تمثل مجموعة بريكس المبادرة العالمية الهامة الأولى غير الغربية في عالم ما بعد الحرب الباردة |
تمثل مجموعة بريكس المبادرة العالمية الهامة الأولى غير الغربية في عالم ما بعد الحرب الباردة، وهي تضم خمس قوى رئيسة ناشئة تقع في أجزاء مختلفة من العالم هي البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا، والحرف الأول اللاتيني من أسماء هذه الدول يشكل كلمة "بريكس"، ويمكن أن يطلق على تجمع بريكس أيضا اسم "5- ر" إشارة لأسماء عملات الدول الأعضاء (ريال برازيلي، روبل، روبية، رنمينبي، راند).
ومع ذلك، وناهيك عن حركة التقدم التي تحققت والقمة التي انعقدت في وقت سابق من أبريل/نيسان 2012 في نيودلهي، فإن بريكس تبقى مفهوما يبحث عن هوية موحدة وتعاون مؤسسي. إن البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا مازالوا يبحثون عن أرضية مشتركة تساعدهم على تحويل مبادرتهم إلى مجموعة جيوسياسية لها وزنها. وبدون أهداف محددة جلية وخطة عمل متفق عليها، فإن بريكس سوف تواجه مخاطر التباين الداخلي، مثل ما نراه من اختلاف صارخ في أنظمة أعضائها السياسية، والاقتصادية، والطموح القومي لكل منهم.
لكن الطبيعة المتباينة في صفات أعضاء المجموعة -الجمع بين أكبر نظام ديمقراطي وأكبر نظام سلطوي، فضلا عن اقتصاديات مصدرة للسلع الأساسية وأخرى متعطشة للموارد- قد جعل المتشككين يتجاهلون بريكس ويعتبرونها مجرد إبداع لفظي لا يحمل أي مضمون(*). ولكن في نظر المؤيدين، فإن بريكس هي محصلة التغييرات المستمرة في القوى الدولية، ولديها الإمكانات لتتطور إلى أداة رئيسة تساهم في تشكيل هيكل الحوكمة العالمي. وكمجموعة متحدة، فإن بريكس يمكن أن تلعب دور القابلة في وقت إعادة الترتيب النوعي للقوى حين تحين لحظة ميلاد نظام دولي جديد.
وفيما يخص الموضوعات الملحة على الصعيد الجيوسياسي الدولي مثل إيران وسوريا، ففي الواقع تبرز بريكس كصوت يمكن أن نصفه بالاعتدال الحَذر، إذ تسعى لتوفير التوازن ضد النزعة التدخلية للقوى الغربية. إن قادة بريكس، في إعلانهم المشترك في نيودلهي، حذروا من أنَ "الوضع المتعلق بإيران لا يمكن أن يُسمح له بالتصاعد إلى درجة الصراع، وأن العواقب الوخيمة لذلك لن تكون في مصلحة أحد، فإن إيران تلعب دورا حاسما في النمو والرخاء السلمي لمنطقة ذات أهمية سياسية واقتصادية، ونحن نتطلع إليها لتلعب دورها كعضو مسؤول في المجتمع الدولي. إننا قلقون بشأن الوضع الراهن المحيط بقضية البرنامج النووي الإيراني".
ولكن كما رأينا في القرار الأخير الصادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن جرائم الحرب في سريلانكا، فإن مجموعة بريكس منقسمة بشدة إزاء مثل هذه القضايا. والصين، العملاق الاقتصادي الرئيس لهذه المجموعة، هي أيضا الناشز السياسي الذي يرفض مفهوم الانتخابات القومية، كما أنّها على استعداد لتطوير مصالحها التجارية والإستراتيجية مع أية دولة حتى ولو كانت من تلك الدول المشهورة بانتهاك حقوق الانسان.
اقتصاديا، من المتوقع أن تظل بريكس المصدر الأكثر أهمية للنمو العالمي. فهذه المجموعة تمثل أكثر من ربع مساحة العالم، وأكثر من 43% من السكان، وتقترب من 25% من الدخل القومي العالمي، بالإضافة إلى قرابة نصف الاحتياطي العالمي من العملات الأجنبية والذهب. وفى تحول مذهل للثروة، فإن الدول النامية، بما لديها من احتياطي للعملات الأجنبية، هي التي تمول حاليا العجز المتصاعد للاقتصاديات الغنية، وعليه فإن بريكس، بثقل أعضائها، تستطيع أن تمارس نفوذا ماليا عالميا ملحوظا إذا تعاونت بشكل جماعي.
ومنذ أن توسعت مبادرة روسيا-الهند-الصين (ريك) في 2008 لتشمل البرازيل وتحمل الاسم (بريك) -وهو مصطلح استخدم منذ عام 2001 من قبل اقتصاديي جولدن ساكس- فقد ظلت المجموعة كتلة هشة وغير رسمية. أما التوسع في العام الماضي بانضمام جنوب أفريقيا ليصبح اسم المجموعة بريكس بدلا من بريك لم يسفر إلا عن زيادة حدة التحدي لإقامة هيكل مؤسسي وخطة عمل موحده، ومع أن هذا التوسع يهدد بإنهاء مبادرة أيبسا (الهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا)، والتي صممت لتطرح للعالم النامي ثلاث ديمقراطيات رائدة تحت مظلة تجمع واحد.
الإعلان المشترك في نيودلهي
أسفرت المناقشات في قمة نيودلهي -التي عقدت تحت شعار "شراكة بريكس من أجل استقرار، وأمن، ورخاء عالمي"- عن الاتفاق على تكثيف التجارة وتدفق الاستثمارات بين الدول الأعضاء. ولتعزيز التجارة البينية لبلدان بريكس، أبرمت الدول الخمس اتفاقا على تمديد التسهيلات الائتمانية باستخدام عملتها المحلية. كما تم الاتفاق على تبادل التكنولوجيا وأفضل الممارسات في مجال الطاقة المتجددة وتحسين كفاءة استخدام الطاقة.
في إعلانهم المشترك في نيودلهي، دعا قادة بريكس لبناء استقرار للاقتصاد الكلي من أجل تيسير تعافي الاقتصاد العالمي. وحتى رئيس وزراء الهند مانموهان سينغ قال: "كأعضاء في مجموعة العشرين، لابد أن نعمل سويا لضمان إيجاد حلول مناسبة لمعاونة أوروبا لكي تساعد نفسها ولضمان تنسيق السياسات التي من شأنها إحياء النمو العالمي".
وقد نادى القادة بأن تتبنى الدول الغنية سياسات مالية وكلية "مسؤولة"، وأن تَتجنب خلق سيولة مالية عالمية مفرطة، وأن تأخذ خطوات للإصلاح الهيكلي. وقد أعربوا عن قلقهم بشأن المخاطر التى تواجه الاقتصاديات الناشئة بسبب التقلب الشديد والعريض فى التدفقات الرأسمالية. ولاحتواء التقلب المفرط فى أسعار السلع الأساسية، فقد سعوا لتطوير القواعد المنظمة لسوق المشتقات المالية للسلع الأساسية وذلك لمنع تأثيرها على استقرار إمدادات الغذاء والطاقة.
وأقر قادة دول بريكس أيضا بمشكلة الموارد المحدودة التي تواجه بعض اقتصادياتها في الوقت الراهن. فعلى سبيل المثال، تواجه الصين والهند نقصا في المياه والطاقة، مع ثبات في معدل نمو إنتاجية المحاصيل الزراعية، والمخاوف الزائدة بشأن الوضع الغذائي في السنوات المقبلة. وعلى الرغم من أن الصين والهند لديهم اكتفاء ذاتي من الغذاء في الوقت الراهن، فإن الأسواق الدولية للغذاء ليست كبيرة بالشكل الكافي لتلبية طلبات استيراد ضخمة جديدة من آسيا.
في دورتهم المغلقة، ناقش قادة دول بريكس الاضطرابات الحالية في أجزاء من العالم العربي. وقال البيان المشترك: "يجب تجنب الاضطرابات السياسية التي تخلق التقلبات في أسواق الطاقة العالمية وتؤثر على التدفقات التجارية."
ومع ذلك، فشلوا في التوصل إلى اتفاق بشأن مسألة واحدة مهمة هي إنشاء بنك مشترك للتنمية، واقتصر البيان المشترك لهم على: "لقد نظرنا في إمكانية إنشاء بنك جديد للتنمية بهدف تعبئة الموارد اللازمة للبنية التحتية ومشاريع التنمية المستدامة في بلدان بريكس وغيرها من الاقتصادات الناشئة والدول النامية، واستكمال الجهود القائمة من المؤسسات المالية المتعددة الأطراف والإقليمية لتحقيق النمو والتنمية العالميين. ولقد وجهنا وزراء المالية لدينا لدراسة الجدوى الاقتصادية وإمكانيات (نجاح) مثل هذه المبادرة، وتشكيل مجموعة عمل مشتركة تقوم بمزيد من الدراسة، وتقديم تقرير لنا قبل القمة المقبلة ". وقد ألقي باللوم على الصين فى عدم الوصول الى اتفاق بشأن إنشاء بنك مشترك للتنمية. فلقد أصرت على التحكم في البنك المقترح- الأمر الذي رفضته كل من الهند وروسيا بالذات.
التعامل مع التحديات البينية في بلدان بريكس
بالنسبة للبرازيل، وجنوب إفريقيا، وروسيا، والهند، فإن بريكس تعد بمثابة منتدى لتأكيد نفوذهم الاقتصادي المتزايد، ومعرضا لإظهار دورهم الجديد كقوة فاعلة على الصعيد العالمي. لكن بالنسبة للصين، والتي لا تحتاج إلى الاعتراف بها كقوة عالمية صاعدة، فان مجموعة بريكس تتيح لها فوائد ملموسة وليس فقط مجرد فوائد رمزية، والصين بالفعل قد مدت بظلالها على هذا التجمع.
ففي الوقت الذي تتعرض فيه الصين لضغوط لاستمرارها في التلاعب في قيمة عملتها من أجل خفض مصطنع في أسعار منتجاتها من السلع والخدمات في الخارج، فإن بريكس تقدم لها منبرا لتعظيم دور عملتها على المستوى الدولي. وكجزء من سعيها لجعل الرنمينبي(*) عملة دولية، فالصين الغنية بالنقد ستقدم قروضا بالرنمينبي إلى الأعضاء الآخرين من بلدان بريكس.
والإقراض والمتاجرة بالرنمينبي سوف يعزز مكانة ونفوذ الصين دوليا. فالعملة الصينية المقومة بأقل من قيمتها والدعم الخفي لصادراتها، من شأنه أن يقيض بشكل منهجي الصناعات التحويلية في دول بريكس الأخرى، وخاصة الهند والبرازيل.
لكن أنصار بلدان بريكس ما زالوا يأملون في أن تستطيع المجموعة أن تلعب دور المحفز للإصلاحات المؤسسية الدولية. ولقد ظل الهيكل المؤسسي العالمي شبه ثابت منذ منتصف القرن العشرين على الرغم من تزايد القوى الاقتصادية غير الغربية، وحتى تشكيل مجموعة العشرين كان ارتجال مصمم لتأجيل أية إصلاحات حقيقية.
حتى الآن، وفيما يتعلق بالإصلاحات المؤسسية الدولية، فإنّ الصين ليست على نفس المستوى مقارنة بباقي الدول الأعضاء في المجموعة. فهي القوة الأبرز في الهيكل المالي العالمي، وتسعي إلى إحداث إصلاح في نظام بريتونوودز(*). ولكنها تعارض دائما أي توسع في العضوية الدائمة لمجلس الأمن، لأن ذلك يمثل قوة قائمة لها. وهى ترغب في أن تبقى الدولة الآسيوية الوحيدة التي لها مقعد دائم، وهو الموقف الذي يوضح جهودها الرامية إلى حصر الدور الإقليمي للهند.
وتستطيع بريكس أن تصبح مجموعة ضغط في العلاقات الدولية فقط عندما يتمكن أعضاؤها من الاتفاق على خطة للعمل المشترك، لكن هذا لا يحدث دائما، فعلى سبيل المثال نجد دول بريكس رافضين عموما اعتبار الدولار عملة العالم الاحتياطية المهيمنة، ولكن رفضهم هذا لا يُترجم عمليا بالقدر الكافي .وفي الواقع، فإن العلاقة الثنائية الأكثر أهمية لكل بلد من بلدان بريكس هي علاقتها مع الولايات المتحدة.
في قمة نيودلهي، دعت المجموعة إلى "هيكل مالي دولي أكثر تمثيلا، وزيادة في دور وتمثيل الدول النامية في هذه الأنظمة، كما دعت إلى ضرورة تأسيس وتحسين الأنظمة المالية والنقدية العالمية لتصبح أنظمة عادلة تخدم مصالح جميع البلدان، وتدعم التنمية الاقتصادية في الدول الناشئة والنامية."
كما أبدت المجموعة مخاوفها من "بطء وتيرة الإصلاح الإداري ونظام الحصص" في صندوق النقد الدولي وطالبوا بمراجعة شاملة قبل يناير/ كانون الثاني 2013 لصيغة الحصص لكي تعكس على نحو أفضل الثقل الاقتصادي وتعزز تمثيل الاقتصادات الناشئة.
وعلاوة على ذلك، تريد دول بريكس إعادة هيكلة الحوكمة في البنك الدولي لتعكس الواقع الاقتصادي والسياسي الحالي. إنها تسعى إلى تحول وظيفة البنك الدولي من أن يكون مؤسسة دورها الأساسي هو التوسط للتعاون بين الشمال والجنوب ليصبح مؤسسة تروج شراكة متكافئة بين كل الدول، وذلك من أجل التغلب على الفروق التي عفا عليها الزمن بين المانح والمتلقي".
مع ذلك، فإن اقتصادات بلدان بريكس حتى الآن لم تتمكن من صياغة موقف موحد يحتوى على التغييرات التي يرغبون في اتخاذها بشأن البنية المالية العالمية، أو الحصص في صندوق النقد الدولي، أو الحوكمة، أو حتى هيكل البنك الدولي. في الواقع، لقد رحبوا بالمرشّحَين من العالم النامي الذَين يتنافسان جنبا إلى جنب ضد مرشح الولايات المتحدة جيم يونغ كيم لمنصب الرئيس القادم للبنك الدولي ولكن لم يتفقوا على أي المرشحَين من العالم النامي يجب دعمه: وزيرة المالية النيجيرية نغوزي أوكونغو إيويالا أم خوسيه أنطونيو أوكامبو، الذي رأس في وقت سابق وزارتي المالية والزراعة ورئيس البنك المركزي في كولومبيا.
ودول بريكس بحاجة إلى إرساء مواقف مشتركة بحيث تمثل صوتا موحدا في المحافل الدولية، بدءا من منظمة التجارة العالمية وجولة الدوحة إلى محادثات التغير المناخي الدولي. ففي وقت لاحق من هذا العام (2012)، سيستضيف اثنان من أعضاء دول بريكس، وهما البرازيل والهند على التوالي، مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (ريو +20) ومؤتمر الأطراف في اتفاقية التنوع البيولوجي. كما أن قمة مجموعة العشرين، التي ستعقد في المكسيك، اقتربت هي الأخرى.
وطالما أن بلدان بريكس غير قادر على تقديم نفسها ككتلة متحدة تسعى لدفع تغييرات محددة في النظام الدولي الراهن المتوعك، فسوف يستمر النظر إليها من قبل القوى القديمة على أنها تجسد طموحا لا تهديدا.
وعلى الرغم من الخطوات التي اتفق عليها في قمة نيودلهي، فمن غير المؤكد ما إذا كانت دول البريكس سوف تتطور لتصبح مجموعة متماسكة لها أهداف محددة وآليات مؤسساتية لجعل النظام العالمي أكثر تعددية وشمولية أو ستستمر في كونها مجرد اسم جذاب.
فلو استطاعت بريكس أن تنمو لبنة لبنة، فيمكن أن تجد نفسها على درب التطور الذي سارت عليه مجموعة الـ 7-G- التي تتمتع بالتفوق الآن، وقد بدأت أيضا كمنتدى للمناقشة قبل أن تخطو إلى التنسيق والعمل المشترك بين أعضائها حول القضايا الدولية الرئيسية.
____________
براهما تشلاني، أستاذ الدراسات الإستراتيجية في المركز المستقل لأبحاث السياسية في نيودلهي.
(*) شكلت الحروف الأولى المكونة لأسماء الدول الخمس الأعضاء باللغة الانجليزية كلمة بريكس، وتعنى تلك الكلمة في الانجليزية اللبنات. (المؤلف)
(*) الرنمينبي، هي العملة الرسمية للصين وتعني حرفيا "عملة الشعب"، واليوان وحدتها الأساسية (المحرر).
(*) نظام بريتونوودز، هو نظام الصرف الأجنبي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي بموجبه تم تثبيت سعر صرف العملات بنسبة تذبذب 1 % للعملة بالنسبة إلى قيمتها من الذهب أو الدولار الأميركي، وبموجب هذا النظام أيضا تم تأسيس صندوق النقد الدولي. أما تسمية "بريتونوودز" نفسها فهي راجعة إلى المكان الذي عقد فيه مؤتمر النقد الدولي في الفترة من 1 إلى 22 يوليو عام 1944 بغابات بريتون في نيوهامبشر بالولايات المتحدة الأميركية والذي أسفرت نتائجه عن النظام المالي سابق الذكر، (المحرر).