استقلال كوسوفو ورسم معالم مستقبل الدولة

مسلمو كوسوفو يجدون صعوبة في فهم تخلف الدول العربية عن الاعتراف باستقلال دولتهم، وتتمثل أولويات كوسوفو بُعيْد رفع الوصاية الدولية عنه في العمل على الاندماج في أوربا، والحفاظ على وحدة أراضيه في أي حوار مع الصرب.
2012112110134501734_20.jpg


طبيعة العلاقات الجيدة بين كوسوفو وبلدان الجوار،هي الضمانة الوحيدة لتقوية مبدأ استقلاله وسيادته ووحدة أراضيه،
وهي الطريق الأوحد أمام كوسوفو لتنمية استقراره (الجزيرة)

يكفي أن نعدد جملة المعطيات الأساسية المتعلقة بدولة كوسوفو منذ العام 1999، ليؤدي بنا ذلك إلى فهم المشاكل الحالية التي تواجهها هذه الدولة المستقلة حديثًا.

قصفت قوات حلف الناتو في تلك السنة دولة صربيا في سعيها لمنع وقوع حرب إبادة وحملة تطهير عرقي في كوسوفو، استهدفت غالبية سكانه من الإثنية الألبانية، وقد حدث ذلك عقب احتلال صربيا للإقليم الكوسوفي الذي دام لأكثر من عقد، بعد أن كان قد انطلق في العام 1989 لوضع حد بالقوة لما كان يتمتع به إقليم كوسوفو من حكم ذاتي.
عشر سنوات بعد ذلك العدوان، وتحديدًا في العام 1999، انسحبت القوات الصربية من إقليم كوسوفو، ليصبح البلد منذ ذلك التاريخ، ولمدة تسع سنوات كاملة، تحت إشراف وإدارة مباشرين من قبل الأمم المتحدة، وفقًا للقرار الأممي رقم 1244.

ثم جاء إعلان استقلال كوسوفو على أساس قرار تم تبنيه في جلسة برلمانية خاصة التأمت في 17فبراير/شباط 2008.

رد صربيا على استقلال كوسوفو

لم يتأخر رد فعل السلطات الصربية، فقد عقد برلمانها جلسة استثنائية، يومًا واحدًا بعد إعلان استقلال كوسوفو، أي في 18فبراير/شباط 2008، لينتهي إلى تبني قرار يقضي بإلغاء إعلان الاستقلال. ومن ثم أطلقت بلغراد حملة سياسية موجهة ضد استقلال كوسوفو من أجل زعزعة استقراره وعرقلة جهود تنميته، ولا تزال هذه الحملة تواصل هجماتها المتكررة على كوسوفو حتى يومنا هذا.

نذكّر في هذا الإطار، بأنه على إثر مواجهة القوات الصربية وقمعها للمظاهرات والإضرابات التي نظمها عمال المناجم واعتقال عدد من قادة ذلك الحراك العمالي من الألبان في شهر مارس/آذار 1989، وفي نفس هذا الشهر، فإن البرلمان الصربي بادر إلى إجراء تعديلات غير قانونية (لأنه لا يملك الصلاحية لذلك) على دستور دولة صربيا تمّ بموجبها إلغاء وضع كوسوفو بصفته مكونًا من مكونات الوحدة الفيدرالية الصربية، وبالتالي تم سحب كل الصلاحيات التي كانت مخوّلة لسلطات الإقليم، والتي تضمّنها دستور صربيا لعام 1974 الساري المفعول في حينه.

التعديلات الدستورية المجراة على دستور 1974، كما هو الشأن بعد ذلك في الدستور الصادر في عهد الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش لعام 1990، أعادت اعتماد تسمية كوسوفو وميتوهيا (وهي التسمية التي يرفضها الكوسوفيون الألبان بشدة لأنها تحيل إلى الأراضي التابعة للكنيسة الأرثوذوكسية الصربية التي يدّعي الصرب أنها جزء لا يتجزأ من أراضيها تاريخيًا)، كما سحبت بقرار أحادي كل صلاحيات ممارسة الكوسوفيين لسلطاتهم داخل الإقليم، ولا تزال تلك التعديلات التي تم تبنيها في عهد ميلوشيفيتش، مضمَّنة في الدستور الجاري به العمل إلى الآن والصادر عام 2006؛ حيث نقرأ في ديباجة هذا الدستور أن "كوسوفو وميتوهيا" يشكّلان جزءًا لا يتجزأ من صربيا ويخضعان للسيادة الكاملة والناجزة لدولة صربيا، وبالاعتماد على ذلك فإن البرلمان الصربي اعتبر أنّ إلغاء إعلان استقلال كوسوفو يدخل ضمن صلاحياته.

الحقيقة تختلف كليًا عن هذا الموقف الصربي؛ إذ إن محكمة العدل الدولية في هاغ، وعلى لسان رئيسها الياباني، هيساشي أُوادا Hisashi Owada، أقرت في يوليو/تموز 2010، (في ردّها على طلب صربي كانت بلغراد قد تقدمت به إلى الأمم المتحدة) بأن "إعلان استقلال كوسوفو المؤرخ في 17فبراير/شباط لعام 2008، لم يخرق القواعد العامة للقانون الدولي".

استقلال كوسوفو التام

في سبتمبر/أيلول من العام الحالي، أي بعد عامين من قرار محكمة هاغ، أعلنت المجموعة الدولية المشرفة على إدارة كوسوفو (ISG) انتهاء مدة مراقبتها لاستقلال دولة كوسوفو؛ ما يعني أن الدولة الوليدة باتت تتمتع باستقلال كامل وتام بعيدًا عن خضوعها لوصاية المجتمع الدولي ومراقبته، إذا استثنينا تمديد مهمة "البعثة الأوربية لمراقبة تطبيق القانون" المسماة يوليكسا ((EULEKSA إلى العام 2014، واستمرار انتشار القوات الأممية العاملة في كوسوفو والمسماة كـ فور KFOR، التي تقوم على ضمان أمن كوسوفو.

تتكون المجموعة الدولية المشرفة على إدارة كوسوفو (ISG) من أعضاء يمثلون الدول الأوربية التي اعترفت بكوسوفو وعددها 23 دولة، إلى جانب تركيا والولايات المتحدة الأميركية، في حين لا تزال روسيا -التي دعمت نظام ميلوشيفيتش خلال احتلاله لكوسوفو وتنظيم حملة تطهير عرقي للإقليم من كل الألبان- تواصل موقفها في دعم حملات بلغراد الموجهة ضد كوسوفو.

أما صربيا فلا يبدو أنها بصدد تغيير موقفها، فهي تردد باستمرار أن لا نية لها البتة في الاعتراف بكوسوفو، وتقترح بدلاً من ذلك الجلوس إلى طاولة الحوار مع بريشتينا ومع الألبان بصفتهم تلك، وليس مع ممثلين عن دولة كوسوفو، ما يعني أن بلغراد تواصل اعتماد خطها السياسي، كما رسم معالمه ميلوشيفيتش، غير المعترِف بكوسوفو في حدوده المعلنة.

بُعيْد رفع الوصاية الدولية عن كوسوفو، أعلن رئيس وزراء كوسوفو، هاشم تاتشي، أن أولويات بلاده في المستقبل القريب تتمثل في العمل على اندماج كوسوفو في أوربا، وحصول الكوسوفيين على نظام الإعفاء من تأشيرة دخول بلدان الاتحاد الأوربي، وإمضاء معاهدة الأمن والشراكة مع الاتحاد الأوربي.

لكن تظل منطقة شمال كوسوفو نقطة مؤلمة ومعوقة لمسيرة التنمية الكوسوفية وحجر عثرة في سبيل بسط نفوذ حكومة بريشتينا داخل كامل الأراضي الخاضعة لسلطتها، ومنها المنطقة الشمالية، التي طُرد منها تقريبًا كلّ من لا ينحدرون من أصول صربية.

ولا تزال السلطات الصربية، الموصوفة بالموازية، تشرف على مصالح وإدارة شؤون حوالي 30 ألفًا من الصرب موزعين على ثلاث بلديات، وهو ما يساهم في عرقلة مساعي سلطات كوسوفو لفرض هيبتها على كامل أراضيها مثل ما هي عليه الحال في باقي البلديات التي تتواجد فيها أقليات صربية إلى جانب الأغلبية الألبانية.

من أمثلة ذلك، أن القوات الخاصة الصربية قبل وقت قصير داهمت مدينة ميتروفيتسا الشمالية واعتقلت بعض المتطرّفين الصرب هناك، وتمت هذه العملية دون علم قوات الأمم المتحدة كـ فور KFOR أو يوليكس EULEX ولا الشرطة الكوسوفية، في خرق واضح وتحدّ صريح للسلطات المحلية والدولية، وإيغالاً صربيًا في عزل مدينة ميتروفيتسا وشمال كوسوفو عن باقي أجزاء البلد، ومنع السلطات الكوسوفية من ممارسة سيادتها عليه.

من الواضح أن حل قضية شمال كوسوفو تحتمل واحدًا من حلين، فإما أن يتنزل الحلّ في شكل صراع جديد يستدعي استعمال القوة، وإما أن يكون سلميًا برفع بلغراد يدها عن المنطقة وتخليها عن التدخل في شؤونها. وعند ذلك سيكون بإمكان السطات الكوسوفية بدء حوار جاد مع سكان ميتروفيتسا من المواطنين الصرب وإقامة خطوط للتواصل معهم.
وبكل تأكيد، فإن أي عودة للعنف أو أي حالة من حالات الحرب لن تكون مقبولة من طرف أوروبا التي تسعى إلى وضع إطار سلمي لعودة الحوار بين بريشتينا وبلغراد، وتملك أوروبا بين يديها ورقة رابحة وحيدة، لكنها مهمة جدًا، وهي فتح بابها أمام إمكانية انضمام صربيا إلى الاتحاد الأوربي في حال وضعت حدًا لافتعال التوتر مع كوسوفو.

الحوار كطريق إلى المغالطة

إن دعوات بلغراد المتكررة والمصرة على الحوار مع كوسوفو، الذي هو شرط لحصول صربيا على وضع العضو المرشح للانضمام إلى الاتحاد الأوربي، تفتح الباب أما سؤالين مهمين:

  • الأول: إلى أي حدّ تهتم صربيا حقيقة بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي؟
  • الثاني: كيف لأوروبا أن تضمن أن الجانب الصربي سيقبل "المرور عبر المياه العذبة دون أن يشرب منها ليروي عطشه"، وأنه لا يتظاهر بقبوله حوارًا هو يعلم مسبقًا أنه لن يؤدي إلى حلّ أي مشكل؟

بمعنى أن صربيا سوف تدخل حوارًا تطرح فيه أسئلة وقضايا غير ذات أهمية، بينما تُبقي على موقفها المبدئي من كوسوفو، وهو الموقف الذي ظل الرئيس الصربي المنتخب حديثًا، توميسلاف نيكوليتش، يردّده منذ بدء حملته الانتخابية وبعد أن اعتلى سدة الرئاسة: "صربيا لن تعترف أبدًا بكوسوفو"، لكنه يضيف: إن "الجميع في صربيا مجمعون على ضرورة الحوار".

الجانب الصربي يردّد أيضًا، دون أن يكون لذلك معنى حقيقي وملموس، أن العلاقات مع الجانب الكوسوفي يجب أن تدار بشكل سلمي، وبدون وجود خسارة في صفوف أحد الطرفين.

إن مثل هذا الكلام لا يغير من حقيقة أن الجانب الصربي ما زال يواصل تشكيكه، ويعرقل بسط دولة كوسوفو سيادتها الكاملة على أراضيها، وأن موقفه الذي يعتبر أن "كوسوفو هي صربيا" ثابت لا يتبدّل رغم كل ما يردده المسؤولون الصرب من "استعدادهم للحوار وتهدئة العلاقات بين الجانبين". وبقطع النظر عن كل هذا، فإن كوسوفو لا يملك التأثير في الموقف الصربي ولا إمكانية حمله على تبني مواقف أكثر جدية فيما يتعلق بإدارة العلاقات الثنائية بين البلدين.

من جانبهم، نجد المسؤولين الأوروبيين والأميركيين متفائلين بأن مستقبل صربيا وكوسوفو يكمن في انضمامهما إلى الاتحاد الأوروبي، وهم في نفس الوقت يدعمون سيادة كوسوفو ووحدة أراضيه ويبذلون مساعدتهم من أجل إيصاله إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

ومع هذا، فإنه من الواضح أن لا طريق آخر أمام الطرفين غير طريق اعتماد الحوار لحل جميع الإشكالات التي تطرحها العلاقة بينهما، في إطار يبتعد عن أي شكل من أشكال العنف واللجوء إلى القوة.
للتوصل إلى اتفاق ما، فإن الجانبين مطالبان بالاعتراف المتبادل بسيادة كل منهما على أراضيه، واحترام وحدة كل منهما الترابية، وعدم الاعتداء أو التجاوز على حدودهما المرسومة، وهذا هو السبيل الأوحد إلى إقامة حوار بنّاء بينهما. أما حتى الآن، فإن هذه الحوارات بين الجانبين تجري في سياق يقتصر على محاولة تحسين أوضاع مواطني البلدين لا غير.

من المؤكد أن كوسوفو يسعى إلى تطبيع العلاقات مع صربيا، تمامًا مثلما فعل مع باقي بلدان الجوار في المنطقة، بدءًا من ألبانيا ومرورًا بكل من الجبل الأسود ومقدونيا وصولاً إلى كرواتيا وسلوفينيا، باستثناء علاقات كوسوفو مع دولة البوسنة والهرسك التي لم تبلغ هذا المستوى، بسبب ارتهان موقف سراييفو إلى وجود كيانين صربيين في البوسنة والهرسك (هما: ريبوبليكا صربسكا، وريبوبليكا صربيا) يعارضان بقوة اعتراف سراييفو باستقلال كوسوفو.
طبيعة العلاقات الجيدة هذه بين كوسوفو وبلدان الجوار، هي الضمانة الوحيدة لتقوية مبدأ استقلاله وسيادته ووحدة أراضيه، وهي الطريق الأوحد أمام كوسوفو لتنمية استقراره، وبالتالي تنمية استقرار المنطقة بأسرها، وتحقيق هدفه بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

إن الإسراع في الجلوس إلى طاولة الحوار دون ضمان وحدة كوسوفو الترابية لن تخدم مصالح بريشتينا السياسية. لذلك تُطرح الأسئلة المشروعة التالية:
إذن لماذا هذا الإسراع لطاولة الحوار؟ وماذا يستفيد كوسوفو من إجراء حوار هو في الأساس شرط أوربي لصربيا حتى تمكنها من الترشح إلى عضوية الاتحاد الأوربي؟ ولماذا على كوسوفو الاهتمام بأمر مصلحة صربيا التي تعمل بكل ما أوتيت من إمكانات لمنع مسيرة بناء كوسوفو لدولته ووضع العراقيل أمام اعتراف الأمم المتحدة به كدولة مستقلة؟

رئيس الوزراء الكوسوفي، هاشم تاتشي، يجيب على هذه الأسئلة بأنه "من المطلوب وضع الثقة في أصدقاء كوسوفو وحلفائه الغربيين"، لكن هل يكون ذلك كافيًا؟

يجب القول: إن حكومة كوسوفو الحالية نجحت إلى حد ما، بمصادقتها على قرار التحاور مع صربيا، في إقناع البرلمان الكوسوفي بوضع خطوط حمراء لذلك الحوار لا يمكن بأي حال تجاوزها تحت ضغط المجتمع الدولي (الذي يضغط أكثر على من له استعداد أكبر للتسليم والرضوخ)، وبذلك أقنعت الحكومة الكوسوفية المعارضة في الداخل بضرورة المشاركة في جولات الحوار مع صربيا، وأن يكون هناك توافق بين الأطراف الكوسوفية يرتكز على دعم المجتمع الدولي.

لكن الحكومة الكوسوفية، كما المعارضة تدرك تمامًا أن هذه الجولات من الحوار لا تخدم إلا المصلحة المباشرة لصربيا الساعية للحصول على صفة عضو مرشح لدخول النادي الأوربي، لذلك كان موقف المعارضة الكوسوفية هو رفض الحوار جملة وتفصيلاً.

لكن حزبين من المعارضة، هما: الاتحاد الديمقراطي الكوسوفي (LDK) والتحالف من أجل مستقبل كوسوفو (AAK) تراجعا عن موقفيهما واقتنعا بوجهة نظر الحكومة الداعية إلى المضي في الحوار.

أما في جانب المعارضة لمشروع الحوار مع الصرب، فلم يبق إلا حزب حركة Vetëvendosje "فيتيفيندوسيي" الذي يرى قادته أن "هذا الحوار غير عادل، لأنه لم تتم أبدًا مطالبة صربيا بالاعتذار، وهي لم تُعد لنا مواطنينا المفقودين, ولم تدفع التعويضات عن الدمار الذي خلّفته، كما أنها لم تُعد أموال مواطنينا التي كانت مودعة في البنوك، ولا أموال صندوق الضمان الاجتماعي التي استولت عليها، والأهم من ذلك هو أنها لم تُسلّم مجرمي الحرب ليحاكموا"، ويذكّر قادة حركة "فيتيفيندوسيي"  Vetëvendosje بأن القوات الصربية لا تزال تراقب حوالي ربع الأراضي الكوسوفية.

في مقابل هذا، فإن صربيا رفضت حتى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في الجولة الأولى من المحادثات التي سبقت الانتخابات، لذلك فإن جولة جديدة من الحوارات حول تهدئة التوتر في العلاقات بين كوسوفو وصربيا بدأت في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي, وتواصلت خلال الشهر الجاري نوفمبر في بروكسل، حيث جلس إلى طاولة الحوار رئيس الوزراء الكوسوفي هاشم تاتشي ونظيره الصربي إيفيتسا داتشيتش، تحت رعاية، كاثرين أشتون، الممثلة السامية للشؤون الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوربي, بهدف حمل الطرفين على تنفيذ ما اتفقا عليه في جولة الحوار الأولى، وانتهى باتفاق الأطراف على مواصلة الحوار.

وقد صرّحت، عطيفة يحي آغا Atifete Jahjaga  رئيسة دولة كوسوفو، بأن "كوسوفو فتح باب الحوار بصفته دولة تؤمن بضرورة العمل والمساهمة في أمن المنطقة واستقرارها", ورأت الرئيسة الكوسوفية أن الحوار بين بلدها وصربيا هو الطريق الوحيد لتهدئة التوتر الذي ساد العلاقات بين البلدين، واعتماد رؤية جديدة تقوم على سياسة الاحترام المتبادل كشرط مبدئي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي, وطالبت "يحي آغا" الجانب الصربي بالعمل على تنفيذ الاتفاقيات التي تم التوصل إليها خلال المحادثات الفنية.

إن الحقيقة التي لم تستوعبها صربيا بعد، هي أن استقلال كوسوفو ليس له بديل ولا تراجع عنه. فلن يكون هناك تغيير لترسيم الحدود, ولا وجود لمشروع وحدة بين ألبانيا وكوسوفو, كما لا يمكن بأي حال تقسيم كوسوفو؛ فألبانيا تدعم بقوة استقلال كوسوفو دون أن تشير على الإطلاق إلى وجود مسار نحو الوحدة بين الجانبين.
وقد علّق الرئيس الألباني، بويار نيشاني Bujar Nishani مؤكدًا على رفض البلدين أي تغيير للحدود في البلقان بقوله: "لدينا علاقات جيدة جدًا مع كوسوفو، ما يؤكد بوضوح على إيماننا ودعمنا للسلام والاستقرار ولمصالح الألبانيين أينما وجدوا في هذا العالم".

مشاكل الدولة الوليدة

ساهمت ولادة دولة كوسوفو المستقلة في استقرار هذه المنطقة الحساسة من أوروبا، التي عصفت بها الحرب، لكن المشكلة الأكثر حساسية وتهديدًا لوحدة كوسوفو الترابية، هي أن صربيا لن تقبل بسهولة التخلي عن منطقة شمال كوسوفو حيث يعيش 30 ألف صربي على مساحة تقارب 15% من الأرض الكوسوفية. وقد يمثل هذا الحضور الصربي مدعاة لاختلاق المشاكل ونصب فخّ لكوسوفو؛ لذلك فقد نتوقع أن تؤدي هذه الحالة باستمرار إلى قطع العلاقات بين الجانبين في أي وقت.

من جهة أولى، وبالعودة إلى الدروس المستقاة من التجربة البوسنية المريرة، فإن كوسوفو لا يريد بأي حال من الأحوال أن توجد "جمهورية صربية" على أراضيه ، رغم أن مشروع رئيس فنلندا الأسبق، مارتي أختصاري Martti Ahtisaari، المبعوث الأممي الخاص في كوسوفو، يطرح إمكانيات التعاون الإقليمي بين بلدان المنطقة بما فيها صربيا.

ومن جهة ثانية، فإن كلاًّ من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية مهتمان بأمن كوسوفو والمنطقة بأسرها. لذلك فقد يسعيان إلى إجبار سلطات بريشتينا على قبول وفاق ما مع صربيا فقط من أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار، وقطع الطريق أمام بلغراد لمواصلة تدخلها في الشؤون الداخلية لكوسوفو.

لكن يبدو أن التهدئة بين الجانبين والعودة إلى علاقات طبيعية وسليمة بينهما أمر غير ممكن التحقق بالشكل الذي يراه الوسيط الغربي، لأن صربيا وببساطة ستواصل اختلاق المشكلات لإرهاق كوسوفو وزعزعة استقرارها. فصربيا، المدعومة روسيًّا، تعمل دائمًا ضد المصالح الكوسوفية، ليس فقط لأنها تؤمن بأن كوسوفو سيعود إلى حضن السيادة الصربية، بل لأنها تدرك أيضًا أنها بذلك تتسبب في تقويض المصالح الغربية لمصلحة روسيا.

تقول صربيا إنها تريد إقامة علاقات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي وأنها ترغب في اللحاق بعضويته، غير أن أحدث التحليلات تشير إلى أجواء لا تعكس هذا التوجه المعلن على الإطلاق، وحتى إذا ما تمكنت صربيا من نجاحها في هذا الانضمام، فإنها ستكون "حصان طروادة"، وستمثل يد روسيا الممتدة إلى الداخل الأوروبي، وبخاصة في هذه المنطقة شديدة الحساسية.

ورغم أن كوسوفو لا يزال بلدًا متخلفًا وغير مستقر ويواجه مشاكل كثيرة، إلا أنه لن يتخلى عن تحقيق طموحه المشروع في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والحصول على عضوية حلف الناتو، وهو خيار كوسوفو الأوحد لضمان مستقبله.

في هذه الحالة، التي تنعدم فيها الخيارات الأخرى، فإنه يتعين على كوسوفو العمل على تمكين موقعه على الخارطة الدولية وتجاوز ما يلاقيه من الجانب الصربي من تعنت، وما تضعه بلغراد أمامه من عراقيل بدعم روسي واضح.

هناك أيضا معركة أخرى على كوسوفو خوضها وهي تحقيق عضويته في الأمم المتحدة، حيث لم يتعدّ عدد البلدان المعترفة باستقلاله الخمسين بلدًا.

خيبة أمل كوسوفو في العالم العربي

يعيش مسلمو كوسوفو حالة من خيبة الأمل والاستغراب من مواقف الدول العربية التي لم تُعِر اهتمامًا كافيًا لقضيتهم؛ حيث لم تعترف أغلب البلدان العربية باستقلال دولة كوسوفو. ومن المضحكات المبكيات أن كوسوفو اليوم يقترب من تجميع الاعتراف بدولته من قبل حوالي مائة دولة معظمها من البلدان ذات الأغلبية التي تنتمي إلى الديانة المسيحية.

وكما هو معروف، فإن كوسوفو ثالث دولة أوربية ذات أغلبية سكانية مسلمة، وتأتي مباشرة خلف البوسنة والهرسك وألبانيا، ويمثل المسلمون الألبان في كوسوفو حوالي 90% من مجموع السكان، إلى جانب أقليات مسلمة من إثنيات مسلمة أخرى مثل البوسنيين والأتراك.

مسلمو كوسوفو يجدون صعوبة حقيقية في فهم تخلف الدول العربية عن الاعتراف باستقلال دولة كوسوفو، حيث لا توجد تقريبًا دولة عربية واحدة ضمن الدول التي اعترفت بسيادة كوسوفو المعلنة على أراضيها.

أما أسباب هذه الاستقالة العربية الجماعية عن مساندة دولة كوسوفو، فيمكن تعدادها على النحو التالي:

  • هناك عدد من الدول العربية تقع تحت تأثير الضغوط القوية التي تمارسها عليها موسكو؛ فالروس مع الصرب يبدو أنهم طالبوا تلك البلدان بعدم الاعتراف بكوسوفو. هذا السبب يدعو الكوسوفيين إلى مزيد من الاستغراب والحيرة لأن ما تفعله روسيا بمسلمي القوقاز من فظائع وما ترتكبه في حقهم من جرائم، وصل حد إجبارهم على تغيير أسمائهم، لا يخفى على أحد، أما ما فعلته صربيا بمسلمي البلقان فحدث ولا حرج.
  • هناك إحساس عام بأن عددًا آخر من الدول العربية، التي تنتهج سياسة مقاومة لأميركا أو غير متفقة معها، لا ترغب أصلاً في الاعتراف بكوسوفو  مخالفة بذلك الموقف الأميركي المعترف باستقلال آخر البلدان الوليدة على الساحة الدولية، وذلك برغم من أنه بلد مسلم بنسبة 90%.
  • السبب الثالث، وهو الأهم، هو أن آلة صربيا الدبلوماسية وعلاقاتها المتينة، إلى جانب لجوئها إلى الحيل والمغالطات، قد أقنعت عددًا من الدول الإسلامية التي كانت أعضاء في مجموعة دول عدم الانحياز، بأن صربيا هي التي حمت يوغسلافيا السابقة، في حين أن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، فصربيا هي التي كانت وراء انفراط عقد يوغسلافيا، بسبب ما ارتكبته في حق مسلمي البوسنة من جرائم وفظاعات.     
    يبقى أن نشير إلى أنه من حين لآخر تتنامى إلى مسامع الكوسوفوويين أخبار تتحدث عن أن منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تضم 56 بلدًا في عضويتها، ستصدر توصية للبلدان الأعضاء فيها بالاعتراف بكوسوفو. لكن لا مؤشرات فعلية على قرب تحقيق هذا الأمل، كما أن صربيا لا تدّخر أي جهد دبلوماسي في سبيل تعطيل مثل هذا التوجه للاعتراف بثالث دولة أوربية مسلمة في منطقة البلقان وأوربا.
    الاستثناء الذي نؤكد على إبرازه في هذا السياق، هو موقف تركيا (الدولة الإسلامية) الداعم لاستقلال كوسوفو والمدافع عن وحدة أراضيه وسيادته الكاملة عليها، فتركيا كانت من بين أولى الدول التي اعترفت باستقلال دولة كوسوفو بعد ما عاناه شعبها من مظالم صربيا التي كانت تسعى لضم أراضي دول الجوار إلى أراضيها بقوة الحديد والنار بعد طرد المسلمين منها.

مستقبل صربيا وكوسوفو

كيف يبدو مستقبل كوسوفو؟ قبل أي شيء يجب أن تكون لسلطات دولة كوسوفو سيادة كاملة غير منقوصة على كامل أراضيها، لأنه في غياب ذلك سيكون من الصعب توقع تمكن دولة كوسوفو من تحقيق نمو اقتصادي واجتماعي شامل يضمن مستقبلاً واعدًا لسكان الدولة الوليدة.

أما صربيا فلا خيار لها سوى إجراء تعديلات على دستورها، تعيد من خلالها رسم حدودها وفقًا للواقع الجديد، وأن تكف عن افتعال أسباب التوتر على حدود دولة كوسوفو، وإلا فإنها ستبقى خارج الاتحاد الأوربي، ولن تكون في كل الأحوال غير يد لروسيا الممتدة إلى المنطقة.

إن الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، بدعمها وضمانها استقلال دولة كوسوفو، قد أوجدت حاجزًا مهمًا يمنع تمدّد التأثير الروسي في منطقة جنوب شرق أوربا، الذي تسعى إليه عبر صربيا، حليفها الموثوق فيه.
لا تزال صربيا إلى حد الآن تتلقى رسائل من الغرب بأن طريقها نحو عضوية الاتحاد الأوربي لا يمرّ بالضرورة عبر بوابة الاعتراف بدولة كوسوفو، لكن من المؤكد أن تكون تلك الطريق مقترنة بذلك الاعتراف كشرط لا بديل عنه لقبول عضوية صربيا في الاتحاد الأوربي.

لا شك أن من مصلحة الغرب عمومًا، والاتحاد الأوربي بصفة خاصة، ضم صربيا إلى عضويته، إلا أن الشروط الأوربية المطلوبة في الأعضاء المرشحين للالتحاق بعضوية الاتحاد تفرض على البلد المرشح تمتعّه بعلاقات عادية وخالية من أية شوائب تتعلق بنزاعات حدودية مع دول الجوار.

أما الشعب الألباني في كوسوفو، كما هو حال دولة ألبانيا، فيرتبط ارتباطًا وثيقًا بالغرب ويثق في دعمه له، وثقته أكبر في أميركا، لأن تجربة كوسوفو وألبانيا مع روسيا وصربيا كانت مريرة ومخيبة للآمال، ولأن هاتين الدولتين تمثلان مصالح الغرب الحيوية في المنطقة وتقفان حجر عثرة ضد المطامع الروسية.

باستثناء صربيا، فإنه ليس لروسيا أي حليف موثوق به لديها في المنطقة، ولذلك فإن الدول الغربية لن تتخلى عن دعم دولة كوسوفو ولن تسمح لصربيا باستعادة السيطرة عليها، والغرب بحمايته تلك لكوسوفو، يحمي أيضًا مصالحه ويدعم موقعه المتقدّم في تلك البقعة الحيوية من القارة الأوربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*النص بالأصل أُعِد لمركز الجزيرة للدراسات باللغة البوسنية، وترجمه إلى العربية الباحث المتخصص بشؤون البلقان كريم الماجري.

نديرة أفديتش فلّاسي Nadira Avdic Vllasi باحثة في الشؤون البلقانية، ورئيسة المنتدى البوشناقي في كوسوفو، وأستاذة محاضرة في جامعة بريشتينا (كوسوفو)، وأستاذة زائرة لعدد من الجامعات الأميركية.

نبذة عن الكاتب