إن قراءة المشهد العربي لعام 2013 تحتاج إلى التخلص من وهم "البدايات الجديدة"، وإدراك أن الحراك في البنية العربية متصل بفعل نمطين من المتغيرات:
- الأول: متغيرات هيكلية تعرف تغيرًا بطيئًا لكن آثارها تنعكس على تفاصيل الحياة اليومية، وتتجلى هذه المتغيرات في البنية الاقتصادية والبنية السياسية والبنية الاجتماعية.
- أما الثاني: فهو التغيرات غير المتوقعة والتي تشكّل نقاط تحول في الحياة العامة، وهي تغيرات ذات إيقاع أسرع من المتغيرات الأولى من ناحية، ولكنها من ناحية ثانية ذات تكرار أقل، وما يجمع النمطين من المتغيرات أنهما يتحركان بقوانينهما الذاتية وبانفصال تام عن تضاريس الزمن المتخيلة في العقل البشري.
اتجاهات المتغيرات الهيكلية
تشير معطيات البنية العربية في بُعدها الاقتصادي إلى أن التباين في مستوى الدخل بين الدول العربية يصل إلى أكثر من 70 ضعفًا بين بعض الدول العربية، وهو ما يجعل القدرة على التطور في الوجدان المشترك بين الشعوب العربية أمرًا افتراضيًا أكثر منه واقعيًا، ولا يدل على جسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى، وبناء على تقدير صندوق النقد الدولي لمتوسط الدخل للفرد العربي فإنه يبقى في دائرة ثمانية آلاف دولار(2012)، وهو ما يجعل "الكتلة العربية" تحتل المرتبة 99 إذا قورنت ببقية دول العالم.
وبرصد حركية هذا الجانب باتجاه العام 2013، نجد ما يلي(1):
- احتمال تراجع أسعار النفط بسبب آثار الأزمة المالية العالمية، وكل انخفاض بنسبة 10% من أسعار النفط يقود إلى تراجع المداخيل العربية بمعدل 150 مليار دولار، ورغم صعوبة "اليقين" في أسعار الطاقة، إلا أن أغلب التوقعات المتخصصة في هذا الجانب -بخاصة تقارير وكالة الطاقة الدولية- تشير إلى ميل أسعار الوقود نحو الانخفاض عام 2013(2)، وهو أمر قد يترك تأثيرات إيجابية على الدول العربية غير النفطية (مصر، الأردن، لبنان، المغرب، موريتانيا) مما يخفف من العسر الاقتصادي الذي يشكّل أحد روافد التوتر الاجتماعي والسياسي، لكنه قد يترك آثارًا سلبية على الدول العربية النفطية أو شبه النفطية، مع تباين في وقع هذه الآثار، فدول مثل ليبيا والعراق وسوريا في أمسّ الحاجة لأسعار أعلى لترميم آثار الاضطراب السياسي الذي لا يزال يفعل فعله، بينما قد تكون دول الخليج أقل تأثرًا بفعل احتياطاتها المالية، لكن انخفاض الأسعار قد يكبح بعض الدور السياسي للمال النفطي في الدول العربية الأخرى.
- يُلاحَظ أن أغلب دول الربيع العربي ستستمر في المعاناة مما يلي(3):
- تراجع أرصدة المالية العامة (يُتوقع أن تصل في 2013 إلى تراجع بقيمة 8%).
ب. تراجع الحسابات الجارية الخارجية مما يؤدي إلى انخفاض حاد في الاحتياطيات الدولية الرسمية (ويُتوقع أن تنخفض بنسبة 4،6% خلال عام 2013). - استمرار تردد المستثمرين في الدخول لدول الربيع العربي نتيجة حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتشير المؤشرات التي نشرها صندوق النقد الدولي إلى أن مصر هي البلد العربي الذي سيعرف تزايدًا في نسبة البطالة خلال عام 2013، وهو أمر مثير للقلق لاسيما لمركزية مصر في البنية الإقليمية العربية(4).
- استمرار ارتفاع الغذاء في دول الربيع خلال عام 2012، ورغم احتمال تراجع أسعار النفط كما أشرنا في عام 2013، إلا أن أسعار الغذاء بل ووفرتها لا تزال في دائرة الأزمة في أغلب دول الربيع.
- أن معدل النمو في عام 2013 قد لا يتجاوز 3,25%، وهي نسبة لا تكفي لامتصاص القدر الكافي من البطالة، مع الأخذ في الاعتبار أن معدل التضخم قد يبقى في حدود 8,6% في هذه الدول، بل إن بعضها مثل سوريا عرف ارتفاعًا خلال عام 2012 يصل إلى 48%.
- ارتفاع مستوى الدَّيْن العام إلى أكثر من 70% من إجمالي الناتج المحلي العربي، وهو ما يعني أن حدود القدرة على الاستدانة تتقلص تدريجيًا لدى دول الربيع تحديدًا.
- البنية الديمغرافية: تشكل البنية الديموغرافية أحد المحركات العميقة للحراك المجتمعي العربي، وهي بنية لا يمكن تغيرها في فترة قصيرة؛ مما يعني أن فعلها الماضي في السنوات السابقة سيبقى فاعلاً خلال الأعوام القادمة، ويكفي التوقف عند المؤشرات التالية:
- الزيادة السكانية وتزايد الشباب في الهرم السكاني: تُعد المنطقة العربية من بين أكثر ثلاثة أقاليم في العالم زيادة في عدد السكان (إلى جانب جنوب الصحراء الإفريقية وأميركا اللاتينية)، وبحساب معدل الزيادة السكانية في الدول العربية الكبرى (مصر، الجزائر، المغرب، السودان، السعودية، اليمن، العراق، سوريا) والتي تضم حوالي 80% من العرب، فإن نسبة الزيادة السكانية تصل إلى 1,8% مقارنة مع الدول الأوروبية التي لا يصل أي منها إلى 1%، ومعظمها دون ذلك بكثير. وتعد كل من غزة والبحرين هما الأعلى نسبة في التزايد (3,20% و2,81% على التوالي)، بينما يُعد لبنان هو الأقل في الزيادة السكانية يليه كل من قطر وسوريا (0,24% و0,81% و0,91% على التوالي)، وهو ما يعني أن هناك حوالي 6,7 مليون نسمة زيادة في عدد العرب عام 2013، وهو ما يشكّل عبئًا كبيرًا في ظل الأوضاع العامة السائدة؛ الأمر الذي يُبقي المجال مفتوحًا للاضطرابات المجتمعية بأشكالها المختلفة بخاصة أن نسبة الشباب في المجتمع العربي تفوق 68%(5)، وهم الشريحة الأميل لممارسة العنف.
- تزايد التكدس الحضري: تمثل المدن لاسيما في دول العالم النامي مراكز الجذب لأغلب الشرائح الاجتماعية، لكن المرافق العامة والقدرة على الاستيعاب في أغلب هذه الدول ومنها العربية يفتح المجال للاضطرابات والجريمة بأشكالها المتنوعة، فإذا علمنا أن حوالي 64% من العرب يعيشون حاليًا في المدن لاسيما في الأحياء المحيطة بالمدن، والتي دلّت أغلب الدراسات الاجتماعية على أن أغلب قادة تنظيمات العنف السياسي جاءوا منها، فإن عام 2013 سيبقى في جوانبه المختلفة متصلاً بهذه الظاهرة بل وبشكل متسارع(6).
- تناقص عدد الأقليات الدينية، وتنامي التوتر مع الأقليات القومية: يُلاحَظ أن عدد المسيحيين في الوطن العربي يتراجع لسببين، هما: تنامي النزعة الإسلامية المتشددة خلال الفترات الأخيرة من ناحية، وتناقص نسبة الزيادة السكانية بين المسيحيين قياسًا للمسلمين في الدول العربية، وهي ظاهرة تترافق مع تنامي التوتر بين الطرفين (في مصر والعراق وسوريا ولبنان). ومن ناحية أخرى، يُلاحَظ أن التوتر بين العرب والأقليات القومية يتزايد (في العراق، والسودان، وليبيا، وموريتانيا بشكل خاص)، وهو ما يزيد الصورة قتامة، والمتوقع أن هذه الظاهرة لن تعرف انحسارًا عاجلاً في عام 2013، مع التنبه إلى أن بعض الأقليات القومية يتركز في الريف على حساب المدينة العربية، مما يمهد لثنائية جغرافية في مراحل لاحقة.
- البنية الثقافية: علاوة على نسب الأمية العالية، وتدني الإنفاق على البحث العلمي، وتردي مستويات التعليم الجامعي، فإن العامل الأهم هو الثقافة السياسية السائدة التي تشير إلى ارتداد متزايد نحو الثقافات الفرعية (الطائفية والمذهبية والقبَلية والقومية)، وهو أمر لا نرى مؤشرات على تراجعه خلال عام 2013 بل الخشية من تناميه.
ويمكن تحديد الصورة العامة لأوضاع الدول العربية من خلال مقاييس الدول الفاشلة، التي تقوم بها مؤسسات دولية مختلفة، استنادًا لـ 12 مؤشرًا رئيسيًا موزعة على 87 مؤشرًا فرعيًا، تغطي الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وتشتمل المؤشرات الرئيسية على الضغوط السكانية، واللجوء وهجرات العقول، والعنف الإثني والديني، والتباينات الطبقية، والفقر، والشرعية، والخدمات العامة، وتطبيق القانون، والعنف السياسي، وتفتت النخب، والتدخل الخارجي. وقد كانت نتائج هذا القياس لعام 2012 مقارنة مع عام 2011 على النحو التالي:
مستويات الفشل في الدول العربية(7)
الدولة |
نقاط الفشل عام 2012 (120 نقطة فشل كامل) |
التغير في مستوى الفشل بين 2011-2012 |
الصومال |
114،9 |
+1،5 |
السودان |
109،4 |
+0،6 |
اليمن |
104،8 |
+4،5 |
العراق |
104،3 |
-0،6 |
سوريا |
94،5 |
+8،6 |
مصر |
90،4 |
+3،6 |
موريتانيا |
87،6 |
-0،4 |
لبنان |
85،8 |
-1،9 |
ليبيا |
84،9 |
+16،2 |
الجزائر |
78،1 |
0 |
المغرب |
76،1 |
-0،1 |
الأردن |
74،8 |
+0،3 |
تونس |
74،2 |
+4،1 |
السعودية |
73،4 |
-1،8 |
البحرين |
62،2 |
+3،2 |
الكويت |
58،8 |
-0،7 |
عمان |
51،7 |
+2،5 |
الإمارات |
48،9 |
-1،5 |
قطر |
48 |
-1،5 |
ويلاحظ من الجدول السابق أن كل دول الربيع العربي تُشير لاتجاه مستمر في عدم الاستقرار، وبزيادة واضحة لا لبس فيها، كما أن أغلب الدول العربية لا تزال تحتل مواقع فوق المتوسط في معدلات الفشل، مما يعني أن الانتقال السريع نحو حالة الاستقرار أمر غير مرجح في عام 2013.
وترى بعض الدراسات الغربية أن كلاً من الأردن (التي ستعرف انتخابات برلمانية في 23يناير/كانون الثاني2013) والكويت سيكونان هما الأقرب للاضطراب عام 2013 ما لم يتم التجاوب بقدر ما مع مطالب الإصلاح الاقتصادي والسياسي، بينما ستبقى قضية انتقال السلطة لجيل جديد في السلطة السعودية -الملك عمره على أبواب التسعين- أمرًا قد يفتح المجال لاحتمالات الاضطراب، كما أن الأمر في الجزائر يسير في نفس الاتجاه، فالرئيس مريض وقد لا يتمكن من المواصلة حتى نهاية فترته في 2014(8).
التوجهات الدولية نحو الوطن العربي عام 2013
يمكن رصد أبرز مظاهر التوجهات الدولية خلال عام 2013 في الآتي:
-
آثار التوجهات الإستراتيجية الأميركية للتحول التدريجي نحو آسيا الباسيفيكية؛ فقد أعلن البنتاغون عن خطة التحول نحو آسيا في يناير/كانون الثاني2012، وهو أمر مدفوع بالقلق الأميركي من تنازع السيادة في بحر الصين الجنوبي لاسيما بين الدول المشاطئة له، إلى جانب الرغبة الأميركية في ضمان حرية الملاحة والتجارة، مما دفع أميركا لإيلاء أهمية للهند (التي تسعى أميركا لإقامة شراكة دفاعية معها)، كما تخشى الهند بالمقابل من أن انسحاب أميركا من أفغانستان سيقوّي شوكة القوى الإسلامية التي تُقلق الهند لاسيما في تنافسها مع باكستان.
وقد يكون التحول نحو الباسيفيكي على حساب الوجود الأميركي في أوروبا أو على حساب الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، لاسيما أن مخاطر الحرب في الباسيفيكي أقل تكلفة من مخاطرها في الشرق الأوسط أو جنوب غرب آسيا(9).
وتخشى كل من إسرائيل وبعض الدول العربية أن تنعكس هذه التحولات على المدى البعيد على درجة اهتمام الولايات المتحدة بأمن حلفائها(10)، وهو أمر يبدو أن صداه في إسرائيل أقوى منه في الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، وقد تسعى الولايات المتحدة للتأكيد لحلفائها على استمرار تعهداتها لهما، وستجعل الموقف من إيران معيارًا لذلك خلال عام 2013، لكن تخفيض الإنفاق العسكري الأميركي، وآثار الأزمة المالية العالمية، والجدل الذي دار في الكونجرس حول ما أصبح يُعرف "بالهاوية المالية" يلقي بظلال الشك على قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على حيوية حركتها في المنطقة خلال العقد القادم.
-
التغير في هيكلية النظام الدولي الذي يتمثل في صعود روسيا والصين، وإصرارهما على التحول نحو القطبية التعددية، وهو الأمر الذي تكثفت دلالاته في موقف الدولتين من الأزمة السورية، والذي يعكس إدراك الدولتين للمأزق الأميركي العام كقوة دولية.
-
يبدو أن أوروبا ستكون أكثر انشغالاً بهمومها الداخلية خلال عام 2013، سواء بفعل الأزمة المالية وتقلبات اليورو أو أزمات ديون بعض دولها، غير أن السياسة الأوروبية تعرف تحولاً بطيئًا للغاية باتجاه الاقتراب من المواقف العربية تجاه الأزمة الفلسطينية، ويبدو أن سياسات بنيامين نيتنياهو تعزز هذا التوجه لاسيما في مجال إصراره على الاستيطان، وقد تشهد سنة 2013 مزيدًا من الفتور بين أوروبا وإسرائيل بخاصة في حالة فوز اليمين الإسرائيلي مرة أخرى في الانتخابات القادمة.
الصورة العامة لعام 2013
استنادًا للمعطيات السابقة، يمكن القول: إن المشهد العربي سيبقى خلال عام 2013 يعرف استمرارًا لعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقد يكون عام 2013 هو عام الحسم بشكل أو آخر للأزمة السورية، فرغم تواتر التقديرات الغربية بشكل خاص عن قرب انهيار النظام السوري، فإن المعطيات الميدانية لا تشير بأي شكل من الأشكال إلى هذا التنبؤ المتعجل رغم أن الأزمة الاقتصادية أصبحت أكثر ألمًا، لكن استمرار الجيش على موقفه سيُبقي النظام قادرًا على الصمود؛ إذ إن كل التحولات التي جرت في الدول العربية خلال أعوام 2011-2012 كانت المؤسسة العسكرية هي العامل الحاسم في ترجيح كفة المتصارعين.
ورغم نتائج الاستفتاء على الدستور المصري الذي عزز قبضة التيار الاسلامي؛ فإن انتخابات مجلس الشعب القادمة خلال عام 2013 ستحدد التوجه المستقبلي وموازين القوى السياسية في مصر، وسيكون للمسار المصري الأثر الأكبر على اتجاهات التحولات في بقية الدول العربية، لكن قدرة مصر على إحداث تحولات جذرية في أوضاعها الداخلية ستبقى محدودة لاسيما في ظل القيود الأميركية والاقتصادية على السياسة المصرية.
ويبدو أن ثنائية السنة-الشيعية ستبقى تصبغ المشهد السياسي الاجتماعي خلال عام 2013، بل إن تنامي الفجوة الفاصلة بين تركيا وإيران قد يعزز من هذه المسألة، وهو ما يوحي بأن محاولات بناء كتلة سنية تقودها مصر وتركيا والسعودية في مواجهة إيران تسير بشكل غير متوازن نتيجة التنافس الصامت بين القوى السنية الثلاث.
وفي المشهد الفلسطيني، تشير المعطيات إلى أن عام 2013 سيشهد مواصلة الاستيطان من ناحية، وتنامي الشقاق داخل التنظيمات الفلسطينية وليس الوحدة التي يجري الترويج لها من ناحية أخرى، وهو ما يمهد لجولات من العنف يصعب تحديد مداها.
__________________________________
* أستاذ الدراسات المستقبلية والعلاقات الدولية
المراجع
(1) http://www.imf.org/external/pubs/ft/reo/reorepts.aspx
(2) http://www.eia.gov/forecasts/steo/report/prices.cfm
(3) http://www.imf.org/external/pubs/ft/weo/2012/02/pdf/text.pdf
(4) -Ibid.,p. 8
(5) United Nations, Department of Economic and Social Affairs - Population Division,Population Estimates and Projections Section - World Population Prospects, the 2010 Revision
(6) http://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/technical_reports/2011/RAND_TR912.pdf
(7) http://www.fundforpeace.org/global/?q=fsi2012
(8) http://www.economist.com/news/21566339-arab-summer-will-be-delayed-cycle-history.
(9) http://www.heritage.org/research/commentary/2012/03/the-pentagons-pivot-to-nowhere
(10) www.globaltimes.cn/content/725456.shtml