"العالم تعمه الثورات وتسوده الفوضى، إذًا الوضع ممتاز" هذا ما قاله الزعيم الصيني الراحل "ماوتسي تونغ" يوما ما عندما كانت الصين إحدى بؤر تصدير الثورات والأيديولوجيات. لكن من المؤكد أن ذلك لم يعد صالحا أو مناسبا لصين اليوم، أو صين اقتصاد السوق، خاصة إذا كانت تلك الثورات في منطقة يعتبر نفطها هو المحرك الأساسي للاقتصاد الصيني، كما تعتبر أسواقها مقصدا مهما للبضائع الصينية وهدفا لاستثمارات شركاتها. وهذا ما يفسر تبني الدبلوماسية الصينية نهجا براغماتيا يركز على العامل الاقتصادي بما يحقق المصالح الاقتصادية الصينية، ويبتعد عن الخوض في أية قضايا سياسية بحجة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والانسحاب من لعب أي دور سياسي في قضايا إقليمية بانتهاج موقف يحاول إرضاء جميع الأطراف وعدم إزعاج أي منها، وذلك بمطالبة جميع الأطراف بالجلوس إلى طاولة المفاوضات وحل الخلافات بالطرق الدبلوماسية والحوار.
الصين والثورة في تونس
الصين والثورة في مصر
الصين والثورة في ليبيا
الصين والزلازل العربية الأخرى
الصين والعرب.. ما بعد انقشاع الدخان
"العالم تعميه الثورات وتسوده الفوضى، إذًا الوضع ممتاز" هذا ما قاله الزعيم الصيني الراحل "ماوتسي تونغ" يوما ما عندما كانت الصين إحدى بؤر تصدير الثورات والأيديولوجيات. |
حاولت وسائل الإعلام الرسمية الصينية تجاهل أو التعتيم على ما يجري في بداية الثورة التونسية. لكن ذلك لم يمنع بعضا من غبار الطلع في ربيع الياسمين العربي من النفاذ عبر أبواب الصين الموصدة وأسوارها العالية، وتمكن الشباب الصيني من أن ينعم بشم رائحتها ويتابع صورها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتمكنت بعض حبيبات الطلع من التلاقح لتثمر عن دعوات للتضامن مع الشعوب في وجه أنظمتها القمعية.
لم تكن تونس تشكل أهمية إستراتيجية أو اقتصادية بالغة بالنسبة للصين؛ فمنذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما عام 1964 ظلّ حجم التبادل التجاري بينهما متواضعا ولم يتجاوز تسعة مليارات دولار، ترجح كفته بالطبع لصالح الصين بنسبة سبعة إلى واحد.
طبيعة الثورة التونسية السلمية وقصر عمرها أو بالأحرى سرعة سقوط رأس النظام خلال أسابيع قليلة لم يشكّل إحراجا أو تحديا كبيرا للصين؛ إذ سرعان ما أصدرت بكين بيانا أعربت فيه عن احترامها لخيار الشعب التونسي، وتمنياتها بسرعة استعادة الاستقرار، وأعربت عن عزمها مواصلة تطوير علاقات الصداقة والتعاون بين البلدين.
وبالفعل لم تنتظر بكين طويلا؛ فقد أوفدت نائب وزير خارجيتها جاي جون إلى تونس في السابع من مارس/آذار في محاولة لاستقراء ما حدث، والتواصل مع النظام الجديد "الحكومة المؤقتة"، وقد قدم جاي جون مساعدة صينية بقيمة مليوني دولار بالإضافة إلى ستة ملايين دولار أخرى كمنحة لإنشاء مشاريع مشتركة، تم الاتفاق على تفاصيلها لاحقا من خلال زيارة نائب وزير التجارة الصيني "فو زي يينغ" إلى تونس في العشرين من أبريل/نيسان.
ربما كان من حسن حظ السلطات الصينية أن ثورة مصر جاءت في غمرة احتفالات الصينيين بعيد رأس السنة الصينية التي تصادف "عام الأرنب" وفق التقويم القمري الصيني؛ بحيث حالت أصوات المفرقعات والألعاب النارية في شوارع المدن الصينية وميادينها دون وصول أصوات هتافات ميدان التحرير إليها.
في السادس والعشرين من يناير/كانون الثاني وهو ثاني أيام الثورة المصرية كانت بكين تستقبل مساعد وزير الخارجية المصري للشؤون الآسيوية محمد حجازي لحضور الجولة الحادية عشرة للمشاورات السياسية بين الجانبين، والتي بدأت بعد توقيع اتفاقية التعاون الإستراتيجي بينهما في إبريل/نيسان 1999. ولابد أن الضيف المصري خلال مباحثاته طمأن مضيفه الصيني بأن ما يجري في شوارع وميادين مصر ما هو سوى مجرد "مجموعة من المتظاهرين تحركهم أياد خارجية"، وبأن الأمور تحت السيطرة ولا تستدعي القلق.
وبالفعل جاء الموقف الصيني داعما لجهود السلطات المصرية في بسط الأمن وحماية السيادة الوطنية ضد أي تدخل خارجي؟!
في اليوم الثالث للثورة أقدمت السلطات الصينية على تعطيل البحث عن كلمة "مصر" في مواقع المدونات الصغيرة من خلال بوابات البحث الصينية، كما لوحظ أيضا تعذر إرسال روابط لعنوان "الجزيرة نت" على المواقع نفسها، كما حُظرت المشاركات التفاعلية في المواقع الإعلامية الرسمية على الأخبار والمقالات التي تتناول الحدث المصري. وكلها إجراءات تعكس خشية السلطات الصينية من امتداد لهيب الثورة المصرية عبر فضاء الإنترنت، وتحولها إلى مصدر إلهام للشباب الصيني، وكذلك خشية أن تصبح في فترة لاحقة معيارا لمقارنة سلوك الجيش الصيني عام 1989 بنظيره المصري.
وسارعت وسائل الإعلام الصينية إلى اختراع تسميات لتلك الثورات لا تخلو من التهكم، مثل: "سياسة الشوارع"، واعتبارها لا تؤدي سوى إلى الفوضى وزعزعة الأمن والاستقرار، وفتح الأبواب أمام التدخلات الخارجية (كان ذلك قبل تطور الأوضاع في ليبيا).
ومع استمرار الجماهير العربية في كتابة صفحات جديدة من تاريخها المعاصر استمرت الصين تراقب تلك التطورات بذهول حقيقي وبما يشبه الصدمة غير المتوقعة. ومع النجاح الذي حققته الثورة المصرية خلال ثمانية عشر يوما بإسقاط رأس النظام؛ وردت أخبار عن عقد اجتماع طارئ لأعضاء في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني لتقييم الموقف في ضوء تلك التطورات.
لم يكن الموقف الصيني ينطلق من الخشية من سقوط أنظمة ورموز ظلت تتمتع بعلاقات جيدة مع الصين، وبما يمكن أن تفرزه هذه الثورات من واقع جديد قد يؤثر على المصالح الصينية المتنامية في المنطقة، ولكن ينطلق أيضا من مدى التوتر والهواجس التي انتابت السلطات الأمنية الصينية إثر وصول رياح التغيير إلى الداخل الصيني، وانتشار الدعوات للتظاهر والاحتجاج في عدة مدن صينية جرّاء الظروف الاقتصادية الصعبة، وارتفاع أسعار المواد الأساسية، وتفشي البطالة، واستشراء الفساد، وتنامي الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وانعدام الحريات السياسية . وكلها كانت من الأسباب الرئيسية التي أشعلت فتيل الثورات العربية.
ولهذا بدت الصين مضطرة إلى التزام ما يشبه الصمت طوال فترة ثورتي تونس ومصر بذريعة أن عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ورفض أي تدخل خارجي هما مبدآن أساسيان للدبلوماسية الصينية.
وبدا واضحا مدى التوتر والقلق الذي انتاب السلطات الصينية وانعكس على مواقف المتحدث الرسمي باسم وزارة خارجيتها، وكأن ما يحدث في ميدان التحرير ما هو إلا رجع لصدى الأحداث الدموية في ميدان تيان آن مين عام 1989، ومحاولة لإعادة الروح إليه أو النفخ في رماده من جديد.
تعي الصين تماما حجم الشبه والتشابه بين المجتمعين الصيني والمصري اللذين يشتركان -على الرغم من بعد المسافات بينهما- في الكثير من أنماط التفكير والسلوك. فكلتا الأمتين تنتميان إلى حضارة نهرية عريقة، وكلا الشعبين يتمتعان بدرجة عالية جدا من الصبر والحرص على الاستقرار الاجتماعي واعتباره على رأس الأولويات.
وكلا المجتمعين مرّا بظروف سياسية واقتصادية واجتماعية تكاد تكون متطابقة منذ أيام الأباطرة والفراعنة وصولا إلى العصر الحديث كالشبه الواضح بين عهد الزعيمين عبد الناصر وماو تسي تونغ اللذين قادا ثورة وأسسا لدولة، مرورا بعهد السادات ودينغ شياو بينغ اللذين نسفا مبادئ الثورة وشرَعَا أو أشاعا نظرية "من لم يغتنِ في عهدي لن يغتني بعدي"، وصولا إلى العهد الحالي لكل من الرئيسين جيانغ زي مين وخلفه هو جين تاو مع الرئيس المخلوع حسني مبارك في انكفائهم عن لعب أي دور إقليمي أو دولي فاعل على الصعيد الخارجي. وكذلك تفشي ظواهر البطالة والفساد، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء على الصعيد الداخلي. (مع وجود فوارق نسبية في ذلك).
إن الاستقرار الاجتماعي ليس مجرد أولوية بالنسبة للحكومة الصينية بل هو مطلب ملح للمواطن أيضا الذي بات يلمس أن هناك تغيرات جوهرية وإنجازات حقيقية تنعكس على حياته وحاضره ومستقبله. |
لكن على الرغم من كل ذلك التشابه الواضح فإن من الواضح أيضا وجود خلاف جوهري بين سلوك حكومتي البلدين في التعامل مع هذه الأزمات؛ ففي الوقت الذي تعترف فيه الحكومة الصينية بهذه الأزمات، وتسعى جاهدة لمحاولة إيجاد حلول لها فإن الحكومة المصرية كانت تتنكر ولا تعترف بوجودها بل وتمعن في زيادة حدتها وتحويلها إلى منهج وسلوك.
هذا بالإضافة إلى أنه مع حلول كل يوم جديد ترى إنجازات صينية مهمة على مختلف الأصعدة، وخطوات كبيرة إلى الأمام، بينما على الجانب الآخر ترى قفزات كبيرة نحو التدهور والانهيار في مصر مما يجعل من البديهي القول: إن الاستقرار الاجتماعي ليس مجرد أولوية بالنسبة للحكومة الصينية بل هو مطلب ملح للمواطن أيضا الذي بات يلمس أن هناك تغيرات جوهرية وإنجازات حقيقية تنعكس على حياته وحاضره ومستقبله.
وإن كان الأمر لا يخلو من احتجاجات ومظاهرات مطلبية وفئوية يومية تشهدها مدن الصين وقراها وصلت العام الماضي إلى أكثر من أربعين ألف حالة تظاهر، كان آخرها موجة الاحتجاجات الواسعة التي شهدها إقليم منغوليا الداخلية في الشمال وبعض مناطق إقليم غوان دونغ في الجنوب والتي تخللتها أعمال عنف دامية أدت إلى فرض حظر التجوال لعدة أيام. ناهيك عن التوترات العرقية الدائمة في إقليمي التبت وسينكيانغ.
لكن ذلك أمر طبيعي أفرزته ظروف التنمية المتسارعة والتي خرجت عن عقالها في بعض الأحيان؛ حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يختمر في لحظة واحدة ويتحول إلى هبة شاملة أو إلى ثورة مكتملة على غرار الثورة المصرية؛ فمعظم المطالب الجماهيرية الصينية هي مطالب فئوية وإصلاحية ولم تصل بعد إلى مطالب جذرية لتغيير النظام، كما أن ما تمتلكه السلطات الأمنية من قدرات تنظيمية ومعدات حديثة قادرة على بسط السيطرة التامة على وسائل الاتصال وشبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، والتعامل مع أي تحركات ووأدها في مهدها بطريقة لا يمكن مقارنتها بأي شكل من الأشكال بغزوة الإبل والخيول على طريقة أجهزة الأمن المصرية.
وهذا بدوره لم يكن كافيا ليمنح الصين الطمأنينة والثقة بالنفس، أو ربما لأنها تعي بنسبة أكثر قوانين الثورات والحراك الاجتماعي الذي إذا تحرك يصبح من الصعب إيقافه. خاصة أن الثورات العربية جاءت في عام تستعد فيه الصين وحزبها الحاكم للاحتفال بالذكرى التسعين لميلاده في ظل أجواء من الجدل المتصاعد حول مشروعية الاستمرار في حكم الحزب الواحد، وضرورة الشروع بإصلاحات سياسية جادة تترافق مع الاصلاحات الاقتصادية. ناهيك عن الجدل الأكاديمي المحتدم بين مثقفي الصين حول جدوى الاستمرار في المبادئ الأساسية التي تحكم سياسة الصين الخارجية، ومواصلة الانكفاء عن لعب أي دور إقليمي أو دولي يتناسب مع حجم الصين البشري والاقتصادي والحضاري، والذي بات يهدد مصالح الصين في الخارج، ويؤثر على صورتها كقوة صاعدة على المسرح الدولي وكعضو دائم في مجلس الأمن منوط به تحمل مسؤولياته الدولية بكل جرأة وشجاعة. وقد شكلت الثورات العربية أحد العناوين المهمة في هذا الجدل الدائر، والذي بدأ صداه يتردد داخل أروقة صناعة القرار في الحزب والدولة.
استمر الموقف الصيني المرتبك حتى بعد زيارة نائب وزير الخارجية الصيني جاي جون إلى أربع دول في المنطقة، هي: (تونس، ومصر، والجزائر، والسعودية) في مارس/آذار الماضي عبّر خلالها عن احترام الصين لخيارات الشعب المصري؛ حيث التقى مع نائب رئيس الوزراء يحيى الجمل ووزير الخارجية نبيل العربي، كما قدّم بعض المساعدات المادية لتونس فعل كذلك مع مصر؛ حيث قدّم مساعدة بقيمة مليون دولار، وتبع ذلك زيارة أخرى لنائب وزير التجارة الصيني إلى القاهرة في 20 إبريل/نيسان تم خلالها التوقيع على اتفاقية تعاون اقتصادي وفني تحصل بموجبها مصر على منحة تُقدّر بحوالي 10 ملايين دولار، لبناء وتطوير بعض المنشآت العامة في مصر. وأعقب ذلك زيارة لوزير الخارجية الصيني يانغ جي تشي إلى القاهرة التقى خلالها مع رئيس المجلس العسكري المشير طنطاوي.
لكن لوحظ أن الصين وخلال زيارت مسؤوليها إلى تونس ومصر أو من خلال التصريحات الرسمية حرصت على عدم تقديم تهنئة على انتصار الثورتين.
لم تكن علاقة الصين بنظام القذافي تحظى بدرجة كبيرة من الأهمية بل يمكن وصفها بأنها طبيعية، أو ما دون ذلك؛ حيث كانت ليبيا آخر دولة شمال إفريقية تعترف بالصين، فقد انتظر القذافي عشرة أعوام كاملة في الحكم قبل أن يُق