الموقف التركي من الثورات الشعبية في الدول العربية

يحتاج الأتراك، أمام الثورات العربية، إلى إجراء تحليلات عميقة وشاملة حول دول المنطقة، وعلى وسائل الإعلام التركية أن تدرك أنها غير واعية بالديناميات العربية بشكل جيد، وعليها أن تدرك الاختلافات الاجتماعية والسياسية التي تتميز بها كل دولة عربية عن الأخرى.







 

برهان كورأوغلو


يمكن القول إن تركيا لم تكن بمعزل عن الثورات الشعبية الثلاث التي بدأت أولا في الجمهورية التونسية، وآلت إلى نجاح الإرادة الشعبية لأبناء تونس، وذهاب الرئيس زين العابدين بن علي خارج نظام الحكم وحدود الدولة، تلتها ثورة شعبية عظيمة في مصر، كانت -مع الأسف- أكثر دموية من سابقتها، ولكنها كانت أقصر أمدا، وانتهت بتنحي حسني مبارك عن رئاسة الدولة، وتلتها الثورة الشعبية الليبية التي مازال يخيم عليها المصير المجهول، وذلك بعد ارتفاع أعداد الضحايا، ووصول الثورة إلى نقطة حرجة وهامة في آنٍ معًا.





تتعاظم لدى الأنظمة العربية الجديدة أهمية تركيا في المرحلة القادمة كنموذج ناجح في إنتاج لغة سياسية متفقة مع سياقات الظرف الدولي ومتطلبات الأوضاع الداخلية.
وتفاعلت تركيا مع كل هذه الأحداث، حيث شهدت ردود أفعال، وأضافت تساؤلات، واستضاءت بتحليلات متعددة ومكثفة، سواء على مستوى القيادة الرسمية أو القطاعات الشعبية والإعلامية.

وبعد سقوط رئاسة بن علي التي استمرت ثلاثا وعشرين سنة، ووصفت فترته باتباع منهجية علمانية متشددة صلبة، ونظام حكم دكتاتوري، وبعد سقوط رئاسة مبارك الذي وصف بموالاته للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، انفتح المجال في تركيا أمام جدالات ونقاشات مكثفة حول قضايا وموضوعات هامة قديمة حديثة، منها: موضوع الإسلام والديمقراطية، ومسألة العلاقة بين الجيش والديمقراطية، وعلاقة الإسلام بأنظمة الحكم، والتطبيقات العلمانية، والنظام التركي كنموذج لدول المنطقة، ومصير الأنظمة التقليدية في المنطقة، والشكل الذي ستصبح عليه الأنظمة الجديدة في دول المنطقة.


ويمكن القول إن جميع الاتجاهات في كلتا الدولتين –تونس ومصر- سواء كانت من اليمين أو اليسار مستغربة أو ذات اتجاه إسلامي قد أعربت عن سعادتها نتيجة التخلص من سلطة النظام السابق. وقد ساهمت هذه التغيرات السياسية في تغيير القناعات المتباينة التي كانت سائدة لدى الاتجاهات العلمانية والمستغربة والإسلامية في تركيا عن الجماعات الإسلامية في كلتا الدولتين، وفي فتح المجال أمام تحليلات جديدة في هذا المجال.


اتجاهات التحليل السياسية والإعلامية
اتجاهات الشارع والقوى التركية
تحديات المرحلة الجديدة


اتجاهات التحليل السياسية والإعلامية 


ويمكنا أن نصنف اتجاهات هذه التحليلات التي تناولتها النخب السياسية والإعلامية التركية في هذه المرحلة تحت تيارين رئيسين:


التيار الأول
يرى أن الاتجاه السياسي الذي ظهر في تركيا بعد العام 2001 بشكل خاص يمكن أن يكون نموذجا لدول العالم الإسلامي، هذا الاتجاه الذي تميز بميوله الإسلامية، وقام بتطويره حزب العدالة والتنمية، كما تميز بتبنيه للديمقراطية البرلمانية، والعلمانية التي تحترم التدين، والحفاظ على حقوق الإنسان والحريات، وجعل عملية التطور الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة قضايا ذات أولوية، والاهتمام بمبدأ الشفافية، والعمل على تداول السلطة وعدم جعلها بيد طائفة ونخبة معينة، وعدم التصادم مع أصحاب الاتجاهات الأخرى، والعمل على قيام علاقات متوازنة مع العالم الإسلامي والغرب، وتحسين العلاقات مع دول الجوار، وتحويلها من علاقات عدائية إلى علاقات تعاونية في إطار العمل المشترك.


ويرى هذا التيار أن "حزب العدالة والتنمية" يتبنى رؤية عالمية يمكن أن تتبناها دول عربية مشابهة لتركيا، وأن تلك الدول التي سارت في عمليات التغريب والتحديث والدولة القومية، مثل تونس ومصر والجزائر، حيث يتوجب على هذه الدول أن تعمل على استيعاب جميع الاتجاهات السياسية، وعلى رأسها الاتجاهات الإسلامية، وألا تبقيها خارج النظام، وأن تطبق مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، وأن تحرص على إقامة مجتمع يحافظ على ثقافته، ويتبنى قيم السلام والتحديث والتطوير.


ومن ثم فإن هذا التيار يتبنى فكرة أن النجاح السياسي والاقتصادي الذي تحقق في تركيا بإمكانه أن ينتقل إلى الدول العربية التي تتشابه مع تركيا على نحو يتناسب مع البيئة العربية ويحافظ على خصوصيات كل دولة منها على حدة.


التيار الثاني
يرى أن هناك فروقا كبيرة بين تركيا ودول العالم العربي؛ حيث يرى هذا التيار أن تركيا قد خطت خطوات متقدمة عن الدول العربية في مجال التغريب والديمقراطية، ومن هنا فإن الحركات السياسية الإسلامية في الدول العربية يمكن أن تتأثر من عملية التحول التي تعيشها الحركة الإسلامية في تركيا، وليس من التراكم العلماني التركي، وعلى الصعيد المقابل يرى هذا الاتجاه أن الحركة السياسية الإسلامية في تركيا قد تأثرت في نشأتها ونموها بحركة الإخوان المسلمين في مصر.


كما تناول عدد كبير من التحليلات التركية القضايا التي تتعلق بالشكل الذي ستؤول إليه الأنظمة في الدول العربية التي شهدت أو ستشهد تغيرات سياسية هامة مثل مصر وتونس، فهل ستتمكن حركة الإخوان المسلمين من الوصول إلى سدة الحكم في هذه الدول عن طريق الأغلبية؟ وما الشكل الذي سيكون عليه نظام الدولة في حالة حصول هذا الأمر؟ وهل سيكون نظاما ثيوقراطيا أم سيكون دينيا؟ كما اتجه بعض الكتاب إلى الحديث عن وجود تحولات هامة في فكر الإخوان المسلمين عبرت عنها تصريحات لشخصيات هامة في حركة الإخوان المسلمين، التي منها تصريحات لسبط حسن البنا، طارق رمضان في حديثه لصحيفة نيويورك تايمز، وما تبع ذلك من تصريحات للقيادي الإخواني عبد المنعم أبو الفتوح.


اتجاهات الشارع والقوى التركية 


وينقسم الشارع التركي عموما تجاه الأحداث التي تجري في العالم العربي إلى اتجاهين اثنين:


الأول



الموقف التركي من الثورة الليبية وتداعياتها وإن كان واضحا فإنه لم يكن بنفس صرامة الموقف الذي اتخذته من الثورتين المصرية والتونسية.
الاتجاه الذي أظهر ميوله قديما للاهتمام بالقضايا العربية، وأغلب هذا من القطاعات المحسوبة على الاتجاه الإسلامي، حيث يرى أصحاب هذا الاتجاه أن تركيا جزء طبيعي من منطقة الشرق الأوسط، وترتبط مع العالم العربي برابط حضاري عريق لا يمكن تجاهله، ولا يمكنها تجاهل ما يجري في العالم العربي، وأن أي تغير يمكن أن يحصل في تركيا لا بد أن يكون له انعكاس على الدول العربية، ويظهر أصحاب هذا الاتجاه كذلك ردود أفعال على السياسات السلبية التي تنتهجها بعض أنظمة الدول العربية القمعية، وخصوصا تلك السياسات المتخذة ضد الجماعات الإسلامية.

أما الاتجاه الثاني
فتتبناه النخب العلمانية والمستغربة التي تنظر إلى تركيا كجزء من تحالف القوى الغربية، وقد عبرت هذه النخب عن عدم ارتياحها من مبادرات التقارب مع العالم العربي التي بدأها رئيس الوزراء الراحل تورغوت أوزال مع بداية الثمانينيات، والعلاقات الإستراتيجية التي انتهجتها سياسات حكومة العدالة والتنمية بقيادة أردوغان مع مطلع هذه الألفية. واتجهت هذه النخب إلى انتقاد هذه السياسات لأنها اعتبرت أنظمة دول الشرق الأوسط في عمومها أنظمة دكتاتورية ومناهضة للديمقراطية، غير أنه ومع ظهور الثورات الشعبية المتعاقبة في الدول العربية التي كان للحركات الإسلامية فيها إسهام واضح، ومطالبة التيارات الإسلامية أثناء وبعد هذه الثورات بشكل صريح بتطبيق الديمقراطية ونظام حقوق الإنسان والانفتاح على الحريات، فبدأت هذه النخب العلمانية والمستغربة في تركيا تراجع انتقاداتها تلك من جديد، خاصة أن هذه المطالب تشبه إلى حد ما الأهداف السياسية التي تبناها حزب العدالة والتنمية في تركيا.


لقد وجدت كلمات رئيس الوزراء التركي التي وجهها إلى النظام المصري السابق -بضرورة الإصغاء إلى المطالب الشعبية- أصداء إيجابية في الشارع العربي، كما تناولت القطاعات الشعبية والإعلامية في تركيا هذه التغيرات السياسية بنوع من الإيجابية والتفاؤل، حيث تم النظر إليها كنتيجةٍ طبيعية لحقوق هذه المجتمعات في الديمقراطية والتمتع بحقوق الإنسان. وفي الوقت نفسه شعرت بالارتياح تيارات كانت قد أبدت مخاوفها من تغيرات الأنظمة التقليدية. ومن هنا عبر الشارع التركي ومفكروه، وكذا الناشطون في مجال الحقوق والحريات عن رغبتهم في إقامة علاقات مع دول إقليمية قد تستجيب بشكل أكبر لمطالب شعوبها دون أن تقمع حرياتهم، ومع أنظمة تتخذ الشفافية منهجا لها، وهو ما يعزز من الجوانب المعنوية والأخلاقية، ويزيد في الوقت نفسه من فرص التقارب مع تركيا.


لقد شعرت بعض القطاعات التركية بعدم الرضى من الدول الأوروبية نتيجة تجاهلها المطالبات التركية المتكررة بسبب هويتها الإسلامية، كما شعرت في الوقت نفسه بعدم رضاها عن إقامة علاقات تعاون إستراتيجي مشترك مع الدول العربية التي برز فيها العديد من السلبيات السياسية والاجتماعية، التي ظهرت بسبب أنظمة الحكم في هذه الدول، وغياب المبادرات السياسية والأخلاقية للقوى العربية الأساسية تجاه القضايا العربية الهامة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى انتهاك الحقوق والحريات العامة للمواطنين في دول عربية عدة، وكذلك بعض المواقف العربية من النزاعات الطائفية التي نشأت في دول مثل العراق ولبنان، ومحاولة بعض الأنظمة التستر على ضعف دورها السياسي، وعجزها عن الدفاع عن نفسها أمام القوى الغربية لتطبيقها بعض التطبيقات الدينية الشكلية. وقد ساهمت هذه الثورات العربية المتعاقبة في تونس ومصر وليبيا واليمن في تحفيز المشاعر الإيجابية لدى المفكرين الأتراك وقطاعات الشعب المختلفة.


وفي مقابل ذلك، اتجهت بعض القطاعات السياسية من أحزاب المعارضة، مثل حزب الشعب الجمهوري، إلى النظر إلى وجهة النظر التركية في هذا المجال على أنها تدخل في الشؤون الداخلية للدول، وأن مواقف العدالة والتنمية نابعة عن تطبيقها للسياسات الأمريكية في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد. غير أنه قد ظهر موقف آخر متناقض للحزب المعارض نفسه مع الموقف السابق الممانع للتصريحات التركية إزاء ما يجري في المنطقة، فقد تحمس هذا الحزب مع الثورة الشعبية التي بدأت في ليبيا، حيث إنها اتهمت الحكومة التركية بعدم إصدار تصريح قوي يتعلق بإنقاذ ما يقارب من خمسة وعشرين ألف مواطن تركي يعملون في ليبيا، واتهمت الحكومة باتخاذ موقف سلبي متخاذل حيال هذا الأمر.


ويبدو أن المعارضة التركية لم تقرأ التغيرات الإقليمية الهامة التي حصلت، إذ اعتبرتها تدخلا في الشؤون الداخلية، لكننا نجد أن بعض أجهزة الإعلام والصحافة المحسوبة على المعارضة قد أشارت أكثر من مرة إلى التصريحات السلبية التي ألقاها القذافي بشأن تركيا، ومنها على سبيل المثال التصريحات السلبية التي قالها القذافي على مسمع رئيس الوزراء التركي الراحل نجم الدين أربكان سنة 1996، وانتقادها أيضا لتسلم رئيس الوزراء التركي جائزة حقوق الإنسان من القذافي العام الماضي، رغم عدم تطبيق هذا الزعيم لمثل هذه الحقوق كما ذكرت هذه الصحف.


والحقيقة أن الموقف التركي من الثورة الليبية وتداعياتها وإن كان واضحا فإنه لم يكن بنفس صرامة الموقف الذي اتخذته من الثورتين المصرية والتونسية، ويرجع ذلك إلى حرص الحكومة التركية على سلامة الآلاف من مواطنيها الذين يعملون في الأراضي الليبية، ومن هنا اهتمت الحكومة التركية في بداية الأمر بإجلاء مواطنيها من الأراضي الليبية، ونجحت في ذلك في فترة قياسية جدا مقارنة مع الرعايا الغربيين المتواجدين في ليبيا.





عارضت الحكومة التركية اتخاذ قرار أممي بفرض عقوبات على النظام الليبي، لأن هذه العقوبات ستؤثر سلبيا على حياة الشعب والمواطن الليبي أكثر من تأثيرها على نظام الدولة.
وقد عارضت الحكومة التركية اتخاذ قرار أممي بفرض عقوبات على النظام الليبي، لأن هذه العقوبات ستؤثر سلبيا على حياة الشعب والمواطن الليبي أكثر من تأثيرها على نظام الدولة.

وأمام هذه الأحداث البالغة الأهمية التي تعيشها الدول العربية في هذه الأيام يحتاج الإعلاميون والأكاديميون الأتراك إلى إجراء أبحاث وتحليلات عميقة وشاملة حول دول المنطقة، وعلى وسائل الإعلام التركية أن تدرك أنها غير محيطة ولا واعية بالديناميات العربية بشكل جيد. ومن هنا يتوجب على وسائل الإعلام هذه أن تعيد نظرتها التقليدية إلى الدول العربية على أنها معسكر سياسي واحد، كما يتوجب عليها أن تدرك الاختلافات الاجتماعية والسياسية التي تتميز بها كل دولة عربية عن الأخرى.


رغم العلاقات الطيبة التي أقامتها الحكومة التركية مع قيادات الدول العربية كافة، أكد رئيس الوزراء التركي ورئيس الجمهورية غير مرة على ضرورة الاستجابة للمطالب الشعبية في جميع الدول العربية، خاصة تلك المتعلقة بالحريات العامة والديمقراطية، وإجراء التغييرات اللازمة في هذا الاتجاه بأسرع وقت ممكن، ليعم الأمن والاستقرار في المنطقة.


وقد بذل حزب العدالة والتنمية منذ استلامه السلطة عام 2002 الجهود الرامية للتكامل مع دول العالم كافة وعلى رأسها دول الاتحاد الأوروبي، وهو الحزب الذي يقود دولة يدين الغالبية العظمى من مواطنيها بالإسلام، ويتبنى هوية سياسية تقوم على أساسي "المحافظة" و"الديمقراطية"، وتتبني مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة والمسؤولية، ولم تقم أسسه السياسية على المبادئ الدينية والاعتقادية. ومن الطبيعي أن ينعكس النجاح الذي يحققه هذا الحزب على الدول العربية، لكنه يتوجب على تركيا أن تستمر في مسيرتها الحقوقية والديمقراطية لتحقق نجاحات أكبر من النقطة التي تقف عندها الآن، حتى يمكنها أن تكون نموذجا متكاملا للعالم الإسلامي، وسوف تكون تركيا الجديدة في هذا الإطار نموذجا تطبيقيا رائدا للعالم الإسلامي. (تركيا الجديدة كنموذج يحتذى به. انظر: طالب كوتشوكجان، صحيفة الزمان، 25/2/2011).


تحديات المرحلة الجديدة 


ورغم التطورات الإيجابية الهامة التي شهدتها تركيا في المرحلة الأخيرة لا يمكن القول إن تركيا اليوم قد تخلصت بشكلٍ كاملٍ من التراكمات السلبية لتاريخها القريب، كما أنها لم تستطع أن تتمثل تاريخها الحضاري بشكلٍ كاملٍ، ومازال أمام تركيا اليوم تحديات ينتظر أن تتجاوزها، على رأسها المسائل التي تتعلق بالحريات الدينية والمسألة الكردية على سبيل المثال.


وبمقارنتها مع دول العالم الإسلامي الأخرى، يمكن لتركيا أن تواجه مشكلاتها الأساسية بشكل أسهل، وذلك لوجود السلطة السياسية المنتخبة عبر الإرادة الشعبية، في مقابل أن هذه الدول التي مازالت تعيق الطريق أمام الإرادة الشعبية لوجود تأثير لها في نظام الحكم، وسيكون من الصعب عليها تجاوز المسائل المتعلقة بالدين والديمقراطية، والدين والعلمانية، والدين والحرية.


وما زالت تركيا اليوم تشهد مجابهات بين الرغبة الشديدة في بقاء النظام السائد والتغيير المنشود، وإلى جانب إرادة الأغلبية بالتخلص من بقايا نظام الحزب الواحد الذي فرض الوصاية السياسية العسكرية على نظام الحكم، والدعوة إلى إنشاء نظام حقوقي مدني بالكامل، يظهر اتجاه يدعم الوصاية العسكرية وينتقد الجيش لعدم تدخله في الحياة السياسية. وما يهم دول الاتحاد الأوروبي ودول العالم الإسلامي ليس مرحلة الحزب الواحد ومرحلة الانقلابات العسكرية بل التجربة التركية الحديثة التي بدأت في عهد رئيس الوزراء التركي السابق أوزال، وقامت حكومة العدالة والتنمية بالسير على خطاها منذ العام 2002.


إن تركيا التي تستطيع أن تؤثر في العالم الإسلامي ليست هي تركيا التي تتبنى أيديولوجية الحزب الواحد، بل تركيا الجديدة التي تستطيع أن تواجه مشكلاتها بجرأة كبيرة، وتستمع إلى إرادة شعبها وتحترم قيم أبناء مجتمعها ومعتقداتها الدينية، ولا تنظر إلى المطالب الديمقراطية على أنها تهديد. (انظر: موقف تركيا من الشرق الأوسط الجديد، طه أوزهان، صحيفة الصباح التركية، 26/2/2011).


تشترك تركيا مع كل من مصر وتونس في قضايا سياسية مختلفة، ومن أهم القضايا السياسية الأساسية في هذه الدول ما يتعلق بالدستور، ورغم اختلاف مضامين دساتير هذه الدول هناك تشابه في جوانب الاتجاهات الجديدة لتشكيل الدستور الجديد في هذه الدول، وهنا يمكن أن يكون لتركيا دور أساسي في هذه العملية، وبشكل خاص تتجه تونس للاستفادة من التجربة التركية في مجال الإصلاحات السياسية، وتعمل السفارات العربية في أنقرة على الاستفادة من تجربة المؤسسات الديمقراطية التركية، مثل: اللجنة العليا لرئاسة الانتخابات، والدستور التركي، ولجنة مجلس الأمة، ونظام الحكومة التركية، وقد استفادت المعارضة التونسية من التجربة التركية للمطالبة بدستور جديد، والقيام بالنهضة الاقتصادية على نفس الأسس، وأن اللغة التركية هي اللغة السياسية المناسبة للقضايا الداخلية والخارجية، وإذا استطاعت دول الشرق الأوسط أن تحقق هذه القضايا الأربع، فيمكن أن يتحقق في الشرق الأوسط قوة سياسية فاعلة.





يتوجب على تركيا أن تستمر في مسيرتها الحقوقية والديمقراطية لتحقق نجاحات أكبر من النقطة التي تقف عندها الآن، حتى يمكنها أن تكون نموذجا متكاملا للعالم الإسلامي.
ولذلك فإن الدستور الجديد الذي تنوي تركيا صياغته بعد الانتخابات البرلمانية التي ستجرى هذا العام، لن يكون أمرا هاما للداخل التركي فحسب، بل ستتعدى أهميته إلى دول العالم الإسلامي، ولكي تقدم تركيا من خلال ذلك خدمة نموذجية لدول العالم الإسلامي، وكما أن الإصلاحات الاقتصادية التي نجحت في تحقيقها الحكومة التركية يمكن أن تكون مرجعا للدول الإقليمية، ولذلك ليس من المستغرب أو المستبعد أن نرى تركيا أكثر تكاملا وأقرب مع دول المنطقة في هذه المرحلة الجديدة القادمة من الناحية السياسية والاقتصادية.

وتواجه قوى المعارضة في الدول الإقليمية تحديات أخرى، وعلى رأس هذه التحديات مدى القدرة على إيجاد إطارٍ تفاهمي وتعاوني بين الجماعات والاتجاهات السياسية المختلفة على المستوى الداخلي، ومدى القدرة على صياغة لغة سياسية يمكن من خلالها تحقيق قيم احترام الذات أمام القوى الخارجية، وقيم العدالة والتعايش السلمي أمام القوى الداخلية. ومن هنا ستتحقق فرصة التعايش بسلام مع القوى الداخلية المختلفة، وفرصة التخلص من الاستعمار الخارجي بشكل جدي لأول مرة، وتتجلى هنا أهمية هذه اللغة السياسية كأداة هامة يجب تطبيقها بشكل مناسب في هذه المرحلة، ورغم وجود مشكلات أساسية لتركيا في هذا المجال، حققت حكومة العدالة والتنمية نجاحات عديدة في استخدامها للغة سياسية مناسبة، بدأت بقرار البرلمان التركي بمنع القوات الأمريكية بدخول الأراضي التركية لمهاجمة العراق سنة 2003، وواقعة دافوس سنة 2009، وانتخابات الأمم المتحدة سنة 2010، ومن هنا تتعاظم لدى الأنظمة العربية الجديدة أهمية تركيا في المرحلة القادمة كنموذج ناجح في إنتاج لغة سياسية متفقة مع سياقات الظرف الدولي ومتطلبات الأوضاع الداخلية.


وأخيرا فإن الحديث عن شرق أوسط جديد لا يزال غامضا، وبقدر ما تختصر الولايات المتحدة الأمريكية الحديث عن الشرق الأوسط الجديد، بقدر ما يمكن أن يزاح الغموض الذي يخيم عليه، ومن هنا لم يعد لتركيا أي عذر للتأخر عن تشكيل إطار تفاهمي لدول المنطقة من أجل أن تساهم في صناعة تاريخها بنفسها. وسيعمل هذا التوجه على ابتعاد دول المنطقة عند تحديد اتجاهاتها بمحددات القوى الغربية، وإلى اقتراب دول المنطقة بعضها من بعض وعملها بشكل تعاوني في إطار مناخ سياسي طبيعي. ولذلك فإن الدول التي ستساهم بشكل جدي وفاعل في مرحلة التكوين ستتولد لديها القدرة على تحديد الملامح الغامضة في مشروع الشرق الأوسط الجديد، والإجابة على الأسئلة التي تحوم حوله، ومن هنا يجب على جميع الأطراف أن تبدأ بسؤال نفسها عن مدى الجاهزية التي تمتلكها لخوض غمار هذه الفترة التاريخية.
________________
مركز الجزيرة للدراسات

نبذة عن الكاتب