تونس: منعرج حادثة باردو يطرح سؤال جاهزية السلطة

يبدو واضحًا غياب الاستعداد والجاهزية في تونس للتعاطي السياسي والأمني مع الهجمات الخاطفة والدموية مثل الهجوم على متحف باردو؛ مما يُخشى معه دخول تونس منعرجًا حادًّا في علاقتها بالمشكل الأمني، في سياق يتفق المراقبون على أنه أكثر السياقات التي مرَّت بها البلاد هشاشة على مدى العشريَّات الأخيرة.
2015326145853957734_20.jpg
فاجأ الهجوم على متحف باردو السلطة التي كان واضحًا عدم استعدادها لمثل هذه الهجمات الخاطفة والدموية (رويترز)

ملخص
فاجأ الهجوم على متحف باردو السلطة في تونس والتي كان واضحًا من خلال تعاطيها السياسي عدم استعدادها لمثل هذه الهجمات الخاطفة والدموية. وطيلة الأشهر الطويلة السابقة للانتخابات كانت السلطات الأمنية تعيش على وقع تهديدات أمنية خطيرة؛ حيث لم تنفكَّ التقارير الاستخبارية تحذِّر من قرب مرور المجموعات المسلحة إلى الخطوة الموالية في استراتيجية استهداف المدن والمدنيين.

إن بيان تبني هجوم باردو قد اتبع منهجًا فيه الكثير من التحدي للسلطة، وجاء على ذكر معطيات من شأنها أن توضح أن الأمر لا يتعلق بإخلالات ميدانية فحسب، بل بعدم قدرة منظومة الاستعلام والتصدي على مواجهة النسق السريع الذي تتخذه التهديدات المسلحة في تونس. وقبل هذا البيان ظهرت على مواقع جهادية إشارات إلى قرب استهداف معلم ثقافي كبير، ومن الواضح أن متحف باردو كان نظريًّا من بين الأهداف المحتملة. لقد فرضت المجموعات المسلحة حربها على التونسيين في سياق اقتصادي واجتماعي بالغ الدقة، مما يحد من قدرة الدولة على مواجهة تداعيات هذه الحرب بالنجاعة المطلوبة، وفي ضوء تردد الدول الصديقة والشقيقة عن مدِّ تونس بما تحتاجه من تجهيزات في إطار التعاون الأمني والعسكري، تبقى الدولة عاجزة عن توفير الموارد المالية الكافية لاقتناء حاجياتها من الأسواق العالمية. أما إذا ما استطاعت توفير الحد الأدنى من هذه الموارد فإن آجال التسليم البعيدة تقوِّي تحدي العنف، غير أن التعاون الاستخباري يبقى في حدود معقولة مع دول مثل فرنسا والولايات المتحدة مما مكَّن من معالجة الكثير من المعطيات الأمنية وتفكيك العديد من الخلايا النائمة.

دخلت تونس بهجوم متحف باردو منعرجًا حادًّا في علاقتها بالمشكل الأمني في سياق يتفق المراقبون على أنه أكثر السياقات التي مرَّت بها البلاد هشاشة على مدى العشريَّات الأخيرة. وهو ما يستدعي تفكيك الوضع الحالي في تونس في علاقته بقدرة الدولة على مواجهة السياق المعقد الذي تمر به البلاد بامتداداته الأمنية والسياسية والإقليمية، واستكشاف آفاق تطور المشهد التونسي على ضوء الأزمة التي يشهدها الحزب الحاكم "نداء تونس" وطبيعة التحالف الذي شُكِّلت على أساسه الحكومة.

غياب الاستعداد

فاجأ الهجوم على متحف باردو السلطة التي كان واضحًا من خلال تعاطيها السياسي عدم استعدادها لمثل هذه الهجمات الخاطفة والدموية. وطيلة الأشهر الطويلة السابقة للانتخابات كانت السلطات الأمنية تعيش على وقع تهديدات أمنية خطيرة؛ حيث لم تنفكَّ التقارير الاستخبارية تحذِّر من قرب مرور المجموعات المسلحة إلى الخطوة الموالية في استراتيجية استهداف المدن والمدنيين. ومنذ صيف 2013 بالتحديد، بدأت السلطات الأمنية بوضع سيناريوهات لأكثر الأوضاع تهديدًا، وذلك بناء على المعلومات المتقاطعة بأن استهداف العسكريين والأمنيين في المناطق الجبلية والمتاخمة لها سيتحول إلى استهداف للمدنيين داخل المدن حين تُتمّ المجموعات المسلحة استعداداتها لذلك. وقد كان واضحًا، من خلال عمليات اكتشاف مخازن للأسلحة داخل المدن وخاصة في الضواحي القريبة للعاصمة(1)، أن الاستعداد لهذا التحول كان حثيثًا.

وتم اكتشاف مخابئ أسلحة كبيرة، وعُثر فيها على ذخيرة مضادة للدروع وكميات كبيرة من المتفجرات غير التقليدية؛ ما أكد دخول هذه الأسلحة من ليبيا، وهو ما يعني أنها قطعت مئات الكيلومترات وخُبِّئت بإحكام دون أن يتم التفطن إليها. لقد كان واضحًا أن منعرجًا حاسمًا يتم التحضير له؛ ما أدى إلى تعزيز الحماية على الفضاءات التجارية الكبرى والفنادق، وهي حماية يتفق الجميع على بقائها دون الحد الأدنى المأمول بسبب النقص في التجهيزات والأفراد المدرَّبين. ونظريًّا، كان يمكن توقع أن تستهدف الهجمات تجمعات السياح الأجانب بالرغم من أنه طيلة السنوات السابقة لم يتم تسجيل أي اعتداء عليهم؛ ذلك أن التنظيمات المسلحة تعتبرهم في أدبياتها كفارًا يحلُّ قتلهم، وهو نفس ما جاء في بيان تبني عملية باردو الذي نُشر مساء يوم 18 مارس/آذار على موقع "إفريقية للإعلام"(2)؛ حيث تحدث في جرده لحصيلة الهجوم المسلح عن "كفار أصليين" تم قتلهم. ويشير كل ذلك إلى أن وضع السيناريوهات لم يكن كافيًا، وأن هناك قصورًا واضحًا في جعل المعلومات الاستخبارية منطلَقًا لعمل ناجع للتصدي للهجمات.

هناك حلقات مفقودة عديدة بين المرحلتين، وهي حلقات لا يكفي نعتها "بالإخلالات الأمنية" لتوصيفها بدقة مثلما جاء على لسان السلطات الرسمية في معرض تفاعلها مع هجوم باردو الدموي(3). فهناك ضعف واضح في جاهزية السلطات الأمنية كما أن هنالك بطئًا واضحًا في تفاعل السلطات مع هذه الإخلالات حيث وقع اتباع نفس الإجراءات التقليدية التي تبقى قاصرة عن مواجهة المشكل. فعزل بعض القيادات الميدانية لا يحل المشكل، لأنه أكثر تعقيدًا، ولأن الأفراد الميدانيين لا تتوفر لهم الإمكانيات الحقيقية ليكونوا أكثر فاعلية. أما قرار تكليف الجيش بحماية المدن الكبرى فهو قرار خاطئ آخر، لأنه يترك ثغرات على الحدود من حيث يتدفق السلاح ويتسلل المطلوبون.

من المهم أن نشير إلى أن بيان تبني هجوم باردو قد اتبع منهجًا فيه الكثير من التحدي للسلطات، وجاء على ذكر معطيات من شأنها أن توضح أن الأمر لا يتعلق بإخلالات ميدانية فحسب، بل بعدم قدرة منظومة الاستعلام والتصدي على مواجهة النسق السريع الذي تتخذه التهديدات المسلحة في تونس. وقبل هذا البيان ظهرت على مواقع جهادية إشارات إلى قرب استهداف معلَم ثقافي كبير(4)، وكان من الواضح أن متحف باردو كان نظريًّا من بين الأهداف المحتملة. وما يثير التعجب أن هذا المتحف يقع على بعد أمتار قليلة من "مجلس نواب الشعب"، وأن كلا المبنيين لم يكونا أثناء الهجوم يتمتعان بالحد الأدنى من الحماية الأمنية، وأن كاميرات المراقبة كانت معطلة(5). وبالرغم من قرب المنطقة من مقرات أمنية كالثكنات والمقار الأمنية، إلا أن وصول النجدة قد تأخر أكثر مما ينبغي؛ مما سمح للجناة بارتكاب جريمتهم في متسع من الوقت. ويثير بعض الشهادات شكوكًا حول التعاطي الأمني مع الهجوم، وينساق بعضها في القراءة التآمرية للحادثة، غير أن ذلك كله لا يغير من صلب الأمر شيئًا، وهو أن السلطات الأمنية غير جاهزة لمواجهة مثل هذه الهجمات بطريقة فعالة.

يقود المسلحون حربًا غير تقليدية ضد السلطات منذ أشهر طويلة، وقد كان تعامل الجيش مع هذه الهجمات باستمرار شبيهًا بتعامل السلطات الأمنية مع تلك التي استهدفت المدن. في مواجهة مجموعات صغيرة خفيفة الحركة وجيدة التدريب، استعملت السلطات ما توفر لها من ترسانة ثقيلة وبطيئة وغير فعالة في الغالب. وبالرغم من المزايدات السياسية التي استعملتها الأحزاب التي كانت تعارض الترويكا والتي أصبحت اليوم في الحكم، فإن الأمر لا يتعلق بالقرار السياسي في مواجهة العنف، ذلك أن هذا القرار اتُّخذ أصلًا تحت الترويكا، وإنما بالجاهزية الميدانية للقوات وبالخيارات الاستراتيجية المتبعة، والتي يجب أن تتغير وبنسق سريع. لقد أثبتت التجربة أن مواجهة حرب العصابات الدموية التي تخوضها الجماعات المسلحة لا تكون ناجعة باستعمال الوسائل الميدانية التقليدية، بل بإحداث تطور على السلوك الميداني للقوات وهو سلوك يبدو أنه لا يزال يحافظ على نسقه البطيء جدًّا. ومن الأكيد أن الجانب الاستخباري يبقى عنصرًا حاسمًا في مثل هذه المواجهات، لكن هناك مشكل حقيقي في التجهيز، يضاف إلى أزمة القيادة التي تشهدها المؤسسة الأمنية بفعل التداخل بين الأمني والسياسي والعمل المدمر للمعنويات الذي اتبعه عدد من النقابات الأمنية بما كشف كثيرًا من الأسرار الأمنية بالغة الخطورة.

من جهة أخرى فإن التعاطف الذي أبداه عدد من الدول الشقيقة والصديقة مع تونس لم يستطع أن يرقى إلى حجم التحدي الأمني؛ حيث ما زالت السلطات تنتظر تحول هذا التعاطف إلى تجهيز حقيقي للقوات في الميدان؛ حيث تنقص القوات تجهيزات أوليَّة عديدة مثل الصدريات الواقية من الرصاص والمناظير الليلية وغرف التحكم والقيادة المجهزة بالأساليب العصرية التي تجمع المعلومات وتُحسن تمريرها للقوات على الأرض. وبديهي أن ذلك لا يتم دون تعاون مع الدول المتعاطفة، ولكن الظاهر لحد الآن أن هناك بطئًا شديدًا في التفاعل مع هذه الحاجيات.

السياق الاقتصادي والاجتماعي لمواجهة العنف

فرضت المجموعات المسلحة حربها على التونسيين في سياق اقتصادي واجتماعي بالغ الدقة؛ مما يحد من قدرة الدولة على مواجهة تداعيات هذه الحرب بالنجاعة المطلوبة، وفي ضوء تردد الدول الصديقة والشقيقة عن مدِّ تونس بما تحتاجه من تجهيزات في إطار التعاون الأمني والعسكري، تبقى الدولة عاجزة عن توفير الموارد المالية الكافية لاقتناء حاجياتها من الأسواق العالمية. أما إذا استطاعت توفير الحد الأدنى من هذه الموارد فإن آجال التسليم البعيدة تقوِّي تحدي العنف. غير أن التعاون الاستخباري يبقى في حدود معقولة مع دول مثل فرنسا والولايات المتحدة مما مكَّن من معالجة الكثير من المعطيات الأمنية وتفكيك العديد من الخلايا النائمة.

وتواجه الدولة أزمة اقتصادية بالغة التعقيد على ضوء الانهيار المتواصل للعملة المحلية في مواجهة الدولار بالخصوص؛ ما يجعل الحديث عن عجز مالي متفاقم أمرًا معتادًا منذ مدة على لسان المسؤولين الرسميين. ومنذ سقوط نظام ابن علي، لم تستطع الحكومات السبع المتعاقبة وضع ميزانيات نهائية ولجأت في كل مرة إلى وضع ميزانيات تكميلية وإلى زيادة حجم الاقتراض لمواجهة الطلبات الاجتماعية المتزايدة بالنظر لإمكانيات الدولة. وطيلة حكم الترويكا الذي دام سنتين شهدت البلاد فيها عددا كبيرا من التحركات المطلبية التي وإن وقع استغلالها سياسيًّا لمواجهة الائتلاف الثلاثي الحاكم آنذاك، إلا أن أسبابها لم تكن دائمًا سياسية بل مستجيبة لحاجات واقعية للقطاعات الاقتصادية والفئات الاجتماعية الأجيرة والعاطلة على حدٍّ سواء. أمام هشاشة الوضع السياسي لم يكن من بُدٍّ للسلطة إلا أن تستجيب للقسم الأعظم من هذه الطلبات، ما أوقع البلاد في التضخم المتصاعد وقلَّص إلى حدٍّ كبير من نسب النمو، وهي ظاهرة زادت تفاقمًا تحت حكم التكنوقراط، ولا يبدو أن الحكومة الحالية تملك في مواجهتها الحلول الناجعة.

وبالرغم من الوعود الكبيرة التي قدمها الفائزون بالانتخابات الأخيرة أثناء حملاتهم الانتخابية بجلب الاستثمارات لتحسين الوضع الاقتصادي والاستجابة لكل الطلبات، إلا أن تحويل تلك الوعود إلى إنجازات لا يبدو أمرًا سهلًا، بل إن آفاقه تضيق يومًا بعد يوم. ولا تزال أوروبا تعاني ركودًا كبيرًا في اقتصاداتها، كما أن عدم استقرار الوضع الأمني والهشاشة السياسية للوضع التونسي شكَّلت -ولا تزال- مبررًا لعدم تشجع المستثمرين على العودة إلى السوق التونسية. لقد تحولت البيئة الاقتصادية التونسية إلى بيئة طاردة للاستثمار حيث انتقل كثير من المستثمرين إلى أسواق أخرى مثل السوق المغربية. وفيما عدا المستثمرين الأجانب فإن معظم المستثمرين التونسيين غير واثقين من توفر الظروف التي تجعل من أية استثمارات جديدة استثمارات آمنة. وذلك ما يفسر تركيز رئيس الجمهورية السيد باجي قائد السبسي في خطابه في ذكرى الاستقلال(6) على ضرورة إيجاد حلٍّ لرجال الأعمال مع القضاء عبر نوع من الصلح يجعلهم يُقبلون على الاستثمار مجددًا، لكن حتى إن وقع تطبيع العلاقة في إطار صلح من أي نوع كان، فإن البيئة الاقتصادية والاجتماعية العامة ستظل أكبر عائق أمام توجههم للاستثمار مجددًا في السوق التونسية.

لا يتعلق الأمر إذا بمدى توفر الإرادة السياسية من عدمها في هذه القضية كما في القضايا الأمنية، بل بمدى توفر الإمكانات الواقعية لتغير الوضع. ويبقى هذا الوضع وبصفة إجمالية، غير ملائم، كما أن الآفاق لا تبدو واعدة بما يكفي للتفاؤل. وهناك معطيات لا يغيرها اسم وشكل من يصل إلى الحكم، وهي معطيات تدفع كل من سيتوالى على السلطة في المدى المتوسط إلى اتباع نفس الإجراءات، ومن ثمة إلى مواجهة نفس التداعيات. فبالإضافة إلى تراجع الدينار التونسي أمام الدولار، ما يزيد في صعوبة توفير الموارد الضرورية لسداد الديون وفوائدها والاستيراد، جاءت أزمة انهيار أسعار النفط لتجعل من الصعب على الدول الشقيقة الإيفاء بوعودها للسلطة الجديدة. ولم يصل إلى حد الآن شيء من الإمارات والسعودية، بل لعل من المفاجآت للسلطة الجديدة قبل غيرها أن المساعدات الوحيدة التي وصلت كانت من دولة قطر. وربما كان تشريك النهضة في الحكومة المشكَّلة تحت قيادة نداء تونس مبررًا لعدم إيفاء الإمارات بتعهداتها، وربما كانت التحولات الأخيرة في قمة هرم الحكم في السعودية قد خففت من الحماس لمساعدة تونس، لكن الوضع منذر بعجز كامل عن مواجهة الأزمة إذا ما تأخر إيجاد حلول سريعة للعجز عن تعبئة الموارد.

بالموازاة مع هذا الوضع الصعب أصلًا، أتى استهداف المسلحين لمتحف باردو وسقوط عشرات الضحايا من السياح الأجانب ليوجِّه ضربة قوية لقطاع استراتيجي في الاقتصاد التونسي يعاني أصلًا من الركود. ولم تعد استراتيجيات المجموعات الإرهابية تستهدف الأمنيين والعسكريين، بل الاقتصاد الذي يسمح بمواجهتها. لقد كان الموسم السياحي المنقضي من أسوأ المواسم في تاريخ البلاد على الإطلاق، لكن الموسم القادم الذي ضُرب في مقتل بتوقيت هجوم تزامن مع افتتاحه سيكون أكثر سوءًا بالتأكيد. ويسمح القطاع السياحي في تونس بتشغيل عشرات الألوف من الأيدي العاملة بطريقة مباشرة، ويعيل مئات آلاف الأسر التونسية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، مما يجعل من تداعيات الهجوم الأخير ضربة قوية جدًّا للوضع الاجتماعي المتوتر أصلًا؛ حيث تسعى السلطة إلى المحافظة على ودِّ المنظمة النقابية الأبرز، الاتحاد العام التونسي للشغل، من أجل التخفيف من الاحتقان الاجتماعي، غير أن قدرة المنظمة المذكورة على لجم التحركات الإضرابية تبقى محدودة مثلما ظهر بمناسبة إضراب أساتذة التعليم الإعدادي والثانوي، وفي قطاعات استراتيجية أخرى مثل قطاع البريد.

سياق سياسي معقَّد وتوازنات هشَّة

بالرغم من تشكُّل الحكومة من أربعة أحزاب بينها الحزبان الأكبر في البلاد: "النداء" و"النهضة"، فإنه لا توجد أمام الحكومة حلول سحرية للوضع الاقتصادي والأمني. وأدى تفجر التناقضات داخل الحزب الفائز بالانتخابات التشريعية والرئاسية إلى إعطاء انطباع سيء عن قدرته على مواجهة أزمات البلاد الحادة؛ حيث تبادلت قيادات نداء تونس أخطر الاتهامات عبر وسائل الإعلام، وظهر عجز مؤسس الحزب السيد قائد السبسي عن فرض حلٍّ جذري لهذه الخلافات. وفي خضم هذه الصراعات اتضح الخلط الكبير بين المهام الحزبية والمهام الرسمية لقيادات نداء تونس حيث استُعملت وثائق أمنية لفضح تورط بعض أطراف الصراع مع جهات أجنبية، وبدا أن جزءًا من أجهزة الدولة وخاصة الأمنية منها هي طرف في هذه الصراعات. ولا شك أن نشر وثائق التنصت الهاتفي قد كشف الامتدادات الأمنية لعدد من السياسيين وارتباطها بالمال والإعلام أيضًا، غير أن الانعكاسات الأخطر في السياق الحالي كانت بلا أدنى شك على معنويات وأداء الأجهزة الأمنية؛ حيث يبدو أن ثقة هذه الأجهزة في أداء السلطة الجديدة قد اهتزت مما يَعِد بتعميق الاضطراب في الأداء الاستعلامي والميداني في مواجهة تحدي العنف.

من جهة أخرى، فقد كشف التعاطي الإعلامي والسياسي مع الهجوم على متحف باردو عن وجه آخر من وجوه الصراع السياسي بين الأحزاب المكونة للحكومة. واستغل الشق اليساري في حزب نداء تونس الاعتداء الإرهابي من أجل توجيه سهامه الإعلامية وهجماته المركزة ليس على مرتكبي أعمال العنف وإنما على شركاء "النداء" في الحكم من الإسلاميين، أي: "حركة النهضة". ولم يُخفِ الشيخ راشد الغنوشي أن تحالف "النهضة" الحالي هو تحالف مع "الشقِّ التجمعي الدستوري في النداء"(7) وليس مع النداء ككل؛ ما يعني وعيًا واضحًا بأن التناقض الرئيسي هو مع اليسار داخل النداء وخارجه. وهنا يُطرح سؤال: إلى أي مدى يمكن أن يصل استغلال يسار النداء لهذه الأزمة لمواجهة غريمه الإسلامي؟ وما هي الحدود المسموح له بها داخل الحزب الأغلبي في توجهه ذاك؟ فرغم ضبابية السيناريوهات المحتملة فإن التحالف بين "النهضة" والجناح التجمعي الدستوري داخل "النداء" مرشح لمزيد من التمتين باعتبار المصلحة التي يجدها السيد قائد السبسي من هذا التحالف سواء على الساحة الوطنية أو الحزبية الداخلية؛ فعلى المستوى الوطني يبدو أنه لا معنى "للوحدة الوطنية في مواجهة العنف" بعيدًا عن أي تحالف قوي مع الحزب الثاني في البلاد، كما أن ضعف الحكومة يجعل من الضروري اعتمادها على أصوات الإسلاميين داخل المجلس لتمرير القوانين المؤلمة الضرورية خاصة على المستوى الاقتصادي. أما الصراع بين جناحي الحزب الحاكم فيزيد هو الآخر من أهمية هذا التحالف ذلك أن إمكانية انشطار الكتلة النيابية لنداء تونس في أفق مؤتمره القريب يجعل من أصوات النواب الإسلاميين ضرورية للحكومة وللسيد قائد السبسي أكثر من أي وقت آخر. من هنا، فإن تفكك التحالف بين النهضة والنداء، وخاصة بين النهضة والشق التجمعي الدستوري داخل النداء، سيكون احتمالًا ضعيفًا؛ ما يعني أيضًا أن التضحية بالشق اليساري في النداء ليس إلا مسألة وقت. وعلى مستوى آخر تتخوف حركة النهضة من التعيينات الأخيرة في الأجهزة الأمنية(8)؛ حيث تعتبر أنها كانت مملاة من أطراف معروفة بعدائها للإسلاميين وذات صلة بالشق اليساري داخل الحزب الأغلبي؛ ما قد يوحي برغبة هذه الأطراف في توريط النهضة في أحداث أمنية مما يمكن أن يفجِّر الوضع السياسي والأمني على حدٍّ سواء.

إن التعاطي السياسي والإعلامي مع حادثة باردو أسفر عن هجوم كاسح على المدافعين عن حقوق الإنسان بدعوى أنه لا يمكن تحقيق نتائج حاسمة في المعركة ضد العنف باحترام القوانين السارية في المجال الحقوقي. وفي قراءة خارجة عن السياق المنطقي تمامًا، يعتبر جزء من الحزب الحاكم وأذرعه الإعلامية أن خطر العنف ناجم عن حقوق الإنسان وليس عن الاستبداد الذي ساد أثناء حكم ابن علي. حيث يتم التسويق لهذه القراءة من أجل "استعادة هيبة الدولة" وتشديد القبضة الأمنية في مواجهة خطر العنف وكأن على التونسيين أن يفاضلوا بين أن يقتلهم المسلحون أو أن يقتلهم القمع. ويفترض ذلك على الأقل وجود منظومة أمنية متماسكة قادرة على فرض قبضتها على المجتمع ومواجهة العنف بشكل ناجع، وهو غير متاح في المدى المنظور باعتبار تفكك هذه المنظومة ومحدودية أدائها الميداني. وسيكون صعبًا على السلطة أيضًا أن تنجح في تحقيق نتائج حتى لو اتبعت هذا المنهج لأنه سيتوجب على التونسيين التضحية ليس بحرياتهم فقط وإنما أيضًا مواجهة انعكاسات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي ستعجز الحكومة عن إيجاد حلول لها حتى في المستقبل القريب. ويتفق المراقبون على ضعف الحكومة الحالية بسبب قلة حيلتها وبسبب طبيعتها الائتلافية أيضًا؛ مما يجعل أفق عملها محدودًا على جميع المستويات، بل إن أية إخفاقات أمنية كبرى في المستقبل قد تذهب بها تمامًا ما يجعلها شديدة الحذر في كل ميادين عملها.

خاتمة

في سياق تبدو كل وجوهه معقدة لا يبدو أن بإمكان تونس التصدي لخطر العنف والأزمة الاقتصادية والاجتماعية دون مساعدة أصدقائها ودون وحدة وطنية حقيقية تستهدف العنف المسلح ولا تضحي بالحريات. لكن هذه المساعدة ما فتئت تتأخر ما يجعل من أهم أولويات الدبلوماسية التونسية مضاعفة الجهود في هذا المجال. لكن أية وحدة وطنية لا يمكن أن تحقق أهدافها دون مشروع وطني حقيقي ودون حلم يجعل من التونسيين متحمسين لتحقيقه. إن أهم ما يفتقده التونسيون في هذه الأيام هو الأمل، ولا يبدو أن من يدفع إلى مواجهة العنف بمحاصرة الحريات قادر على فهم أن هذا المسعى هو أكبر خطر على ذلك الأمل.
__________________________________
عدنان المنصر - أكاديمي ومحلل سياسي تونسي

مراجع
1- بتاريخ 17 يناير/كانون الثاني 2013 اكتُشف مخزن أسلحة شمالي ولاية مدنين الجنوبية، ويوم 18 فبراير/شباط 2013 اكتُشف مخزن سلاح كبير بمنطقة المنيهلة في ضواحي العاصمة تونس، كما تم اكتشاف مخابئ أسلحة أخرى بولاية مدنين الجنوبية، وقد بيَّنت هذه الاكتشافات وجود عدد كبير من الذخائر والأسلحة المضادة للدروع.
2- بيان تبني عملية باردو بعنوان "يوم عادي" على حساب "إفريقية للإعلام"، على الرابط https://mdwn.me/yabo/
3- تصريح رئيس الحكومة ليوم الخميس 19 مارس/آذار 2015. تغطية قناة الجزيرة http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/3/19/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%86%D9%81%D8%A7%D8%B1-%D8%A8%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D8%AF-%D9%8A%D9%8F%D9%82%D8%B1%D9%91-%D8%A8%D9%82%D8%B5%D9%88%D8%B1-%D8%B3%D9%87%D9%91%D9%84-%D9%87%D8%AC%D9%88%D9%85-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%AF%D9%88
4- "ولنضحك أكثر على عدم كفاءة المرتدِّين أسيادكم؛ فقد صرنا نُعلِمهم قبل كلِّ عملية بساعات، ورغم ذلك يظهر للعلن عدم كفاءتهم، وصرنا نلمِّح لهم عن نوعيَّة الأهداف، ورغم ذلك يظهر للعلن عدم كفاءتهم، فما الذي يريدون أكثر؟ نعطيهم إحداثيَّات الهدف بالـ GPS؟"، بيان تبني هجوم باردو "يوم عادي"، ذُكر سابقًا.
5- انظر على سبيل المثال: تصريح نائب رئيس مجلس نواب الشعب، عبد الفتاح مورو، في هذا السياق http://www.assabahnews.tn/article/101268/%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%AA%D8%A7%D8%AD-%D9%85%D9%88%D8%B1%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D9%84%D9%81%D9%88%D9%86-%D8%A8%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D9%85%D8%AA%D8%AD%D9%81-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%AF%D9%88-%D9%83%D8%A7%D9%86%D9%88%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%82%D9%87%D9%89-%D9%84%D8%AD%D8%B8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AC%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A
6- خطاب السيد قائد السبسي بتاريخ 20 مارس/آذار 2015 بقصر قرطاج.
7- "هذا ما قلتُه قبل الانتخابات وشكَّك في صحته كثيرون، لا أعتقد أنه بإمكانهم الآن وهم يشاهدون الوحدة الوطنية التي يدفع في اتجاهها حزبنا، وجناح قوي في حزب النداء، والتقارب التاريخي المتنامي باطِّراد بين الإسلاميين والدساترة داخل النداء وخارجه يترسخ كل يوم، القدح في سلامة الخيار الذي دافعت عنه من أجل شراكة تحمي الثورة وتضمن سلامة الانتقال الديمقراطي"، مقال الشيخ راشد الغنوشي "أفق مفتوح نحو مصالحة وطنية تاريخية" http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2015/3/17/%D8%A3%D9%81%D9%82-%D9%85%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%AD-%D9%86%D8%AD%D9%88-%D9%85%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A9-%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9.
8- معلومات خاصة.

نبذة عن الكاتب