معارضات مسلحة سورية تتأقلم مع بيئاتها (الفرنسية) |
ملخص يغلب الطابع المحلي في الجنوب السوري حيث تسهم العشائرية وصعوبة التنقل من وإلى جبهة حوران (سواء من جهة دمشق أو الأردن)، إضافة إلى ضعف ارتباط القيادات الميدانية بالتجربة الجهادية العالمية أو بالجبهات الأخرى داخل سوريا، في بطء تمدد التيارات الأيديولوجية أو التحالفات "الوطنية". بينما يسيطر مشهد النفط والعشائر على الجبهة الشرقية؛ حيث يقف كثير من الوجود المسلح على حماية آبار النفط والتكسب منها، بينما تعتمد حتى الأيديولوجيات الأكثر صلابة وصهرًا للانتماءات (مثل: جبهة النصرة) على البنية العشائرية التي لا يمكن تهميشها أو تجاوزها إلا بالتصادم المسلح معها. |
مقدمة
ظلت المناطق السورية الخاضعة لقوات المعارضة المسلحة تعرف ثباتًا نسبيًا منذ أشهر، لكن خلف هذا الثبات حدثت تغيرات في بنية القوات المقاتلة وتحالفاتها وأيديولوجيتها، لعدة أسباب، محلية وإقليمية ودولية، دفعت في مجملها إلى إدامة الحرب، وإفشال رهانات الحل السياسي.
فشل الحل السياسي دفع بالمعارضة إلى حمل السلاح لدفع قوات النظام، لكن تخوف القوى الغربية من تكرار النموذج الليبي وتمسك روسيا والصين بحماية النظام حرما المعارضة المسلحة من الحصول على السلاح اللازم للحسم العسكري، وأعطى فقدان النظام السيطرة على مناطق واسعة في شمال سوريا تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام فرصة التمدد داخل سوريا، والعمل على تشكيل دولة تمتد من شرق العراق إلى شمال سوريا.
هذه الاتجاهات الثلاثة حددت إلى حد كبير التحولات التي عرفتها المعارضة السورية المسلحة؛ حيث لم تعد تثق في الحل السياسي، وباتت تراهن على حرب قضم واستنزاف، وتتأقلم يوميًا للحصول على الموارد الضرورية للبقاء والقتال.
تقدم هذه الورقة قراءة تقويمية وتصنيفية للمعارضة المسلحة في سوريا، وميزان القوة والتأثير ميدانيًّا وأيديولوجيًا، ومآلاتها المتوقعة.
عوامل التحول والتأثير
1- الأيديولوجيا
أ- من المحلي إلى الأيديولوجي
بدأت الثورة السورية بانتفاضة شعبية في درعا يوم 18 مارس/آذار 2011، واجهها النظام بعنف مسلح بالتوازي مع تمدد الثورة إلى بلدات ومدن أخرى في محافظة درعا وريف دمشق وحمص أو اللاذقية، وصولًا إلى اقتحام مدينة درعا يوم 25 مارس/آذار 2011 فوقعت أول مواجهة مسلحة مع الدولة قادها بضع عشرات من الشبان؛ ومنذ تلك الحادثة تكررت ظاهرة دفاع المجتمع المحلي عن نفسه في حواضن الثورة الشعبية، لتتطور فيما بعد إلى تشكيلات منظمة.
استمر طابع "الجيش الحر" كامتداد مسلح للمجتمع المحلي غالبًا على التشكيلات المقاتلة، مستندا على التدين الشعبي كسند روحي وهوياتي، دون أن يتطور إلى أيديولوجيا ومشروع سياسي ناجز إلا لاحقًا.
بإفراج النظام عن معتقلي صيدنايا (1)، وتكثيفه للمجازر ذات الطابع الطائفي (2)، واعتماده على إيران كسند إقليمي، ودخول القاعدة على خط الصراع، وازدياد حاجتها إلى تحالفات ميدانية موسعة بعد تعقد الحرب، أتاحت هذه الظروف الموضوعية تطور المجموعات المحلية إلى مجموعات أيديولوجية وتوسع الطلب على الخطابات الأكثر وضوحًا في جهاديتها ومشروعها السياسي الإسلامي؛ فمنذ صيف 2012، ستأخذ التحالفات العسكرية ذات الطابع الإسلامي بالتوسع، مع تبلور فرز وتنافس أيديولوجي بين المجموعات المقاتلة ما زال غير مستقر حتى الآن بسبب دينامية الحرب المتغيرة، وأولوية الميداني على الأيديولوجي لدى النسبة الغالبة من المجموعات المحلية، ما يحكم ببطء استقرار التصنيفات واستمرار تحولاتها.
ب- أحادية الخطاب الجهادي
رغم عدم امتلاك السلفية لقاعدة اجتماعية واسعة قبل الثورة في سوريا (3), إلا أن امتلاك التيار السلفي للخطاب الجهادي ومصادر الدعم أكثر من غيره، مكّنه من التوسع إلى تشكيلات كبرى، لم تستطع المؤسسة الدينية التقليدية أو جماعة الإخوان أو الجماعات النشطة اجتماعيًا مجاراتها، لعدم تطويرها خطابًا جهاديًّا يوفر حاضنا شرعيا ونفسيا للمقاتلين، رغم قربها من نمط التدين الشعبي. هذا التأخر أسهم في تقليصه قيام الجبهة الإسلامية ثم الصدام مع تنظيم دولة العراق والشام، عبر تشكيلات عسكرية تمثل الإسلام المجتمعي الصاعد، مثل: الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام وجيش المجاهدين.
ت- جغرافيا الأيديولوجيا
لا يمكن إغفال العامل الجغرافي الاجتماعي في انتشار الخطابات الأيديولوجية في بعض المناطق والمجتمعات المحلية وانحسارها في أخرى؛ حيث نلحظ الاتجاه السلفي الصاعد في الشمال السوري نتيجة سهولة دخول المهاجرين الذين ينتمي أغلبهم للتيار السلفي الجهادي، ووجود قيادات جهادية معروفة حتى من السوريين؛ ما أسهم في كون الجبهة الشمالية الأنشط والأكثف عسكريًّا، والأكثر تداولًا للخلافات والمعارك ضمن الفضاء الجهادي الافتراضي أو الواقعي.
بينما نلحظ الطابع المحلي الغالب في الجنوب السوري حيث تسهم العشائرية وصعوبة التنقل من وإلى جبهة حوران (سواء من جهة دمشق أو الأردن)، إضافة إلى ضعف ارتباط القيادات الميدانية بالتجربة الجهادية العالمية أو بالجبهات الأخرى داخل سوريا، في بطء تمدد التيارات الأيديولوجية أو التحالفات "الوطنية".
بينما يسيطر مشهد النفط والعشائر على الجبهة الشرقية؛ حيث يقف كثير من الوجود المسلح على حماية آبار النفط والتكسب منها، بينما تعتمد حتى الأيديولوجيات الأكثر صلابة وصهرًا للانتماءات (مثل: جبهة النصرة) على البنية العشائرية التي لا يمكن تهميشها أو تجاوزها إلا بالتصادم المسلح معها.
2- الإقليم
أ- أقلمة الميداني
تختلف طبيعة العلاقات الخارجية للمجموعات المقاتلة وحدودها ومدى تأثرها بالعامل الإقليمي، ما بين الرفض أو المناورة أو الاستتباع، بقدر ما تختلف الصلابة والأولوية بين الميداني والأيديولوجي؛ حيث يصعب على صراع يحتاج دعمًا طويلًا ومكثّفًا واتفاقات مع الدول أن ينغلق على نفسه، حتى لو تم إنكار العلاقات الخارجية ظاهريًا.
لم يؤد فشل الرهان على الحل السياسي من خلال المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني إلى تركيز الجماعات المسلحة الاهتمام بالشأن الداخلي والعزلة عن الخارج، بل لا تزال المعارضة المسلحة عرضة للتأثير الإقليمي وصراعاته ما بين المحورين الإماراتي-السعودي والتركي-القطري، فكل منهما يُمارَس بشكل مباشر على المجموعات المقاتلة وطبيعة تحالفاتها، ما أسس لاستقطاب آخر فوق الاستقطابات الأيديولوجية والميدانية، وساهم في تفكيك بعض التحالفات وتأسيس أخرى.
ويوازي الدعم والتأثير الإقليمي الحكومي، دعم التيارات السلفية الأهلية في الخليج، والتي أضحت ساحة الصراع الرمزي الأهم بالنسبة للمجموعات الإسلامية، خاصة في مواجهة تنظيم دولة العراق والشام ومحاولة كل فريق إثبات سردية الشرعية الخاصة به ضمن الفضاء السلفي العام. وتؤثر هذه التيارات السلفية الأهلية في تأسيس واستمرار معظم التحالفات العسكرية ضمن التيار السلفي المقاتل.
كان قيام الجبهة الإسلامية باعتبارها تحالفًا بين جهات تتلقى دعمًا من تيارات متباينة، إضافة إلى رفضها الاعتراف بالائتلاف والأركان باعتبارها تحاول طرح مشروع بديل، مشجّعًا للمحور السعودي على دعم قيام تحالفات مقابلة أقل أدلجة وأكثر مرونة في التعامل مع الائتلاف والمجتمع الدولي؛ فظهرت جبهة "ثوار سوريا" كمشروع موازن للجبهة، كما أعيدت هيكلة الأركان نتيجة صراعات داخلية وبتأثير النفوذ السعودي المسيطر على الائتلاف.
ب- المقاتلون الشيعة
من الناحية المقابلة اعتمد النظام بشكل متزايد عام 2013 مع تآكل الجيش النظامي وانحسار مناطق سيطرته، على الاستعانة بإمداد إقليمي شيعي يتشكل من ضباط الحرس الثوري الإيراني وقوات حزب الله اللبناني وأكثر من 15 فصيلًا عراقيًّا مقاتلًا إضافة للمتطوعين الأفغان والباكستانيين، والذين أصبحوا في خط المواجهة الأول في جبهة ريف دمشق خاصة والجبهات الأخرى عامة؛ ما منح طابعًا طائفيًّا واضحًا للصراع، أعطى مصداقية مضاعفة للخطاب السلفي الجهادي الذي اعتمد توصيفًا طائفيًّا منذ البداية للصراع مع النظام.
ت- محرقة "الإرهابيين"
مع حظر وصول أسلحة نوعية للمقاتلين السوريين، وعدم وجود التوجه الجاد لإزاحة النظام السوري أو إسقاط شرعيته حتى على المستوى الدبلوماسي، اسهمت سياسات المجتمع الدولي في تكريس ديمومة الصراع، وترك الحرب السورية محرقة لـ"لإرهابيين" من الطرفين، بحجة انتظار توفر بديل مقنع وقادر على التفاوض السياسي والضبط الميداني. لكن هذا البديل منع من توفره الانفصال، الذي تعززه سياسات المجتمع الدولي نفسه، ما بين الجسد السياسي المعترف به ممثلًا بالائتلاف والقوى الميدانية التي ترفض في معظمها اعتباره ممثّلًا أو قائدًا لها.
خارطة القوة
1- الجهاد العالمي
تتعدد صور حضور التيار السلفي الجهادي ذي البنية أو الخطاب المعولم في الحالة السورية، بتنوع نمط العلاقة مع الكتائب المحلية، ويمكن أن نفرق هنا بين ثلاث قوى رئيسة:
أ- تنظيم دولة العراق والشام
في 9 إبريل/نيسان 2013 أعلن أبو بكر البغدادي زعيم "دولة العراق الإسلامية" دمج تنظيمه بجبهة النصرة، الإعلان الذي رفضته النصرة وأسس لأعمق مأزق يعصف بالتيار الجهادي العالمي، لكن حسمت معظم رموزه في النهاية موقفها ضد تنظيم الدولة، خاصة بعد الصدام الموسع مع التنظيم بداية العام الحالي، والذي أدى إلى طرده من دير الزور شرقًا ومن ريف إدلب حتى مدينة الباب في الريف الشرقي لحلب شمالًا، لينحسر وجوده المسيطر في منطقة الرقة وأجزاء من الحسكة والريف الشرقي لحلب مع هجومه المستمر على جبهة النصرة وكتائب الجيش الحر في المناطق المحيطة، ويسيطر التنظيم على عدة حقول للنفط، وتمثل قوة (عمر الشيشاني) قبضته الحديدة.
ب- جبهة النصرة
تمثل جبهة النصرة الاندماج ما بين البعدين المحلي والعالمي في تجربة القاعدة (4)، والتجربة الأكثر تجديدًا فيها، والأكثر توفّرًا على قاعدة شعبية مناصرة لها، ساعد في ذلك قدرتها على المصالحة ما بين البعدين: المحلي والعالمي، وترسيمها علاقة خالية من التوتر بين "المهاجرين" والمقاتلين السوريين، خاصة بعد انتقال العناصر والقيادات الأكثر تشدّدًا إلى تنظيم الدولة.
أُعلن عن جبهة النصرة في 24 يناير/كانون الثاني 2012، قبل قيام تحالفات ذات طابع أيديولوجي، واعتمدت منذ البداية على قدرة تكتيكية وتخطيطية ليست متوفرة لدى الكتائب المحلية، من عمليات اغتيال شخصيات أمنية, إلى زراعة العبوات الناسفة، إلى ظاهرة الاستشهاديين التي أسهمت في شهرة الجبهة شعبيًا وفي كونها ضرورة للاقتحامات الأصعب عسكريًّا (5).
ولئن كانت القيادات "المهاجرة" تتصدر المشهد في الشمال السوري، فإن وجود الجبهة في المنطقة الشرقية والجنوبية اعتمد على البنية العشائرية المحلية، والتي منعت الجبهة من الاستمرار في عمليات التفجير وسط المدنيين وفرض سلطة أحادية ضمن هذه المناطق، وامتلاك الأغلبية أيضًا، حيث يبقى البعد المحلي المجرد أكثر هيمنة على المشهد، خاصة مع تمثيل الجبهة نمط تديّن مختلفًا عن السائد.
تواجد الجبهة قوي ومؤثر في معظم الجبهات -خاصة في المعارك الكبرى- وإن لم يكن طاغيًا كعدد على أي منها؛ حيث تعتمد الجبهة على النخبوية في ضمّ المقاتلين، وتدير عدة آبار للنفط، وتقدم خدمات مدنية وإغاثية مشتركة مع الهيئات الشرعية، ويشكّل السوريون نسبة تتعدى الـ80% من مقاتليها.
ت- كتائب المهاجرين المستقلة
وفرت الحالة السورية مسارات متعددة للتيار السلفي الجهادي والمهاجرين؛ حيث وجدت تشكيلات تنتمي للتيار الأقرب للقاعدة وتتشكّل من غالبية من المهاجرين (تحولت إلى ضم السوريين حديثًا)، وتكتفي بدور المقاتل في المعارك دون الدخول في الخلافات الداخلية أو المشاريع السياسية، يمكن أن نذكر هنا "جيش المهاجرين والأنصار" المشكّل من المقاتلين القوقاز ويقوده صلاح الدين الشيشاني، أو "جند الأقصى" الذي أسس "تحالف المهاجرين والأنصار" حديثًا مع كتائب محلية، وغيرها من الكتائب التي انضم بعضها لجبهة النصرة، مثل: "الكتيبة الخضراء" و"صقور العز".
وتتشكل هذه الكتائب من بضعة آلاف من المهاجرين الذي يمتلكون خبرات قتالية جيدة، ويوجد معظمها في الشمال السوري.
2- السلفية الوطنية
تمثل الجبهة الإسلامية التي تأسست في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 أضخم محاولة لتأسيس مشروع سياسي وعسكري جامع وحاضن للحالة الإسلامية المقاتلة، كمسار بديل عن تنظيم الدولة وتيار القاعدة من ناحية، وعن الائتلاف والأركان من ناحية مقابلة، وتشكّلت الجبهة من سبع فصائل رئيسة (لواء التوحيد، جيش الإسلام، حركة أحرار الشام الإسلامية، ألوية صقور الشام، لواء الحق، كتائب أنصار الشام، الجبهة الإسلامية الكردية) على أن تندمج كليًا وتتوسع فيما بعد.
ارتباك الدعم واختلاف التوجهات الأيديولوجية داخل الجبهة (بشكل رئيس ما بين جيش الإسلام الممثل للمدرسة السلفية العلمية وأحرار الشام كممثلين لسلفية جهادية و"حركية" محلية، بينما يغلب على الفصائل الأخرى أولوية الميداني على الأيديولوجي وعدم امتلاكها بنية أيديولوجية صلبة)، إضافة للتباين والانقسام في مواجهة تنظيم الدولة، أدت هذه العوامل إلى تأخر تحقيق الجبهة لوعودها في الاندماج، أو لتمثيلها مشروعًا سياسيًا وعسكريًا بديلًا للائتلاف وهيئة الأركان، أو حاضنًا للقوى الإسلامية والمحلية الصاعدة.
تتشكل الجبهة الإسلامية من أكثر من ستين ألف مقاتل، كأضخم تحالف عسكري قائم، وتنتشر في معظم جبهات القتال، مع ضعف وجودها في الجبهة الجنوبية (درعا والقنيطرة) التي يغلب عليها الطابع المحلي، ويسهم النفوذ الأردني السعودي في تخفيف هذا الانتشار، لكن طرح الجبهة السياسي وتأخر قيامها كجسد موحد يساهمان في تشجيع قيام تحالفات منافسة ومقابلة لها، لأسباب ميدانية أو أيديولوجية أو إقليمية مختلفة.
3- الإسلام المجتمعي الصاعد
بتأثير ظهور الجبهة الإسلامية، والصدام المسلح مع تنظيم دولة العراق والشام، وتطور التنافس بين التيارات الإسلامية المختلفة، بدأ يتبلور، كخطاب وجماعات، الاتجاه الإسلامي (غير السلفي) والأقرب لنمط التدين السائد، والذي يستمد مرجعيته الرمزية من مدرسة الإخوان أو قيادات المؤسسة الدينية المنخرطين في الثورة (والذين تخلوا عن أي خطاب جهادي أو حركي منذ الثمانينات) أو بمجرد التباين عن التيار السلفي؛ ما أسهم في ضعف امتلاكها حجة أيديولوجية صلبة، أو مشاريع سياسية واضحة، ولكنه اتجاه صاعد ويستمر بالتبلور والظهور (6).
من أهم القوى الممثلة لهذا الاتجاه:
أ- الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام: تأسس الاتحاد في 6 ديسمبر/كانون الأول 2013، في دمشق وريفها، بقيادة (أبومحمد الفاتح)، ليمثّل المقابل الميداني والأيديولوجي لجيش الإسلام (السلفي)؛ فهو اتجاه زاوج بين مدرسة الإخوان الحركية والمدرسة الشامية، مع كون الجيش والاتحاد أكبر فصيلين عسكريين في ريف دمشق عامة، لكن الفترة الأخيرة شهدت تنامي احتقان متبادل بين الفصيلين ما قد يؤسس لصدامات محدودة ولكنه قد يشجع أيضا على تدبير الاختلاف بين التيارات الإسلامية وترسيخ التعدد الأيديولوجي كواقع ميداني.
ب- جيش المجاهدين: تأسس الجيش في 2 يناير/كانون الثاني 2014، ليبدأ في اليوم التالي الصدام المسلح مع تنظيم دولة العراق والشام، والذي توسع فيما بعد ليشمل الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة وجبهة ثوار سوريا وغيرها من الفصائل المحلية. ويمثل الجيش تحالفًا بين عدة قوى أثبتت تأثيرها وصلابتها الميدانية في حلب وريفها (تجمع فاستقم كما أُمرت، الفرقة 19، كتائب نورالدين زنكي)، وينتمي معظم عناصره إلى مدينة حلب وريفها الغربي، مع نسبة عالية من الشباب الجامعيين. لا توجد مرجعية شرعية واضحة للجيش، إلا أنه يمثل تيارًا شبابيًّا إسلاميًا صاعدًا وقريبًا من نمط التدين السائد في حلب وريفها، بالتوازي مع دعم جماعة الإخوان المسلمين له.
كما أُعلن عن تشكيل "حركة حزم" الشهر الأول لهذا العام 2014، والتي تضم فصائل من ريف حماة وإدلب؛ وأُعلن عن تشكيل "فيلق الشام" في الشهر الثالث، ويجمع كتائب منتسبة لهيئة حماية المدنيين المقربة من الإخوان المسلمين، وتتوسع موجة التحالفات باستمرار.
4- الهيئات الرسمية
لم تستطع تجربة المجالس العسكرية تمثيل دور قيادي منذ بداية تأسيسها، لكن محاولات كثيرة وصولًا لهيئة الأركان، جمعت قادة ميدانيين (مدنيين) إلى جانب الضباط المنشقين في هيكلية موحدة؛ ما أتاح لها قدرًا من الشرعية الميدانية (7)، بالإضافة لكونها الممر الذي يصل عبره الدعم إلى المجالس العسكرية وحتى الفصائل التي لم تدخل في تشكيلها، إلا أن الهيئة انحازت إلى الائتلاف فصدر بيان وقّعه 13 فصيلًا إسلاميًا بسحب الشرعية منه (8)، ثم تأسيس الجبهة الإسلامية؛ علاوة على أن الخلافات الداخلية التي عصفت بها في فترة تولي الجربا لرئاسة الائتلاف، أفقدها قدرتها على التأثير أو تمثيل مرجعية عسكرية، ما شجع على دعم مسارات أخرى من قلب الميدان لموازنة النفوذ المتصاعد للتيار السلفي.
جبهة ثوار سوريا: أُعلن عن تأسيس الجبهة في 9 ديسمبر/كانون الأول 2013، وتقوم بشكل رئيس على "تجمع كتائب وألوية شهداء سوريا" بقيادة: جمال معروف، أحد الشخصيات الأكثر جدلًا ضمن الجيش الحر، وكان دور الجبهة محوريًّا في قتال تنظيم الدولة في إدلب حيث مركزها. تذكر تقارير أن الجبهة مقربة من المحور الإماراتي-السعودي، وساعدها ذلك على تلقي دعم عسكري ضخم نسبيًّا، وعلى التوسع لتضم تشكيلات محلية تقاتل باسمها، في مناطق مختلفة وصلت حتى الجبهة الجنوبية في درعا.
5- المجموعات المحلية
لا تزال ثمة نسبة غالبة من الكتائب المحلية التي لم تنضو ضمن تحالفات أيديولوجية أو أجندات إقليمية بحكم الاكتفاء بالبعد المحلي أو الانكفاء على المعركة أو التحول البطيء نحو تلك التحالفات؛ وتمثل هذه الفئة الرهان الحاسم لأي من الاتجاهات السابقة في مشروعها السياسي، لكن هناك عوامل عديدة تحدد سلوكها في كل منطقة/مجتمع محلي، كنمط التدين أو الدعم أو اختيار القيادات المحلية... إلخ.
خلاصات
-
هناك تنافس ونزعة متزايدة ضمن المجموعات المقاتلة في سوريا نحو التوسع والأدلجة والتسييس؛ ما يسمح بإعادة إنتاج خارطة القوة كتيارات عسكرية سياسية فكرية، لا محض عسكرية، ويسهم في توحيدها ضمن تكتلات كبرى قادرة على تمثيل مشاريع سياسية متنافسة.
-
يسهم تعدد التيارات الإسلامية القائمة كتحالفات عسكرية في تكريس قاعدة تعددية تمنع الاحتكار الأحادي للسلطة أو تمثيل المشروع الإسلامي، ولكنها تسهم -دون التفاهم على قاعدة لتدبير الاختلاف- في تعدد مواطن الاشتباك والاستقطاب وإضعاف مواجهتها للنظام.
-
تشهد هذه المرحلة تراجع مشروع السلفية الوطنية، مقابل صعود مشاريع الإسلام المجتمعي المرتبط بالتدين الشعبي، وتنامي آخر لقوة المجموعات الأكثر تواصلًا ومرونة في التعامل الإقليمي والدولي.
-
تتراجع سيطرة الثوار في جبهتي: دمشق وحمص، بينما يتقدم الثوار في الشمال والجنوب؛ لكن مع سيطرة تنظيم دولة العراق والشام على مساحة واسعة من ريف حلب والرقة، يتضاعف العبء على الجبهة الشمالية مركز القوة الأكبر للمجموعات المقاتلة ويمنع تواصلها مع الجبهة الشرقية.
-
رغم الدور الإقليمي الداعم، من الحكومات أو التيارات الأهلية، إلا أن إسقاط خلافاتها السياسية والفكرية على الساحة السورية، ساعد من ناحية على توحيد المجموعات كتكتلات كبرى وعلى مضاعفة الدعم أحيانًا، لكنه أسس لاستقطابات إضافية تضعف وحدة هذه المجموعات في معركتها ضد النظام السوري.
-
الانفصال الذي تعززه سياسات المجتمع الدولي بين الجسد السياسي والمتمثل بالائتلاف الوطني، والجسد الميداني ممثّلًا بالمجموعات المقاتلة، يعزز التوجه نحو تأسيس مشاريع سياسية بديلة ومتنافسة، ويكرس لعدم وجود جسد تمثيلي حقيقي للثورة قادر على التفاوض أو طرح بديل إداري وسياسي.
__________________________________
أحمد أبا زيد - باحث في الشؤون السورية
المراجع
1- خلال عام 2011 أُفرج عن حوالي 1500 معتقل ينتمي معظمهم للتيار السلفي الجهادي أو الحركي, وتنتمي نسبة كبيرة من قادة جبهة النصرة والجبهة الإسلامية إلى هذه الفئة.
2- عزمي بشارة، سوريا: درب الآلام نحو الحرية-محاولة في التاريخ الراهن (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، 339.
3- عبد الرحمن الحاج، "السلفية والسلفيون في سوريا: من الإصلاح إلى الجهاد"، مركز الجزيرة للدراسات، 26 مايو/أيار 2013، انظر:
http://studies.aljazeera.net/reports/2013/05/2013520105748485639.ht
4- حسن أبوهنية, "القاعدة واندماج الأبعاد: ولادة ثالثة ونشأة مستأنفة", الجزيرة نت, 24 أغسطس/آب 2013, انظر:
http://www.aljazeera.net/opinions/pages/36ef41cc-340f-4860-b2e1-9148ce4dcfeb
5- حمزة المصطفى, "جبهة النصرة لأهل الشام: من التأسيس إلى الانقسام", المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات, 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2013, انظر:
http://www.dohainstitute.org/release/331736fa-9bc7-4e05-a232-2ed07f9c1cd2
6- أحمد أبا زيد, "ما بعد الجبهة الإسلامية: هزات ارتدادية لزلزال لم يكتمل", زمان الوصل, 20 فبراير/شباط 2014, انظر: https://zamanalwsl.net/news/46778.html
7- للتوسع في نشأة الهيئات العسكرية الرسمية: مروان قبلان، "المعارضة المسلحة في سوريا: وضوح الهدف وغياب الرؤية"، مجلة سياسات عربية، العدد 2، (مايو/أيار 2012): 41.
8- "البيان رقم1 حول الائتلاف والحكومة المفترضة", على الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=nQOYASLLTRA