صعبة كلها الخيارات المتاحة أمام مصر في تعاطيها مع الصراع بين قوى الثورة والتغيير ونظام معمر القذافي في ليبيا. ولكن خياراتها في التعامل مع هذا النظام لم تكن سهلة أبدا منذ أن كانت ليبيا مختزلة في هذا النظام خلال العقود الأربعة الأخيرة. ظلت ليبيا طول تلك الفترة مصدر قلق بالنسبة إلى مصر بسبب صعوبات إدارة العلاقات الثنائية مع حاكم يصعب توقع سلوكه الذي يمكن أن يتغير من يوم إلى آخر، فضلا عن أنه يعتبر نفسه فيلسوفا وثوريا وروائيا وشاعرا وزعيما أسطوريا.
غير أن موقف مصر بات أكثر صعوبة الآن. فقد بدأت الاحتجاجات في ليبيا بعد ستة أيام على نجاح الثورة المصرية في إسقاط الرئيس السابق حسني مبارك وأركان نظامه. وقبل أن تشرع القيادة الانتقالية في اتخاذ الخطوات الأولية لإعادة ترتيب سياسة مصر إقليمية لكي تليق بثورة حازت إعجاب العالم، عاجلتها الاحتجاجات الليبية التي أطلقت ثورة 17 فبراير. ولذلك وجدت هذه القيادة نفسها في وضع بالغ الصعوبة بسبب ما يسميه بعض المسؤولين عن الملف الليبي في الخارجية المصرية اعتبارات بالغة الدقة تحكم موقف القاهرة تجاه هذا الملف الآن.
فلم يكن في إمكان مصر الثورة أن تتخذ الموقف الذي قد يبدو طبيعيا تجاه ثورة على حدودها الغربية، وهو تأييدها لفظيا على الأقل بما يعنيه ذلك من حسم موقفها تجاه الصراع الذي يخوضه الثوار الليبيون الذين فُرض عليهم القتال بعد أن استحال استمرار ثورتهم سلمية. فقد اضطرت مصر إلى اتخاذ موقف أقرب إلى الحياد السلبي، واختارت عدم التورط في هذا الصراع ليس فقط بسبب انشغالها بأوضاعها الداخلية في مرحلة انتقال صعبة، ولكن أيضا بسبب التعقيدات الخاصة بعلاقاتها مع ليبيا على مدى فترة طويلة من الزمن.
فلم يكن الانشغال بالداخل، وهو أمر منطقي ومفهوم في مرحلة انتقال بعيد ثورة كبرى، مانعا من شروع مصر في استعادة دورها الذي غاب طويلا تجاه قضية فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي، واهتمامها بتصحيح علاقاتها الإقليمية. فقد بدأت روح جديدة تدب في سياسة مصر الخارجية، وقد لا يتيسر فهم لماذا لم تمتد هذه الروح إلى موقفها تجاه ليبيا بدون العودة إلى المشاكل البنائية أو الهيكلية في العلاقات بين القاهرة وطرابلس منذ الفاتح من سبتمبر/أيلول 1969.
المشاكل البنائية في العلاقات المصرية-الليبية
السياسة المصرية.. والتغيير في ليبيا
المستقبل: انتخابات مصر ومصير القذافي
المشاكل البنائية في العلاقات المصرية – الليبية
كانت العلاقات المصرية مع ليبيا الملكية فاترة ولكنها لم تكن متوترة بسبب حرص طرابلس على عدم الانغماس في التفاعلات الإقليمية في مرحلة "الحرب الباردة العربية" بين النظم الثورية أو الراديكالية وتلك المحافظة أو الرجعية. التزمت ليبيا الملكية سياسة هادئة في خضم الصراع الذي تصاعد بين "معسكرين" عربيين منذ أواخر خمسينات القرن الماضي وحتى حرب 1967.
لم يكن غياب السادات كافيا لحل معضلة التنافر الشخصي التي يعود قسم كبير منها إلى سلوك القذافي الذي يتسم بالمزاجية والتقلب على نحو يصعب توقعه. ولكن شخصية مبارك الباردة ساهمت من جانب في إنهاء الصدام الذي ساد العلاقات خلال النصف الثاني من السبعينات |
ولأن النظام الليبي الجديد حينئذ كان محسوبا على مصر، فقد كان عليها أن تسعى إلى وضع حد لجموحه وتحاول ترشيد اندفاعاته "الوحدوية" التي لم تحفل بدروس تجارب محبطة كانت عبئا على القاهرة والعرب عموماً في محصلتها النهائية.
وكانت هذه بداية مشاكل أخذت تطفو على السطح وتزداد حدة بعد رحيل عبد الناصر الذي كان ولع العقيد معمر القذافي به حائلا دون ظهورها بوضوح. ويمكن تحديد جوهر المعضلة في العلاقات بين الطرفين، بشيء من التبسيط، في التزامن الذي حدث بين توسع الفجوة بينهما وتدفق العمالة المصرية على ليبيا التي تنامت مواردها النفطية في الوقت الذي ازدادت حاجة القاهرة إلى المساعدات الاقتصادية.
وكان جانب يُعتد به من تلك الفجوة مرتبطاً بتحول سلبي في سياسة مصر الخارجية قوبل بامتعاض متفاوت من معظم الدول العربية، وليست ليبيا وحدها. ولكن هذا التحول المصري لم يكن سبب الفجوة مع ليبيا، وإن ساهم بالتأكيد في تعميقها. بدأت الفجوة محدودة تحت السطح في العام الأخير للرئيس الراحل عبد الناصر في الحكم وأخذت في الظهور والتوسع فور رحيله. لم يكن السادات مثل عبد الناصر بالنسبة إلى القذافي، الأمر الذي خلق حساسية منذ اللحظة الأولى. وأصبحت الكيمياء الشخصية عامل تنافر بعد أن كانت دافعا للتقارب.
افتقد السادات مكانة عبد الناصر التي كانت كافية لاحتواء اندفاعات القذافي. ولذلك لجأ إلى المناورة مع الزعيم الليبي عبر الاستجابة الشكلية إلى بعض مطالبه، كما حدث عبر توقيع عدد كبير من الاتفاقات وإعلان اتحاد الجمهوريات العربية، وإرجاء بعضها الآخر مثل الوحدة الاندماجية الفورية.
غير أن التنافر آخذ في الازدياد بالرغم من كثافة التفاعلات عبر لقاءات القمة، وخصوصا بعد أن تبنت ليبيا - ومعها العراق – موقفا نقديا تجاه طريقة إدارة حرب 1973 نفسها، ثم سياسة السادات في أعقابها بدءا من اتفاقيتي فض الاشتباك وصولا إلى كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل.
وشهدت الفترة الممتدة من أواخر 1973 وحتى منتصف 1977 تراكما في التفاعلات العدائية، عبر اتهامات متبادلة متصاعدة بالتدخل في الشؤون الداخلية والتآمر والتحريض والمسؤولية عن أعمال تخريب ودعم قوى معارضة، مع حشد القوات على الحدود وصولا إلى الاشتباكات التي حدثت في يوليو/تموز 1977. وبالرغم من سرعة احتواء الأزمة المسلحة بسبب فاعلية التدخل العربي، فقد تركت أثرا عميقا صار أحد أهم محددات علاقات ثنائية محملة بمشاكل تراكمت دون حل إلى أن صارت جزءا لا يتجزأ من بنية هذه العلاقات. ووصل الأمر إلى حد منع المطربة وردة الجزائرية من الغناء في مصر عقاباً على مشاركتها في إحياء حفل في مناسبة الفاتح من سبتمبر/أيلول 1976.
وبالرغم من أن التوتر أخذ يتراجع بعد رحيل السادات، فقد ظلت هذه العلاقات محملة بمشاكل صارت بنائية. لم يكن غياب السادات كافيا لحل معضلة التنافر الشخصي التي يعود قسم كبير منها إلى سلوك القذافي الذي يتسم بالمزاجية والتقلب على نحو يصعب توقعه. ولكن شخصية مبارك الباردة ساهمت من جانب في إنهاء الصدام الذي ساد العلاقات خلال النصف الثاني من السبعينات. كما أدت من جانب آخر استهانته بمكانة مصر ودورها وعدم تقديره تاريخها إلى تغاضيه عن إساءات صدرت عن القذافي في أوائل الثمانينات، فضلا عن السماح له ولبعض أركان نظامه مثل أحمد قذاّف الدم بحرية حركة واسعة في مصر.
فصار في إمكانه أن يشبع في بعض زياراته إليها ميله العارم إلى حب الظهور في صورة الفيلسوف والمثقف والمنظّر الذي يجد حفاوة شديدة في بلد يفترض أنه من أعمدة الثقافة العربية. كما بات في استطاعته الزعم بولاء قبائل مصر في صحرائها الغربية له لمجرد أن هناك روابط دم تربطها بقبائل ليبية، كما هي الحال في غير قليل من المناطق الحدودية في العالم العربي. وكان ازدياد تدفق العمالة المصرية إلى ليبيا دافعا آخر إلى إفراط نظام مبارك في الحرص على إرضاء القذافي، أو على الأقل عدم إغضابه حتى إذا صدر منه ما قد يفرض ردا.
وهكذا اتجهت العلاقات في العقدين الأخيرين إلى حال من الركود، في الوقت الذي اختار نظام مبارك سياسة "السير بجوار الحائط" والتفريط في دور مصر ومكانتها. وساعد في ذلك ميل القذافي إلى مراجعة سياسته الراديكالية ووضع حد لمغامراته الخارجية التي عرضّته إلى عدوان أميركي محدود في منتصف الثمانينات ثم عقوبات دولية صارمة على خلفية قضية لوكيربي. وحدثت هذه المراجعة تدريجيا، إلى أن بلغت حالة أقرب إلى الاستسلام بدأت بإعلان تخليه عن برنامجه النووي فور حدوث العدوان الأميركي على العراق 2003، الأمر الذي قوبل باحتفاء شديد في الغرب.
السياسة المصرية .. والتغيير في ليبيا
عندما اندلعت ثورة 25 يناير المصرية، بعد 11 يوما على نجاح ثورة الياسمين التونسية في إقصاء الرئيس السابق زين العابدين بن علي، كان هذا إيذانا بإسدال الستار على مرحلة طويلة سادها الجمود في العالم العربي. وكان طبيعيا أن يؤدي إسقاط مبارك وأركان نظامه إلى تصحيح فوري لاختلالات نجمت عن إعطائه أولوية مطلقة لإرضاء الولايات المتحدة وإسرائيل.
تحرص مصر على مد الجسور مع قوى الثورة والنظام في آن معا، وصوغ موقفها بشكل "توازني" يقوم على فهم دواعي التغيير المشروعة لدى الشعوب العربية، مع الحرص على عدم إراقة مزيد من الدم، ورفض أي تدخل أجنبي على الأرض، والبحث في إمكان التوصل إلى حل سلمي |
غير أنه إذا كان اضطلاع مصر بمهمات بهذا الحجم صعبا قبل إعادة بناء نظامها السياسي واستعادتها مصادر القوة التي فقدتها، فهو أكثر صعوبة في حالة ليبيا التي تنطوي العلاقات معها على مشاكل بنائية. ولذلك لا تستطيع القيادة الانتقالية المصرية اتخاذ قرار بتأييد الثورة الليبية أو حتى إبداء تعاطف معها يتجاوز مبدأ حق الشعوب العربية في المشاركة في اختيار مستقبلها وضرورة تحقيق الإصلاح، وذلك لسببين رئيسيين:
أولهما، وجود أعداد كبيرة من المصريين العاملين في مختلف مناطق ليبيا، بما فيها تلك التي لا تزال خاضعة لسيطرة نظام القذافي في غرب البلاد. ولا يوجد حصر دقيق لهذه الأعداد، إلى حد أن أحد أهداف زيارة السفير هاني خلاف المبعوث الخاص للحكومة المصرية إلى ليبيا (25-29 مايو/أيار الماضي) كان السعي إلى معرفة ما اسماه (الأعداد التقريبية للباقين منهم في ليبيا).
وقد تأثر موقف تركيا أيضاً في بداية الثورة بوجود عمالة في ليبيا رغم أنها أقل من العمالة المصرية بكثير. وقد رد رئيس حكومتها رجب طيب أردوغان على منتقدي سياسته في داخل البلاد مذكَّرا إياهم بالمصالح التركية وكثرة الذين ينتظرون دورهم في أكبر عملية إجلاء نفذتها أنقرة في تاريخها الحديث.
أما السبب الثاني، فهي عدم وجود يقين كامل بشأن إمكان انتصار الثورة الليبية من عدمه. فثمة اعتقاد لدي فريق من الخبراء العسكريين في صعوبة انتصار الثَّوار الذين لم يتمكنوا من الصمود إلا بفعل ضربات "الناتو" الجوية، بعد أن كانت هزيمتهم وشيكة في منتصف مارس/آذار الماضي حين أشرفت بنغازي على السقوط في أيدي قوات القذافي. فالثوار يفتقدون التسليح والتدريب والتنظيم، فضلاً عن الاحتراف لأن أكثر من ثلاثة أرباعهم مدنيون.
وبالرغم من روح التفاؤل التي توجد في البلاد التي يحدث فيها تغيير ثوري مثل مصر، قد لا يكون في إمكان القيادة الانتقالية في القاهرة المخاطرة باتخاذ موقف قد تصبح كلفته كبيرة إذا لم تنتصر الثورة الليبية أو حتى إذا حدث جمود على الأرض أنتج تقسيما فعليا لفترة ما في حال استمرار الوضع الراهن، وفي غياب استعداد دولي لتدخل أكثر عمقا. وبالرغم من أن هذا التقسيم سيكون مؤقتا وأقرب إلى الحالة الفيتنامية وليس دائما على النسق الكوري، فقد لا تتحمل مصر وفق حسابات قيادتها الراهنة على الأقل قرارات تنطوي على مخاطرة كبيرة قد تصل إلى حد المغامرة.
ولذلك فهي تحرص على مد الجسور مع قوى الثورة والنظام في آن معا، وصوغ موقفها بشكل "توازني" يقوم على فهم دواعي التغيير المشروعة لدى الشعوب العربية، مع الحرص على عدم إراقة مزيد من الدم، ورفض أي تدخل أجنبي على الأرض، والبحث في إمكان التوصل إلى حل سلمي بالرغم من الطريق المسدود الذي اصطدمت به المحاولات التي بُذلت سعيا إلى مثل هذا الحل خلال الشهرين الأخيرين.
ويشمل هذا الموقف رفض التجاوب منذ البداية مع إدعاء النظام الليبي أن الثواّر ليسوا إلا متآمرين، وعدم الاستعداد في الوقت نفسه لاتخاذ موقف عدائي تجاه هذا النظام.
وقد وجهت القيادة الانتقالية في مصر رسالة واضحة إلى النظام الليبي عندما رفض المشير حسين طنطاوي استقبال وفد رسمي برئاسة عبد الرحمن الزوي رئيس هيئة الإمداد والتمويل بالقوات المسلحة وعمران أبو كراع مدير الإدارة العربية في وزارة الخارجية في 9 مارس/آذار الماضي. كما رفضت القيادة الانتقالية طلب النظام الليبي ضبط الحدود بين البلدين وعدم السماح لمعارضيه باستخدامها في الحصول على إمدادات من أي نوع، وأكدت على ضرورة تقديم العون الإنساني لليبيين وخصوصا الإمدادات الغذائية والعلاجية.
ولذلك تعد هذه الحدود هي المنفذ الرئيس أمام لجنة الإغاثة في المجلس الوطني الانتقالي الليبي والمنظمات الإقليمية الدولية التي تعمل في مجال الإغاثة. وبالرغم من عدم الاعتراف بهذا المجلس فقد سُمح له بتعيين ممثل له في ا