القطاع العام الإنتاجي، لكن من المرجح ألا تمتد الخصخصة إلى القطاعات الخدمية، لاسيما التعليم والصحة. وتوافقاً مع التوجه الإنتاجي لهذا النموذج، سوف يوجه اهتمام أكبر لإصلاح أوضاع التعليم والبحث العلمي والنهوض بعمليات التطوير التكنولوجي.

والمحركات الرئيسية للنمو في هذا النموذج هي السياحة، والمعلومات والاتصالات، والصناعات الصغيرة والمتوسطة، والصادرات الصناعية، والتصنيع الزراعي، والإسكان والتشييد. ويتبنى هذا النموذج سياسة الاقتصاد المفتوح والاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ربما مع بعض الاستثناءات التي تكفل شيئاً من الحماية لبعض الصناعات الناشئة.

ويستهدف هذا النموذج إنجاز إصلاحات في النظام السياسي تحقق ديمقراطية الحكم وتحد من الفساد، وذلك باعتبار أن هذه الإصلاحات ضرورية ليس فقط للاستقرار السياسي، بل لكونها ضرورية أيضاً لتحسين الأداء الاقتصادي. ونظراً لأن هذا النموذج لا ينطوي على تغيرات ضخمة في توزيع الدخول ويترك توزيع الثروة على حاله، فإن الديمقراطية لن تتجاوز الديمقراطية الليبرالية أو التمثيلية، وستظل محصورة في الجانب السياسي ولن تتعداه إلى الجانب الاجتماعي.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا النموذج قريب جداً من سيناريو الرأسمالية الجديدة في المشروع البحثي الكبير لمنتدى العالم الثالث بالقاهرة – مشروع مصر 2020. كما أنه متوافق إلى حد بعيد مع برنامج العقد الاجتماعي الجديد الذي تبلور في تقرير التنمية البشرية المصري للعام 2005 (لاحظ أن المحركات الرئيسية للاقتصاد المذكورة أعلاه مأخوذة من هذا البرنامج).


نموذج التجديد: الاعتماد على الذات
جوهر هذا النموذج هو التنمية المستقلة أو التنمية المعتمدة على الذات. وهي تقوم على أربع ركائز أساسية، وهي: الاعتماد على الذات، والدولة التنموية، والديمقراطية التشاركية، وإعادة توزيع الدخل والثروة. وفيما يلي بيان موجز عن كل ركيزة من هذه الركائز.

1- إن التنمية المعتمدة على الذات هي نقيض التنمية التابعة التي عرفتها بلادنا لأزمان طويلة، والتي كانت تخدم بالأساس مصالح القوى الرأسمالية العالمية وشركاتها متعدية الجنسيات، فضلاً على مصالح شريحة صغيرة من الرأسماليين المحليين الذين ساروا في ركاب هذه الشركات ونفذوا مخططاتها في بلادنا. والتنمية المعتمدة على الذات تعني في المقام الأول الاعتماد على القوى البشرية وعلى المدخرات المحلية. ولذا فهي تولي اهتماماً كبيراً للنهوض بالبشر من خلال محو الأمية والارتقاء بالتعليم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي وزيادة الإنتاجية. كما تولي اهتماماً فائقاً لزيادة المدخرات الوطنية المطلوبة لتمويل الاستثمار والارتفاع بمعدلاته.

واقتصاد التنمية المستقلة ليس اقتصاداً مغلقاً ولا مكتفياً ذاتياً. فهو يعترف بالعولمة كحقيقة واقعة، ولكنه يتعامل معها بشكل انتقائي تماماً كما تفعل الدول المتقدمة. وعموما فإن فتح الاقتصاد يتم بصورة انتقائية وتدريجية، وذلك بالتواكب مع نمو القدرات الإنتاجية والتنافسية للبلاد. ومن هنا يتعين توفير الحماية بشكل مؤقت ومتناقص عبر الزمن للصناعات المحلية، وذلك لمنحها فرصة النمو من دون التعرض لمنافسة غير متكافئة من البداية. وفي إطار التنمية المستقلة، فإن الاستثمار الأجنبي والمعونات الأجنبية غير المشروطة ليسا مستبعدين، ولكن ينظر إليهما كعوامل مساعدة للجهد التنموي الوطني.

2- والمقصود بالدولة التنموية هي الدولة التي لا تقتصر وظائفها على الوظائف التقليدية وعلى مراقبة وتوجيه النشاط الاقتصادي بشكل غير مباشر. فبالإضافة لهذه الوظائف على الدولة أن تضطلع بأدوار مهمة في تنمية وحشد المدخرات الوطنية، وفي تعبئة الموارد وتوجيهها نحو توسيع دائرة التصنيع وتعميقه ونحو التنمية الريفية المتكاملة، وفي القيام بالاستثمارات الإنتاجية واقتحام مجالات جديدة في مختلف القطاعات. ويمكن للدولة إقامة المشروعات الإنتاجية بمفردها أو بالمشاركة مع القطاع الخاص أو مع العمال.





للتخطيط القومي الشامل دور أساسي في تنسيق الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، وتحديد الأولويات بمشاركة شعبية وديمقراطية، وفي تأمين ممارسة كل من القطاع الخاص المنتج وقوى السوق دورا في إطار الخطط القومية

وللتخطيط القومي الشامل دور أساسي في تنسيق الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، وتحديد الأولويات بمشاركة شعبية وديمقراطية، وفي تأمين ممارسة كل من القطاع الخاص المنتج وقوى السوق دورا في إطار الخطط القومية.

3- الديمقراطية التشاركية هي الصيغة المناسبة لإدارة شئون البلاد وفق منهج التنمية المستقلة. وتشتمل الديمقراطية التشاركية على الديمقراطية الليبرالية أو التمثيلية، ولكنها تتجاوزها إلى صور شتي من إشراك الشعب في إدارة ومراقبة وحدات الإنتاج والخدمات. والشرط الضروري لفعالية الديمقراطية هو التوزيع العادل للدخل والثروة. إذ أنه عندما تتسع الفروق في توزيع الدخل والثروة، يتمكن الأغنياء من السيطرة على الحكم واختطاف الديمقراطية وتسخيرها لخدمة مصالحهم.

4- إن تخفيض التفاوتات في توزيع الدخل والثروة والقضاء على الفقر أمران أساسيان ليس فقط لتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، ولكنهما ضروريان أيضاً لجعل الديمقراطية تعمل لصالح الشعب. والسبل إلى ذلك متنوعة، وتشمل -على سبيل المثال- الإصلاح الزراعي، وتأميم المشروعات الإستراتيجية، والضرائب التصاعدية، والضرائب على المكاسب الرأسمالية من الاتجار في العقارات والمضاربة في البورصات، ومختلف أشكال الحماية الاجتماعية كالحد الأدنى للأجور والدعم وإعانات البطالة والضمان الاجتماعي.

لاحظ أن هذا النموذج يناظر سيناريو التوافق أو التآزر الاجتماعي الوارد في مشروع مصر 2020. وسوف يدرك المتابعون لكتاباتي أن هذا هو النموذج التنموي الذي أتمناه لمصر.






سرعة التنمية وقابليتها للاستدامة


للإجابة عن السؤال المتعلق بأي من هذين النموذجين يملك القدرة على الوفاء بمتطلبات النمو السريع والمستدام، فإنني أعود إلى دراسة أشرفت على إنجازها وشاركت في كتابتها في العام الماضي مع عشرة من الباحثين في معهد التخطيط القومي بالقاهرة. لقد حددت هذه الدراسة 110 متطلباً من متطلبات التنمية السريعة والمستدامة، ودرس الفريق البحثي فرص تحقق هذه المتطلبات في النموذجين المطروحين أعلاه، وكذلك في نموذج استمرار منهج التنمية السائد في عهد مبارك. وتبين أن احتمال تحقق هذه المتطلبات ضئيل جداً في إطار النموذج القديم، ولكنه يزداد قليلاً مع التحول إلى النموذج الإصلاحي. أما في نموذج التجديد، فثمة احتمال كبير لتحقيق الغالبية العظمى من متطلبات النمو السريع والمستدام.







احتمالات التحقق في الواقع الجديد
إذن نموذج التجديد هو الأفضل بمعيار القدرة على تلبية متطلبات التنمية السريعة والمستدامة. ولكن هل هذا النموذج هو الأكثر احتمالاً للتحقق في الواقع الجديد للمجتمع المصري؟ بعبارة أخرى، هل يسمح ميزان القوى السياسية الذي تمخضت عنه ثورة 25 يناير ببروز قوة أو مجموعة قوى سياسية تتبنى هذا النموذج ، وتستطيع كسب أغلبية في الانتخابات القادمة تمكنها من توجيه الآلة التشريعية لخدمة هذا النموذج وتشكيل حكومة تعمل على وضعه موضع التطبيق؟

بالنظر إلى معطيات الواقع الحالي للمجتمع المصري، يبدو أن ثمة طريقين لعبور فترة الانتقال من النظام السياسي القديم إلى نظام سياسي جديد. الطريق الأول هو الطريق الذي رسمه المجلس العسكري الحاكم ، والذي فشلت حتى الآن محاولات إقناعه بالعدول عنه. وقد انقضت مرحلة أولى من هذا الطريق بإجراء الاستفتاء على بضعة مواد من دستور 1971 الذي صدر قرار بتعطيله فور خلع مبارك، ثم بإصدار إعلان دستوري و قانون جديد للأحزاب.

وحسب الإعلان الدستوري، ستشتمل المرحلة الثانية على انتخابات نيابية(مجلسي الشعب والشورى) في سبتمبر/أيلول القادم، يجري خلال ستة الشهور التالية لها اختيار الأعضاء المنتخبين في المجلسين لجمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وتجرى انتخابات رئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني أو ديسمبر/كانون الأول، ثم يتم الاستفتاء على الدستور الجديد، ربما في مطلع العام 2012 أو في ربيعه. وبعد ذلك تبدأ مرحلة ثالثة بإعادة الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة بما يتمشى مع الدستور الجديد.

وبالرغم من معارضة قوى سياسية متعددة لهذه الخطة، باستثناء الإخوان المسلمين، إلا أن كل القوى السياسية بدأت في الاستعداد للتحرك السياسي وفق هذه الخطة، وبخاصة الإعداد لخوض الانتخابات النيابية في سبتمبر/أيلول القادم. ومن الملاحظ أن غالبية القوى السياسية الجديدة قد لا تتمكن من لعب دور بحجم ما تعتقد أنها قامت به في إنجاح الثورة. ولهذا سببان. أولهما القصر الشديد للفترة المتاحة(ستة شهور) لهذه القوى كي تنظم صفوفها وتنشئ أحزابها (شاملاً إعداد البرامج والامتثال للشروط الواردة في قانون الأحزاب الجديد – 5000 مؤسس على الأقل، مع توثيق توكيلاتهم ونشر أسمائهم في جريدتين واسعتي الانتشار- وعقد مؤتمرات في المدن والمراكز والقرى والنجوع، وإنشاء مقرات في أكبر عدد من المحافظات)، وكي تروج لبرامجها وتكسب عضوية يعتد بها، وكي تقدم مرشحين ذوي احتمال معقول للفوز في الانتخابات. وثانيهما أنه ليس في استطاعة كثرا من هذه القوى خلال تلك الفترة تدبير الأموال اللازمة للإنفاق على كل هذه الأنشطة.

وفي إطار هذه الظروف، فمن المرجح أن تأتي الانتخابات بثلاث مجموعات رئيسية، وبخاصة إذا جرت الانتخابات بالنظام الفردي، أو بمزيج من نظامي الفردي والقوائم- وهو ما يبدو أن المجلس العسكري يميل إليه. المجموعة الأولى تضم القوى الأكثر تنظيماً والأوسع انتشاراً، والأقدر مالياً. وهو ما ينطبق على الإخوان المسلمين، وربما على بعض الأحزاب القديمة الغنية كحزب الوفد. والمجموعة الثانية تضم رجال الأعمال الأثرياء في الحضر.




احتمال قد يقرب المجتمع بدرجة أو بأخرى من نموذج التجديد، وإن كان هذا الاحتمال ضعيفاً. ويرتبط هذا الاحتمال- من جهة أولى- بنجاح القوى الثورية في تنظيم صفوفها وتكتيل جهودها والتوصل إلى برنامج عمل مشترك تخوض به الانتخابات، كما يرتبط - من جهة ثانية- بممارسة هذه القوى لضغوط قوية على المجلس العسكري لتعديل خطته للمرحلة الانتقالية
والمجموعة الثالثة تضم أغنياء ووجهاء الريف والصعيد. وليس من المستبعد أن تضم المجموعتين الثانية والثالثة أعضاء سابقين في الحزب الوطني ممن لا يزالون يتمتعون بنفوذ كبير في القطاعات الاقتصادية وفي الأجهزة الإدارية. وبالطبع فإن هؤلاء ينتمون إلى القوى المضادة للثورة التي ستحاول النفاذ إلى البرلمان وإلى الجمعية التأسيسية المنوط بها وضع الدستور الجديد، ولو بتملق الثورة وإدعاء مناصرتها. وإذا صح هذا التوقع، وإذا لاحظنا أن القاسم المشترك لهذه المجموعات هو الانحياز للنظام الرأسمالي، فإن التوجه الغالب في البرلمان القادم سيكون توجهاً رأسمالياً بالأساس، يقترب بدرجة أو أخرى من النموذج الإصلاحي.

وقد تستطيع بعض عناصر القوى الجديدة، وكذلك بعض الأحزاب اليسارية القديمة الوصول إلى البرلمان، ولكن هذه العناصر لن تأخذ في الغالب سوى نسبة ضئيلة من مقاعده، ومن ثم فإنها لن تتمكن من التأثير في التشريعات وصنع السياسات بما يتناسب وطموحات ثورة يناير الشعبية، خاصة إذا تذكرنا أن بعض القوى الجديدة المؤيدة للثورة قد دعت إلى إقامة اقتصاد حر، أي اقتصاد رأسمالي، وإن قرنت دعوتها بشعار العدالة الاجتماعية دون تحديد لمضمونه.

يبقي احتمال آخر قد يقرب المجتمع بدرجة أو بأخرى من نموذج التجديد، وإن كان هذا الاحتمال ضعيفاً. ويرتبط هذا الاحتمال- من جهة أولى- بنجاح القوى الثورية في تنظيم صفوفها وتكتيل جهودها والتوصل إلى برنامج عمل مشترك تخوض به الانتخابات، كما يرتبط - من جهة ثانية- بممارسة هذه القوى لضغوط قوية على المجلس العسكري لتعديل خطته للمرحلة الانتقالية في أربعة اتجاهات.

أول هذه الاتجاهات هو إطالة المرحلة الانتقالية على الأقل لنهاية2012 حتى تتاح فرصة معقولة للقوى الجديدة- وبخاصة القوى التقدمية واليسارية- لتكوين أحزابها والتواصل مع الناس واختيار مرشحيهم في الانتخابات، مع تخفيف القيود التي أتى بها قانون الأحزاب الجديد، فضلاً عن التمكين للديمقراطية بإطلاق حرية تكوين النقابات العمالية والمهنية ومنظمات المجتمع المدني، وبدء ممارستها لأنشطتها بين الناس. وثانيها هو إقرار نظام الانتخاب بالقائمة النسبية غير المشروطة. وثالثها هو تشكيل مجلس رئاسي مدني- عسكري تتوافق القوى الثورية على طريقة تشكيلة، ليتولى إدارة شئون البلاد خلال المرحلة الانتقالية الأطول. ورابعها تشكيل جمعية تأسيسية لوضع الدستور الجديد، ثم إجراء الانتخابات النيابية والتشريعية وفقاً له، بدلاً من الاضطرار لتكرار هذه الانتخابات كما تقضي بذلك الخطة الحالية للمجلس العسكري.

إن هذا المسار البديل يضعف من فرص القوى المضادة للثورة في إجهاضها أو تحويلها إلى حركة إصلاحية محدودة النطاق، ويزيد من وضوح الرؤية لدى المواطنين بشأن البدائل المطروحة لصياغة مستقبل مصر، وذلك بفضل ما يوفره من وقت أطول لتتطلع الجماهير على أمور مهمة مثل مفهوم الدولة المدنية، وإيجابيات وسلبيات الجمهورية البرلمانية والجمهورية الرئاسية والنظام المختلط، و معنى نظام الانتخاب بالقوائم، من جهة، وللتنافس بين الأحزاب والكشف عن تفاصيل برامجها، من جهة أخرى.

كما أنه يساعد بوجه خاص في تبين حقيقة نوايا التيارات الإسلامية التي ساعدت الظروف الثورية على إحداث انطلاقة كبرى لعناصرها، وهو ما أشاع قدراً غير قليل من القلق داخل فئات اجتماعية. وعموماً فإن هذا المسار يتيح للجماهير فرصاً أوسع للمفاضلة بين الأحزاب والقوى السياسية المختلفة وفق معيار الاستجابة لمطالب الحرية والعدالة والكرامة ورفع مستوى المعيشة التي دعت الثورة إلى تحقيقها. ومن ثم فإن هذا المسار قد يزيد من فرص دفع البرلمان والحكومة الجديدة بعيداً عن النموذج الإصلاحي، ويجعل البلاد تقترب بدرجة أو بأخرى من نموذج التجديد.
_______________
أستاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومي-القاهرة