طائرات بلا طيار.. باكستان وقواعد اشتباك جديدة

أغارت أمريكا مجددا على منطقة القبائل في تحد لنواز شريف وتعهداته الانتخابية بوقف الغارات بطائرات بلا طيار، والسؤال اليوم: هل سينج شريف أم يواصل سياسة خداع النفس الباكستانية منذ وقعت أول غارة على مناطق القبائل في 2004؟ تبحث هذه الورقة خيارات باكستان تجاه هذه المعضلة.
201362010194817734_20.jpg
طائرة أميركية بدون طيار (الجزيرة)

لم تكد ساعات قلائل تمضي على أداء محمد نواز شريف القسم الدستوري رئيسًا للوزراء في باكستان، حتى كانت مناطق القبائل الباكستانية تتعرض لغارة أميركية بطائرة بلا طيار وهو ما أسفر عن سقوط سبعة قتلى. اعتُبر ذلك تحديًا واضحًا لحكومة شريف الذي يصبح رئيسًا للوزراء للمرة الثالثة محطمًا الرقم القياسي بوصول شخصية مثله إلى سدة الحكم، وهو ما لم تحظ به أية شخصية سياسية باكستانية منذ إنشاء الدولة الباكستانية في أغسطس/آب من عام 1947.

شكلت هذه الغارة اختبارًا جديًا لمفردة من مفردات برنامجه الانتخابي الذي فاز بموجبه والقائم على وقف الغارات الأميركية بطائرات بلا طيار، والتي طالب بوقفها أكثر من مرة واستدعى السفير الأميركي في إسلام آباد بشأنها، وكرر موقفه خلال لقائه وزير الخارجية الألماني أخيرًا، وإن كان البعض توقف عند عرضه أمام الوزير الألماني أن باكستان مستعدة للتعاطي مع ملاذات "الإرهابيين" في وزيرستان مقابل وقف الغارات، وهو ما رآه هؤلاء خطأً كبيرًا واعترافًا بأن شبكة حقاني الأفغانية موجودة على التراب الباكستاني وأنها إرهابية مع التذكير بأن على باكستان التعامل مع من يسيطر على الأراضي الأفغانية المتاخمة لحدودها وهي فعليًا حركة حقاني. وقد أعاد هذا الأمر الباكستانيين إلى المربع الأول وجعل من وظيفتهم تلبية شروط الآخرين وليس حاجات الباكستانيين.

غير أن السؤال الذي تجدد: هل سيواصل نواز شريف سياسة خداع النفس الباكستانية، أو الحديث المزدوج المتواصل منذ عام 2004 حين وقعت أول غارة أميركية على مناطق القبائل؟ فقد اتسمت السياسة الباكستانية منذ ذاك العام وحتى قبل وصوله للسلطة بالموافقة الضمنية لأميركا على توجيه غارات كهذه فيما راحت في العلن تندد بها إرضاء لشارع يعارضها، وهو ما وُصف بالشيزوفرينيا.

وتعاظم التحدي والسؤال حول قدرة حكومة شريف على أن تكون أكثر حسمًا من سابقاتها في هذا الملف الذي يشكّل تحديًا وضغطًا يوميًا عليها وبالتالي ستقرن الأقوال بالأفعال، خاصة بعد تصريحات شريف في أول اجتماع لمجلس وزرائه معترفًا بالسياسة المزدوجة التي كانت تتبعها الحكومات السابقة فيما يتعلق بغارات الطائرات الأميركية. تعهد مشرف في ذلك الاجتماع بوضع حد لها حين قال: "إن السياسة المزدوجة التي كانت متبعة فيما يتعلق بغارات طائرات بلا طيار ستتوقف، وعلى الولايات المتحدة أن تحترم سيادة واستقلال باكستان"(1).

خطاب أوباما.. قواعد اشتباك جديدة

شكّل خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما يوم الخميس 23 مايو/أيار 2013 في كلية الدفاع الوطني الأميركية بقلعة "ماك نير" قواعد اشتباك جديدة في استخدام طائرات بلا طيار التي عُرفت باسم "درون" أو "بريداتور"؛ حيث وعد أوباما بنقل سلطاتها من قيادة المخابرات المركزية (سي آي إيه) إلى البنتاغون؛ وهو ما قد يجعلها عرضة للمحاسبة من قبل المشرعين الأميركيين "الكونغرس"، خصوصًا بعد ضغوط منظمات حقوقية دولية وتساؤلات عن شرعية هذه الغارات التي تفتقر إلى الشفافية.

وقد أدى إدخال سلاح طائرات بلا طيار ضمن سلطة الاستخبارات المركزية الأميركية إلى أن تكون الوكالة قد تحولت من وكالة تجسسية إلى وكالة تجسسية وقتالية. وواجه الخطاب انتقادًا كبيرًا لأن كل ما ركز عليه هو التأكيد مجددًا على أن الطائرات ستكون أكثر دقة وأنها تستهدف حماية أميركا وأمنها، وكأن أمن العالم وأمن الآخرين لا معنى له وليس مهمًا لواشنطن.

وزاد من حدة ذلك أن الخطاب جاء مع قرب استلام حكومة ديمقراطية ممثلة بنواز شريف للحكم في باكستان كانت تعهدت أمام ناخبيها بوقف هذه الغارات. كما أشار أوباما في خطابه إلى أن من قواعد الاشتباك الجديدة لحرب طائرات بلا طيار أن الاستهداف سيتم بعد التيقن والتحقق من عدم وجود مدنيين أثناء الضربة، وهو ما عنى أن انغماس مقاتلي القاعدة وطالبان وسط المدنيين سيجعلهم محصنين من القتل.

ضياع فرص الحوار الطالباني

الغارة الأميركية بطائرات بلا طيار التي قتلت نائب زعيم حركة طالبان الباكستانية ولي الرحمن يوم 29 مايو/أيار 2013 قتلت معه الحوار الذي كان يعوّل عليه رئيس الوزراء المنتظر حينها نواز شريف؛ فقد كان ولي الرحمن من الشخصيات المعتدلة في الحركة والمؤمنة بالحوار السياسي مع الحكومة بخلاف الخط المتشدد الذي كان يقوده زعيم الحركة حكيم الله محسود. ولعبت خلفيته التعليمية كونه خريج واحدة من سلسلة المدارس الحقانية التي يديرها مولانا سميع الحق الذي اُنتدب من قبل نواز شريف للتوسط مع طالبان دورًا في إكساب الحوار جدية، وقد علّقت عليه الدوائر السياسية والنخبوية الباكستانية آمالاً عريضة بالنجاح، لكن الغارة الأميركية سبّبت انتكاسة لهذه الجهود فأعلنت طالبان على الفور انسحابها من الحوار وأعلن معها سميع الحق انسحابه من الوساطة(2).

ربما لم تقو واشنطن على مقاومة إغراء الهدف الذي وجدوه بولي الرحمن كونه المتهم الرئيس بقتل سبعة من كبار ضباط المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) في خوست الأفغانية على يد الطبيب الأردني أبي همام البلوي في العام 2009. و كان من ضمن القتلى مديرة محطة الجهاز الأميركي في أفغانستان "جينفر لاين" وهو الحادث الذي وُصف بالأسوأ في تاريخ (السي آي إيه) منذ التفجير الذي استهدف مقر "المارينز" في بيروت عام 1983.

ولعل ما أغرى نواز شريف وطاقمه السياسي بالحوار مع طالبان هو أن ولي الرحمن غدا الشخصية الطالبانية الأقوى نفوذًا في الحركة بل ويُنظر إليه على أنه الزعيم الفعلي للحركة في ظل تحول حكيم الله محسود إلى زعيم شكلي بعد أن توقف ظهوره الإعلامي في السنوات الأخيرة. يضاف إليه ما تردد من أن ولي الرحمن كان قد اختلف مع محسود في عمليات التفجيرات والعمليات الانتحارية(3)؛ الأمر الذي عزز ثقة شريف بأن التوصل لتسوية أو حل مع طالبان سيكون نافذًا على الأرض.

ويبدو أن واشنطن الداعية لحوار مع طالبان أفغانستان لتأمين انسحابها مع نهاية العام الجاري غير معنية أبدًا بالحوار بين إسلام آباد وطالبان باكستان، فهي ترغب بالإبقاء على الوضع متفجرًا داخليًا لإشغال الكل: الحكومة وطالبان في باكستان عما يجري في أفغانستان ما بعد انسحابها.

ويمكن القول بأن استمرار الغارات الأميركية حتى بعد تسلم شريف السلطة هدف إلى أمرين اثنين: الأول: تحدي الحكومة الباكستانية الجديدة باستمرار الغارات المنتهكة لسيادتها واستقلالها، والثاني: ضرب فرص الحوار مع طالبان باكستان التي أعلنت عن وقف الحوار مع الحكومة بعد الغارة التي أعقبت فوز شريف بالانتخابات واستهدفت ولي الرحمن نائب زعيم حركة طالبان حكيم الله محسود وعددًا من مرافقيه. يقودنا هذا الأمر للحديث عن حقيقة الموقف الباكستاني إزاء الغارات الأميركية والحوار مع طالبان، فقد بدا واضحًا أن الساسة في باكستان وعلى مدى عقد كامل كانوا يؤيدون هذه الغارات ضمنيًا وسريًا ويعارضونها علنيًا إرضاء للداخل الباكستاني، لكن السؤال المهم الآن: هل تغيرت قواعد اللعبة الباكستانية سيما مع قرب الانسحاب الأميركي من أفغانستان مما حدا بنواز شريف إلى استدعاء السفير الأميركي في إسلام آباد وكذلك إثارته للمشكلة خلال لقائه مع وزير الخارجية الألماني الذي كان أول المهنئين له بعد انتخابه؟ لقد أكد شريف أن الغارات يجب أن تتوقف وأنها تمثل انتهاكًا للسيادة الباكستانية، وما يعزز الاعتقاد بوجود هذا التغير هو إمساك شريف نفسه بحقيبة الخارجية حتى الآن.

وفي نظرة بانورامية تاريخية على الموقف الباكستاني المتسم بخداع النفس تجاه التعاطي مع الغارات الأميركية بلا طيار يظهر أن التفاهم حصل منذ أيام الرئيس الباكستاني السابق الجنرال برفيز مشرف حين وافق على إقلاع هذه الطائرات من قاعدتين باكستانيتين، هما: جاكوب آباد وشمسي(4)، وبين عامي 2004-2007 وقعت عشر غارات أميركية بطائرات بلا طيار لترتفع عام 2008 إلى 33 غارة، وتصل في العام الذي يليه إلى 49 غارة، وفي عام 2010 وصلت إلى الضعف حين وصل عدد الغارات إلى 97 غارة أميركية.

وتكشف برقية بثتها ويكيليكس تنقل فيها السفيرة الأميركية في إسلام آباد آن باترسون إلى الخارجية الأميركية تفاصيل لقائها مع رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك يوسف رضا جيلاني حيث يقول: "لا تهمني الغارات الأميركية ما دامت تقتل الأشخاص الصواب، وسنحتج في البرلمان على الأمر وعليكم بتجاهل الأمر"(5). وهو ما عززه قرار برلماني باكستاني بإدانة الغارات لكنه لم يكن قرارًا ملزمًا، لتصل ظاهرة خداع النفس إلى ذروتها باعتراف رأس الهرم الباكستاني وهو الرئيس آصف علي زرداري بموافقته على الغارات؛ وقد نشر ذلك بوب وودورد في كتابه حروب أوباما، يقول: "حين زار مدير المخابرات المركزية الأميركية مايك هايدن الرئيس الباكستاني آصف زرداري في مقر إقامته بفندق كونتيننتال بنيويورك حيث كان إلى جانبه سفيره حسين حقاني، قال زرداري لهايدن: اقتلوا الكبار فالأضرار الهامشية والجانبية تهمكم أنتم الأميركيين ولا تقلقنا، فقد أعطى زرداري -كما يقول هايدن- الضوء الأخضر لنا لمواصلة الغارات"(6).

أما على الصعيد العسكري فقد حمل المؤتمر الصحافي الذي عقده الجنرال غيور محمود قائد قوات مشاة الفرقة السابعة في ميران شاه بشمال وزيرستان القبلية المتاخمة لأفغانستان مع الصحافيين في المنطقة اعترافًا رسميًا عسكريًا واضحًا بالموافقة الضمنية على هذه الغارات؛ حيث قال غيور محمود مبددًا كل الشكوك عن موافقة العسكر على هذه الغارات: "الغالبية العظمى من قتلى طائرات بلا طيار من مقاتلي القاعدة وطالبان"، وقام بعد المؤتمر الصحافي بتوزيع ورقة على الصحافيين بعنوان "الأساطير والشائعات بشأن طائرات بلا طيار الأميركية"(7). بعد شهرين على تصريحات المسؤول العسكري خرج رئيس الوزراء الباكستاني حينها يوسف رضا جيلاني في مقابلة مع مجلة التايم الأميركية ليعلن بوضوح أن الحكومة الباكستانية تؤيد هجمات طائرات بلا طيار الأميركية(8). وكعادتها كانت وزارة الخارجية الباكستانية ممثلة بوزيرتها حنا رباني أكثر دبلوماسية في التعبير عن موقفها حين أعلنت بعد رئيس وزرائها بأربعة أشهر أمام رابطة المجتمع الآسيوي بواشنطن: "باكستان ليست ضد الغارات الأميركية بلا طيار، ولكننا نريد أن نجد طرقًا قانونية لتنفيذها"(9).

قانونية الغارات الأميركية

تتفق كل الأطراف الأميركية والباكستانية على أنه لا اتفاق رسميًا مكتوب بين الطرفين بشأن السماح لطائرات بلا طيار الأميركية بمهاجمة مناطق باكستان، وهو ما يشكّل مشكلة قانونية لواشنطن لاسيما وأن باكستان تعد رسميًا حليفًا مهمًا في الحرب على ما يوصف بالإرهاب فكيف تتحول إلى ضحية لمثل هذه الغارات؟! ووفقًا لتقرير بثته وكالة الصحافة الفرنسية يوم 22 مايو/أيار 2013 فإن واشنطن أغارت 350 مرة على مناطق القبائل منذ العام 2004، وينقل التقرير عن مؤسسة التحقيقات الصحافية البريطانية أن هذه الضربات قتلت ما يصل إلى 3587 شخصًا بينهم أكثر من 800 مدني، وما دامت الضربات الأميركية محاطة بالسرية والكتمان فهي بالتأكيد خارج الشرعية والقانونية(10). وقد لفتت الأنظار خلال خطاب أوباما الأخير بشأن طائرات بلا طيار سيدة تدعى ميديا بنجامين حين قاطعت خطابه أكثر من مرة وكررت له ما نشرته في كتابها "حرب طائرات بلا طيار والقتل عن بعد"؛ حيث قالت إنه خلال زيارتها لمواقع تعرضت لهذه الغارات تبين لها أن من بين (1717–2680) قتيلاً سقطوا خلال غارات أميركية بطائرات بلا طيار، في الفترة الواقعة بين 2004-2011 هناك مدنيون تراوح عددهم بين 393-471. وأعلنت مؤسسة أخرى للتوثيق في لندن سقوط 391 مدنيًا مقابل 780 مقاتلاً في هذه الغارات للفترة نفسها، ومن بين قتلى المدنيين 175 طفلاً"(11).

ولاحظت بعض الدراسات النفسية والاجتماعية أضرارًا غير مرئية على المناطق المتعرضة لمثل هذه الغارات وهي متعلقة بنفسية أهالي المنطقة التي تتعرض لهذه الغارات بشكل مستمر في ظل شعورهم بأن حكومتهم تخلفت عن الدفاع عنهم(12).

وتبرز الإشكالية القانونية الدولية في مثل هذا النوع من الغارات في أن اتفاقية جنيف لعام 1949 التي نظمت القصف الجوي والتمييز بين المدنيين والعسكريين ثم البروتوكول الإضافي لعام 1977 لم تغط هذا النوع من القصف.

ونتيجة لعدم وجود اتفاقيات رسمية مكتوبة تنظم هذه الغارات فقد برزت خلافات عميقة بينهما في حادثتين مهمتين أثّرتا على سير الغارات وعلى العلاقات الباكستانية-الأميركية بشكل عام.

تمثلت الحادثة الأولى في قيام عميل للاستخبارات المركزية الأميركية هو رايموند ديفيس بلاهور بقتل باكستانيين خلال مشاجرة بينهما في يناير/كانون الثاني من عام 2011 وهو ما وتّر العلاقات بين الطرفين وألهب مشاعر الباكستانيين، لجأت على إثره إسلام آباد إلى الضغط على واشنطن فتوقفت الغارات الأميركية لشهر كامل، ووقعت الحادثة الثانية حين استهدفت طائرة أميركية بلا طيار في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 نقطة عسكرية باكستانية في سالار بمناطق محمد إيجنسي القبلية على الحدود مع أفغانستان أسفر عن سقوط أكثر من 24 قتيلاً عسكريًا؛ مما أغضب العسكر في باكستان فردوا على الفور بمطالبة واشنطن بإخلاء قاعدة شمسي التي تنطلق منها الطائرات بلا طيار، لتبقى قاعدة جاكوب آباد الوحيدة المستخدمة لهذه الغارات. وجاء قرار الجيش مشفوعًا بإغلاق خطوط الإمداد من الجانب الباكستاني لقوات النيتو في أفغانستان والتي تعتمد الأخيرة بنسبة 80% من دعمها اللوجستي عليه.

وكانت منظمة العفو الدولية قد انتقدت هذه الغارات ورأت أنها تزيد من مشاعر العداء، وتقتل مدنيين وطالبت بتوضيح قواعد الاشتباك، والكشف عن الأسس القانونية والواقعية لهذا السلاح المميت(13)، وهو ما انتقدته أيضًا المفوضة السامية لحقوق الإنسان نافي بيلاي التي زارت باكستان وشددت على أن الغارات تثير أسئلة خطيرة بما يتعلق بالتزامها القانون الدولي وضمان المساءلة في حال الفشل بالالتزام به، وأنها غارات تنفذ بعيدًا عن الشفافية وخارج رقابة القيادتين العسكرية والسياسية"(14).

وقد صرح عدد من المشرعين الدوليين بأن الغارات بطائرات بلا طيار غير قانونية ما دامت أميركا ليست في حالة حرب مع القاعدة وطالبان"(15). و لوحظ على مدى العقد الماضي من استخدام الطائرات بلا طيار أن الغاية من ورائها لم تتحقق بل على العكس كان لها مفعول عكسي، إن كان على مستوى تفشي ظاهرة الجماعات المسلحة في مناطق القبائل الباكستانية وتحولها لقاعدة تدريب لبعض العمليات العسكرية التي استهدفت مصالح الغرب في بريطانيا في 7 يوليو/تموز 2006 أو في محاولة شاه زاد بمحاولة تفجير سيارة مفخخة في تايمز سكوير بواشنطن عام 2010، وكذلك مفعولها العكسي من حيث تفاقم وتصاعد العداء لواشنطن والغرب بشكل عام؛ ففي استطلاع للرأي أجراه معهد "بيو" عام 2011 أظهر أن 89% من الباكستانيين يعتقدون أن غارات الطائرات بلا طيار تقتل مدنيين(16).

ولعل أكثر ما جسّد العداء لواشنطن بتصويت الشارع الباكستاني وتحديدًا مناطق بيشاور والقبائل الباكستانية ضد حلفاء واشنطن الباكستانيين في الحرب على ما يوصف بالإرهاب وتحديدًا حزبي الشعب وحزب العوام القومي يساري التوجه، وطردهما بالكامل في الانتخابات الأخيرة من مناطق القبائل وبيشاور وهو ما عكس حجم انزعاج أهالي المناطق من أميركا وحلفائها.

يشي الواقع على الأرض بأن ثمة علاقة طردية بين مواصلة الغارات الأميركية على مناطق القبائل وتآكل سيطرة الدولة الباكستانية على الأرض، ولذا فقد نصح تقرير مجموعة الأزمات الدولية الأخير المشار إليه إلى وقف هذه الغارات والسماح للسلطة الباكستانية بإعادة العمل في مناطق القبائل، خصوصًا بعد أن فشلت خلال السنوات الماضية في ضمان أمن مواطنيها وسلامتهم. وعوضًا عن العمل الثنائي الشفاف بين الطرفين الأميركي والباكستاني لا يزال الجانبان يضغطان على بعضهما بشكل تكتيكي ففي الوقت الذي كانت واشنطن تهدد إسلام آباد بتوسيع رقعة عمليات غاراتها إلى إقليم بلوشستان المضطرب بذريعة وجود القاعدة وطالبان، كانت إسلام آباد تهدد بقطع خطوط الإمداد عن قوات النيتو في أفغانستان. ولعل ما جرى يوم العاشر من الشهر الجاري حين تعرضت قافلة إمداد لقوات النيتو للهجوم على أيدي مقاتلي طالبان باكستان قرب بيشاور وظهور مسلحين على الطريق الرئيسي علنًا يكشف عن لعبة القط والفأر التي عادت من جديد بين الطرفين الأميركي والباكستاني.

ويتعمق رأي لدى بعض المحللين والسياسيين السابقين في باكستان مفاده أن أوباما يتعامل بطريقة عنصرية مع باكستان؛ ففي الوقت الذي يُظهر سياسته المرنة مع الهند يأتي الأمر مختلفًا في التعاطي مع باكستان بقصف مناطق قبائلها وبالتالي مثل هذا الموقف يراه الباكستانيون أنه ما يحكم السياسة الأميركية إزاء باكستان وهو ما عبّر عنه ظفر هيلالي وهو سفير باكستاني سابق في مقال له أخيرًا(17).

جاء هذا الضغط التكتيكي من قبل الطرفين على حساب الحل الدائم المستقر في مناطق القبائل الذي هو بحاجة إلى إعادة الثقة بالحكومة المركزية عبر حوار مع طالبان وعودة الحكومة إلى تلك المناطق المضطربة.

وتبقى تساؤلات الشارع الباكستاني كما رصدها أحد الكتّاب الباكستانيين تتمثل في قدرة الحكومة والجيش الباكستاني على الخروج برأي موحد تجاه التعاطي مع القصف الأميركي المتواصل(18).

يتمثل التحدي أمام نواز شريف الآن في قدرته على نقل واشنطن إلى فضاء اندماجي بعيد الأمد واستراتيجي للحوار وتلبية حاجات الباكستانيين كما الأميركيين، ويمارس أوراق ضغطه بذكاء، لاسيما وأن استحقاق الانسحاب الأميركي الحاصل من أفغانستان بحاجة إلى طرق باكستانية للانسحاب باتجاه البحر، بالإضافة إلى الحاجة الأميركية للدعم الباكستاني في تثبيت السلام بأفغانستان في مرحلة ما بعد الانسحاب، خصوصًا وأن الحكومة التي تدير مناطق بيشاور والقبائل ممثلة بحزب عمران خان من أكثر المعادين للغارات الأميركية وتطالب بإسقاط أية طائرة؛ وهو ما قد يعزز أوراق تفاوض نواز شريف ضد استمرار هذه الغارات لاسيما وأنها ترافقت مع مظاهرات ومطالبات شعبية قوية .

سيتعذر على الشارع الباكستاني وتحديدًا القبلي بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان أن يصمت طويلاً على الغارات الأميركية ضده وفي مناطقه وهو يرى انسحابًا من أفغانستان وحوارًا مع الأطراف المتصارعة وتعهدًا بوقف الحرب في ذلك البلد الذي كان سببًا لما يحصل في مناطقهم..

قد يطرح البعض خيارات أقرب إلى الخيال في مواجهة هذه الغارات ولكن لا بأس بالإشارة إليها كتوجه باكستان إلى مجلس الأمن الدولي وطرح قضية الغارات المهددة للسلم والأمن الدوليين وهو ما سيحرج أميركا، ولكن هل تقوى أية حكومة باكستانية على ذلك بسبب تشابك علاقات الطرفين؟ ولعل ما وصفه رئيس المخابرات العسكرية الباكستانية السابق الجنرال شجاع باشا من أن باكستان "دولة مرعوبة" قد يفسر كثيرًا مدى التردد الباكستاني في الرد على الأميركيين وغيرهم ربما.

إيران المستفيدة

يُعتقد أن طهران أحد المستفيدين مما يجري من اضطراب في مناطق القبائل الباكستانية على أساس أن استحكام العداء بين أميركا من جهة ومناطق القبائل والحكومة الباكستانية من جهة أخرى قد يساعدها في ملء فراغ ما بعد الانسحاب من أفغانستان بالإضافة إلى اختراق مناطق القبائل عبر السكان الشيعة الموالين لها وتحديدًا المقيمين في كرم إيجنسي السفلى؛ فقد أشار تقرير مجموعة الأزمات الدولية أخيرًا إلى أن العامل الجديد برز في هذه الغارات الأميركية بالدعم الإيراني للشيعة في مناطق القبائل عبر تدفق سلاح إيراني لافت إلى تلك المناطق". ويرى التقرير أن طالبان ذات التوجه السني خطرة على الوجود الشيعي في المنطقة ولذا يبدون ارتياحًا واضحًا إزاء استمرار هذه الغارات.
________________________________________
د. أحمد موفق زيدان - مدير مكتب الجزيرة في باكستان

الهوامش والمصادر
1- The Nation , 11-6-20132 - Talat Farouq , Drones speak , The News , 12-6-2013
2- Zafar Hilaly, If the drones were  downed
3- The News, 31-5-2013
4- The News 30-5-2013
5- مقابلة مع الرئيس الباكستاني السابق برفيز مشرف بثتها محطة السي إن إن الأميركية يوم 12 إبريل/نيسان 2013.
6- Iftekar Murshid . " DRONES AND DECEPTION”, The News 9-6-2013
7- Bob woodward Obama’s war.2010,Simon & Schuster UK Limited.26 
8- Dawn , 9-3-2001
9- Dawn, 27-9-2013
10- Drones: Myths And Reality In Pakistan, 21-5-2013:
http://www.crisisgroup.org/en/regions/asia/south-asia/pakistan/247-drones-myths-and-reality-in-pakistan.asp
11- arvat N Hanif, Drone attacks a test case for Nawaz, PULS, 14-20,2013
12- I.A.Rehman, beyond the drone 30-5-2013  /
13- pakistan-2012-01-31  USA urged to clarify basis for drone killings in Pakistan Amenisty International web,dated 31-1-2012, http://www.amnesty.org/en/news/usa-urged-clarify-basis-drone-killings
14- US drone strikes ”raise questions” UN Navi Pillay.8-6-2012 http://www.bbc.co.uk/news/world-asia-18363003.
15- Daniel Ahmedina, (US policy on drone)Tribune 4-6-2013 
16- الغارديان البريطانية، 3 يونيو/حزيران 2013.
17- Haidar Mehdi , can Pakistan stop drone attacks, The Nation 6-6-2013
18- rones: Myths And Reality In Paksiatn,21-5-2013:  http://www.crisisgroup.org/en/regions/asia/south-asia/pakistan/247-drones-myths-and-reality-in-pakistan.asp

نبذة عن الكاتب