أوروبا وصعود الإسلاميين إلى الحكم في الجوار العربي المتوسطي

تقرأ هذه الورقة الإدراك الأوروبي لصعود الإسلاميين في حدها الجنوبي المتوسطي وبخاصة في المغرب وتونس وليبيا ومصر؛ كيف ستتعامل مع هذا الصعود سياسيا وإستراتيجيا؟ وهل ستتمكن من بلورة سياسة جماعية موحدة للتعامل مع هذا التغير الجيوسياسي أم أن الخلافات الدائرة بين دولها الكبرى ستحول دون ذلك؟
2012117123417692734_2.jpg
التراجع النسبي لخطاب "الفزاعة" الإسلامية إعلاميا وسياسيا لم يؤد إلى تراجع الإسلاموفوبيا في أوروبا.

لم تتمكن أوروبا شأنها شأن غيرها من التنبؤ بـ "الربيع العربي"، ومن الواضح أن العلاقات التقليدية البنيوية القائمة بينها وبين الأنظمة التسلطية في المنطقة، وغلبة الاعتبارات الإستراتيجية على الأخلاقية في سياساتها تجاه جوارها المتوسطي، جعلها مترددة بل ومحتارة في أمرها، مراهنة حتى أخر لحظة على صمود نظامي بن علي في تونس ومبارك في مصر أمام الغضب الشعبي الجارف. ولم تتحرك إلا متأخرة لمسايرة المطالب الشعبية ثم لدعم الوضع الجديد المنبثق عن الانتفاضات الديمقراطية. كما أن طريقة التعامل مع المشهد العربي الجديد أكد مجددا تفرق شمل الأوروبيين سياسيا، حيث انتهجت فرنسا وبريطانيا حيال الأزمة الليبية نفس النهج الذي غالبا ما تسلكه الولايات المتحدة داخل المجموعة الغربية، مما أثار استياء البعض الذي رأى في ذلك استئثارا بالقرار الأوروبي. وسنحاول في هذه المساهمة التركيز على الإدراك الغربي للمشهد العربي المتحرك؛ التعامل الأوروبي معه؛ انعكاسات هذا المشهد على العلاقات البينية الأوروبية وإستراتيجية التعامل الأوروبي وحدودها، مع الأخذ بعين الاعتبار بتعدد الرؤى والمواقف داخل الاتحاد.

بين النموذج التركي والنموذج الإيراني... وغياب نموذج عربي؟

يمكن تصنيف تحليلات الأوروبيين عقب فوز الإسلاميين في الانتخابات في تونس والمغرب ومصر حسب مرجعياتهم النموذجية. ففريق ينطلق من النموذج التركي كمرجعية تحليلية-سياسية ليقول بأن وصول الإسلاميين للحكم عبر انتخابات ديمقراطية ليس بالأمر المخيف، بل سيكون بداية لمخاض ديمقراطي في هذه البلدان، سيقود في نهاية المطاف إلى تطبيع وضعية الأحزاب الإسلامية في المشهد السياسي العربي، وبالتالي يتحدث أنصار هذا الفريق عن قطيعة مع خطاب التهديد الإسلامي المعتاد ومع توظيف "الفزاعة" الإسلامية، رغم ما أثاره الحديث عن تطبيق الشريعة الإسلامية في ليبيا من نقاش في أوروبا.

فيما يقول فريق ثان بالنموذج الإيراني كمرجعية تحليلية-سياسية ليؤكد على أن الشريعة ستكون قاعدة هذه الأحزاب في الحكم وأنها ستنقلب على الديمقراطية وتحل أنظمة دينية تسلطية محل الأنظمة الوطنية التسلطية البائدة. حيث يشدد هذا الفريق على التهديد الإسلامي (نسبة للإسلاميين) للقيم الديمقراطية والغربية والعلمانية. ولا يتردد بعض أنصاره في القول بأن بن على ومبارك أهون من الإسلاميين. يوظف هذا الفريق في تحليلاته موقف المجلس الانتقالي الليبي بشأن العمل بالشريعة وبتعدد الزوجات في ليبيا كحجة دامغة.

والمثير للانتباه هنا أن لا حديث عن نموذج عربي يخرج من رحم هذه الانتفاضات الديمقراطية العربية ومن مخاضها الانتقالي، وكأن النظر إلى المستقبل لا بد وأن يكون بعيون الماضي. وهذا بحد ذاته دلالة على حالة الارتياب واللايقين التي تسببت فيها هذه الانتفاضات العربية إلى درجة أنه أصبح من الصعب التعامل معها، وكأن القطيعة السياسية التي أحدثها المنتفضون العرب لم يوازها "قطيعة معرفية" غربية في التعامل مع الظاهرة السياسية والاجتماعية العربية. ذلك أن التراجع النسبي لخطاب "الفزاعة" الإسلامية إعلاميا وسياسيا لم يؤد إلى تراجع الإسلاموفوبيا في أوروبا.

هموم الاتحاد الأوروبي

لفهم مواقف أوروبا (اتحادا ودولا أعضاء) من صعود الإسلاميين إلى الحكم على الضفة المتوسطية الجنوبية وتحول "الربيع العربي" إلى ما يسميه بعض الغربيين بـ "الربيع الإسلامي" (نسبة إلى الإسلاميين)، بجب تحليل المسائل التي تستقطب اهتمام ومخاوف الأوروبيين بالعلاقة بالإسلاميين.

أولا الوضع الاجتماعي-السياسي في أوروبا، إذ تعيش العديد من دول الاتحاد نقاشا حادا ليس فقط حول الإسلاميين وإنما حول الإسلام عموما، حيث أصبح ولوج هذا الأخير للفضاء العمومي في المجتمعات الأوروبية يطرح تساؤلات هوياتية وسياسية خاصة وأن الحامل الاجتماعي (نعني الجالية المسلمة)-وليس بالضرورة الديني- خرج من رحم أوروبا نفسها، ويتكلم لغتها، وتشبع بقيمها، لكن له رافد هوياتي وقيمي آخر مؤسس على الإسلام. ويبدو أن هناك تخوفا أوروبيا، غير مصرح به، من أن يقود فوز الإسلاميين في انتخابات ديمقراطية إلى تدعيم التوجهات الإسلامية في أوساط الجالية المسلمة، خاصة وأن الأوروبيين قد يفقدون حجتهم الدامغة القائلة بأن الإسلاميين أعداء للديمقراطية -والحقيقية أن الإسلاميين يساعدونهم في ذلك وسهلوا لهم المهمة – فالديمقراطية كانت دائما "عقب أخيل" (**) بالنسبة للعرب عموما. وبالتالي فالخوف الأول يكون من تشدد التوجهات الإسلامية في المجتمعات الأوروبية بفعل الانتفاضات الديمقراطية العربية وفوز الإسلاميين في الانتخابات في الجوار العربي المتوسطي.

ثانيا الخوف من الهجرة التي هي الهاجس الاجتماعي-الأمني بامتياز داخل الاتحاد الأوروبي، وقد تعززت مقاربة العالم العربي من منظور محاربة الهجرة منذ اندلاع الانتفاضات الديمقراطية العربية حيث تشدد كل وثائق المفوضية الأوروبية الخاصة بهذه الانتفاضات على الهجرة والأمن مواصلة الربط بينهما كما في السابق وكأن شيئا لم يتغير على جناحها الجنوبي.

بيد أن الربط بين الهجرة والانتفاضات الديمقراطية العربية يأخذ بعدا آخر عند أخذ العامل الإسلامي في الحسبان. ذلك أن أوروبا تتخوف من أن يتسبب فوز الإسلاميين في الانتخابات إلى دفع فئات من شعوب المنطقة إلى الهجرة نحو أوروبا ومن وصول جحافل كبيرة من المهاجرين في حال تشدد الإسلاميين في الحكم وانقلابهم على الديمقراطية. وربما هذا ما يفسر المهادنة وضبط النفس الني نلاحظها اليوم في الأوساط الأوروبية الرسمية، سواء على مستوى الاتحاد أو الدول الأعضاء، حتى لا تثار حفيظة الإسلاميين مما قد يدفعهم نحو التشدد. ومن هنا يهدف تريث وحذر الأوروبيين أساسا إلى عدم تأجيج الأمور حتى لا تجهض عملية التحول الديمقراطي برمتها في المنطقة مع المراهنة على تطبيع الأحزاب الإسلامية في اللعبة السياسية الرسمية والشرعية في بلدان المنطقة.

كما أن أوروبا تبدو واعية بأن أي استهداف أو استعداء للإسلاميين، الذين وصلوا إلى السلطة ديمقراطيا، سيزيد من تشدد بعضهم ومن الضغط على التيارات الليبرالية والعلمانية في هذه البلدان. ويفسر هذه العوامل تراجع "الفزاعة" الإسلامية رغم وصول الإسلاميين إلى السلطة، وهي قطيعة مع المعاملة الأوروبية لنفس الظاهرة في تسعينيات القرن الماضي. ويشير هذا إلى تولد قناعة لدى الأطراف الأوروبية بأن الإسلاميين قوة سياسية في البلدان العربية لم يعد من الممكن تجاهلها، وأن المطلوب اليوم هو دفع الأمور باتجاه تطبيع هذه التيارات في اللعبة السياسية في بلدانها وقبولها الممارسة الديمقراطية والتناوب على السلطة. ثم إن الشعوب العربية التي تحررت من الخوف وانتفضت ضد التسلطية "الوطنية العلمانية" ستنتفض أيضا إن اقتضى الأمر ضد "التسلطية الدينية" الإسلامية. بمعنى أن عامل التغيير الشعبي من الداخل أصبح حقيقية ويشكل بحد ذاته إنذرا لكل من تسول له نفسه الجثوم على صدور الشعوب كما فعل أسلافه من التسلطيين.

ثالثا العامل الإقليمي، حيث أن التخوف الأوروبي من القوى الإسلامية في الحكم تحدده أيضا اعتبارات إقليمية، مما يجعل الأمر يختلف من بلد لآخر. فمثلا وصول الإسلاميين إلى الحكم في تونس ليس له دلالات أو تداعيات إقليمية محتملة، بينما وصولهم إلى الحكم في مصر له تداعيات إقليمية من المنظور الغربي عموما نظرا للعلاقة مع إسرائيل. وربما يتذكر الجميع أنه لمَّا أوشك مبارك على السقوط تراجعت الاهتمامات الغربية عن ضرورة ضمان سلامة وأمن المدنيين في ميدان التحرير وغيره، وانكبت انشغالاتها على ضرورة احترام مصر لـ "الالتزامات الدولية" ويقصد بذلك أساسا إن لم نقل حصرا العلاقة مع إسرائيل (اتفاقية السلام) فكان أن سارع المجلس العسكري بعد أيام معدودة إلى التأكيد على تمسك مصر -ما بعد مبارك- بالتزاماتها الدولية، الأمر الذي طمأن القوى الغربية التي عادت بعدها إلى الحديث عن حماية المدنيين وضمان حق التظاهر. ومن هنا، فالعلاقة مع إسرائيل هي العامل المستقل، ببنما الجوانب السياسية والقيمية محليا هي العامل التابع، بمعنى أنه لو اتخذت حكومة إسلامية في مصر موقفا سلبيا حيال قيم ديمقراطية ولكنها أبقت على العلاقة مع إسرائيل كما هي فإنها لن تُنتقد بنفس الحدة. ويكفي أن نقارن التعامل الأوروبي (سياسيا وإعلاميا) مع نتائج الانتخابات في كل من تونس ومصر... وهذا ما يقودنا إلى التوتر الدائم بين المقاييس الإستراتيجية والقيم الأخلاقية.

التوتر بين الاعتبارات الإستراتيجية والأخلاقية

إذا كانت عمليات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتداعياتها زادت من حدة التوتر بين الاعتبارات الإستراتيجية والاعتبارات الأخلاقية بتفضيل الأولى وتضخيمها على حساب الثانية، فإن الربيع العربي زاد هو الآخر من حدة التوتر بينها ليس بتضخيم الثانية على حساب الأولى، وإنما بفرض مراجعة للسياسات الأوروبية حيال جوارها الجنوبي، كاشفا القناع عن القناعات الأوروبية الحقيقية من الاستحقاق الديمقراطي في البلدان العربية التي عرفت انتفاضات شعبية. فأوروبا أمام خيارين أحلاهما مر: إما مواصلة سياستها التقليدية القائمة على تغليب الاعتبارات الإستراتيجية على الأخلاقية ورفض نتائج الانتخابات الديمقراطية إن كانت في صالح قوى لا ترغب فيها أوروبا وعدم الاعتراف بها -كما هو موقفها من حماس الفلسطينية– وإما أن تعترف بهذه النتائج وبالأمر الواقع وبالتالي تقبل بالتعامل والتعاون مع هذه القوى الجديدة التي تصل إلى الحكم ديمقراطيا وبعد انتفاضة شعبية.

وتكمن المشكلة في الموقف الأوروبي في وجود تناقض بنيوي: الرغبة في إقامة أنظمة ديمقراطية في العالم العربي على النمط الأوروبي لا يشكل فيها الدين معضلة سياسية من جهة، ومن جهة ثانية استمرار اعتبار العالم العربي-الإسلامي كالآخر في الإدراك والخيال الجمعي الأوروبي، الأقرب جغرافيا، الأبعد حضاريا وإستراتيجيا. بمعنى أن أوروبا تريد أن يقترب منها العالم العربي من خلال القيم الإنسانية الكونية، لكنها تريد أن تبقي على مسافة ملائمة بينها وبينه حفاظا على هويتها. فهي تعيب عليه "تدينه" لكنها تنظر إليه بمنظار ديني.

خلافات أوروبية بينية

فاقم "الربيع العربي" الخلافات الأوروبية البينية على ثلاثة أصعدة:

أولها صعوبة التوصل إلى سياسة خارجية أوروبية مشتركة، حيث انتقدت أطراف أوروبية استحواذ فرنسا وبريطانيا على القرار السياسي الخارجي الأوروبي بتدخلهما في ليبيا وبالتالي إجهاضهما محاولات اتخاذ موقف سياسي أوروبي. وترى تلك الأطراف أن الأزمة الليبية تحديدا أظهرت مدى الهوة بين المصالح والمواقف السياسية لدول الاتحاد التي لم تنجح في نقل التوافق على الأرضية الاقتصادية إلى الأرضية السياسية، كما أظهرت كيف أن تحركات بعض الدول تندرج ضمن تصورات وطنية لا أوروبية.

ثانيها زيادة حدة التنافر بين الاتجاهين التقليديين الثقيلين داخل الاتحاد الأوروبي، الشرقي والجنوب. تتزعم ألمانيا ودول أوروبا الشرقية المنضمة حديثا للاتحاد الاتجاه الشرقي الساعي لتوجيه ثقل اهتمامات الاتحاد شرقا، فيما تتزعم فرنسا، إيطاليا، إسبانيا والبرتغال الاتجاه الجنوبي الساعي لدفع الاهتمامات الأوروبية نحو الجنوب (المتوسطي). وقد بلغ التنافر أوجه في ربيع 2011 حينما اقترحت دول أوروبية جنوبية (فرنسا، إسبانيا، اليونان، مالطا...) تحويل الدعم المالي من بلدان الشرق إلى بلدان جنوب المتوسط معتبرة أنه ليس من المبرر أن تستقبل مصر أقل من 2 يورو لكل نسمة من ميزانية الاتحاد الأوروبي المخصصة لدعم دول الجوار، وتونس 7 يورو بينما تحصل مولدافيا على 25 يورو. فأثار ذلك حفيظة دول الاتحاد الشرقية، حيث اعتبرت المجر أن دعم دول جنوب المتوسط لن يكون على حساب مساعدة دول الجوار الشرقي (مولدافيا، جورجيا، بيلاروسيا...). ولم تتبن المفوضية الأوروبية مطلب الجنوبيين، بل جددت التزامها حيال جوارها الشرقي. وبما أن موازين القوى المالية حاليا في صالح الجزء الشرقي والشمالي من الاتحاد، فإن أطرافه الجنوبية لن تنجح في مسعاها، بل إن بعضها مهدد بالإفلاس، وبحاجة لدعم مالي من الاتحاد... ثم إن التفضيلات الإستراتيجية الأوروبية بنيوية، وهي قائمة على آفاق الانضمام للاتحاد، وبالتالي يبقى الدعم للبلدان غير المرشحة إطلاقا للانضمام إليه هامشيا.

وقد يُستخدم عامل التيارات الإسلامية مطية لكل طرف خدمة لوجهة نظره. فالأطراف الرافضة لزيادة الدعم المالي ستقول أنه من غير المنطقي أن تذهب أموال أوروبية لقوى سياسية معادية للقيم الأوروبية، أما الأطراف المطالبة بزيادة الدعم المالي فستقول أن هذا الدعم سيُخفض من حدة راديكالية هذه التيارات، وسيُبقي قنوات الاتصال مفتوحة، بل ستبقي قنوات التأثير الأوروبي -على مآل الأمور- مفتوحة هي الأخرى، كما أن ترك الأمور الاقتصادية تتدهور سيزيد من مخاطر تدفقات الهجرة الواسعة نحو التراب الأوروبي.

ومن هنا يأتي ثالثها، أي الهجرة، حيث تتحمل دول أوروبا الجنوبية تبعات وصول جحافل من اللاجئين والمهاجرين بفعل "الربيع العربي" وتطالب بضرورة تعاضد الجهود وتقاسم دول الاتحاد هذا العبء البشري-الاقتصادي، مركزة أيضا على تداعياته على التوازن الاجتماعي والهوياتي داخل الاتحاد. أما الأطراف الأوروبية الشرقية فتقول أنها معنية أيضا بمسألة الهجرة، وأنها تتحمل جزءًا منها (القادمة من الشرق) وتشكك في نفس الوقت في أرقام المهاجرين التي تقدمها الدول الأوروبية الجنوبية.

ورابعها كيفية وصول الإسلاميين إلى الحكم، حيث من المرجح أن تكون الحالة الليبية محل خلاف أوروبي إضافي إن تحول الصراع بين حلفاء الأمس في ليبيا إلى صراع مسلح، أو إذا وصل الإسلاميون الليبيون بدورهم إلى الحكم عبر انتخابات ديمقراطية. ويكون كل هذا مثار خلاف أوروبي بيني لسببين: أولا لأن التدخل العسكري الأوروبي في ليبيا لم يحظ بالإجماع داخل الاتحاد، فألمانيا، العملاق الاقتصادي الأوروبي عارضته، ويقول أوروبيون إن فرنسا وبريطانيا لم تتحركا لحساب أوروبا، مما أثر سلبا على وجود سياسة أوروبية موحدة إزاء الحالة الليبية. وثانيهما أنه بتدخلها هذا شاركت دول أوروبية في وصول الإسلاميين الليبيين إلى مراكز القرار السياسي والعسكري في الدولة، وربما سيصلون إلى الحكم. ومن هنا، وعكس وصول الإسلاميين إلى الحكم في تونس ومصر عبر عملية محلية المنشأ والأداء، فإن ذلك سيكون في ليبيا في كل الأحوال نتاجا لعمل غربي الأداء. والحالة الليبية قد تذكر بعض الأوروبيين بالحالة الإيرانية حينما ساعدت بعض الدول الأوروبية بشكل أو بآخر الخميني ولما نجحت الثورة واستولى على الحكم انقلبت التحالفات.

"المزيد من أجل المزيد"... مقاربة جديدة قديمة

يقول المسؤولون الأوروبيون إن المساعدات الأوروبية للدول العربية المتوسطية سيحكمها مبدأ "المزيد من أجل المزيد"، أي المزيد من الإصلاحات الديمقراطية من أجل المزيد من المساعدات والمزايا الاقتصادية (بما فيها النفاذ للسوق الأوروبية)، وهذه مقاربة قديمة في واقع الحال، ولم تأت أكلها لغلبة الاعتبارات الإستراتيجية على الاعتبارات الأخلاقية، ولعدم جدية الدول الأوروبية واختلاف رؤاها، وربما تناقض مصالحها، ولقوة المساومة التي تمتلكها الأنظمة التسلطية العربية (محاربة الهجرة، الإمداد بالطاقة ومحاربة الإرهاب). ومن هنا فإن هذه المقاربة الجديدة-القديمة لن تغير شيئا في حال بقاء القدرة التفاوضية للأنظمة العربية على حالها، وفي ظل استمرار الانكشاف الطاقوي لأوروبا واعتماد اقتصاديات جل دول المنطقة العربية على تصدير المواد الأولية. فيكفي مثلا أن يخفف بلد مغاربي من مراقبته على حركة الهجرة السرية حتى تتراجع أوروبا. ثم إن النفاذ للسوق الأوروبية لا معنى له بالنسبة لاقتصاديات ريعية أو ضعيفة القدرة التنافسية.

فضلا عن ذلك، فإن الوضع الراهن غير مناسب لمثل هذه المقاربة. فبحكم الخبرة التاريخية فإن الأوروبيين أدرى من جيرانهم الجنوبيين بأن الديمقراطية سيرورة اجتماعية سياسية معقدة، وأن مخاض الانتقال الديمقراطي عملية عسيرة، خاصة في ظروف اقتصادية صعبة، وهي منشغلة بالتطور السلمي والهادئ على جناحها الجنوبي حتى لا تُجهض التجربة الديمقراطية. ومن هنا، فمن المحتمل ألا تكون متشددة في شروطها على الدول "الانتقالية" العربية في الراهن ريثما تستقر الأوضاع وتصبح المرحلة الانتقالية لا رجعة فيها. ثم إن الديمقراطيات الأوروبية تعيش ظروفا صعبة في زمن البقرات العجاف وصعود اليمين المتطرف ومشاركته في السلطة عبر حكومات ائتلافية (التشدد التسلطي المجري أصبح تحديا للاتحاد الأوروبي)، وكل هذا يضعف من لهجة الوعيد الأوروبي ومن خطابه القيمي، بل إن بعض الطبقات الشعبية الأوروبية تبدو وكأنها تستلهم من المنتفضين العرب لتحتل هي الأخرى الساحات العمومية الكبرى واضعة شرعية الحكومات على المحك كما هو الشأن في إسبانيا.

وختاما، يمكن القول أنه مع أزمة مالية واقتصادية خانقة، ومع إفلاس دول في منطقة اليورو، فإن أوروبا التي طالما فضلت الأمن والاستقرار على الديمقراطية ليس بوسعها فعل شيء آخر إلا القبول بالأمر الواقع. فلا هي حاليا في موقع قوة -فضلا عن انكشافها الطاقوي- ولا هي قادرة على الاستمرار في إدارة الظهر لنتائج انتخابات ديمقراطية تأتي بقوى سياسية غير مرغوب فيها. فبعد أن وقفت لعقود من الزمن إلى جانب الأنظمة التسلطية، فهي اليوم بحاجة إلى تدارك أخطاء الماضي والتوقيت مناسب. بيد أن ضعفها ظرفي، كما أن الأطراف المقابلة بحاجة لأوروبا خاصة تونس ومصر لارتباطهما بالاقتصاد الأوروبي ولحاجتهما للدعم الأوروبي في المرحلة الانتقالية العسيرة. أما المغرب، فلم يشهد تغييرا مماثلا لكنه بحاجة هو الآخر لأوربا. فيما تبقى ليبيا حالة استثنائية بسبب استخدام القوة العسكرية. هذا فضلا عن العامل الإقليمي في الحالة المصرية.

كل هذا يجعل المقاربة الإستراتيجية الأوروبية حيال الإسلاميين في الحكم تُحدد بصيغة الجمع على أساس التمييز بين مختلف السياقات الوطنية وامتداداتها الإقليمية. ورغم أن "جميل" الأوروبيين على الإسلاميين الليبيين يعتبر "عقب أخيل" ليبيا في علاقتها مع أووربا، إلا أن تحييده سهل لغناء ليبيا بالنفط وحاجة أوروبا إليه.

لكن بغض النظر عن هذه الاعتبارات المحلية والإقليمية المختلفة أحيانا، والمتقاطعة أحيانا أخرى، فإن العامل الجديد في علاقة أوروبا بجيرانها الجنوبيين يكمن في الإرادة الشعبية التي أصبح لها الكلمة الفصل مما سيعقد هذه العلاقة لأنه على الحكومات العربية الجديدة والأوروبية على حد السواء مراعاة هذا العامل المهم.
______________________________
عبد النور بن عنتر-أكاديمي وباحث جزائري مقيم في فرنسا.

هامش
(**) "عقب أخيل".. مثل يطلق على من يؤتى من نقطة ضعفه الوحيدة فتكون سببا في هزيمته وهلاكه.(المحرر)

نبذة عن الكاتب