تداعيات الأزمة السورية على مستقبل حزب الله

الثورة السورية وضعت حزب الله في مأزق: كيف يجمع بين تحالفه مع النظام السوري وتعاطف الشعوب العربية، خاصة تعاطف السوريين؟ إجابته من خلال عدد من المؤشرات، توحي أنه يحاول أن يدعم استمرار النظام السوري لكنه في نفس الوقت يهيئ نفسه لمرحلة ما بعد الأسد.
2012711144747524580_20.jpg

مرَّ التحالف بين سوريا وحزب الله بعصر ذهبي كان كل طرف فيه ضرورة حيوية للآخر، لكن المنعطف الخطير الذي يمر به النظام السوري يفتح باب العلاقة على احتمالات أحلاها مرّ بالنسبة لمحور ما يسمى بالممانعة. فما هي السيناريوهات المطروحة وما الأكثر احتمالاً منها بالنسبة لمستقبل حزب الله بالتحديد؟

حزب الله وسوريا: حاجة وجودية

المقاومة أو حرب العصابات أو الأنصار أو الغيريللا ظاهرة يصعب تعميمها نظرًا لاختلاف الظروف من حالة إلى أخرى. لكن عودة سريعة إلى التاريخ  تدل على أن ثمة قوانين وشروطًا يساهم توفرها أو فقدانها في تزايد أو تراجع احتمالات نجاح أو فشل المقاومة كحركة تحرر من الاحتلال الأجنبي، أبرزها ثلاثة:

  1. شرعية المقاومة: إنه الشرط الأول الذي من دونه تغدو المقاومة مجرد عصابة خارجة على القانون، كما يقول تشي غيفارا. وتستند المقاومة على المواثيق والاتفاقيات الدولية التي تمنحها المسوغات الشرعية والقانونية لمقاومة الاحتلال الاجنبي، ناهيك عن الأديان والعقائد. وكل المحتلين وَسَموا  من يقاومهم بالإرهاب؛ فالأمر ليس جديدًا أن تعتبر إسرائيل وبعض حلفائها أن حزب الله منظمة إرهابية، لكن تفاهم إبريل/نيسان في العام 1996 أمَّن له اعترافًا إسرائيليًّا ودوليًّا ولو غير مباشر عندما أعطاه الحق بالرد بالمثل على أي اعتداء إسرائيلي على لبنان.
  2. الدعم الشعبي لها: كل مقاومة تحتاج إلى دعم السكان الذين تعيش بينهم، هذا ما عبَّر عنه ماوتسي تونغ بمعادلة "كالسمكة في الماء". فمن دون دعم السكان، أو غالبيتهم، تصبح المقاومة مثل السمكة خارج الماء تتخبط قبل أن تختنق. وعمومًا فإن ممارسات المقاومة هي التي تساهم في جلب التأييد الشعبي لها، وهو أمر ليس بالصعب طالما أن الاحتلال مكروه بالفطرة إلا من قليل من المستفيدين والعملاء. ويمكن القول: إن حزب الله يحظى بتأييد شعبي واضح في بيئة شيعية لبنانية، وقد نجح سلوكه بعد التحرير في مايو/أيار العام 2000 في كسب تعاطف جهات غير شيعية أيضًا وتنامى هذا التأييد، في أوساط مسيحية واسعة، بعد توقيعه لمذكرة التفاهم مع الجنرال المسيحي ميشال عون.
  3. القاعدة الخلفية ونعمة الجغرافيا: هذا العنصر يكاد يكون الأهم؛ إذ إن المقاومة مهما كانت قانونية وشرعية وشعبية، فمن دون قاعدة خلفية وممر لتغذيتها بالسلاح والعتاد والمؤن، لن تتمكن من الصمود طويلاً. كل المقاومات التي نجحت عبر التاريخ كانت تنعم بدعم خارجي مجاور؛ فمن دون الجزائر لما استمرت البوليساريو، ومن دون باكستان لما تمكن الأفغان من مقاومة الجيش السوفيتي، ومن دون دعم الدول العربية المجاورة لما انتصرت الثورة الجزائرية، ومن دون الصين لما تكلَّلت المقاومة الفيتنامية بالنصر. والجنرال الفيتنامي فو جياب يعتبر أن دعم بلد مجاور هو رئة المقاومة. والتجارب التاريخية تشهد على أن غياب الدعم الخارجي (ماليزيا والفلبين على سبيل المثال)، أو توقفه فجأة (حالة اليونان مثلاً)كان سببًا في إخفاق المقاومة، في حين ساهم توفره في ازدهارها وانتصارها (الجزائر، أفغانستان، فيتنام، لبنان..). وهكذا فإن الحدود الجغرافية بين لبنان وسوريا تجعل من المستحيل على أية مقاومة في لبنان أن تعيش وتزدهر من دون دعم سوري لها أو أقلّه قبول بتهريب السلاح والعتاد اليها.

وإذا كانت الجغرافيا مع سوريا قد شكَّلت الشريان الحيوي لحزب الله، فإن دمشق ساهمت أيضًا في تأمين العناصر الأخرى لنجاح الحزب من خلال تأثيرها على السياسيين اللبنانيين. واليوم رغم كل المتغيرات التي عصفت بالمشهد اللبناني، تبقى سوريا الشريان الحيوي الذي يمد حزب الله بالسلاح والعتاد ويؤمِّن له حديقة خلفية استراتيجية في مواجهته لإسرائيل. لكن لهذا التحالف أثمان كان يدفعها الحزب وقد أتت باهظة جدًا، لاسيما منذ الخامس عشر من مارس/آذار 2011 تاريخ اندلاع الثورة السورية المطالبة بإسقاط نظام الأسد.

العصر الذهبي لحلف سوريا-حزب الله

وُلِد حزب الله برعاية إيرانية على أرض لبنانية (بعلبك) يسيطر عليها السوريون سيطرة ناجزة. وبقيت العلاقة بين سوريا وحزب الله (الذي صار علنيًّا منذ مارس/آذار 1985) منحصرة في الجانب الأمني دون أن تتطور إلى مستوى التنسيق السياسي. لكن في موازاة تطور التحالف السوري-الإيراني ومع انطلاق المفاوضات العربية-الإسرائيلية ابتداءً من مؤتمر مدريد في أكتوبر/تشرين الأول 1991 مرورًا باتفاق أوسلو في سبتمبر/أيلول 1993، أخذت العلاقة بين الطرفين تتطور نحو المزيد من التنسيق والتحالف؛ فمن جهة منح اتفاق بيكر-الأسد، عشية حرب الخليج الثانية، دمشق ضوء أخضر للقضاء على تمرد الجنرال ميشال عون بالقوة مع حرية التصرف بالشأن اللبناني؛ ما أقنع حزب الله (الذي لم تجرده دمشق من سلاحه كما فعلت مع الميليشيات غداة اتفاق الطائف في نهاية العام 1989) بالخضوع  للوصاية السورية التي حظيت بغطاء دولي وإقليمي. ومن جهة أخرى، باتت المقاومة الإسلامية في جنوبي لبنان من أثمن الأوراق الداعمة للموقف التفاوضي السوري.

في هذا الوقت كان الحزب "يَتَلَبْنَنْ" عبر الانخراط في النظام السياسي اللبناني الذي وصفته وثيقته في العام 1985 بـ"الفاسد والمتعفن". خاض الانتخابات النيابية ابتداءً من العام 1992 بحصة ضئيلة من النواب وبقيت حصته من "القطائع" التي توزعها الدولة (وظائف، منافع، محسوبيات..) منعدمة تقريبًا بالمقارنة مع حصة  الآخرين، مثل حركة أمل التي يرأس زعيمها نبيه بري مجلس النواب ويستأثر بحصة الطائفة الشيعية في الإدارة والنفوذ. وبدا الأمر وكأن الدولة أوكلت أمر مقاومة إسرائيل إلى حزب الله حتى إذا انتهى مسوغ هذه المقاومة، بفعل انسحاب إسرائيلي من الجنوب مثلاً، فإن على الحزب أن ينتهي عسكريًا علي الأقل.

بقيت سوريا طوال سنين الوصاية تمتلك كامل أوراق اللعبة اللبنانية وتضع سقوف الدعم الإيراني لحزب الله الذي كانت سياساته نفسها نتاجًا للمساومات السورية-الإيرانية. بدوره أيّد الحزب كل  سياسات سوريا التي تربعت على موقع متميز في الشرق الأوسط وكانت، عن طريق المقاومة، توجه الرسائل الخاصة إلى أعدائها، وتحرك الجبهة الشمالية لإسرائيل على إيقاع المفاوضات المرتبكة والضغوط المتصاعدة.

في مايو/أيار من العام 2000، انسحب الجيش الإسرائيلي من الجنوب اللبناني المحتل؛ فحققت المقاومة انتصارًا مدويًّا سرعان ما أهدته إلى الشعب اللبناني والقيادة السورية. وبرهن سلوكها الحضاري مع السكان المحليين غداة التحرير على قدر كبير من الإدراك السياسي وحس المسؤولية، فلمع نجمها واتسعت شعبيتها. في هذا الوقت كان الرئيس حافظ الأسد قد توفي وخلفه ولده بشار الذي لا يمتلك خبرة معهودة في الحكم والسياسة.

من الطبيعي والحال هذه أن يقوى موقع حزب الله وحليفه الإيراني لدى القيادة السورية الجديدة، كما في لبنان، فيرتفع منسوب الندية الذي كان مفقودًا بين الحلفاء في عهد حافظ الأسد وتصير العلاقة بين طهران وحزب الله مباشرة -كما الطيران المدني الذي أمسى مباشرًا بين طهران وبيروت. لكن أصواتًا بدأت تقول بزوال مسوغ سلاح حزب الله الذي سارع عندئذ، بإيعاز من دمشق، للإعلان عن استمرار مقاومته لتحرير مزارع شبعا ومرتفعات كفر شوبا اللبنانية والتي تعتبرها إسرائيل أراضي سورية احتُلَّت في حرب 1967. وكانت ثمة قناعة واسعة الانتشار في لبنان أن سوريا تتمسك بورقة جبهة الجنوب اللبناني لتقوية وضعها الإقليمي، فضغطت على الدولة اللبنانية التي أقرت رسميًّا بلبنانية المزارع وبالتالي بشرعية استمرار المقاومة.

اغتيال الحريري: منعطف خطير

في العام 2003، شنَّ الأميركيون حربًا انتهت باحتلال العراق على خلفية مشروع للمحافظين الجدد يبتغي إعادة هندسة المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط. تصاعدت الضغوط على سوريا وصولاً إلى صدور القرار 1559 في سبتمبر/أيلول 2004 الذي يدعوها إلى الانسحاب من لبنان كما يدعو إلى نزع سلاح الميليشيات، تحديدًا حزب الله. ووصل التوتر إلى ذروته باغتيال الرئيس الحريري في 14 فبراير/شباط 2005 والذي كان بمثابة زلزال انقسم البلد إثره بين معسكري 8 مارس/آذار الموالي لسوريا وإيران و14 مارس/آذار المعادي لهما. وتحت الضغوط الدولية والشعبية اللبنانية اضطُرَّ الجيش السوري للانسحاب من لبنان بطريقة مذلة. بعد عام على ذلك، كان العدوان الإسرائيلي على لبنان والذي دام 33 يومًا من دون تحقيق أهدافه ما يعني انتصارًا للمقاومة رغم الموقف الدولي المتواطئ مع إسرائيل. وقد تمكن حزب الله، في عامي 2004 و2008، من إجراء عمليات تبادل حررت أسرى عربًا وكامل الأسرى اللبنانيين من السجون الإسرائيلية ما زاد من رصيده الشعبي عربيًا ولبنانيًا.

لقد أضحى نفوذ سوريا في لبنان، بعد انسحاب جيشها منه، يمر عبر حزب الله الذي صار حارسًا لهذا النفوذ منذ خطاب السيد حسن نصر الله أمام مظاهرة الثامن من مارس/آذار المليونية في ساحة رياض الصلح؛ حيث استبسل في الدفاع عنها في وجه من اتهمها باغتيال الحريري، فقاوم مساعي حكومة فؤاد السنيورة لتوقيع اتفاقات مع الأمم المتحدة بشأن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والتي اعتبرها مجرد أداة إسرائيلية وأميركية لكسر حلف الممانعة. قدَّم الحزب كثيرًا لسوريا في هذه المرحلة العصيبة فكلَّفه ذلك الكثير من التوتر في علاقاته اللبنانية والإقليمية. في المقابل، تعرض لهجومات سياسية عنيفة من خصومه إلى أن انفجر الوضع في مايو/أيار 2008، فسيطر وحلفاؤه على بيروت الغربية، الأمر الذي قاد إلى تدخل إقليمي، انتهى باتفاق الدوحة الذي مهَّد لانتخابات رئاسية (ميشال سليمان) ونيابية وصولاً إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة سعد الحريري. وعلى إثر خلافات سورية مع هذه الأخيرة، استقال 11 وزيرًا (ثلث زائد واحد) مواليًا لحزب الله الذي أضحى على رأس أغلبية برلمانية شكَّلت حكومة برئاسة نجيب ميقاتي من دون مشاركة قوى 14 مارس/آذار. لم تكد هذه الحكومة تتسلم مهامها حتى دخلت سوريا في نفق دموي مظلم ومعها مستقبل "حلف الممانعة" وحزب الله.

سيناريوهات مرعبة

أيَّد حزب الله،كما فعلت طهران، الثورات العربية في بدايات العام 2011 والتي أطاحت بأنظمة كانت تناصبه العداء. وكانت استطلاعات الرأي، في أواسط العقد المنصرم، تشير إلى أن السيد حسن نصر الله والرئيسين أحمدي نجاد وبشار الأسد هم الزعماء الأكثر شعبية في بعض الدول العربية بسبب وقوفهم ضد إسرائيل. ولكن في 15 مارس/آذار 2011، اندلعت الثورة السورية، ففاجأتهم، سيما وأن الرئيس الأسد كان قد عبّر قبل أيام قليلة عن ثقته بأن الثورة لن تمتد إلى نظامه المعادي لإسرائيل. يبدو أن الثورات العربية كشفت تعلق الجماهير بالحقوق المدنية والإصلاحات الديمقراطية أكثر منها بالسياسات الخارجية والصراع مع إسرائيل الذي استغلته بعض الأنظمة في قمعها لمعارضيها وتبريرها لحالة الطوارئ.

من اليسار، الرئيس السوري بشار الأسد، الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، الرئيس الإيراني أحمدي نجاد (الجزيرة)

لأسباب أخلاقية وسياسية وجغرافية وغيرها، لا يستطيع حزب الله التخلي عن حليفه السوري بمجرد أن تعرض هذا الأخير إلى ضائقة أو أزمة داخلية؛ لذا استمر في تأييده للثورات العربية، معتبرًا أن سوريا هي استثناء وما يحصل فيها ليس ثورة شعبية إنما مؤامرة تهدف إلى كسر حلف الممانعة وربما تقسيم الأمة العربية. وهكذا راح يتبنى أطروحة النظام السوري كاملةً؛ ما دفع البعض لاتهامه بالمشاركة في قمع الاحتجاجات الشعبية السورية وارتكاب المجازر. بالطبع لا حاجة للنظام السوري إلى مقاتلي حزب الله ولكن هذا الأخير لم يتخذ موقفًا فيه قدر ولو قليل من المسافة مع حليف يستخدم القوة العسكرية والبطش في وجه الاحتجاجات التي كانت سلمية الطابع قبل أن تتحول إلى عسكرية ثم إلى مواجهات مسلحة تشبه الحرب الاهلية.

خسر حزب الله الكثير من شعبيته؛ فبعدما كانت ترتفع صور قائده وأعلامه في المظاهرات العربية صارت  تُحرَق. مشكلته أنه لا يستطيع التوفيق بين تأييده للنظام السوري والاحتفاظ بتعاطف الشعوب معه، لاسيما السوري الذي يتعرض لبطش النظام. أكثر من ذلك فقد كشفت الثورات العربية عن صعود متنامٍ للإسلام السياسي لاسيما الإخوان المسلمين الذين قد يصلون إلى السلطة بعد رحيل الأسد، وهو أمر يتعارض مع التحالف القائم بين النظام السوري ومنظمة حماس التي انسحبت بهدوء من دمشق قبل أن تعلن تأييدها لمطالب الشعب السوري. إن حليفًا مهمًّا وأساسيًّا لحزب الله هو حماس، والتي طالما دافع عنها وضحّى من أجلها، صارت في الصف الآخر (مصر ودول الخليج العربي المعادية للنظام السوري). وبعد وصول الدكتور محمد مرسي إلى رئاسة مصر وإعلانه في خطاب القسم، في 30 يونيو/حزيران 2012، عن تأييده للشعب السوري، ووعده بالعمل قريبًا لوقف إراقة دماء هذا "الشعب الشقيق" يمكن القول: إن التحولات العربية لم تكن البتة في صالح "حلف الممانعة" الذي هلَّل لها واستبشر خيرًا بها.

خسارة حزب الله إذن تبدو مزدوجة: سياسية وشعبية. ومع الوقت لم يعد بمقدوره -كما لم يعد مجديًا- أن  يبدل موقفه من الأزمة السورية رغم بعض الاعتدال الذي اتسمت به خطابات السيد نصر الله الأخيرة. لقد بات الوقت متأخرًا.

ينقل موقع "الحقيقة" السوري الإلكتروني عن دبلوماسي بريطاني خبير بالشرق الأوسط تلقيه لتقرير عالي المصداقية والدقة، متداول في أوساط حزب الله القيادية، يقول بأن السيد نصر الله زار سوريا سرًّا عدة مرات أولها في يونيو/حزيران 2011 لينصح الرئيس الأسد بإجراء إصلاحات عاجلة (مثل اعتقال قادة الأجهزة المسؤولين عن المجازر، وإجراء تشكيلات أمنية وإدارية مهمة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية فيها أغلبية من المعارضة تقوم بالإعداد لإصلاحات واسعة ودستور جديد وانتخابات نيابية ورئاسية مع إبداء الأسد الاستعداد للتنحي لمصلحة نائبه فاروق الشرع... إلخ)  لكن الرئيس السوري رفض؛ الأمر الذي أقنع حزب الله بأن عليه الاستعداد لمرحلة ما بعد الأسد مع العمل الدؤوب للحفاظ على وحدة الأراضي السورية المهددة، على ما يقول التقرير المذكور.

عدا ذلك فلو أن الحوادث الأمنية بقيت داخل الحدود السورية لكان حزب الله قد شعر بأنه بمنأى نسبيًّا عن الأزمة. لكنها، ابتداءً من الربيع الماضي، اجتازت الحدود لتحط في طرابلس عبر جولات عنف متكررة بين علويي جبل محسن وسُنَّة باب التبانة، ناهيك عن حوادث عنفية متنقلة ما بين بيروت وصيدا والبقاع الغربي. أكثر من ذلك تتنامى الظاهرة السلفية السنية التي تندد بوقوف حزب الله إلى جانب "الاستبداد" السوري وتطالبه بإلحاح بتسليم سلاحه. بيد أن الحزب يستمر بفعل ما بوسعه لتفادي الوقوع في فخ مواجهات داخلية لبنانية قد تقود إلى فتنة مذهبية يريدها له أعداؤه، لاسيما الإسرائيليون لأنها تؤمِّن تحقيقًا لأهدافهم من دون أن ينفقوا شيئًا من حسابهم.

وسوريا التي تؤمِّن له تدفق السلاح والعتاد قد يخسرها الحزب في حال سقوط نظام الأسد، لاسيما إذا كان حكامها الجدد من الحاقدين عليه بسبب مواقفه من الثورة. مثل هذا السيناريو يشكِّل انتصارًا لقوى الرابع عشر من مارس/آذار التي ستزيد من ضغوطها عليه؛ ما يضطره للدفاع عن نفسه فيغدو عندئذ مجرد ميليشيا شيعية. والحقيقة أن الحزب لا يخاطر بوجوده ومستقبله من أجل بشار الأسد لكنه يفتقد إلى بديل يؤمِّن له، سرًّا أو علانية، استمرار الاستفادة من حسنات الجغرافيا، عدا أنه مضطر لمراعاة "الراعي" الإيراني الذي ما يزال حليفًا لدمشق ومدافعًا عن نظامها.

ويتوجس خصوم حزب الله من إقدامه على قلب الطاولة في لبنان بطلب من النظام السوري وفي محاولة يائسة لإنقاذه عبر تحويل الأنظار الدولية من سوريا إلى لبنان. في هذا الإطار هناك من يتكلم عن خطة إيرانية-سورية ينفذها حزب الله وحلفاؤه للسيطرة عسكريًا على كامل الأراضي اللبنانية (نوع من 7 مايو/أيار موسّع). وهناك من يعتقد بأن الحزب قد يشعل جبهة الجنوب اللبناني مع إسرائيل التي تضطر للرد بقوة فتشتعل نيران حرب قد تغدو إقليمية شاملة. وبطريقة معاكسة، فهناك من يعتقد بأن إسرائيل ستشن حربًا على إيران بسبب برنامجها النووي مستغلةً عزلة "محور الممانعة" الدولية وتعمد، في الوقت نفسه، إلى تصفية حسابها مع حزب الله. أما السيناريو الكارثي الأخطر المتداول فهو حرب أهلية مذهبية بدأت في سوريا وتمتد نيرانها لتشعل لبنان والمنطقة بأسرها التي قد توضع تحت مبضع التقسيم. ألم يهدد الرئيس الأسد بزلزال يضرب المنطقة إذا ما شارف نظامه على السقوط؟

آفاق المستقبل

في الحقيقة إن هذه السيناريوهات، وإن لم تكن مستحيلة الوقوع، تبقى ضئيلة الاحتمال؛ فحزب الله ليس مجرد خادم للنظام السوري يتلقى منه الأمر بالانتحار فيسارع إلى التنفيذ؛ فهو وإن كان حزبًا مقاومًا لإسرائيل يستعد لمواجهتها في أي وقت إلا أنه لن يباشر بإشعال حرب لا تحظى بتأييد جمهوره الشيعي الجنوبي أولاً واللبناني عمومًا، في ظروف لبنانية مختلفة عما كانت عليه في العام 2006 عندما نجح في أسر جنديين إسرائيليين بهدف تحرير أسرى لبنانيين. سوف يبدو الحزب اليوم وكأنه يضحِّي بلبنان واللبنانيين تكريمًا لعين بشار الأسد، وهذا ما لن يفعله على وجه التأكيد، لاسيما وأن الحرب المقبلة قد تكون الأعنف في تاريخ المنطقة وسيذهب ضحيتها جمهور الحزب قبل غيره ولن تنتهي كما انتهت سابقاتها وهو ما يدركه تمامًا السيد نصر الله الذي اعترف يومًا بأنه لو كان يتوقع رد فعل الإسرائيليين في يوليو/تموز 2006 لما قام بعملية "الوعد الصادق".

أما عن سيناريو السيطرة العسكرية على لبنان فهو الأقل احتمالاً لأن مثل هذه السيطرة لا تُجدي نفعًا وتشتّت قوات الحزب في الداخل فتجعلها مكشوفة أمام الإسرائيليين، ثم إنه من الأجدى السيطرة من خلال حكومة شرعية، وذلك ما هو حاصل تقريبًا اليوم لكن من دون أن يتغير شيء في ميزان القوى في بلد لا يستطيع فيه أحد السيطرة على أحد ناهيك عن البلد بأكمله. ومثل هذه المحاولة هي مدخل إلى حرب أهلية، من الواضح والجلي أن حزب الله يفعل ما بوسعه لتداركها ومنعها. أما عن استغلال إسرائيل لحراجة وضع الحزب وشنّ حرب خاطفة عليه فهو احتمال ضعيف لأن إسرائيل تفضِّل التفرج عليه متخبطًا في مستنقع أزمات داخلية وإقليمية بدلاً من أن تتدخل لإنقاذه عبر حرب ستكون باهظة التكاليف البشرية التي يصعب على المجتمع الإسرائيلي تحملها.

هذه السيناريوهات القاتمة تبقى ضعيفة الاحتمال لاسيما وأن حزب الله سوف يمتلك الوقت الكافي بعد تغير النظام السوري، إن حصل، لإعادة ترتيب أوراقه الداخلية والإقليمية؛ فسقوط هذا النظام لا يعني سقوطًا آليًّا مباشرًا لحزب الله الذي سيبقى ممتلكًا لترسانة من السلاح قادرة على مواجهة جيوش كبرى في حروب كبرى، لاسيما إذا صحت الأخبار الإسرائيلية بأن دمشق سمحت له بنقل أسلحة ثقيلة متطورة كان يخزِّنها في سوريا خوفًا من وقوعها في أيدي الثوار. وهو يسيطر على مطار بيروت وعدد من المرافئ البحرية التي تعوضه، ولو لفترة قصيرة، اختفاء الشريان السوري والذي لن يشعر بمفاعيله القاسية إلا بعد سنوات عديدة. في هذا الوقت سيكون حليفه الإيراني جاهزًا لمحاولة التعويض عن غياب الحليف السوري، اللهم إلا إذا تعرضت إيران إلى هجوم عسكري غربي و/أو إسرائيلي، وهو أمر سيقلب الأوضاع في المنطقة رأسًا على عقب.

في المقابل وعلى المستوى السياسي، من المحتمل أن يكون حزب الله قد بدأ الاستعداد لمرحلة ما بعد الأسد، وبقدر من الحذر والبراغماتية من خلال السعي إلى بناء تحالفات جديدة، ربما مع أطراف من المعارضة السورية مباشرةً أو عبر إيران التي أيدت موجة الثورات العربية "التي اتخذت من الثورة الإسلامية الإيرانية مرجعية لها" كما أعلن الرئيس أحمدي نجاد ومن قبله المرشد الأعلى السيد خامنئي. وتقول الأنباء غير المؤكدة: إن إيران فتحت مباحثات سرية مع الإخوان المسلمين السوريين الموجودين في تركيا. وقد هنَّأ حزب الله الرئيس مرسي لانتخابه "التاريخي" بمفردات فيها الكثير من الحماسة، وكذلك فعلت طهران. وكان مرسي قد ذكر لوكالة فارس للأنباء أنه لابد من إعادة العلاقات المقطوعة (منذ العام 1980) بين مصر وإيران بهدف إحداث توازن استراتيجي في المنطقة على الأقل. ولأسباب يمكن فهمها، أنكر مرسي قوله هذا لاحقًا لكن الوكالة الإيرانية أصرَّت على صحته. ومن الممكن أن تلعب حماس دورًا في التقريب ما بين حزب الله والإخوان المسلمين المصريين الذين قد يتوسطون لدى إخوانهم السوريين المرشحين للعب دور في سوريا الجديدة من أجل تطبيع العلاقات مع حزب الله. ومصر مؤهلة للعب دور بين الإخوان السوريين وإيران، وهذا كله تحت عنوان عريض هو مواجهة إسرائيل وكذلك دعم الشعب الفلسطيني، كما وعد مرسي وكرر بنبرة عالية في خطاب القَسَم في جامعة القاهرة في 30 يونيو/حزيران 2012؛ فإسرائيل هي العدو المشترك للجميع ثم من شأن التقارب بين إيران وحزب الله من جهة والإخوان المسلمين السوريين والمصريين من جهة أخرى المساهمة في وضع حد لإرهاصات فتنة سنية-شيعية تحضّر للمنطقة.

إنه الخيار الأذكى لأنه يُخرِج حزب الله من العزلة الإقليمية ولا يحرمه من نعمة الجغرافيا مع سوريا أو على الأقل يدرأ عنه كارثة تحول الجغرافيا إلى لعنة على يد نظام معادٍ، ثم إنه يحميه من تبدل ميزان القوى في لبنان نتيجة لتبدله في سوريا. لا ننسى أنه في ربيع العام 2013، ستُجرى الانتخابات النيابية اللبنانية (إذا لم تؤجل بسبب الاضطرابات الناتجة عن الوضع في سوريا ) وقد يخسر حزب الله أغلبيته الحالية فيضطر إلى قيادة معارضة من دون نظام سوري يدعمها سياسيًّا وعسكريًّا. لذلك في محاولة لاستباق مثل هذه التطورات، اقترح السيد نصر الله تشكيل مجلس تأسيسي لإعادة النظر في النظام السياسي اللبناني والعبور إلى عقد اجتماعي جديد. ورغم أن دعوته جوبهت بالرفض، فقد وافق على الانضمام إلى طاولة الحوار التي دعا اليها رئيس الجمهورية اللبناني ميشال سليمان بتشجيع من المملكة العربية السعودية، كما شجع على مثل هذا الحوار ولو أنه، كما يعرف الجميع، لن يُفضي إلى شيء يُذكر.

في المحصلة يمكن القول: إن المؤشرات المنبعثة من الأزمة السورية تدل على أن الحل العسكري بات مستحيلاً، ولا مناص من حل سياسي تشترك فيه القوى الدولية والإقليمية المؤثرة. وعلى اللبنانيين، وحزب الله بالتحديد، أن ينتهزوا الفرصة ليكون مستقبل حزب الله والنظام السياسي والعلاقات البينية اللبنانية جزءًا من حل شامل يفضي إلى ديمقراطيتين شقيقتين متجاورتين لا وصاية للواحدة منهما على الأخرى.
________________________________
غسان العزي - باحث في الشؤون اللبنانية

نبذة عن الكاتب