القبائل: الصندوق الأسود لباکستان

تبحث هذه الورقة التي جاءت بعد تجربة ميدانية للباحث في السياق التاريخي لمناطق القبائل، وكيف دهمتها الحرب على ما يُوصف بالإرهاب، فتحوَّلت من قاعدة للمجاهدين المدعومين آنئذٍ من الغرب ضد السوفيت في الثمانينات إلى معقل لطالبان والقاعدة ضد الغرب بعد عقدين فقط من الزمن.
201431955227548734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
تبحث هذه الورقة التي جاءت بعد تجربة ميدانية للباحث في السياق التاريخي لمناطق القبائل، وكيف دهمتها الحرب على ما يُوصف بالإرهاب، فتحولت من قاعدة للمجاهدين المدعومين آنئذٍ من الغرب ضد السوفييت في الثمانينات إلى معقل لطالبان والقاعدة ضد الغرب بعد عقدين فقط من الزمن. كما تتناول الورقة الحالة القانونية لهذه المنطقة من المنظور الباكستاني؛ كونها تخضع لحكم الرئيس بشكل مباشر دون أي رقابة عليه، وعرَّجت على القوى الداخلية والخارجية الفاعلة، وآفاق التسوية التي تبحث عنها إسلام آباد وطالبان.

شكَّل إعلان حركة طالبان باكستان عن هدنة مدتها شهر في 28 فبراير/شباط الماضي، والتعهد بوقف كل عملياتها ضد الحكومة واستجابة الأخيرة للهدنة - شهادةَ وفاةٍ رسمية للنظام القبلي الذي طالما حكم مناطق القبائل السبع لمئات السنين، وإن كان الواقع العملي على الأرض يعجُّ بالصور الدالة على وفاة هذا النظام منذ سنوات، حيث غدا جزءًا من الماضي؛ نتيجة تغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية قبلية عميقة لم يعُدْ يصمد أمامها نظام قبلي. ويتحكم 14 رئيس قبيلة في أكثر من مليون ونصف المليون نسمة لوحدها في وزيرستان الشمالية والجنوبية، وهو ما ينسحب على مناطق قبلية أخرى.

تبحث هذه الورقة التي جاءت بعد تجربة ميدانية للباحث (1) في السياق التاريخي لمناطق القبائل، وكيف دهمتها الحرب على ما يُوصف بالإرهاب، فتحوَّلت من قاعدة للمجاهدين المدعومين آنئذٍ من الغرب ضد السوفيت في الثمانينات إلى معقل لطالبان والقاعدة ضد الغرب بعد عقدين فقط من الزمن. كما تتناول الورقة الحالة القانونية لهذه المنطقة من المنظور الباكستاني؛ كونها تخضع لحكم الرئيس بشكل مباشر دون أي رقابة عليه، وعرَّجت على القوى الداخلية والخارجية الفاعلة، وآفاق التسوية التي تبحث عنها إسلام آباد وطالبان.

 السياق التاريخي لمناطق القبائل

لا شك أن منطقة القبائل هي بمثابة الصندوق الأسود لكل الإمبراطوريات التي حكمت المنطقة من مغولية وأبدالية إلى بريطانية وحكام جدد، وحوى هذا الصندوق كثيرًا من أسرار الحكم التي دفعت أحد حكام أفغانستان -الملك يعقوب الذي حكم أقل من عامين 1879- إلى التنازل عن السلطة والهرب إلى لندن، معبرًا عن الحالة بقوله: "أفضِّل أن أعمل جازًّا للأعشاب في معسكرات بريطانية على أن أحكم أفغانستان". (2)

ومع صعود مؤسس الدولة الأفغانية الحديثة أحمد شاه الأبدالي (1724- 1773) برز نظام رؤساء القبائل وسط قبائل وزيرستان، حيث عيَّن الأبدالي أربعة رؤساء لقبائل شمال وجنوب وزيرستان، وهو ما انسحب على مناطق قبلية أخرى.

في وزيرستان الأكثر اضطرابًا هذه الأيام، يعود أهلها إلى الجد درويش بابا المسمَّى موسانيكا الذي خلَّف ثلاثة أبناء هم: أحمد الذي قاد قبيلة وزير لاحقًا في الجزء الشمالي من جنوب وزيرستان، بينما قاد النجل الثاني محسود قبيلة محسود في الجزء الجنوبي من جنوب وزيرستان، وعتمان زي الذي قاد قبيلته في مناطق شمال وزيرستان.

إضافة إلى وزيرستان، هناك مناطق قبلية أخرى على الحدود مع أفغانستان من بينها مهمند أيجنسي، وكرم إيجنسيو باجورو أوركزي، وخيبر وكلها تتشاطر حدودًا مع أفغانستان باستثناء أوركزي.

سعى المغول في القرن السادس عشر إلى إخضاع المناطق القبلية لفتح الطرق بين الهند وفنائهم أفغانستان، فأرسل السلطان أكبر مستشاره المفضل بيرمل عام 1586 إلى بيشاور لإخضاع قبائل "يوسفزي"، فكانت النتيجة خسارته لثمانية آلاف من مقاتليه، إضافة إلى مستشاره المفضل بيرمل. وفي عام 1672 أعاد حفيده أورنكزيب الكرَّة، فأرسل قواتٍ لإخضاع قبائل أفريدي، فخسر عشرة آلاف من مقاتليه قتلى، وعشرين ألف أسير، بينما قدَّر عدد القتلى الشاعر البشتوني المعروف خوشحال خان ختك بأكثر من أربعين ألف قتيل". (3)

هاتان الحادثتان أقنعتا المغول بالعودة للتعامل مع القبائل من خلال دفع الضرائب والإتاوات لها؛ ثمنًا لمرور قوافلهم من طرقها القادمة من الهند إلى أفغانستان، وهو ما سارت عليه الإمبراطورية المغولية طوال فترة حكمها الممتدة من (1526- 1857).

واصل البريطانيون نفس السياسة باستثناء تجريب حظهم أحيانًا في إخضاعها بالقوة، وظلت مقولة اللورد كيرزون مندوب الملكة في الهند هادية لمن بعده في معظم الأحيان: "إمَّا أن تقتل 18 ألف محسود أو تجعلهم كلهم رؤساء قبائل". فوسَّع البريطانيون عدد رؤساء القبائل، فجعلوا أعدادهم في وزيرستان الشمالية والجنوبية ثلاثة عشر رئيس قبيلة بعد أن كانوا أربعة، وكان المفوض الحكومي للبريطانيين في مناطق القبائل يُطلق عليه "باد شاه" أي الملك ولديه صلاحيات مطلقة، ويُشترط فيه أمران مهمان: أن يكون متقدمًا بالسن قليلاً، وأن يكون متقنًا للغة المحلية البشتو.

وبرزت شخصيات بريطانية مميزة في الفهم العميق للقبائل، وكان من أبرزهم السير رالف كارو الذي كان آخر حاكم لإقليم بختون خواه وعاصمته بيشاور، وكانت القبائل تابعة حيث ألَّف كارو كتابه المميز "الباتان" 1965، قدَّم فيه خلاصة تجربة حكمه التي امتدت لأكثر من 38 عامًا، فعَكَس مدى عمق فَهْمه للقبائل، لكن هذا العمق جاء بعد كوارث ماحقة بالجيش البريطاني أرغمته على التعامل بشكل غير مباشر مع القبائل، أفدح أثمانها مجزرة بحق الجيش البريطاني في مضيق خورد كابول بجلال آباد 1841، راح ضحيتها أكثر من 12 ألف جندي بريطاني (4)، وأصرت القبائل على إبقاء الطبيب البريطاني برايدن حيًّا؛ ليروي لمن خلفه ما حصل. ويُعتقد أن هذه المذبحة هي التي أرغمت البريطانيين على سياسة الحكم غير المباشر لمناطق القبائل. يصف كارو في كتابه قبائل وزيري بالفهود وقبائل محسود بالذئاب ويعلّله بـ"كلاهما مخلوقان رائعان، لكن الفهد أكثر مكرًا وأناقة وأشد عزة، بينما الذئب أكثر معرفة بهدفه وأشد اتحادًا وأكثر خطورة" (5). ويخلص إلى نتيجة مفادها بأنه لا توجد إمبراطورية عالمية نجحت في إخضاع هذه القبائل.

كما برز أيضًا إيفالينهاول (إيفالين هاول) الذي كان ممثلاً للبريطانيين في وزيرستان من خلال سفره المميز "ميز"، وهي كلمة بشتونية كثيرًا ما تستخدمها القبائل وتعني "نحن"، ولا يزال هذا الكتاب دليل إرشادٍ لمن جاء بعده في التعاطي مع قبائل شديدة التعقيد في تراثها الحكمي الذي ورثته الأجيال، ضاعفته طبيعة جغرافية معقدة تعكسها أسماء أماكنها، فثمَّة مكان يُطلق عليه "جيداركوكولا" أي "فم ابن آوى"، وآخر "دوزخ تنگي" أي "مضيق جهنم".

ومع الانسحاب البريطاني من شبه القارة الهندية 1947، تم تخيير القبائل بالانضمام إلى باكستان أو إلى الهند، واختارت القبائل باكستان، لكن استقلال باكستان لم يعنِ شيئًا بالنسبة للقبائل، فقد استمر القانون البريطاني المعروف بـ"FrontiersCrime Regulation" أيْ تنظيم الجريمة بمناطق الحدود السيئة الصيت منذ تطبيقه على مناطق القبائل عام 1901، وملخصه العقوبة الجماعية على القبيلة كلها إنْ أخطأ فرد منها، ساريًا حتى اليوم، وأتى ليخدم مصالح المحتلين البريطانيين، "الذي ما نزال في باكستان نخدمهم من خلال مواصلة تطبيق هذه القوانين". (6)

منذ ذلك التاريخ يمكن رصد صدمات اجتماعية واقتصادية وسياسية تعرضت لها مناطق القبائل، التي تعدُّ المناطق الوحيدة عالميًّا خارج سيطرة الحكومة المركزية.

جاءت الصدمة الأولى لمناطق القبائل بالإبقاء على أدوات الماضي لحكم الحاضر، وهو المحافظة على ممثل الحكومة المركزية امتدادًا للحكم البريطاني، فلم يشعر أهالي القبائل بثمرات الاستقلال، ولا تماشت الحكومة الباكستانية الجديدة مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي برزت خلال القرنين الماضيين من تعامل البريطانيين مع عدد محدود من ممثلي القبائل.

وظل الثالوث الحاكم في مناطق القبائل هو نفسه ممثل الحكومة، ورئيس القبيلة، والملا الذي في الغالب ما يكون تابعًا لرئيس القبيلة، غير أنه مع خرق رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو في مطلع السبعينات التقليد المتبع بنأي مناطق القبائل عن العمل السياسي وتوجهه إليها، تسبَّب في صدمة لحكم قبلي تقليدي مستمر منذ قرون، وشكَّلت صدمة الجهاد الأفغاني ذروة الصدمات، فانتشرت المدارس الدينية كالفطر فيها وشارك طلبتها في الجهاد، وعادوا بأفكار وآراء جديدة بعد أن احتكوا مع جهاديين عالميين هناك، وعزَّز تغيُّر الفضاء الاقتصادي والاجتماعي في مناطق القبائل احتكاك عشرات الآلاف من العمالة القبلية في الخليج العربي، حيث أدركوا كيف أن رؤساء قبائلهم يعملون لمصالحهم الشخصية والذاتية حين يتعاملون مع الحكومة، وحتى قائمة رؤساء القبائل التي حددها البريطانيون لم تعُدْ صالحة؛ فقائمة رؤساء القبائل ليست ثابتة، فرئيس القبيلة القوي اليوم قد لا يكون كذلك بعد أسبوع ، ونظام رؤساء القبائل لا يتناسب مع النظام الديمقراطي". (7)

ومع تمدُّن كثير من القبليين بتحولهم إلى المدن، دخل معطى جديد على تغيُّر في عقلياتهم ونفسيَّاتهم، تعرفوا من خلالها على آلية حكم وتعامل جديدة، بعيدًا عن تحكم شخص واحد بمصيرهم؛ ليزيد ذلك كله من الضربات القاسية الموجهة إلى نظامٍ لم تسعَ الحكومة إلى تعديله وتطويره.

فالمجتمع القبلي الباكستاني لم يعُدْ كما هو قبل قرون، ولم يعد بالإمكان أن يُدار بأدوات الماضي، وجاء الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 وانحياز المقاتلين القبليين في صفوف طالبان والقاعدة إلى مناطقهم مع ضيوفهم من طالبان أفغانستان والقاعدة، لتتحول لفناء كامل للمسلحين الجدد.

سعى الرئيس الباكستاني حينها برفيز مشرف إلى إضعاف سلطة ممثل الحكومة، وربط المناطق القبلية أكثر به وبالمؤسسة العسكرية، لكن لا النظام الجديد تمكَّن من التعامل مع متغيرات أصبحت معقدة، ولا النظام القديم بقي موجودًا بعد أن تغيرت قواعد اللعبة، فلا ممثِّل الحكومة قوي كما عهده أهل المنطقة، وهو الذي ينتقل اليوم بحماية الجيش؛ ففَقَد جاذبيته كملكٍ متوج، وفَقَد معها سلطة أخلاقية ورمزية ونفوذية وتأثيرية، فمع دخول العسكر على الخط ذهبت السلطة الرمزية.

الوضعية القانونية لمناطق القبائل

تُطلق الحكومة الباكستانية على مناطق القبائل تسمية "FATA" أي "الإدارة الفيدرالية لمناطق القبائل"، وبالتالي فهي إدارة وليست حكمًا، فلا هي تابعة لإقليم بختون خواه وعاصمته بيشاور حتى تخضع لبرلمانه ومحاكمه ومؤسساته كما هو حال جيرانها، ولا هي إقليم مستقل منفصل لديه مؤسساته وإدارته المسؤولة عنه، وإنما هي إدارة يقودها مفوض حكومي مسؤول أمام رئيس الدولة بشكل مباشر يحكمها دون العودة إلى أية مؤسسات تشريعية أو قضائية؛ ولذا فحين أصدرت محكمة بيشاور أمرًا العام الماضي بوقف الغارات الأميركية على مناطق القبائل، لم يكن لقرارها ثمن الحبر الذي وقَّعت به، وكذلك حين أدان البرلمان ومجلس الشيوخ الباكستانيان وطالبا بوقف الغارات، لم يكن قرارهما بأحسن حظًّا من قرار محكمة بيشاور.

فأهالي مناطق القبائل لا يستطيعون استئناف أي حكم صادر بحقهم من قِبل المفوض الحكومي، وحين أصدر الرئيس الباكستاني السابق آصف علي زرداري قرارًا للتخفيف من هذه القوانين القاسية، لم يكن لها تأثير ملموس على واقع السكان. (8)

القوى الفاعلة في مناطق القبائل

الحرب على القاعدة وطالبان والفوضى في أفغانستان وتراجع هيبة الدولة الباكستانية في مناطق القبائل مع انسحاب القاعدة وطالبان إلى مناطق القبائل، خَلَق معادلة جديدة وهي تنامي قوَّة اللاعبين غير الحكوميين على حساب سلطة الدولة الباكستانية.

وما دام الجرح القبلي مفتوحًا منذ عقد تقريبًا، في غياب الطبيب الذي هو الحكومة؛ بسبب انسحابها شيئًا فشيئًا وحلول لاعبين طالبانيين جدد، فإنَّ هذا الجرح تقيأ وتقرَّح وأصاب دولاً مجاورة. وعليه، فإنه لابد من تحديد القوى الداخلية الفاعلة والمؤثرة في مناطق القبائل، وكذلك القوى الخارجية؛ ليتم فَهْم المعادلة الجديدة وكيفية التعاطي معها.

على صعيد القوى الداخلية نتحدث عن قوة طالبان الصاعدة على حساب قوة رؤساء القبائل التي تراجعت وربما اختفت خلال العقد الماضي؛ فقد تحدث إلينا رؤساء قبائل خلال زيارتنا أنَّ ما لا يقل عن أربعة من رؤساء القبائل قُتلوا، واختفى العديد منهم خلال السنوات الماضية. (9)

وعناصر المعادلة القبلية الداخلية الآن هما: الجماعات المسلحة ومن ضمنها طالبان، والجيش والمؤسسة العسكرية على الطرف الآخر.

ظهرت حركة طالبان على عجل بعد أحداث المسجد الأحمر الذي اقتحمته قوات الكوماندوز الباكستاني في يوليو/تموز 2007 من حكم مشرف، والذي وصفها وكيل الخارجية الباكستانية آنئذٍ بالكارثة على باكستان (10)، وهو ما أعاد قيمة جملة قالها سياسي بريطاني حَكَم في مناطق القبائل: "الأخطاء التكتيكية في وزيرستان سيتم المعاقبة عليها".

كان تأسيس طالبان حينها على عجلٍ لمسته تمامًا حين التقيت بعد شهر تقريبًا على حادثة المسجد الأحمر، مؤسسَ التنظيم بيت الله محسود، وكأن الجميع حينها كان يسعى إلى استثمار حادثة المسجد الأحمر التي راح ضحيتها العشرات -وفقًا للحكومة- من الطلبة الذين تحصنوا في داخل المسجد ضد الحكومة، بينما تقدرهم أوساط الإسلاميين بالمئات من القتلى. وبعد أيامٍ خرج عمر خالد الذي تلقى تعليمه في المسجد الأحمر بتأسيس منظمة المسجد الأحمر في مهمند أيجنسي القبليَّة لتتحالف مع طالبان.

نفذت حركة طالبان باكستان التي تمرست القتال في أفغانستان عملياتٍ دامية ضد قوات الأمن الباكستانية، كان أسوأها خطف 260 من قوات الأمن ثم قتلهم.

حركة طالبان باكستان التي أسسها بيت الله محسود ثم خلفه حكيم الله محسود - عبارة عن تنظيم مرن لم يحظَ بدعم ومباركة علنيَّة من قِبل زعيم طالبان أفغانستان الملا محمد عمر، مع أن الأخيرة كانت من أكبر المستفيدين من تمدُّد التنظيم في مناطق القبائل؛ تسهيلاً لحركتها في أفغانستان.

اللافت أن بيت الله المنحدر من فخذ شابي خيل محسود، هي نفسها التي كان لها صولات وجولات مع البريطانيين، فهي مَن قتلت العميد البريطاني ريتشارد هارمان قائد القوات البريطانية في جنوب وزيرستان عام 1905، وكذلك اختطفت ثم قتلت الرائد البريطاني دونالد عام 1946، وفي نفس العام حاول أحد أبنائها اغتيال جواهر لال نهرو عندما كان يزور المنطقة.

اقتصر نشاط طالبان باكستان في البداية على أفغانستان وتحديدًا الشرق الأفغاني، إلى أن وقعت حادثة المسجد الأحمر فبدأت العمليات داخل باكستان، ومع مقتل بيت الله بصاروخ موجَّه من طائرة أميركية بلا طيار عام 2009 خَلَفَه حكيم الله الذي قُتل العام الجاري بالطريقة نفسها، فبويع ملا فضل الله الذي يُطلق عليه "ملا راديو"؛ لاهتمامه بإدارة راديو إف إم من وادي سوات، وهي المرة الأولى التي تخرج قيادة الحركة عن مناطق القبائل وتحديدًا عن قبيلة محسود، فدَّبت الخلافات في صفوفها خصوصًا بعد تلويح الحكومة بالعمليات العسكرية، فضغطت قيادة طالبان أفغانستان على القيادة الطالبانية الباكستانية للقبول بالتفاوض (11)، وتشكلت لجان تمثِّل الحكومة وطالبان باكستان للتوصل لحلٍّ ثم أُعلن عن هدنة لشهر، ولكن سريعًا ما أعلن مسلحو شمال وزيرستان بقيادة غل بهادر أنهم ليسوا جزءًا من طالبان باكستان، وأنهم في هدنة مع الحكومة منذ عام 2008، وشكلوا مجلس مجاهدي شمال وزيرستان، وهم -إضافة إلى شبكة حقاني الأفغانية- يتركز مشروعهما في أفغانستان وليس في باكستان. (12)

تتوزع خريطة المسلحين في مناطق القبائل على الجزء الجنوبي من جنوب وزيرستان بقيادة قبائل محسود، وتتنازعه قيادتان: قيادة شهريار خان، وجهاديار المقيمين حاليًا في شمال وزيرستان؛ بسبب سيطرة الجيش على مناطقهم، وهم من المنخرطين بالحوار مع الحكومة. وهناك "خالد سجنا" الذي قضى أكثر من عشرين عامًا يقاتل في أفغانستان، وهو يعارض شهريار وموالٍ لغل بهادر. وهناك الجزء الشمالي من جنوب وزيرستان ويقوده حاليًا بهاول وزير، الذي خَلَف ملا نذير المتهم بالولاء للحكومة والجيش الباكستانيين، ولكنه يعدُّ مواليًا لطالبان أفغانستان، ومشروعه يتركز على أفغانستان، وهو ما دفع مسلحي محسود أيام حكيم الله إلى تصفيته.

في باجور القبلية المتاخمة لولاية كونار الأفغانية تراجع دور الملا فقير محمد الذي كان يعدُّ أقرب إلى الحكومة، وتعدُّ الآن المجموعات المسلحة في مهمند أيجنسيو أوركزي بقيادة عمر خالد وآخرين هي المعارضة للحوار مع الحكومة، وتنفذ عمليات ضدها. ومع استمرار الحوار بين الحكومة وطالبان عَبْر لجنتي التفاوض، صعَّدت بعض المجموعات الحديثة التشكيل والمجهولة من عملياتها ضد الحكومة كمجموعات أنصار المجاهدين، وأحرار الهند، وجيش أسامة وآخرين، على الرغم من نفي طالبان مسؤوليتها عن هذه العمليات.

لكن المغيَّب الأساسي في هذه المعادلة هو زعيم طالبان الجديد ملا فضل الله، الذي ظهر وكأنه منفصل عن الواقع، فلم يصدر له أي تصريح منذ أن بويع بالإمارة على التنظيم، وهو ما يشيع جوًّا تشاؤميًّا على الحوار الذي انطلق بين الحكومة وطالبان.

وجاء تبني مجموعات مجهولة لعمليات أخيرة على الرغم من إعلان طالبان الهدنة؛ ليزيد من الشكوك في تورط قوى خارجية بنسف جهود السلام، وهو ما دفع رئيس الحكومة الباكستانية إلى توجيه الاتهام إلى قوى خارجية من بينها المخابرات الهندية؛ للوقوف خلف هذه العمليات لنسف المفاوضات. (13)

ويُعتقد أن قوى إقليمية من بينها أفغانستان وإيران والهند تسعى إلى استثمار الواقع القبلي لصالحها عشية الانسحاب الغربي من أفغانستان هذا العام؛ كونه سيخلف فراغًا تسعى هذه القوى من خلاله إلى حرمان باكستان من ملء بعضه على الأقل بإشغالها داخليًّا، وهو ما كشفه بعض المسؤولين الباكستانيين مفضِّلين عدم ذكر هوياتهم؛ فالهند تخشى أن تكون وجهة المسلحين بعد الانسحاب الغربي من أفغانستان إلى كشمير على غرار ما حصل عشية الانسحاب السوفيتي من أفغانستان 1989، فاندلعت الانتفاضة الكشميرية حينها، وإيران تخشى من الإطاحة بكل الاستثمارات والإنجازات التي أحرزتها طوال فترة بقاء القوات الغربية في أفغانستان عبر الدفع بحلفائها من الشيعة أو من الأقليات إلى الحكم في كابول.

باكستان من جهتها ستسعى إلى استعادة نفوذها في أفغانستان بعد أن انحنت لعاصفة 11-9-2001، لكن واشنطن من جهتها تعي منذ اليوم الأول أن مشرف وخلفاءه يسعون إلى استعادة نفوذهم في أفغانستان عبر طالبان من خلال مناطق القبائل. (14)

توصيات

  • تحتاج باكستان أن تعي أن مناطق القبائل لم تعُدْ هي نفسها التي ورثتها عن بريطانيا، وأن أنموذج الممثل الحكومي لم يعد صالحًا في ظل التغيرات الهائلة التي حصلت داخليًّا وخارجيًّا، وعليه لابد من تأسيس إقليم خاص بمناطق القبائل يُحكم بطريقة قانونية عصرية، وفي ظل مؤسسات رقابية وبرلمان ومجلس وزراء كحال الأقاليم الأخرى.
  • النفوذ الطالباني والإسلامي يتصاعد في مناطق القبائل، وسيزداد أكثر مع عودة محتملة كلية أو جزئية لطالبان أفغانستان بعد الانسحاب الغربي؛ ولذا فمن الممكن إرضاء طالبان بالسماح لها بتطبيق الشريعة في الإقليم، أو بتقديم تنازلات ترضيها ريثما يتم استيعابها بالنظام السياسي الجديد مستقبلاً.
  • على القوى الإقليمية والدولية أن تعي أن مناطق القبائل كما كانت معقلاً لنشاطات ضد الشيوعية أيام السوفيت وضد الأميركيين لاحقًا، يمكن أن تكون معقلاً ضد غيرها، وبالتالي لابد أن تنأى بنفسها عن التدخل في شؤونها، وتسمح لعودة قوية للحكومة المركزية التي ستكون في النهاية مسؤولة أمام المجتمع الدولي عن هذه المناطق الخارجة الآن عن الشرعية وعن المحاسبة الدولية لباكستان.

_________________________________
د. أحمد موفق زيدان - مدير مكتب الجزيرة في باكستان، وباحث مختص في الشأن الباكستاني.

الهوامش والمصادر
1- تجوَّل الباحث وعلى مدى أيام في المناطق القبلية التي أطلق عليها مؤسس باكستان محمد علي جناح تسمية "الإطار الفولاذي" لحماية باكستان، وهي المغيبة تمامًا عن الإعلام ومراكز البحث؛ بسبب فرض الحكومة رقابة صارمة على مثل هذه النشاطات (على هذه النشاطات)، والتقى خلال هذه الزيارة البحثية مع اللاعبين فيها من سياسيين وقبليين وطالبانيين.
2- James W Spain The Pathan Borderland (the Hague :Mouton .19630 ,p.135.
3- Akbar Ahmad:”the thistle and the drone ”how American’s war on terror became a global war on tribal Islam .pp57. Harper Collins publishers in India 2013 .
4- William Dalrymple. Return of a king (the battle for Afghanistan) Bloomsbury publishing PLC 2013.PP380.
5- Sir Olaf Caroe ,ThePathan (Oxford University press 2000).pp.393.
6- أياز وزير سفير باكستاني سابق من مناطق القبائل، موقع صحيفة ذي نيوز الباكستانية 5/3/2014 http://www.thenews.com.pk/Todays-News-9-236314-The-wisdom-of-the-tribes
7- غلام أفريدي ضابط باكستاني متقاعد، موقع صحيفة الدون الباكستانية 31/3/2012
 http://www.dawn.com/news/706928/fata-leadership-in-decline
8- الكاتب وارث حسين، موقع صحيفة تريبيون إكسبريس 21/2/2014
 http://tribune.com.pk/story/674275/fata-and-the-fcr-3/
9- لقاءات مع رؤساء قبائل فضَّلوا حجب هوياتهم أثناء زيارتنا إلى تلك المناطق الممتدة من 24/2/2014 إلى  3/3/2014.
10- Riaz Mohammad Khan, Afghanistan and Pakistan (conflict. Extremism .and resistence to modernity),Oxford Karachi 2011.pp253.
11- لقاءات للباحث مع قادة من طالبان أفغانستان منتصف فبراير/شباط الماضي.
12- لقاءات للباحث مع قادة مجلس شورى مجاهدي شمال وزيرستان أثناء زيارته إلى المنطقة مطلع الشهر الجاري.
13- http://www.thenews.com.pk/Todays-News-13-28950-RAW-among-suspects-behind-capital-attack-PM
14- Anonymous.ImperialHubis(why the west is losing the war on terror),Brassey’s Washington.2004. pp55
ويعتقد أن الكاتب هو الضابط الأميركي مايكل شوير المسؤول السابق عن مكتب مطاردة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في جهاز المخابرات الأميركية السي آي إيه (CIA).

نبذة عن الكاتب