وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي تنفي وجود أي توجه حكومي للتضييق على المجتمع المدني في مصر (الجزيرة) |
ملخص وتخلص الورقة إلى أن سعي الحكومة للتضييق على عمل منظمات المجتمع المدني يعكس غياب رؤية لدى السلطة بأهمية وجود مجتمع مدني قوي وفاعل ومستقل باعتبار ذلك دليلا على قوة الدولة وانحيازها للديمقراطية، وقدرتها على إدارة خلافاتها السياسية، وهو أمر تبدو مصر بعيدة عنه في اللحظة الراهنة. |
مقدمة
انتهت قبل أيام المهلة التي حددتها وزارة التضامن الاجتماعي المصرية لمنظمات المجتمع المدني لتوفيق أوضاعها وفقًا لقانون الجمعيات الأهلية رقم 48 لسنة 2002، والذي صدر في عهد الرئيس السابق حسني مبارك. وقد وضعت هذه المهلة منظمات المجتمع المدني أمام خيارين: إمَّا الخضوع لهذا القانون، أو التعرض للسجن والإغلاق. وبينما أكدت الوزارة أنها لن تمدد هذه المهلة مرة أخرى، أعلنت عدة منظمات رفضها الخضوع لهذا القانون الذي تصفه بأنه سيئ السمعة، ويتضمن عقوبات مغلظة تتضمن الإغلاق والسجن لمدة عام ضد كل من يمارس عملاً أهليًّا بدون تصريح حكومي. وجاء رفض هذه المنظمات احتجاجًا على ما ترى أنه توجُّه للهيمنة على منظمات المجتمع المدني؛ مما ينزع عنها استقلاليتها عبر إخضاعها لقانون يخالف بشكل واضح مواد الدستور الحالي. كما قررت منظمات أخرى تجميد نشاطها، في حين فضّلت ثالثة تقنين أوضاعها حتى تستمر في أداء عملها(1). وفي حين تؤكد الحكومة أنها تهدف لتطبيق القانون وليس التضييق على العمل الأهلي، يقول نشطاء المجتمع المدني: إن الهدف من هذه الخطوة هو قمع هذه المنظمات، ولاسيما العاملة منها في مجال حقوق الإنسان، ومنعها من أداء نشاطها في مراقبة وكشف الانتهاكات الحقوقية وملفات الفساد وغيرها.. فما هي خلفيات وتداعيات هذه الأزمة؟ وهل تعكس توجهًا لدى السلطة لفرض قبضتها على المجتمع المدني ضمن توجه سلطوي يستهدف مصادرة المجال العام، أم أن المسألة تتعلق بتنظيم وتقنين نشاط المنظمات الأهلية وفق القانون؟ وكيف أثّرت حالة الاستقطاب السياسي في مصر على نشاط وعمل المجتمع المدني ولاسيما الحقوقي منه؟
السلطة والمجتمع الأهلي: محاولات دائمة للسيطرة
لا يمكن فصل الأزمة الحالية بين السلطة ومنظمات المجتمع المدني عن مجمل المشهد السياسي الراهن في مصر، والذي تشكِّل النزعة السلطوية للنظام الحالي ورغبته في السيطرة على المجال العام، أبرز ملامحه. ورغم أن هذه الخطوة تعكس -كما يقول النشطاء الحقوقيون- نهج الدولة على مدى سنوات طويلة في محاولة السيطرة على النشاط الأهلي، فإنّ الحكومة تنفي وجود أي توجُّه لاستهداف المجتمع المدني، بل لضمان أن يعمل بشكل قانوني. وقد شهدت العلاقة بين المجتمع المدني والدولة في مصر محاولات مستمرة للسيطرة على نشاطات المنظمات الأهلية، ووضعها تحت وصاية ورقابة السلطة. ولمصر تاريخ طويل في العمل الأهلي؛ إذ يعود تاريخ ظهور المنظمات الأهلية إلى القرن التاسع عشر، حيث نشأت أول جمعية أهلية في مصر عام 1821 باسم الجمعية اليونانية بالإسكندرية، وبعدها توالى تأسيس الجمعيات المختلفة، سواء كانت خيرية أو ثقافية. ومع إقرار دستور 1923 الذي سمح بتكوين وتأسيس المنظمات الأهلية، زاد عدد هذه الجمعيات بشكل كبير(2).
وبعد ثورة 23 يوليو/تموز 1952 وسعي السلطة الجديدة لوضع يدها على المجال العام، تراجع دور هذه الجمعيات، لاسيما وأن الدولة أصبحت تقوم بمعظم الوظائف الاجتماعية والخدمية التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني حاليًا. وقد صدر قانون رقم 32 لعام 1964 لتنظيم عمل المنظمات الأهلية، لكنه في حقيقته وضع هذه المنظمات تحت إشراف الدولة. واستمر العمل بهذا القانون حتى عام 99، عندما اضطرت الحكومة -وتحت ضغوط سياسية خارجية- لوضع القانون رقم 153 لعام 1999 والذي لم يستمر إلا لفترة قصيرة، قبل أن يعلن أنه غير دستوري. وفي عام 2002 تم تمرير القانون رقم 84 لتنظيم الجمعيات الأهلية، الذي أبقى على كثير من القيود على عمل المنظمات الأهلية.
ومنذ منتصف السبعينات -ومع الانفتاح السياسي النسبي في عهد السادات- انتعشت حركة المجتمع المدني مجددًا، وتزايدت أعدادها بشكل كبير. ويُقدَّر عدد المنظمات الأهلية في مصر حاليًا بنحو أربعين ألف جمعية ومنظمة أهلية تعمل في مختلف المجالات الاجتماعية والخيرية والدعوية والحقوقية. وطوال عهد مبارك تم إنشاء آلاف الجمعيات الأهلية، ولم تكن هناك مشكلة لدى النظام مع هذه المنظمات، وذلك إذا انحصر نشاطها في المجال الخيري ومساعدة الفقراء والمحتاجين، وحتى تلك العاملة في المجال الدعوي من المحسوبة على التيار الإسلامي. ولم تكتف السلطة بغض الطرف عن نشاطات هذه الجمعيات، بل شجعتها باعتبار ذلك عاملاً مساعدًا للحكومة على تحقيق الأمن المجتمعي، خصوصًا مع انسحاب الدولة وتخليها عن دورها الاجتماعي تجاه الفئات الفقيرة والمهمشة.
لكن الأزمة بين النظام والجمعيات الأهلية بدأت في السنوات الأخيرة من حكم مبارك مع اقتحام بعضها مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات والتصدي للانتهاكات المتزايدة من قبل أجهزة الأمن بحق المعارضين للسلطة، وهو الأمر الذي أغضب النظام ودفعه لاتخاذ إجراءات لتقييد عمل هذه المنظمات والحد من نشاطاتها. وفي إطار سعي مبارك للتمكين لسيناريو التوريث وإسكات أي صوت معارض لذلك، فإنَّ النظام صعّد من درجة التضييق على المنظمات الحقوقية من خلال إقرار قوانين تعطي وزارة الشؤون الاجتماعية (تغيَّر اسمها بعد ثورة يناير/كانون الثاني لوزارة التضامن الاجتماعي) سلطات واسعة تمكنها من فرض قبضتها على نشاط هذه الجمعيات، وكان آخرها القانون رقم 84 لسنة 2002.
ثورة يناير/كانون الثاني والمجتمع المدني
وقد بشَّرت ثورة 25 يناير/كانون الثاني وسقوط نظام مبارك بعهد جديد من الحرية والازدهار لعمل منظمات المجتمع المدني وإسقاط القيود المفروضة على أنشطتها. وفي ظل هذه الأجواء المواتية، سعت المنظمات لإعداد قانون جديد للجمعيات الأهلية يلغي هذه القيود ويتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، لكن حالة الارتباك والاضطراب السياسي التي أعقبت رحيل مبارك ودخول البلاد في حالة من الاستقطاب الحاد بين القوى الإسلامية من ناحية والمدنية والعلمانية من ناحية أخرى، حال دون نجاح هذه المساعي. بل إن الفترة التي أعقبت رحيل مبارك، وتحديدًا في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2011، شهدت أزمة عنيفة بين المجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد رحيل مبارك وبين عدد من منظمات المجتمع المدني فيما عُرف بقضية التمويل الأجنبي، والتي اتهم فيها نحو 17 منظمة غير حكومية، من بينها منظمات أميركية. وقد قامت قوات من الجيش والشرطة باقتحام ومداهمة مقار هذه الجمعيات، وجرى اعتقال عدد من العاملين فيها، وكان من بينهم أميركيون؛ وذلك بدعوى العمل بدون ترخيص وتلقي أموال من الخارج. وقد تسببت هذه القضية في أزمة حادة بين النظام الانتقالي في مصر وبين الولايات المتحدة، اضطرت على إثرها القاهرة لتسليم المتهمين الأميركيين في القضية للجانب الأميركي. وقد ترافقت هذه القضية مع حملة إعلامية كبيرة من وسائل الإعلام القريبة من السلطة آنذاك ضد منظمات حقوق الإنسان، وصلت حد اتهامها بالتآمر والتخطيط لإسقاط الدولة. وعلى عكس ما كان متوقعًا بعد ثورة يناير، شهدت السنوات الأربع الماضية هجومًا ضاريًا على المنظمات غير الحكومية وحملات تشويه غير مسبوقة لسمعة المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان، وصلت لحد تلويث السمعة وتوجيه اتهامات الخيانة والعمالة(3).
وقد ساعد هذه الحملة أن كثيرًا من منظمات المجتمع المدني كانت تعمل بدون غطاء قانوني واضح، لاسيما مع فشل الجهود التي بذلت منذ رحيل مبارك في إقرار قانون جديد لتنظيم عمل المجتمع المدني. ففي ظل حكم الإخوان المسلمين قدَّمت منظمات المجتمع المدني عددًا من المقترحات بقانون جديد بدلاً من قانون مبارك. لكن أول برلمان بعد الثورة والذي كان يهيمن عليه التيار الإسلامي، لم يتمكن من إنجاز هذا القانون بعد صدور حكم من المحكمة الدستورية بحلِّه. مع تولي الدكتور محمد مرسي الرئاسة في يونيو/حزيران 2012 سعت السلطة لإقرار قانون عمل الجمعيات الأهلية، وبالفعل أحال الرئيس هذا القانون لمجلس الشورى لإقراره في شهر مايو/أيار عام 2013، وذلك قبل شهر من الإطاحة به. لكن تداعيات 30 يونيو/حزيران وما تلاها أجهض صدور هذا القانون. وكان آخر هذه الجهود ما جرى بعد 3 يوليو/تموز عام 2013، حيث أجرت المنظمات الحقوقية حوارًا مطولاً مع وزارة التضامن الاجتماعي في ظل الوزير السابق أحمد البرعي حول مشروع قانون جديد للجمعيات الأهلية، وتم بالفعل وضع مسودة للمشروع اعتبرت الأقرب للمعايير الدولية، لكن هذه المسودة ذهبت مع تغيير الوزير وتعيين وزيرة جديدة. وهكذا بقيت قوانين نظام مبارك هي الناظمة والحاكمة لعمل ونشاط المجتمع المدني حتى الآن، وهذه هي إحدى تجليات التعثر السياسي الذي تعيشه مصر منذ رحيل مبارك، وهذه هي الإشكالية التي برزت في الأزمة الأخيرة بين الحكومة والمجتمع المدني.
استدعاء قوانين مبارك
تعود بوادر الأزمة الحالية بين الحكومة ومنظمات المجتمع المدني إلى منتصف شهر يوليو/تموز الماضي حين نشرت وزارة التضامن الاجتماعي إعلانًا في صحيفة الأهرام تطالب فيه منظمات المجتمع المدني المصرية والأجنبية بتقنين أوضاعها، وفقًا لقانون الجمعيات الأهلية رقم 84 لسنة 2002؛ تجنبًا لتعرضها للمساءلة والحل والإغلاق. وقد منحت الحكومة في هذا الإعلان منظمات المجتمع المدني مهلة 45 يومًا لتوفيق أوضاعها، كان يفترض أن تنتهي في مطلع شهر سبتمبر/أيلول الماضي، لكنها قامت بتمديدها 45 يومًا أخرى انتهت في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وجاءت هذه الخطوة عقب فشل الحكومة في تمرير مشروع قانون جديد تقدمت به في شهر يونيو/حزيران الماضي بعد أن قوبل بعاصفة من الاحتجاجات؛ نظرًا لأنه يتضمن قيودًا أشد قسوة من تلك الموجودة في القانون الحالي؛ إذ أنه كان يمنح الأجهزة الأمنية الحق في التحكم في نشاط هذه الجمعيات، فضلاً عن أنه يستبعد مجال حقوق الإنسان من مجالات عملها، ما دفع المنظمات الحقوقية لاعتبار المشروع "الأسوأ في تاريخ القوانين المنظمة للعمل الأهلي في مصر"(4). وفي مواجهة هذا الرفض، اضطرت الحكومة للجوء للقانون الحالي لتنظيم عمل الجمعيات الأهلية لحين إقرار قانون جديد يحظى بقبول الجميع.
وقد دافعت وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي عن الإجراءات الحكومية قائلة إنها تهدف لمراقبة أنشطة المنظمات أمام المجتمع. كما رفضت الوزيرة مطالبة المنظمات الحقوقية بمنحها مهلة لحين إقرار مشروع القانون الجديد للجمعيات الأهلية، والمتوقع إقراره بعد انتخاب البرلمان القادم، وترى الوزيرة أن هذا الأمر قد يستغرق عامًا كاملاً، وهو ما يعني أن المنظمات التي لن تخضع للقانون الحالي ستعمل بدون أي رقابة لمدة عام أو أكثر، "وهذا غير مقبول في بلد يمر بظروف دقيقة جدًّا"(5).
في المقابل اعتبرت العديد من المنظمات هذه الإجراءات بمثابة إعلان حرب من جانب الوزارة على عمل منظمات المجتمع المدني في مصر(6)، بينما رأى مراقبون أن هذا التوجه الحكومي يضع حدًّا لسياسة التسامح النسبي، وغض الطرف التي كان نظام مبارك يتبعها مع منظمات المجتمع المدني، والتي كانت تهدف -على ما يبدو- إلى إبقاء هذه المنظمات تحت تهديد مستمر للتأثير على نشاطها(7).
ويمنح القانون الحالي لعام 2002 الحكومة سلطات واسعة تمكنها من تنظيم وحل الجمعيات الأهلية ومراقبة مصادر تمويلها، كما يحظر على الجمعيات الأهلية ممارسة أي نشاط سياسي أو نقابي. كما أن هذا القانون بموادّه الغامضة والفضفاضة يجعل سيف الحل مُشهَرًا في وجه هذه الجمعيات، فهو يجيز للسلطة التنفيذية حل أي منظمة بقرار إداري إذا ما تعارضت أنشطتها مع الآداب العامة أو النظام العام أو المصالحة القومية للدولة أو إذا مثَّلت أي انتهاك للتوافق الاجتماعي، وكلها عبارات غامضة تسمح للدولة بوقف نشاط أي جمعية إذا ما تجاوزت الخطوط الحمراء. وفي السابق كانت المنظمات الحقوقية تتحايل على القيود التي يفرضها هذا القانون من خلال تسجيل نفسها كشركات غير هادفة للربح، أو مكاتب محاماة مستقلة بما يجعلها غير خاضعة لسيطرة وزارة الشؤون الاجتماعية.
تنظيم أم تضييق؟
وبينما تصرُّ الحكومة على عدم وجود أي توجه للتضييق على عمل المجتمع المدني في مصر، وأنها تسعى فقط لوضع الضوابط والقواعد المنظمة بما لا يخالف القانون القائم، ترى منظمات حقوق الإنسان أن إجبار المنظمات الحقوقية على تقنين أوضاعها وفق القانون الحالي يهدف لوضعها تحت وصاية الحكومة. ويتعارض هذا القانون -كما تقول المنظمات الحقوقية- مع المادة 75 من دستور عام 2014 (8)، كما أنه مخالف للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ومع تعهدات مصر الدولية فيما يتعلق بضمان حرية إنشاء وعمل منظمات المجتمع المدني.
وفي مواجهة تمسك السلطة بموقفها من تطبيق القانون، طالبت عدة منظمات حقوقية وزارة التضامن الاجتماعي لفتح حوار جاد وشفّاف حول دور منظمات المجتمع المدني والمخاوف والهواجس التي تساور الحكومة إزاء عمل هذه المنظمات. وأكدت هذه المنظمات استعدادها لحوارٍ مع الحكومة يتوخى المصالح العليا للوطن، وفي القلب منها الحقوق الأساسية للمصريين والمصونة في الدستور الحالي وفي تعهدات مصر الدولية"(9). لكن الأوساط الحقوقية لا تبدو متفائلة بإمكانية التوصل لحل قريب للأزمة الحالية، لاسيما في ظل أجواء سياسية غير مؤاتية تجعل من عمل منظمات المجتمع المدني -وخصوصًا العاملة في مجال الحقوق والحريات- عملاً مجرمًا ويدخل في باب المؤامرة على الدولة! بل إن القيود والتحديات التي تواجه هذه المنظمات أصبحت أكثر صعوبة وتعقيدًا مما كان عليه الوضع في عهد مبارك، في ظل خطاب سلطوي معبَّأ بالتخوين والتشكيك والقمع.
التمويل والأجندة الأجنبية: الإشكالية الكبرى
لم يكن اختيار الرئيس السيسي للسفيرة فايزة أبو النجا مستشارًا له للأمن القومي نبأ سارًّا بالنسبة للكثيرين في أوساط المجتمع المدني في مصر، بل إن هذا الاختيار أثار الكثير من التساؤلات، خصوصًا أن السيدة أبو النجا -التي كانت وزيرة للتعاون الدولي في عهد مبارك، وفي عهد المجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد ثورة يناير- عُرفت بعدائها الشديد لمنظمات المجتمع المدني من خلال اتهامها بتلقي التمويل من الخارج لتنفيذ أجندة أجنبية تهدف لإسقاط الدولة المصرية. وقد كانت السيدة أبو النجا هي من أثار قضية التمويل الأجنبي الشهيرة في ديسمبر/كانون الأول 2011.
وتعتبر قضية التمويل أحد أكثر القضايا الخلافية بين السلطة ومنظمات المجتمع المدني في مصر، فالتمويل مسألة أساسية لعمل ونشاط هذه المنظمات، وفي ظل ضعف التمويل المحلي فإنَّ المنظمات وخصوصًا العاملة منها في مجال حقوق الإنسان والعمل المدني، تعتمد بشكل رئيسي على التمويل الأجنبي في نشاطها. وتؤكد الحكومة حقها في مراقبة أموال هذه الجمعيات ومجالات إنفاقها. وتشير في هذا الصدد إلى أن التحقيقات في قضية التمويل الأجنبي المشار إليها سابقًا، أظهرت أن هناك 181 مليون جنيه من الأموال السرية تلقتها 102 منظمة أهلية في مصر، بعيدًا عن أي رقابة، وهو أمر غير مقبول في دولة ذات سيادة. ويرى المؤيدون للإجراءات الحكومية ضرورة إخضاع الأموال التي تتلقاها منظمات المجتمع المدني للرقابة، لاسيما أن سرية حسابات هذه المنظمات المالية يزيد من الشكوك في نواياها وأهدافها(10). واللافت هنا أن الحكومة التي تحصل على معونات أجنبية ضخمة تفرض في المقابل قيودًا على تلقي المنظمات غير الحكومية تمويلاً من الخارج، وهو ما دفع الدكتور سعد الدين إبراهيم رئيس مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية -وهو أحد منظمات المجتمع المدني- للقول: إن النظام هو أكبر متلقٍّ للتمويل الأجنبي في مصر، وإذا كان التمويل الأجنبي جريمة، فيجب محاسبة الرئيس السيسي على ذلك"(11).
ورغم ترحيب غالبية المنظمات الأهلية بمراقبة الحكومة وإشرافها على الأنشطة المالية لهذه المنظمات، فإن المخاوف من استغلال ذلك للتضييق على عمل ونشاط المنظمات تبدو مشروعة؛ إذ إن أي انتهاك لهذا الشرط يعرِّض المنظمة للحل والإغلاق ومصادرة ممتلكاتها وأموالها. أما المنظمات غير المسجلة في وزارة التضامن الاجتماعي وتقبل بالتمويل الأجنبي، فإنها تكون عرضة لمضايقات الأجهزة الأمنية التي تنظر إلى هذا التمويل باعتباره تهديدًا لسيادة الدولة وتدخلاً أجنبيًّا في شؤونها الداخلية. ومما زاد من مخاوف المنظمات الحقوقية هو أن هذه الإجراءات جاءت بعد قيام الرئيس السيسي بتعديل قانون العقوبات في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، بحيث أصبح يتضمن عقوبة بالسجن مدى الحياة ضد أي شخص يطلب أو يتلقى تمويلاً من الخارج "بهدف الإضرار بالمصالح القومية"، وتخشى المنظمات الأهلية من أن تصبح هذه الصياغة الفضفاضة سيفًا مسلطًا ضدها.
ورغم الإقرار بأن مسألة التمويل كانت دائمًا إحدى أهم الإشكاليات في العلاقة بين السلطة والمجتمع المدني، إلا أن هذه الإشكالية تحولت إلى أزمة ثقة عنيفة في ظل نظام ما بعد 3 يوليو/تموز مع تصاعد الشكوك والاتهامات ضد المنظمات غير الحكومية وأنشطتها وأجندتها؛ بهدف النيل منها عبر اتهامها بالسعي لتخريب البلاد والعمل لحساب الولايات المتحدة، بل وإسرائيل لتقسيم مصر والعالم العربي من خلال تلقي أموال تُقدّر بملايين الدولارات بشكل مباشر، وبعيدًا عن رقابة الدولة(12). وبينما تنظر الحكومة بعين الشك للتمويل الأجنبي وتريد تشديد القيود عليه، فإن المشكلة الأخرى التي تواجه المجتمع المدني في مصر, كما يقول جاسر عبد الرزاق المدير المساعد للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية: هي عدم وجود بدائل محلية للتمويل، خصوصًا في ظل حملات التشويه التي تشنها الدولة ومعها الإعلام الموالي ضد المنظمات الحقوقية؛ مما جعل من الصعب جدًّا عليها العمل بشكل دائم اعتمادًا على التمويل المحلي(13). وقد ظهرت جملة من الأفكار والمقترحات عقب ثورة يناير/كانون الثاني لمعالجة موضوع التمويل، ومن بينها فكرة إنشاء مجلس وطني لتمويل منظمات المجتمع المدني يكون بديلاً عن التمويل الأجنبي وبمساندة بعض الدول المانحة بدون شروط مثل بريطانيا وفرنسا؛ وذلك لمنع أي تأثير مباشر للدول المانحة على أنشطة منظمات المجتمع المدني، لكن أيًّا من هذه الأفكار والمقترحات لم يجد طريقه للتنفيذ.
ظلال الشك
يرى كثيرون أن الهجمة الأخيرة على منظمات المجتمع المدني في مصر تأتي ضمن سياق مناخ سياسي أوسع لا ينتصر للقيم الديمقراطية بقدر ما يعكس نزعة سلطوية تريد إعادة السيطرة على المجال السياسي العام. ووفقًا لهذه الرؤية، فإنّ إخضاع المجتمع المدني للقانون الحالي يهدف بشكل أساسي لإسكات صوت المنظمات الحقوقية بالنظر لدورها في كشف الانتهاكات التي ارتكبتها السلطة في مجال حقوق الإنسان خلال العام الماضي. ويشير نشطاء حقوق الإنسان في هذا الإطار إلى أنه لا يمكن فصل استدعاء قانون صدر في عهد مبارك لتنظيم عمل المجتمع المدني عن قانون التظاهر الذي يهدف لإسكات صوت المعارضة على اختلاف أطيافها السياسية. وفي هذا الصدد يقول جمال عيد مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان: إن هذا القانون يمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة القيود التي تحيط بالمعارضة(14).
وإذا كانت هذه الهجمة على المنظمات الحقوقية تعيد إلى الأذهان المواجهات العديدة التي خاضتها هذه المنظمات مع نظام مبارك، والتي كانت العلاقة بينهما بين مدّ وجزر، فإنّ المواجهة هذه المرة تبدو أشد ضراوة بما يضيِّق الخناق بشكل شبه كامل على عمل هذه المنظمات في ظل نزعة سلطوية تستهدف السيطرة على المجال العام بشكل كامل، أو على الأقل تطويعه بما يحقق أهدافها. كما أن هذه السلطة لا تخفي شكوكها تجاه المنظمات الحقوقية. وقد عكست تصريحات السيسي المتكررة في هذا الصدد عدم رضا عن هذه المنظمات، التي قال إنها تركز على الحقوق السياسية والحريات، ولكنها لا تتحدث عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ورغم مشروعية الأسباب التي ساقتها الحكومة للإجراءات الأخيرة تجاه منظمات المجتمع المدني في مصر، فإنّ المخاوف بشأن مستقبل المجتمع المدني في مصر تكتسب مصداقيتها، ليس فقط من المناخ السلطوي الحالي، ولكن بالنظر إلى غياب رؤية واضحة لدى السلطة الحالية حول دور وأهمية المجتمع المدني. فوجود مجتمع مدني قوي ومستقل -كما يجمع خبراء السياسة- هو شرط لازم لقيام مجتمع ديمقراطي؛ إذ إن المجتمع المدني -فضلاً عن دوره الاجتماعي المهم في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأفراد- هو الجهة الأكثر قدرة على الرقابة والمساءلة للنظام السياسي(15).
استنتاجات
على ضوء هذه القراءة في الأزمة الحالية بين السلطة ومنظمات المجتمع المدني في مصر، يمكن الوصول للنتائج التالية:
-
أن التضييق الذي تتعرض له منظمات المجتمع المدني، وخصوصًا الحقوقية منها، يأتي ضمن سياق أوسع لإحكام القبضة السلطوية على الفضاء العام عبر إجراءات متعددة. وفي ضوء هذه الإجراءات، فإنَّ التصريحات المطمئنة لوزيرة التضامن الاجتماعي التي نفت خلالها وجود أي نية للتضييق على المجتمع المدني لا تبدو كافية لتبديد المخاوف.
-
تمثل هذه الأزمة إعادة إنتاج لممارسات ما قبل 25 يناير/كانون الثاني، ولكن بصورة أشد قمعًا، الأمر الذي يعمِّق المخاوف من أن البلاد تتجه نحو نظام سياسي أكثر استبدادًا من نظام مبارك.
-
تقدِّم الأزمة الحالية ولجوء السلطة لقوانين نظام مبارك لتنظيم نشاط المجتمع المدني دليلاً آخر على فشل القوى السياسية التي شاركت في ثورة يناير/كانون الثاني في ترجمة أهداف ومطالب الثورة في قوانين وتشريعات، ومن بينها إقرار قانون جديد للمنظمات الأهلية يلبي طموحات المنظمات الحقوقية، ويتوافق مع معايير حقوق الإنسان والحريات الدولية.
-
المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان هي التي ستكون الأكثر تأثرًا بسياسة التضييق الحكومي على المجتمع المدني، لاسيما وأن هذه المنظمات لعبت دورًا مهمًّا في الدفاع عن الحريات وكشف انتهاكات حقوق الإنسان في عهد مبارك وحتى الآن، وهذا الدور لا يبدو مرحبًا به من قبل السلطة الحالية، التي لا تخفي تبرمها من أي صوت معارض أو ناقد.
-
التضييق هذه المرة يأتي تحت ستار من الدعم من قِبل قطاعات واسعة من الشعب المصري بات لديها قناعة بأن معظم العاملين في مجال حقوق الإنسان هم مجموعة من الخونة والعملاء، لاسيما في ظل حملة إعلامية شرسة للنيل من هذه المنظمات ومصداقيتها.
-
شكلت أعمال العنف والإرهاب التي تشهدها مصر حاليًا، ولاسيما في سيناء وما تراه السلطة خطرًا وجوديًّا يتهدد الدولة المصرية، عاملاً إضافيًّا لتبرير التضييق على المعارضين ونشطاء المجتمع المدني.
-
يضع التضييق على منظمات المجتمع المدني مصداقية السلطة في مصر -فيما يخص جديتها في تحسين ملف حقوق الإنسان- أمام اختبار جِدِّي في مواجهة المجتمع الدولي.