المنطقة العازلة على الحدود السورية التركية التي قد تصل حلب لا تزال خيارا تركيا (الجزيرة) |
يستند التحرك التركي إزاء الملف السوري إلى تقييم مفاده أن النظام السوري الذي يرأسه بشار الأسد فقد شرعيته، وأن شخص الرئيس الأسد لا يمكن الوثوق به أو بكلامه أو وعوده بأي شكل من الأشكال.
ورغم دعمها لمبادرة مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية كوفي عنان التي لا تنص على رحيل الأسد، إلا أن هناك شبه يقين في أنقرة في أن طبيعة الأمور لا تسمح ببقاء "نظام الأسد" تحت أي ظرف من الظروف، بدليل استمرار الحالة الشعبية الداخلية ضده رغم "عمليات القتل الواسعة" التي ينفذها نظامه. وعليه، فالقيادة التركية لا ترى إمكانية لبقاء النظام السوري أو عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الثورة السورية.
فبالنسبة لتركيا، المسألة مسألة وقت قبل أن ينتهي هذا النظام، وكلما قصر هذا الوقت كان أفضل للدولة السورية والشعب السوري وللاستقرار الإقليمي. لكن المشكلة أن تعقيدات إقليمية ودولية باتت تحول دون تحقيق ذلك من جهة، ودون إمكانية التدخل بخطوة حاسمة على الأرض لحماية الشعب السوري من جهة أخرى، بعد أن تحوّل الموضوع السوري إلى رسم خطوط تكتلات ومحاور إقليمية ودولية.
العوامل المقيدة للموقف التركي إزاء سوريا
تقارب تركيا الملف السوري برمّته من خلال سلسلة من العناصر التي تعتبرها مسلَّمات أساسية، ومنها:
-
الوضع السوري مسؤولية مشتركة يتحمّلها الجميع، وهي تحتاج إلى عمل جماعي على مستوى إقليمي ودولي، ولا يمكن لأنقرة حمل الملف السوري على عاتقها وحدها خاصة بعد الاصطفاف الذي تحقق إزاءه إقليميًا ودوليًا.
-
التنسيق مع المبادرات العربية وجامعة الدول العربية يعتبر ضرورة تركية، يليها العمل مع القوى الإقليمية والدولية للوصول إلى نتيجة في الملف السوري لاسيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكن دون الانخراط في سياسة محاور أو تحالفات واضحة من شأنها أن تُظهر تركيا على أنها أداة غربية أو على أنها تتحرك بدافع مذهبي سنّي.
-
رفض التدخل العسكري الأجنبي من حيث المبدأ في سوريا والإقليم، مع وجود تيار في الحكومة والخارجية يرفض أيضا حتى اللحظة أي خيار تركي ينطوي على أعمال عسكرية مباشرة أوغير مباشرة (كتسليح الجيش الحر)، قد تؤدي إلى حرب مع النظام السوري أو إلى حرب إقليمية تزيد الأمور تعقيدًا في الداخل.
-
إذا كان هناك من ضرورة حتمية قصوى لأي خيار قد ينطوي في مرحلة من المراحل على خيار عسكري بشكل مباشر أو غير مباشر تشارك تركيا فيه؛ فيجب أن يكون ذلك بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن أي بإجماع المجتمع الدولي على اعتبار أن تركيا لا يمكنها في هذه الحالة أن تخالف قرارات الشرعية الدولية، أو بغطاء موازٍ آخر يلبي المتطلبات التركية.
وفي السياق العام، فقد قيّدت وتقيّد هذه العناصر الموقف التركي ولا تسمح له بحرية الحركة والتفاعل بالشكل المطلوب أو المأمول مع تطور الأحداث على أرض الواقع في سوريا، وهو الأمر الذي خلق فجوة: من جهة أولى بين السقف الذي عبّرت عنه مواقف القادة والمسؤولين الأتراك -ولاسيما رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان- إضافة إلى ما تريد تركيا أو ما يمكن لها فعله، وبين ما لا تريد أن تدفع ثمنه أو تتحمل عبئه وحدها في الملف السوري من جهة أخرى.
وقد فرملت هذه المعادلة الدقيقة من تقدّم الموقف التركي عمليًا، وخلقت حالة من التردد والارتباك لدى صانع القرار التركي حول الكيفية التي يجب من خلالها إدارة الموضوع السوري مع مراعاة المحاذير أعلاه سيما في ظل المعطيات الإقليمية والدولية التي وجد اللاعب التركي نفسه من خلالها وسط استقطابات قوية أدت إلى تشكيل ثلاثة محاور على خلفية الوضع في سوريا، وهي:
أ- المحور الغربي
ويضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو "عمليًا" -حتى لحظة كتابة الورقة- لا يريد أن يقدم سوى الدعم الكلامي للشعب السوري مصحوبًا بحد أدنى من الدعم السياسي والمالي مع رفض أي خيار عسكري تقوده واشنطن أو حلف شمال الأطلسي أو أي خيار قد يرتبط بالخيار العسكري بشكل مباشر أو غير مباشر كتسليح الجيش الحر. وقد أثبت هذا المحور أنه لا يريد أو غير مستعد لأن يواكب سقف أقواله بأفعال في "حماية الثورة السورية" والقيام بالواجب الذي من المفترض على المجتمع الدولي أن يقوم به، بما من شأنه أن يغيّر المعادلة أو حتى يحد من الدعم المقدم للنظام السوري من قبل اللاعبين الآخرين.
ب- المحور الشرقي
وهو يضم روسيا وإيران، وفي الظل إلى حدٍّ ما الصين. ولا يكتفي هذا المحور عمليًا بتأمين الغطاء للنظام السوري في مجلس الأمن للاستمرار في إستراتيجيته الأمنية والعسكرية في مواجهة الثورة السورية فقط، وإنما يمتد ليشمل تقديم الدعم الاقتصادي بالمال، والعسكري بالسلاح والعتاد وحتى الرجال من المستشارين والخبراء أو بعض الوحدات الخاصة. وقد أثبت هذا المحور أنه مستعد حتى الآن لأن يواكب مواقفه الداعمة للنظام السوري بأفعال على أرض الواقع.
ج- المحور العربي-الخليجي
وسقفه الآن المبادرة العربية على الرغم من أن هناك بعض الدول داخله لا تزال تنحاز بشكل واضح إلى دعم النظام السوري في مقابل تيار تقوده السعودية وقطر يطالب بسقف أعلى من كل المواقف الإقليمية والدولية حيال سوريا، والانفتاح على خيارات تساعد الشعب السوري في الدفاع عن نفسه ومنها تسليح الجيش الحر.
وقد عقّدت هذه المحاور من طبيعة الدور التركي الذي يحتفط بحساباته الخاصة؛ فتركيا لا توافق على ما يقوم به المحور الإيراني-الروسي من جهة، ولا يوجد ما يكفي من محفّزات وضمانات كافية للذهاب مع المحور السعودي-القطري منفردة من جهة أخرى. كما لا تريد أن تتخذ أية خطوة ميدانية تصعيدية في سوريا من دون قرار في مجلس الأمن لأن ذلك سيضعها في صراع بمواجهة لاعبين إقليميين ودوليين، ناهيك عن أنّه ليس هناك حتى الآن من غطاء أميركي أو من الناتو.
لذلك، فقد تحولت مواقف جميع الأطراف المصنّفة ضمن دائرة أصدقاء سوريا إلى نوع من سياسة "لننتظر ونرى"، بانتظار أن تدفع الأحداث نفسها بنفسها إلى أن تتغير المعادلة بما يسمح لتركيا بالتدخل مع الآخرين بخطوات حاسمة أو العكس، فتحصل تسوية يسعى بعض الأطراف الدوليين والإقليميين إلى عقدها.
سلّم الخيارات التركية إزاء المشهد السوري
في السياسة الخارجية التركية هناك دومًا ما يشبه السلّم الافتراضي في التعامل مع الأوضاع المستجدة المعقّدة خاصة منذ انطلاق الثورات العربية. ويتضمن هذا السلّم الخيارات النظرية المطلقة للتعامل مع الحالة، ويتم بعدها اعتماد العناصر الأكثر واقعية منها لتشكِّل الأولوية في أجندة السياسة الخارجية التركية والتي يتم من خلالها العمل على معالجة هذه الحالة ولتبدأ الخطوات بعدها بالتدرج على هذا السلّم بشكل بطيء لكن بثبات.
أما الخيارات النظرية المطلقة إزاء الوضع السوري في السياسة التركية منذ انطلاق الثورة السورية قبل أكثر من عام، فيمكن تقسيمها إلى 6 خيارات موزعة على مرحلتين:
أ- المرحلة الأولى، وتتضمن
-
الدعوة إلى الإصلاح مع بقاء الرئيس بشار الأسد
-
الضغط السياسي والدبلوماسي والاقتصادي.
-
تبني المبادرة العربية.
ب- المرحلة الثانية وتتضمن:
-
تبني مبادرة كوفي عنان (مطورة من المبادرة العربية).
-
الدبلوماسية القهرية.
-
الخيارات الأخرى، وتتضمن سيناريوهات تؤدي إلى تدخل قد يتحول في مرحلة من المراحل إلى عسكري، وتتدرج من إقامة ممرات آمنة إلى منطقة عازلة إلى تدخل عسكري محدود إلى دعم جوي إلى حملة شاملة. أو قد تشمل مسارًا آخر يتضمن تسليح الجيش السوري الحر، وقد يؤدي المهمة منفردًا أو قد يتحول إلى سيناريو ليبي.
وكما نستطيع أن نلاحظ، فإن تركيا فشلت عبر الخيارات الثلاثة الأولى في الدفع باتجاه تحول حقيقي في موقف النظام السوري أو حتى في جعل تركيا لاعبًا مؤثرًا داخل الساحة السورية، وذلك لأن هذه الخيارات لا تنطوي على إجراءات عملية قاهرة أو على تدخل من شأنه أن يردع النظام السوري ويُحدث تحولاً، خاصة في الوقت الذي لا يزال النظام السوري يتلقى فيه الدعم من المحور الشرقي الذي غيّر معادلة توازن القوى في المنطقة لصالح النظام السوري ولو مؤقتًا، في ظل عدم تدخل اللاعبين الإقليميين والدوليين بنفس القوة في الملف السوري.
وتقوم السياسة التركية الآن على محاولة تحقيق خرق في المعادلة السورية من خلال الجهود الدبلوماسية التي تتضمن ثلاثة مستويات، أولها: رفع قدرة المعارضة السورية على التحرك بشكل أكثر فعالية وتأثيرًا، وثانيها: تأمين المساعدات الإنسانية اللازمة للشعب السوري المنكوب، وثالثها: تأمين الدعم الدولي لهذين الهدفين.
على أن يصب كل الجهد في أولوية واحدة وهي وقف القتل في سوريا، إن لم يكن من خلال الحشد الذي تم في مؤتمر (أصدقاء سوريا-2) في إسطنبول والآليات التي نتجت عنه، فمن خلال المحاولة على خط إيران-روسيا، سيما أنّ هناك من يعتقد داخل تركيا أنه بإمكان طهران المساعدة على الوصول إلى حل في سوريا، وهو ما يعتبره كثيرون سذاجة سياسية خاصة أن تركيا لا تملك ما تضغط عليهم به ولا تملك في المقابل ما تستطيع أن تغريهم به، ناهيك عن ألا طرح لدى إيران وروسيا سوى بقاء الرئيس الأسد.
ويعتقد الأتراك أن مصير مبادرة عنان آيل إلى الفشل نظرًا لخبرتهم مع النظام السوري من حيث الوعود والمماطلة والكذب. وتستعد تركيا في حال فشل المبادرة فعلاً أو في حال فشل الحصول على ضمانات إلزام النظام السوري بها على الأرض، من خلال الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في مجلس الأمن، للانتقال للعمل على الدبلوماسية القهرية في ظل غياب مؤشرات جدّية عن استعداد تركيا في هذه اللحظة الراهنة لاعتماد أي خيار عسكري.
وتتضمن الدبلوماسية القهرية العمل على عدة مستويات:
أولاً: العمل على عزل النظام السوري تمامًا، وتشديد الخناق السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والمالي عليه من خلال إنشاء آلية صارمة على المستوى الإقليمي والدولي للمتابعة الجديّة لنظام العقوبات الذي تم اعتماده سابقًا من قبل تركيا والجامعة العربية وواشنطن والاتحاد الأوروبي.
ثانيًا: الارتقاء بمستوى عمل المعارضة السورية ودعمها بشكل أكبر بما يمكّنها من أن تقدّم نفسها كبديل جاهز للنظام، وتحضير ملفات بحق الأسد ورجال النظام أمام محكمة الجرائم الدولية كنوع من الضغط الشخصي وتشجيع الانقسامات والصراعات بشكل كبير داخل النظام.
ثالثًا: حشد نوع من التحالف الدولي قد تكون نواته مشكّلة من أعضاء مؤتمر أصدقاء سوريا، ويكون محصنًا بقرارات من تجمعات دولية أو إقليمية إحداها الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ وذلك للحصول على شرعية التحرك خارج غطاء مجلس الأمن بحيث تُظهر أنّ عددًا قليلاً من الدول لا يتجاوز تسع دول هو من يعرقل مساعدة الشعب السوري، وتوظيف هذا الحشد تحت بند التدخل الإنساني.
رابعًا: التحضير لتدخل يتضمن إما إنشاء ممرات آمنة أو منطقة آمنة على أن يستوفي هذا الطرح الشروط التركية المرتبطة به، مع وجود خيار مواز بدعم الجيش الحر لكنه غير مناسب لتركيا إلى الآن.
احتمالات التدخل التركي في سوريا
على الرغم من أنّ النقاش حول خيار التدخل العسكري في سوريا يبقى متداوَلاً على الدوام، أثار تصريح رئيس الوزراء التركي الشهر الماضي بأنّ تركيا تدرس بجدية خيار إنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي السورية جدلاً واسعًا، على اعتبار أنها المرة الأولى التي يُطرح فيها هذا الخيار بهذه الجدية، رافقه تصريح آخر للرئيس التركي منذ أيام (5/4/2012) بضرورة استعداد تركيا دبلوماسيًا وعسكريًا لكل الاحتمالات. وغالبًا ما يدور النقاش حول طبيعة التدخل، ونوعه، وشروطه، ومسوغاته، والتبعات التي من الممكن لتركيا أن تواجهها حال اعتماده.
أ- الشروط التركية للتدخل
عندما ناقش الجانب التركي كل الاحتمالات في سوريا خلال العام الفائت من الثورة السورية، وضع نوعًا من الشروط المرتبطة بسيناريو تدخل عسكري تفرضه عليه الأحداث في داخل سوريا، وقد تضمنت هذه الشروط غير المدونة -والتي باتت أشبه بعُرف يضبط الحسابات التركية في موضوع التدخل العسكري أو شبه العسكري داخل سوريا- معيارًا للحكم على التوقيت الذي يتحول فيه التدخل في سوريا من خيار إلى واجب، وأبرز هذه الشروط هي:
-
أن يتعرض الأمن القومي التركي للخطر: وقد يأتي ذلك من مصادر عديدة، أبرزها: كأن تصبح سوريا قاعدة لهجمات حزب العمال الكردستاني على نطاق واسع، أو أن تنهار الدولة السورية وهو أمر يختلف عن سقوط النظام وقد يفتح الباب أمام مساعٍ لتقسيم سوريا أو نشوء دوليات عرقية أو طائفية وهو تخوف موجود لدى الأتراك، إضافة إلى مصادر أخرى كثيرة.
-
أن يحصل نزوح جماعي استثنائي: إذ بلغ عدد النازحين السوريين في تركيا وحدها الآن حوالي 24 ألف لاجئ سوري، لكن ارتفاع هذا العدد أو حصول نزوح مفاجئ بأعداد كبيرة من شأنه أن يخلق ضغطًا على السلطات التركية، أو ينقل معه التهديدات إلى الداخل التركي سواء الأمنية أو الطائفية أو القومية، ما يدفع بأنقرة لإنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي السورية.
-
أن يكون هناك قرار من مجلس الأمن: فالطرح التركي في هذه الحالة أن أنقرة لا يمكنها أن تخرج عن الشرعية الدولية وأنّ مثل هذا القرار إن صدر عن مجلس الأمن فستعمل به. وإذا لم يصدر مثله بسبب تعطيل بعض الأطراف المعدودة له، فمطلبها لن يكون أقل من غطاء آخر يتضمن موافقة الشعب السوري وبدعم من واشنطن وحلف الناتو وبمشاركة عربية أيضًا.
ولذلك، فبقدر ما نرى اقترابًا من تحقيق أحد هذه الشروط بقدر ما سنرى مؤشرات تركية باتجاه التدخل بدءًا بالتصريحات مرورًا بالحشد الدبلوماسي لهذا الغرض وليس انتهاءً بالإعلان عن أن كل الخيارات على الطاولة بما فيها التدخل. ومن دون توافر واحد من هذه الشروط على الأقل فإن موضوع التدخل التركي يصبح صعبًا وأكثر تعقيدًا خاصة في الحالة الفردية.
ب- المخاوف التركية من تدخل انفرادي
وباستثناء عامل تدفق اللاجئين والذي بدأ يضغط بشكل كبير على الجانب التركي لاسيما التدفق الأخير أثناء مبادرة عنان، لا يوجد دليل قوي حاليًا على أنّ هناك تدخلاً تركيًا في سوريا بشكل منفرد قد يكون مدخلاً للتحول إلى تدخل عسكري لاحقًا في ظل المعطيات الحالية المتوافرة؛ وذلك بسبب المخاوف التركية المرتبطة بهذا الخيار، ومنها:
-
الاصطدام مع المحور الشرقي: تخشى تركيا أن تؤدي أية خطوة منفردة من قِبلها للتدخل في سوريا إلى أن تضطرها بالضرورة لمواجهة مع روسيا والصين وإيران والعراق، وهو ما سيعرّضها لمخاطر أكبر من قدرتها على التحمل، فمثل هذه العملية ستكون مكلفة جدًا سياسيًا واقتصاديًا وماليًا وعسكريًا، خاصة أنّ:
-
روسيا والصين وإيران والعراق تحتل مرتبة ثاني وثالث وخامس وسادس أكبر شريك تجاري لأنقرة، ما يعني أن أية مواجهة من شأنها أن تقوّض قدرات أنقرة الاقتصادية، كما أنّ روسيا وإيران مثلاً يؤمّنان حوالي 75% من حاجات تركيا من الغاز.
-
ناهيك عن أنّ جميع هؤلاء اللاعبين قرروا دعم النظام السوري وأعلنوا رفضهم لأي تدخل عسكري بشكل حاسم أيضًا، وهو ما يعني أنّ فرص تركيا للقيام بأي تدخل عسكري منفرد تكاد تكون معدومة، خاصة أنّ الدعم العربي أو الخليجي لأنقرة لن يكون بمقدوره تغيير معادلة المحور السابق في ظل عدم وجود أي دعم غربي لهذا الخيار.
-
ورقة حزب العمّال: هناك تخوف تركي من استخدام سوريا وإيران للورقة الكردية ضدها عبر دعم حزب العمال الكردستاني، فالعمليات الأخيرة التي شنها الحزب كانت مزودة وفق التقييم التركي بدعم من هاتين الدولتين، سيما أنّ معسكرات تدريب لحزب العمال باتت منتشرة داخل الأراضي السورية مع تواجد قيادات مثل فهمي حسين ونور الدين صوفي اللذين يُعتقد أنهما مسؤولان عن معظم العمليات الدموية ضد تركيا، وهما على صلة وثيقة بالاستخبارات السورية.
-
انهيار القوة الناعمة التركية: ولهذا العامل أهمية في الحسابات التركية أيضًا، فهناك من يعتبر التدخّل العسكري متعارضًا مع تقاليد السياسة الخارجية التركية ولاسيّما منذ مجيء حزب "العدالة والتنمية" واعتماد سياسة تصفير المشكلات التي ما يزال بعضهم يعتقد أنها قابلة للتطبيق في جوهرها حتى في هذه الظروف. كما أنّ هناك تخوّفًا لدى بعض الأوساط من أن ينعكس أيّ نوع من أنواع التدخل العسكري في سوريا على صورة تركيا في المنطقة وعلى نظرة شريحة واسعة من العرب تجاهها، خاصة أن هناك جهات ستركز على تركيا كقوة محتلة، وهو ما من شأنه إنْ حصل، أن يقوّض من مصداقيتها وشعبيتها وشرعية قوتها الناعمة ومن سياساتها بشكل عام، ويدفعها لتخسر الرصيد الذي قامت عليه منذ عقد.
ج- احتمالات القيادة التركية لتدخل جماعي
وذلك عبر تحالف إقليمي أو دولي قد يكون مدخلاً للتحول إلى تدخل عسكري لاحقًا، وهو خيار غير متوفر إلى الآن لثلاثة أسباب:
-
الأمم المتحدة: وصول الجهود في مجلس الأمن إلى حائط مسدود مع الفتيو الروسي والصيني.
-
الموقف الأميركي: ليس هناك أية رغبة أميركية في مجرد الحديث حتى عن خيارات عسكرية لدى إدارة الرئيس باراك أوباما لأسباب تتعلق بالحملة الانتخابية الرئاسية، ووضع أميركا الاقتصادي، والتكاليف السياسية والمالية والعسكرية لمثل هذا الخيار في هذا التوقيت بالذات. حتى إن بعض أركان إدارة أوباما اضطر إلى استخدام ورقة "القاعدة" لتخفيف ضغط الجمهوريين الدافع باتجاه اعتماد خيار عسكري أو دعم الجيش الحر، وذلك لأن مجرد ذكر القاعدة في واشنطن يكون بمثابة جرس إنذار للتراجع.
-
موقف حلف شمال الأطلسي: ونظرًا لأن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي وتمتلك ثاني أكبر جيش فيه بعد واشنطن، فإن غطاءً من قبل الحلف للقيام بنوع من التدخل المباشر أو غير المباشر يُعد أمرًا مهمًا، لكن لا ضوء أخضر إلى الآن بعد التصريحات المتكررة لأمينه العام أندرس فوغ راسموسن بأن الحلف لا ينوي وغير مستعد لمثل هذه الخطوة، لمعطيات أميركية وأوروبية أيضًا على ما يبدو.
تقييمات مستقبلية
إذا كانت المعطيات المتوافرة حتى الآن تذهب بالتقييمات إلى أنه لا خطوة عسكرية قادمة في سوريا على المدى القصير، إلا أن التطورات المستقبلية قد تغيّر من هذه المعطيات وبالتالي من حسابات مختلف اللاعبين والأطراف وتدفع للجوء إلى التدخل المباشر أو غير المباشر كأمر حتمي، ولعل أبرز هذه التطورات التي قد تدفع باتجاه خطوة كهذه، هي:
-
استمرار وتيرة القتل: الغاية الأساسية لإستراتيجية النظام السوري على ما يبدو تقوم على سحق الثورة السورية من خلال العمل العسكري والأمني، وإذا فشلت هذه السياسة واستمرت الثورة فإن النظام سيُضطر إلى قتل المزيد مع ما يترافق من سياسات طائفية قد تهدد المنطقة برمتها، وهذا من شأنه أن يضع مزيدًا من الضغوط الحقيقية على مختلف الفرقاء الإقليميين والدوليين ويدفعهم في مكان ما إلى التحرك، وستكون تركيا منهم لأنها في طليعة المتأثرين من استمرار المشهد بطبيعة الحال.
-
وصول المبادرات السياسية إلى حائط مسدود: ولعل آخر هذه المبادرات التي تصب في هذا الإطار على ما يبدو، مبادرة المبعوث العربي والأممي لسوريا كوفي عنان. ولا شك أنّ فشل هذه المبادرة سيضع مختلف اللاعبين وعلى رأسهم تركيا أمام حقائق جديدة ضاغطة مفادها أن لا مبادرات سياسية ستنجح وأنّ هذا الخيار فاشل برمته، وهو ما يستوجب بدوره الانتقال إلى مرحلة أخرى.
-
فشل الدبلوماسية القهرية: قد ينتقل الفرقاء بعد فشل مبادرة عنان إلى الدبلوماسية القهرية، وإذا ما حصل ذلك فهذا يعني أننا سنكون أمام مرحلة أخرى قد تبدأ عمليًا بشكل فعّال مع انعقاد مؤتمر أصدقاء سوريا في باريس وتمتد حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية، مع العلم بأنّ بعض التقييمات تشير إلى أنّه في حال تسارعت وتيرة الأحداث في الداخل السوري لاسيما المواجهة المسلحة منها، فإن التدخل التركي حينئذ قد يكون حتميا.
هذه التطورات تعني أنّه وعلى الرغم من محاولة القيادة التركية تفادي الخيارات الأصعب ولاسيما التدخل منها، إلا أن عامل الوقت يُعد عنصرًا حاسمًا في الضغط على الخيارات التركية التي تتجه بشكل أكثر فأكثر من دون شك نحو الخيارات الأكثر صعوبة وتكلفة، وسيكون من المستحيل تفاديها أو التغاضي عنها والتي ستدفع من كون التدخل خيارًا إلى كونه واجبًا عندها.
___________________________
علي حسين باكير - باحث في منظمة البحوث الإستراتيجية الدولية (USAK)