الانتقال العالمي للقوة إلى آسيا

"مراكز القوة في العالم تتحول من الغرب إلى الشرق". هذه العبارة على قصرها بالغة الأهمية لأن هذا التحول سيتبعه تغيرات جيوإستراتيجية وجيوسياسية ستكون له انعكاسات مهمة على القرار الدولي.
20125311466791580_2.jpg

"مراكز القوة في العالم تتحول من الغرب إلى الشرق". هذه العبارة على قصرها بالغة الأهمية لأن هذا التحول سيتبعه تغيرات جيوإستراتيجية وجيوسياسية ستكون له انعكاسات مهمة على القرار الدولي.

فلم تعد قوة القارة الآسيوية اقتصادية فقط كما كانت في العقدين الأخيرين وإنما نمت قوتها العسكرية أيضا؛ ولا أدل على ذلك مما جاء في تقرير التوازن العسكري لعام 2012 الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن والذي نشره في أبريل/نيسان 2012 وخلص فيه إلى أنه للمرة الأولى في التاريخ الحديث والمعاصر تتفوق الميزانيات العسكرية لدول القارة الآسيوية على نظيرتها الأوروبية. 

يجيئ هذا التحول في مراكز القوة في وقت اشتدت فيه وطأة الأزمة المالية العالمية على اقتصاديات الولايات المتحدة وأوروبا مما أثر سلبا على الإنفاق العسكري لدى هاتين القوتين، في حين زاد حجم الاحتياطي من النقد والعملات الأجنبية في الدول الآسيوية مما رفع من مكانتها الدولية وعزز من قوتها على الصعيد العالمي.

وبالرغم من ذلك فإن السؤال الذي يطرح: هل ما نشهده من تراجع لمراكز القوة التقليدية ولا سيما في أوروبا والولايات المتحدة هو تراجع مؤقت سرعان ما سيزول بزوال أسبابه أم هو تراجع دائم وأبدي لا رجعة فيه؟ (1)

في هذه الورقة محاولة للإجابة عن هذا التساؤل، ومحاولة أيضا لتسليط الضوء على أثر تحولات مراكز القوة إلى القارة الآسيوية في العالم عموما ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. 

تحول القوة إلى آسيا: الانعكاسات العالمية

تركيبة آسيا ذات المواقع الحيوي والمناطق الغنية بالطاقة وكذلك الاقتصادات الحيوية والدينامية تضفي على هذه القارة أهمية جيوستراتيجية وجيوسياسية منقطعة النظير بين القوى العالمية وبالتالي فعندما تتحول مراكز الثقل الاقتصادية والسياسية العالمية إلى آسيا فإن ذلك يعني على المسرح الدولي الكثير.

على المستوى الجيوستراتيجي، فإن التحول العالمي للقوة إلى آسيا يصادف نهاية الهيمنة الشاملة للولايات المتحدة على الشؤون العالمية بصفتها القطب الواحد، وسوف تحل محلها التعددية القطبية مع صعود القوى الآسيوية الناشئة كأقطاب متعددة. كما أن الصعود العسكري للقوى الآسيوية الرائدة وبخاصة الصين والهند واليابان الذي يغذيه النمو الاقتصادي المستدام يحد من الفوارق في القوة العسكرية مع الولايات المتحدة. فمن حيث الأسلحة المتطورة والمعدات العسكرية فإن قدرات آسيا العسكرية آخذة في الارتفاع، بينما تحد القيود المالية من القدرات العسكرية للولايات المتحدة وأوروبا، ففي آسيا اليوم ست دول تمتلك الأسلحة النووية مع ترسانات كبيرة من الصواريخ. وقد بات ملحوظا آثار القوة العسكرية الآسيوية في غير مكان من العالم خاصة في مهمات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، فعلى سبيل المثال فإن هناك عددا من القوات البحرية الآسيوية التي تعمل بعيدا عن أراضيها وتشارك في عمليات لمكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال، فهذه فيما يبدو البدايات الأولى لأدوار عسكرية أكبر للبلدان الآسيوية في مناطق أخرى من العالم.

ومن الناحية الجيوسياسية، فإن سقف المطالب والطموح السياسي لآسيا وخصوصا لدولها الكبرى يزداد. فقد رأينا دعوات آسيوية قوية بإعادة هيكلة المؤسسات السياسية والمالية العالمية مثل مجلس الأمن الدولي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتكون أكثر تعبيرا عن التحول العالمي للقوة ومكانة آسيا الجديدة في هذا التحول. ومما لا شك فيه أن قوة الصين والهند ستضع الهيمنة العالمية  للولايات المتحدة موضع تساؤل وإذا انضمت روسيا كقوة أوراسية إليهما فسيتكون مثلث ذا قوة  استراتيجية  تؤهله لمنافسة جادة وحقيقية للولايات المتحدة. وتسعى الآن  الولايات المتحدة الأميركية نتيجة لانخفاض  قدراتها إلى حشد الدول الآسيوية في العمليات العسكرية التي لا يمكنها القيام بها.

الأثر الجيوستراتيجي والجيوسياسي للتحول العالمي في القوة على منطقة المحيط الهادئ الآسيوي

إن منطقة المحيط الهادئ الآسيوي هي المنطقة التي تحول إليها المركز الاقتصادي والسياسي للقوة العالمية  فيما يسمى الآن التحول العالمي للقوة إلى آسيا، وباستثناء العقد الماضي عندما كانت الولايات المتحدة  مشتتة عسكريا بين العراق وأفغانستان، فإن منطقة المحيط الهادئ الآسيوي كانت على الدوام مركز ثقل القوة العسكرية الأميركية، وكانت مسرحا لحربين رئيسيتين للولايات المتحدة في كوريا وفيتنام  خلال فترة الحرب الباردة. كما كانت منطقة المحيط الهادئ الآسيوي ذات أهمية استراتيجية للولايات المتحدة لضرورة الاعتماد على حلفائها العسكريين في شرق آسيا وهم كوريا الجنوبية واليابان وتايوان والفلبين في الدفاع عن أراضي الولايات المتحدة  من ناحية محيطها  الخارجي الغربي.

أما الضرورة الاستراتيجية الثانية فكانت استخدام منطقة المحيط الهادئ الآسيوي من قبل الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة لاحتواء الاتحاد السوفييتي السابق القوة العظمى المنافسة لها آنذاك.

إن التحول العالمي للقوة إلى آسيا ينشأ إلى حد كبير من الصعود الاقتصادي الهائل للصين والتحديث العسكري التقني المتقدم المقترن برفع كفاءة قواتها العسكرية، ويبدو الآن أن هذا من شأنه إطلاق العنان لحرب باردة جديدة تتمحور حول الصين من قبل الولايات المتحدة في المحيط الهادئ الآسيوي، حيث يمكن للصين أن تتحدى الولايات المتحدة عسكريا في شرق آسيا.

وتجدر الإشارة إلى أن ارتفاع القدرات العسكرية للهند واليابان لا يثير قلق الولايات المتحدة العسكرية، فاليابان حليف عسكري للولايات المتحدة منذ زمن طويل، بينما تجري استمالة الهند من جانب الولايات المتحدة لإقامة شراكة استراتيجية كبيرة  من ضمن أهدافها احتواء الصين.

من الناحية الجيواستراتيجية، كان يمكن أن يكون تأثير التحول العالمي للقوة إلى آسيا وخيما على الولايات المتحدة لو كانت آسيا قد  طرحت نفسها ككيان استراتيجي موحد قادر على التماسك الاستراتيجي وتقديم الاستجابات الاستراتيجية المتكاملة لمواجهة التحديات الاستراتيجية العالمية، لكن التحول العالمي للقوة إلى آسيا في السياق الجيواستراتيجي قد انتهى بتشتت القوة عند الأطراف إلى مزيج استراتيجي متعدد الأقطاب من الصين والهند واليابان. فقد كان يمكن أن يكون هذا التحول العالمي للقوة إلى آسيا مكسبا استراتيجيا كبيرا بالنسبة للولايات المتحدة، لكن الولايات المتحدة لا تزال الأقل حظا من الناحية الاستراتيجية من واقع النقص المتوالي في قوتها العالمية وتخفيض ميزانيات الدفاع، وكلاهما  يؤثر على مكانتها العسكرية في المحيط الهادئ الآسيوي.

ومن الناحية الجيوسياسية، فإنه نتج عن تحول القوة العالمية إلى آسيا، أنه حتى حلفاء الولايات المتحدة  التقليديين في المنطقة ليسوا على يقين كامل من سياسات الولايات المتحدة، ومع ذلك، فإن "التهديد الصيني" يجثم على الجيران الأصغر للصين في المنطق ، ويدفعهم إلى الاعتماد على القوة الأميركية الموازية لا سيما في النزاعات المتعلقة ببحر الصين الجنوبي. (2)

من الناحية الجيوستراتيجية والجيوسياسية والجيواقتصادية فإنه لم تتضرر الولايات المتحدة وتواجه تحديات في أي مكان في العالم مثلما تواجه في المحيط الهادئ الآسيوي.علاوة على ذلك فإنه يجب أن تتعامل الولايات المتحدة استراتيجيا في المحيط الهادئ الآسيوي ليس فقط مع الهند والصين واليابان ولكن مع روسيا أيضا كقوة أوراسية وباسيفيكية ذات روابط استراتيجية مع الصين والهند.

وفي ظل الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين، اللتين تعتمدان كلاهما على استراتيجيات سياسة حافة الهاوية، فإنه لا يمكن استبعاد اندلاع حرب كبرى، وتواجه الدولتان تحديا استراتيجيا من بؤر التوتر العالمية في كوريا وتايوان وبحر الصين الجنوبي  . ومع ذلك، فهناك شيء واحد مؤكد مفاده أنه إذا نشأت مثل هذه المواجهة العسكرية العدائية فمن غير المرجح أن تتحد الدول الآسيوية عسكريا وسياسيا مع الولايات المتحدة ضد الصين. ورغم خلافاتها ونزاعاتها فإن هناك دلائل قوية على التعاون السياسي بين البلدان الآسيوية الكبرى، بما في ذلك في المجال الاقتصادي، ومن الأمثلة الرئيسية على ذلك الارتفاع الكبير في حجم التجارة البينية  بين الصين والهند.

تأثير تحول القوة إلى آسيا على الشرق الأوسط ومنطقة الخليج

تم فعليا- وبمهارة - عزل الشرق الأوسط ودول الخليج الست عن بقية دول آسيا من قبل الولايات المتحدة وأوروبا لأسبابها الاستراتيجية الخاصة بها والمتمثلة في الرغبة بالسيطرة الحصرية على موارد الطاقة في تلك المنطقة، وقد مارست الولايات المتحدة سيطرة القطب الواحد في الشرق الأوسط، وخاصة الدول الخليجية الست، منذ تفكك الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الأولى.

ظلت منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك دول الخليج في حالة اضطراب نتيجة لتدخلين عسكريين أمريكيين كبيرين في العراق، وأحداث 9/11 والتوجس الدائم من البرنامج النووي الإيراني.

أعاق هذا ظهور مواقف سياسية مستقلة من دول الشرق الأوسط حتى وقت قريب، ولا يزال الاضطراب   موجودا بسبب صراعات القوة داخل المنطقة بين القوى الاقليمية مثل السعودية وتركيا وايران.

مع ذلك ينبغي الاعتراف بأن المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى كانت تقريبا أول من أدرك  التحول العالمي للقوة إلى آسيا وقامت بتحولات ملموسة بعيدا عن القوى الخارجية المهيمنة التي تسيطر على الشرق الأوسط، وهي الولايات المتحدة وأوروبا (الناتو).

وقد أقنعت الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008 وقدرة الاقتصادات الآسيوية على اجتياز العاصفة (على عكس الحال بالنسبة للولايات المتحدة والقوى الأوروبية الكبرى) المملكة العربية السعودية ودول الخليج  بفكرة "النظر شرقا،" فنوعت هذه الدول علاقاتها السياسية والاقتصادية مع روسيا والصين والهند واليابان، والتي على أي حال كانت مرتبطة بالمنطقة من جهة القضايا المتعلقة بالطاقة والأمن. وتسعى الآن المملكة العربية السعودية ودول الخليج لاستغلال فائض أموال العائدات النفطية في القيام باستثمارات كبيرة في الصين والهند وخاصة في قطاعات الطاقة والبتروكيماويات. وكان أمير قطر قد قال في مارس/ أذار 2009 "إن الصين قادمة، والهند القادمة، وروسيا في طريقها أيضا.  ولا أعرف إذا ما كانت أميركا وأوروبا سوف تظلان في الصدارة،" وبالطبع كانت  هذه عملية ذات اتجاهين مع تأثير كبير على السياسية والاقتصاد لكلا الجانبين، ويشهد توقيع المملكة العربية السعودية والهند اتفاقية الشراكة الاستراتيجية أنّ تحول القوة العالمية إلى آسيا هو حقيقة ثابتة.

يشير التحول العالمي للقوة إلى آسيا، وتحويل فائض أموال الشرق الأوسط  إلى الاقتصادات الآسيوية،  وتحول المحور الاستراتيجي الأميركي إلى المحيط الهادئ الآسيوي وابتعاده عن الشرق الأوسط، وعودة  روسيا بقوة إلى الدخول إلى منطقة الشرق الأوسط كلها تشير إلى حقيقة مهمة مفادها أنه مع صعود القوى الآسيوية، اضطرت الولايات المتحدة للتخلي نسبيا عن الفضاء الاستراتيجي والسياسي في الشرق الأوسط إلى القوى الآسيوية.

تتمتع القوى الآسيوية مثل الصين والهند إلى جانب روسيا أيضا بالثقة السياسية للقوى الرئيسية في الشرق الأوسط مثل تركيا وإيران ومصر، ومع  التحول العالمي للقوة إلى آسيا، فإنها تحتل مكانة فريدة من في شؤون للشرق الأوسط والخليج  تتيح لها رأب الانشقاقات السياسية القائمة في منطقة الشرق الأوسط الناجمة عن صراعات القوة داخل المنطقة والتهديدات القادمة من الخارج.

ظهور التقارب الاستراتيجي والسياسي بين وفرة الطاقة والموارد المالية الفائضة للاستثمار في المملكة العربية السعودية ودول الخليج مقترنا بالاقتصادات الدينامية في المحيط الهادئ الآسيوي يؤدي إلى ظهور عنصر جوهري من شأنه تغيير مسار الشؤون العالمية جذريا، ويبدو أن هذه العملية قد بدأت مع  الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الطرفين الجغرافيين لآسيا.

ملخص

  • تحول القوة العالمية إلى آسيا أصبح حقيقة، وقد استغرق حدوثه عقدين، ويتوقع زيادة أهميته وقدرته على التأثير.
  • القوة العالمية للولايات المتحدة تتراجع بصرف النظر عن كونه "تراجعا مطلقا"  أم "تراجعا نسبيا،" وحتى لو كان نسبيا فإن فرص استعادتها هيمنة القطب الواحد على الصعيد العالمي ضئيلة. 
  • القوى الآسيوية التي ستحتل مركز الصدارة في الشؤون العالمية في العقود القادمة هي الصين والهند واليابان، كما يجب أن  تضاف روسيا إلى هذه القائمة بصفتها قوة أوراسية.
  • من المتوقع اتجاه القوى الآسيوية- رغم الخلافات بينها- لاستكشاف وتطوير التقارب  الاستراتيجي والسياسي لجعل التحول إلى قوة عالمية آسيوية أكثر فاعلية وفائدة.
  • في حين تعتمد دول الشرق الأوسط مثل السعودية ودول الخليج صياغة السياسات بناء على مبدأ "انظر شرقا" فإن دول المحيط الهادئ الآسيوي ستعتمد بالمقابل وعلى نحو متزايد مبدأ "انظر غربا" لصياغة السياسات بهدف ملء الفراغات الاستراتيجية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط الناتجة عن التراجع الاستراتيجي للولايات المتحدة واتجاه مركز ثقلها الاستراتيجي إلى  المحيط الهادئ الآسيوي.
  • يحتاج الشرق الأوسط  إلى إدراك التهديدات المحدقة به بشكل مستقل حتى يمكنه التحرر من  الاضطراب المستمر في الوقت الحاضر الناتج عن هستيريا "التهديد الإيراني،" وكما هو الحال في المحيط الهادئ الآسيوي فهناك ما يكفي من الفضاء الاستراتيجي والسياسي كي تتعايش القوى الإقليمية مثل السعودية وإيران وتركيا.

__________________________
سوباش كابيلا - كاتب ومحلل استراتيجي هندي، حاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الإستراتيجية من جامعة الله آباد في الهند.

هوامش
(1) لمزيد من التفاصيل حول مدى التراجع في القوة الأميركية وخباصة في منطقة الشرق الأوسط انظر "إخفاقات أوباما في الشرق الأوسط"، زكي العايدي، مركز الجزيرة للدراسات، 12 أبريل/نيسان 2012. (المحرر) http://studies.aljazeera.net/reports/2012/04/2012412124821204822.htm

(2) لمزيد من التفاصيل عن بحر الصين وأهميته الإستراتيجية والصراع الدائر بشأنه انظر، هل ستقلل واشنطن من وجودها العسكري في الخليج؟، فريد هـ. لاوسون، مركز الجزيرة للدراسات، 18 مارس/ أذار 2012.
http://studies.aljazeera.net/reports/2012/03/201231891859267841.htm

نبذة عن الكاتب