إيران وسوريا: علاقة إستراتيجية على محك الانتفاضة الشعبية

الانتفاضة الشعبية بسوريا أربكت إيران. فسواء سقط نظام الأسد أو بقى فإن طهران ستعتمد في المستقبل على حليف ضعيف.
1_1064215_1_34.jpg

تظاهرة في سوريا ضد النظام (الجزيرة)

مهدي خلجي

استفادت الجمهورية الإسلامية الإيرانية من الربيع العربي لغاية وصوله إلى سوريا، قبل الأوان، لأن إيران كانت تسعى لنيل الفضل في انتفاضتي تونس ومصر باعتبارهما إلهاما من ثورتها الإسلامية عام 1979، إلا أن الحالة السورية قد فرضت صياغة رواية جديدة تُفسر سبب الخطر الذي يتهدد أقرب حلفائها العرب بفعل هذه الهبة الشعبية الأصيلة.

قراءتان لما يحدث في العالم العربي
إيران لم تتخلَّ عن حلفائها في المنطقة
المواجهة الإيرانية مع الغرب ساحتها عربية

قراءتان لما يحدث في العالم العربي 

خامنئي يستخدم مصطلح "الصحوة الإسلامية" لربيع العرب (الذي يستثني منه سوريا بالطبع) بينما يتردد أحمدي نجاد في استخدام هذا المصطلح.
انقسمت الحكومة الإيرانية بشأن هذه المسألة: فالمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، يساند الخط الذي يرى أن الهبة الشعبية عبارة عن انتفاضة عربية ضد الحكام الظالمين المدعومين من الغرب، وأما في سوريا فالسيناريو كله مؤامرة صهيونية لإسقاط حكومة شعبية ومشروعة، لأنها تعارض إسرائيل وأمريكا بينما تناصر "المقاومة" لاسيما حزب الله.

بينما حاول الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وكذلك رئيس أركانه المقرب اسفنديار رحيم إقناع النظام بعدم الاحتفاء بأحداث العالم العربي قبل أوانها. ووفقا للفصيل السياسي للرئيس، فإن الربيع العربي برمته مؤامرة غربية لخداع العالم الإسلامي.

خامنئي يستخدم مصطلح "الصحوة الإسلامية" لربيع العرب (الذي يستثني منه سوريا بالطبع) بينما يتردد أحمدي نجاد في استخدام هذا المصطلح. وأحمدي نجاد إذ يفعل ذلك فهو يندرج في سياق تحوله الاستطرادي من العالموية إلى القومية خلال فترة ولايته الثانية، حين أبرز الهوية الوطنية الإسلامية لإيران مقابل الإسلاموية العالمية بل إنه يتحدث عن المدرسة الإيرانية للإسلام وتفوقها على المدرستين العربية والتركية داخل المنظومة الفكرية الإسلامية. وواضح أن تغييره للخطاب نحو القومية قد أضر بصورة الجمهورية الإسلامية كحكومة إسلاموية عالمية تساند المسلمين في جميع أنحاء العالم.

الاضطرابات في سوريا جاءت قبل الأوان أيضا لأن نجم أحمدي نجاد بدأ يغيب بسرعة. فتصريحاته المناهضة لإسرائيل وكذلك إيماءاته المعادية للغرب أكسبته إعجابا كبيرا في الشارع العربي، ووضعته في مصاف شخصيات أخرى مثل أسامة بن لادن وحسن نصر الله. كما أن تصريحاته العدائية قد حركت الشارع العربي، الذي ليس لدى حكوماته الاستعداد لقتال إسرائيل والغرب.

أعيد انتخاب أحمدي نجاد في يونيو /حزيران 2009، في انتخابات رئاسية مثيرة للجدل، تلتها سلسلة من المظاهرات المعارضة احتجاجا على نتائج الانتخابات الرسمية، ثم بدأ يفقد جاذبيته كممثل للشعب الإيراني بسبب إخماده الاحتجاجات الشعبية في الداخل. ونظرا للعلاقة المباشرة بين شرعيته وبين شرعية النظام السياسي ككل، فقد أيده خامنئي علانية، فانهال بالضرب على منتقدي الانتخابات. الآن، وبعد سنتين فقد خامنئي ثقته في نجاد، الذي كان قد دفع ثمنا باهظا للحفاظ عليه في منصب الرئيس. وسائل الإعلام الرسمية وغيرها من أدوات الدعاية تفضل خامنئي، ولا يتردد المجلس (البرلمان)، والقضاء في انتقاد أحمدي نجاد أو حاشيته. لا شك أن خامنئي سوف يعمل على إضعاف أحمدي نجاد، أما نجاد فلن يكون قادرا على إيجاد دائرة سلطة مستقلة لنفسه للطعن في المرشد الأعلى.

مهما يكن من أمر، فإن تغيير خامنئي موقفه قد أضر بصورته الشخصية وكذلك بصورة الجمهورية الإسلامية. وإعادة انتخاب أحمدي نجاد قد اضطره للجوء إلى العنف ضد المتظاهرين السلميين واتخاذ إجراءات صارمة ضد الصحفيين ونشطاء المجتمع المدني. وكان استخدام الحكومة للعنف ضد الشعب قد أساء كثيرا لإيران في نظر إخوانهم المسلمين، ولاسيما قتل المتظاهرين السلميين في يوم عاشوراء المقدس لدى الشيعة، مما حدا بالعديد من الناس إلى التشكيك في شرعية رد فعل الجمهورية الإسلامية. الآن يعمل خامنئي على تشويه سمعة نفس الشخص الذي كان قد أيده وقتل الناس من أجل الحفاظ عليه في السلطة.

إيران لم تتخلَّ عن حلفائها في المنطقة 

هناك اعتقاد واسع بأن الجمهورية الإسلامية تساعد سوريا على اتخاذ إجراءات صارمة ضد المتظاهرين والمنتقدين لنظام الحكم بسبب نجاحاتها قبل عامين في فعل الشيء نفسه بشعبها. النشطاء السياسيون الإيرانيون والسوريون على حد سواء يتهمون إيران بإرسال ميليشيا الباسيج إلى سوريا. وضعت وزارة الخزانة بالولايات المتحدة أسماء مسؤولين إيرانيين اثنين من كبار قادة قوات حرس الثورة على قائمة عقوباتها، وهما قاسم سليماني القائد الأعلى لقوة القدس ومحسن شيزاري، وكلاهما مشارك للحكومة السورية في قمع الاحتجاجات الشعبية. كما تُتهم الجمهورية الإسلامية بمساعدة نظام بشار الأسد في تعقب نشطاء المعارضة من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية مثل فيسبوك وتويتر.

هذا هو بالضبط ما فعله النظام الإيراني -ولا يزال يفعله- بشعبه. وبينما تطبق إيران رقابة شديدة للغاية على الإنترنيت وتحجب المواقع السياسية والإخبارية، فإنها لا تحظر مواقع مثل فيس بوك وتويتر. هذا وقد أحرق المتظاهرون في سوريا علم الجمهورية الإسلامية وهم يهتفون بشعارات مناهضة لإيران، بل هتف البعض بكلمة فارسية من أجل الحرية "أزادي" لإيصال رسالتهم إلى الإيرانيين بصوت عال وواضح.

الديمقراطيون الإيرانيون والمنتقدون لنظام الحكم غير راضين عن مساعدة إيران سياسيا وماليا لكل من حزب الله وحماس وتعاونها السياسي والأمني مع النظام السوري. فبعد إنفاق الملايين من الدولارات في مساعدات إيرانيةً لحزب الله بعد حرب الـ33 يوما، انتقد العديد من الإيرانيين الحكومة علانية على هذه المساعدات السخية بينما يرزح الإيرانيون تحت الجوع وبؤس الحياة. معظم الإيرانيين عموما يريدون من حكومتهم حصر سياستها الخارجية في إطار المصالح الوطنية الإيرانية وليس في أجندة إسلامية العالمية. لقد نمت مشاعر الاستياء تجاه النظام الإيراني منذ أزمة انتخابات 2009، والآن الديمقراطيون الإيرانيون والناشطون السياسيون والصحفيون يتعاطفون مع المعارضة السورية التي تعتبر ضحية قمع الدولة.

هناك اعتقاد واسع بأن الجمهورية الإسلامية تساعد سوريا على اتخاذ إجراءات صارمة ضد المتظاهرين والمنتقدين لنظام الحكم بسبب نجاحاتها قبل عامين في فعل الشيء نفسه بشعبها.
من الأنسب لإيران إقناع المسلمين، وخصوصا الشيعة، بأن الجمهورية الإسلامية سوف تقف إلى جانبهم ضد القوات الموالية للغرب وحلفائها. غير أن عدم قدرة إيران على التأثير في أحداث البحرين كان مصدر إحراج كبير لها، إذ لم تجرؤ على الذهاب بعيدا من مجرد المهاترات والدعاية في معارضتها لنشر قوات درع الجزيرة في البحرين من قبل المملكة العربية السعودية والإمارات المتحدة. عمليا، فشلت إيران في تقديم أي مساعدة لسكان البحرين الشيعة. وعليه، ينبغي أن يكون الشيعة قد أدركوا الآن في كل من العراق والمملكة العربية السعودية والكويت ولبنان وأماكن أخرى أن إيران ليست متحمسة في دعمها للطائفة الشيعية كما تدعي. وهي تعتبر نفسها الحكومة الشيعية الوحيدة في العالم التي تتحمل مسؤولية حماية الشيعة، بينما لا يتوافق هذا مع سجلها في مجال السياسة الخارجية، ولكن هذا الموضوع بالتأكيد في صلب دعايتها. وفي حالات عديدة تغلبت مصالحها الإستراتيجية على سياستها الطائفية، مثل دعمها لأرمينيا المسيحية ضد أذربيجان الشيعية في تسعينات القرن الماضي.

سوريا التي تتحكم فيها الأقلية العلوية على الأكثرية السنية، فيها مصلحة كبيرة لإيران، إذ كانت أول حكومة عربية أمكن أن تقيم معها الجمهورية الإسلامية علاقة وثيقة على أساس طائفي قبل حرب العراق وتعزيز حزب الله سلطتها السياسية في الحكومة اللبنانية. وحتى قبل قيام ثورة 1979، حاول النظام السوري التقرب من علماء الشيعة أمثال موسى الصدر لإكساب الشرعية لنظامه، وذلك لأن العلويين ولفترة طويلة يُعتبرون زنادقة من قبل الشيعة. وتعمل إيران على استعراض قوتها في المنطقة من خلال تصوير الشيعة كقوة صاعدة في جميع أنحاء البلدان العربية. وعلى هذا النحو، من المهم للغاية المحافظة على سوريا التي تقودها أقلية خوفا من خسارتها لصالح الأغلبية السنية. إن نجاح المعارضة السنية لن يغير علاقة إيران مع سوريا فحسب، بل علاقتها بالطائفة الشيعية في دول عربية أخرى أيضا، وخصوصا في لبنان.

المواجهة الإيرانية مع الغرب ساحتها عربية 

تستند العقيدة العسكرية لإيران على الحرب غير التقليدية، وتبذل قصارى جهدها لمنع أي مواجهة عسكرية مع الغرب أو إسرائيل على أراضيها. وقد أدركت إيران - في الواقع - بعد غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، أنها قد تكون الهدف القادم. لذلك، بعثت طهران برسالة إلى وزارة الخارجية الأمريكية وعرضت مفاوضات غير مشروطة بشأن جميع القضايا "بما في ذلك حزب الله وحماس"، إلا أن الصعوبات التي واجهتها الولايات المتحدة في العراق أغرت إيران بإلغاء العرض واتخذت موقفا أكثر عدائية تجاه الولايات المتحدة. لقد نسقت إيران وسوريا معا مساعدة حركات التمرد في العراق لإضعاف النفوذ الأميركي والتأثير في شكل السياسة في العراق.

إن النظام الإيراني يرغب في تحويل كل الشرق الأوسط -باستثناء إيران- إلى ساحة معركة لمحاربة الغرب وإسرائيل. وفي هذا الإطار، تؤدي سوريا دورا مهما بالنسبة لإيران كمكان رئيسي يمكن منه إرسال مساعدة مالية وعسكرية لحزب الله والجماعات الفلسطينية. إيران وسوريا تتعاونان مع بعضها البعض في توريد صواريخ طويلة المدى إلى حزب الله. وتستخدم إيران مكتب المرشد الأعلى في الزينبية، وهي بلدة مقدسة قريبة من دمشق، وكذلك مكتب الملحق الثقافي الإيراني، كقاعدة لتدريب رجال الدين الشيعة على ترويج مفهوم مرجعية آية الله خامنئي ( كمصدر للتقليد)، ثم يتم إرسالهم من قبل هذه المكاتب إلى جميع أنحاء سوريا، والعراق، ولبنان، وبلدان الخليج العربي لتشجيع الشيعة على إتباع خامنئي في طقوسهم الدينية، ودفع الضرائب الدينية له.

وأصبح لسوريا مكانة مهمة للجمهورية الإسلامية في إيران إذ أتاحت للأخيرة كامل الحرية لاستخدامها في أجندتها الإقليمية. ومن خلال تهديدها لإسرائيل، تحقق إيران ما يكفي من المكاسب للتأثير في أي مفاوضات مع الغرب، سواء بسبب برنامجها النووي أو بسبب سياستها الأوسع في الشرق الأوسط. وعليه، فإن خسارة سوريا تعرضها للخطر وتفقدها هذا النفوذ، بل وتؤدي إلى تغيير معادلة القوة في المنطقة ضد طهران.

أدت سوريا دورا مهما في تحقيق قدر من التوازن في علاقاتها مع طهران ومع دول عربية أخرى. فخلال الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، وقفت كل الدول العربية مع صدام حسين باستثناء سوريا. وقد استخدمت سوريا هذه الفرصة للتوسط بين إيران والعالم العربي. ففي كل مرة تسوء علاقة إيران بنظام عربي، تقوم سوريا بإجراء توفيق بين الطرفين أو بتهدئة التوتر. وباستثناء العراق، لم تكن لإيران علاقات قوية مع جيرانها العرب، خاصة بعد ما حدث في البحرين. وتشعر السعودية ودول عربية أخرى بقلق تجاه أجندة إيران وطموحاتها الرامية لنشر المذهب الشيعي في جميع أنحاء البلدان العربية من أجل استقطاب مزيد من القوة لنفسها، كما أن للحكومات العربية مخاوف جادة بشأن نية إيران وراء برنامجها النووي. وفي خضم الحرب الباردة المستعرة بين السعودية وإيران، فإن خسارة سوريا لصالح الأغلبية السنية يعني فقدان جسر مهم إلى العالم العربي وبالتالي عدم القدرة على تعزيز موقف السكان العرب الشيعة المحليين.

سواء نجا بشار الأسد من الانتفاضة الشعبية الحالية أم تمكنت الأغلبية السنية من تولي السلطة، فإن علاقة إيران مع الحكومات العربية في المنطقة آخذة في التدهور في المستقبل القريب.
سواء نجا بشار الأسد من الانتفاضة الشعبية الحالية أم تمكنت الأغلبية السنية من تولي السلطة، فإن علاقة إيران مع الحكومات العربية في المنطقة آخذة في التدهور في المستقبل القريب. وإذا سقط الأسد فإن إيران ستخسر حليفا عربيا لا يُستعاض عنه. وفي حال نجاح جهود التقارب الإيراني المصري – وهو أمر غير مرجح-، فإن مصر لن تكون في وضع يمكنها من التوسط بين إيران وجيرانها العرب، ولا حتى العراق الذي يتمتع الشيعة فيه بحصة كبيرة من السلطة في الحكومة، قادر على حل محل سوريا. وطالما أخفقت إيران في إقامة علاقة إستراتيجية مع أي حكومة عربية سنية، فإن اعتمادها على المجموعات الشيعية - أو على العلويين في حالة سوريا – قد لا يولد إلا مزيدا من عدم الثقة حيالها من العالم العربي.

إذا بقي بشار في السلطة، فإن القوى الديمقراطية في جميع أنحاء العالم العربي ستلقي باللائمة على إيران لإفشالها مجيء حكومة ديمقراطية. هذا من شأنه أيضا زيادة التوتر الطائفي بين الشيعة والسنة في جميع أنحاء البلدان المسلمة. الآن يمثل تدخل إيران في سوريا في جانب من جوانبه انتقاما من المملكة العربية السعودية والقوى السنية في سوريا لما حدث في البحرين. هذا وسوف تتعرض الحركات الديمقراطية في كل من البحرين وسوريا للخ&

نبذة عن الكاتب