الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر (يسار) في المؤتمر الصحفي مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض في 24 فبراير/ شباط 2015 (أسوشيتد برس) |
ملخص كما أن سوء إدارة الولايات المتحدة للأحداث في منطقة الشرق الأوسط من خلال عمليات عسكرية منتقاة، أدى إلى تجاهل جوهر وطبيعة التوترات في منطقة الشرق الأوسط؛ ما قاد إلى مرحلةٍ من عدم الاستقرار في عدد من دول المنطقة، وظهور جماعات جهادية متشددة نظرًا لتوغل الاستبداد والقمع اللذين مارسهما -ولا يزال- الحكَّام المستبدون ضد شعوب المنطقة. يسعى الباحثان في هذه الورقة إلى تسليط الضوء على آثار تجاهل الولايات المتحدة الأميركية لأحداث المنطقة، وذلك انطلاقًا من نتائج اللقاءات التي عقدها أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في العاصمة واشنطن أثناء زيارته الأخيرة في شهر فبراير/شباط 2015؛ حيث ركَّز الأمير خلال هذه الزيارة على رسالة واضحة مفادها أن قطر على استعداد تام للقيام بكل ما يلزم من أجل إحلال السلام والاستقرار في المنطقة والعالم. أخيرًا، يطرح الباحثان تساؤلًا مفاده: هل تستطيع الولايات المتحدة الأميركية منفردةً تغيير الوقائع على الأرض أم أنها تحتاج إلى شركاء يملكون الرغبة والإرادة لملء الفراغ السياسي والعسكري الذي أنتجته أحداث الربيع العربي؟ |
مقدمة
أطلقت أحداث الربيع العربي تحذيرًا حيال العديد من البديهيات التقليدية في الشرق الأوسط، كما أثارت تساؤلات حول الأنظمة القديمة وقدرتها على الاستمرار في ظل المحددات التي كانت سائدةً خلال العقود الخمسة السابقة والتي لم تثبت نجاحها.
لقد اقترنت هذه الصورة الغامضة برغبة متزايدة من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية للانسحاب من المنطقة؛ فضلًا عن إدارتها للأحداث عن بُعد من خلال عمليات عسكرية منتقاة تتجاهل جوهر وطبيعة التوترات في الشرق الأوسط. كما لم تُظهر الولايات المتحدة خلال السنوات الأربعة الماضية ما يكفي من التعاطف أو الدعم الحقيقي للشباب العربي الذي ملأ الشوارع والميادين بالكثير من الآمال والسلوك الحضاري.
كما أنَّ الولايات المتحدة الأميركية لا تزال تتبنى مقاربة تتصف بعدم الاكتراث بالشرق الأوسط، وهي سياسة أفضت إلى انهيار العديد من الدول والحركات في المنطقة. وحيال هذه السياسة الأميركية اضطُر بعض دول المنطقة وقادتها الذين يستشعرون المسؤولية إلى تقديم خبراتهم للمساعدة في دفع المنطقة بعيدًا عن حافة الهاوية. تماشيًا مع هذه التطورات هيمن موضوع آثار تجاهل الولايات المتحدة للمنطقة على اللقاءات التي عقدها أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في العاصمة واشنطن خلال زيارته للولايات المتحدة الأميركية من 24 وحتى 27 فبراير/شباط 2015؛ حيث ركَّز الأمير خلال هذه الزيارة على رسالة واضحة مفادها أن قطر على استعداد تام للقيام بكل ما يلزم من أجل إحلال السلام والاستقرار في المنطقة والعالم (1).
رؤية قطر للمنطقة
وضع الأمير تميم، في جُلِّ خطاباته العامة في الولايات المتحدة، حجر الأساس لشراكة متماسكة مع الولايات المتحدة الأميركية، وأوضح مدى الأدوار الحاسمة والإيجابية التي يمكن أن تلعبها دولة قطر في تهدئة التوترات التي تشهدها المنطقة وفي الإسهام في إحلال السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
تشارك قطرُ الولايات المتحدة الأميركية في رؤيتها للاستقرار والسلام في المنطقة، إلَّا أن قطر تقترح وصفةً مختلفة للتعامل مع التحديات وتعرض المساعدة في حلِّها يدًا بيد مع الولايات المتحدة وكل الدول المحبة للسلام في العالم (2). في هذا الصدد يُشار إلى أن سياسة قطر الخارجية تحددها المادة السابعة من دستورها التي جاء فيها أن سياسة الدولة تقوم على: تشجيع الحلول السلمية للنزاعات الدولية، ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، والتعاون مع الأمم المُحِبة للسلام، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى (3).
تُتيح هذه المباديء لقطر هامشًا واسعًا من القدرة على المناورة وتمنحها المصداقية المطلوبة للتصرف كعضو مستقل وناشط في المجتمع الدولي؛ حيث يمكن تشبيه سياسة قطر الخارجية الناشطة والساعية إلى إحلال السلام بتلك التي تتبناها النرويج؛ حيث يحافظ كلا البلدين على علاقات مفتوحة مع الأطراف المعنية دون أن يكون لديهما سياسات مصلحية أو توسعية. وتمنح هذه الصورة كلا البلدين الآلية الضرورية لأن يمضيا قدمًا بالمشاريع الدبلوماسية الضخمة بنجاح وعلى نحو ذكيٍّ وبسيط.
عليه، سيكون بإمكان قطر تزويد الولايات المتحدة الأميركية بما يلزم لإطلاق مبادرة بنَّاءة لأكثر القضايا إرهاقًا وتعقيدًا في المنطقة، وهي رؤية تَشَارَك بها البَلَدان من خلال تصريحاتهما في المؤتمر الصحفي الذي عقده الزعيمان مؤخرًا (الأمير تميم والرئيس أوباما) في البيت الأبيض.
يُضاف إلى ذلك أن الرؤية القطرية لشرق أوسط أكثر استقرارًا قد تم نشرها في مقال رأي في جريدة نيويورك تايمز تحت عنوان "رسالة قطر إلى أوباما"، والذي سلَّط فيه أمير دولة قطر الشيخ تميم ابن حمد آل ثاني الضوء على المبادئ الرئيسة في العدالة والأمن والمساواة وإحياء الآمال للجميع.
تَعِدُ رؤية الأمير بخيار أفضل من الحلول التي دعمتها الولايات المتحدة في التعامل مع مشاكل المنطقة خلال العقود الخمسة الماضية في المنطقة؛ حيث يبعث اقتراح قطر، الذي يعتمد مباديء العدالة الاجتماعية وإحياء الآمال لدى شعوب المنطقة، حياةً جديدةً في وعود الرئيس الأميركي باراك أوباما للمنطقة في الخطابات العديدة التي ألقاها منذ انتخابه رئيسًا، في كل من إسطنبول والقاهرة والخارجية الأميركية.
لقد أبلغ الشيخ تميم رسالته ورؤيته إلى نظيره الأميركي وقادة المجتمع المدني الذين التقاهم خلال زيارته إلى الولايات المتحدة مؤخرًا؛ حيث تقدم المقاربة القطرية للولايات المتحدة طريقًا مختلفًا وتقترح بديلًا لكل السياسات الأميركية الفاشلة في المنطقة؛ حيث ينبغي على الولايات المتحدة أن تعزز تعاونها مع قطر من أجل إحلال السلام والاستقرار في المنطقة، حيث إن الأخيرة لديها البنية التحتية الضرورية لتنفيذ رؤيتها، لاسيما أن الأخيرة (قطر) تقف على قدم المساواة مع الولايات المتحدة. كما أن علاقات قطر الواسعة والقوية مع الولايات المتحدة في مختلف الأصعدة الاقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية تسمح لهذه الرؤية المشتركة أن تتحقق على أرض الواقع.
العلاقات الاقتصادية والتجارية بين قطر والولايات المتحدة
على الرغم من أن معظم تبادلات قطر التجارية تتركز مع أوروبا واليابان، فإن العلاقات الاقتصادية بين قطر والولايات المتحدة تحقق تقدمًا ثابتًا خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ حيث بلغت قيمة الصادرات الأميركية إلى قطر خلال عام 2014 5.3 مليار دولار أميركي (4). كما تنشط شركات أميركية متعددة الجنسية مثل (ExxonMobil, Occidental Petroleum, Pennzoil) في تطوير صناعة البترول والغاز القطرية؛ حيث تتعاون شركة (ExxonMobil) مع فرع من شركة قطر للبترول في بناء محطة ضخمة لغاز الميثان تُعرف بالممر الذهبي (Golden Pass)، وذلك على ساحل تكساس.
كما أن الغرفة التجارية الأميركية في قطر قد بدأت أعمالها بالدوحة خلال فبراير/شباط 2010، بوصفها أول غرفة تجارية أجنبية تتأسس في البلاد، حيث سُجِّلت كمؤسسة خاصة ذات نفعٍ عام، بمعنى أنها منظمة غير حكومية لا تهدف إلى الربح ولا تُعنى بالسياسة، وإنما تهدف إلى تشجيع الفهم والتعاون المتبادل بين قطر والولايات المتحدة في مجالات التجارة والاستثمار.
وعلاوةً على ذلك، تستضيف قطر عددًا من المؤسسات الأميركية الرئيسة والرائدة في المجال الأكاديمي، منها فروع لستِّ جامعات أميركية مرموقة في المدينة التعليمية. وتهدف هذه الجامعات إلى بناء جسور الحوار والثقة بين الثقافتين وتتطلع إلى تدريب جيل جديد من النخب العربية والغربية لتشجيع فهم أفضل ولتأهيل مجموعة من القادة الذين يمكن أن يحملوا رؤية مشتركة في المستقبل. وبذلك تحاول المدينة التعليمية في قطر أن تقلِّل في نهاية المطاف من الفجوات الاقتصادية والثقافية والفكرية، وأن تجد لغة عالمية مشتركة للجميع. وتمهِّد هذه البنى التحتية الاقتصادية والثقافية والأكاديمية الطريق لتقوية الأواصر بين البلدين وتسمح لكليهما بأن يعزِّزا علاقاتهما ويخططا للمضي قدمًا نحو مستوى عالٍ من الاحترام المتبادل وتكوين شراكة استراتيجية حقيقية.
قطر والولايات المتحدة: احترام متبادل
يمكن لقطر أن تُقدم عونًا كبيرًا للولايات المتحدة الأميركة فيما يتصل بالعديد من القضايا الإقليمية والدولية؛ ذلك أن قطر تجمع قدرًا كبيرًا من الخبرة، والمصداقية، والمهارات، والقدرة على التعامل مع العديد من الأطراف على قدم المساواة؛ فضلًا عن مساعدة الخصوم للوصول إلى حلول شاملة تعكس تماسك وتوافق الفاعلين المعنيين.
لقد برعت القيادة القطرية في مجال الوساطات واستثمرت لأجلها الكثير من الموارد؛ ففي خلال العقدين الماضيين توسطت قطر بين الفرقاء في لبنان وليبيا وفلسطين والسودان واليمن وغيرها من الدول. كما يُبقي الدبلوماسيون القطريون على اتصالات مستمرة مع اللاعبين الرئيسيين في كل من أفغانستان ومصر والعراق وسوريا، وهي مناطق صراع يحتاج فيها الأميركيون إلى الكثير من الفهم العميق.
فعلى سبيل المثال تستضيف قطر قادة حركة المقاومة الإسلامية(حماس)، كما تم افتتاح مكتب ارتباط لحركة طالبان في الدوحة، وأبقت السفارة السورية أبوابها مفتوحة على أراضيها حيث منحت قطر الصفة الدبلوماسية لممثل الائتلاف الوطني السوري المعارض، واستضافت طارق الهاشمي، نائب الرئيس العراقي السابق وأحد الفاعلين المؤثرين في العراق.
عليه، سيكون من الممكن للولايات المتحدة أن تستفيد بقدر كبير من "القوة الناعمة" لقطر وأن تأخذ على محمل الجد عرض أميرها للشراكة؛ فإدارة أوباما بإمكانها الاستفادة كثيرًا من خبرة قطر المتراكمة ومعرفتها الواسعة في مجال حلِّ النزاعات والعلاقات الدبلوماسية. غير أن القيادة القطرية في علاقاتها مع الولايات المتحدة لا تطالبها بأن تتولى زمام الأمور؛ حيث أوضح الأمير تميم ذلك بقوله: "سأكون صادقًا معكم، يجب علينا أن لا نعتمد على أميركا؛ فعلى الدول العربية أن تقوم بعملها، ثم نسأل الأميركيين -إن احتجنا للمساعدة- أن يساعدونا على حل مشاكلنا" (5). وهو موقف سياسي يمثل اختلافًا عن المواقف التقليدية للعديد من الدول والقادة في المنطقة الذين اعتادوا الاعتماد بشكل كامل على الولايات المتحدة في تحمل المسؤولية والتدخل وحلِّ النزاعات. ومع ذلك، فإن قطر على استعداد لأن تأخذ زمام المبادرة وتشارك بفاعلية على صعيد المنطقة والعالم.
تحتاج الولايات المتحدة الأميركية لمساعدة قطر في تشكيل الناتج السياسي الذي ما زال يتطور بسبب حالة عدم الاستقرار التي تشهدها المنطقة في أعقاب ما بات يُعرف بثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها في أواخر العام 2010؛ فبإمكان قطر أن تلعب دورًا بنَّاءً من خلال تكوين شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة وغيرها من الفاعلين الإقليميين من أجل التأثير في الأحداث وتشكيلها وإعلان بداية فترة من الاستقرار ومنع الانهيار الكامل للعديد من الدول، وذلك بسبب المصداقية التي تحظى بها قطر لدى صنَّاع القرار على الصعيدين الإقليمي والدولي.
كما أن قطر أظهرت شجاعةً في استعدادها للتصدي وعدم الإحجام عن اتخاذ موقف ضد أي دولة في المنطقة تهدد سلامة وأمن شعبها. وعلى سبيل المثال، عارضت قطر بشدة الطريقة التي ردَّ بها النظام السوري على مواطنيه المدنيين مع إدراكها بأن ذلك سيهدد علاقاتها مع إيران؛ البلد الذي يشاركها قدرًا كبيرًا من احتياطياتها من الغاز الطبيعي في حقل الشمال. كما نفَّذت قطر قرار الجامعة العربية وشاركت في تحالف تم تشكيله بقرار من مجلس الأمن الدولي لحماية المدنيين الليبيين على الأرض.
ومن هنا تقدم قطر نفسها بوصفها استثناءً وفاعلًا مستقرًّا يمكن الوثوق به في منطقة أغرقها الكثير من الحقائق التي تبعث على القلق. عليه، يبقى ممكنًا تشكيل شراكة جديدة بين الولايات المتحدة وقطر تستند إلى التبادلية والاحترام والامتيازات والمنافع المشتركة من أجل الوصول إلى الحصيلة التي يرجوها الطرفان والمتمثلة بالمساواة والعدالة والاستقرار للجميع.
رغم ذلك، فإنه من المؤسف أن يعمل بعض الأطراف الأميركية على تقويض العلاقة الأميركية-القطرية في مكافحة الإرهاب؛ حيث يفضِّل البعض رؤية قطر من منظور ضيِّق انطلاقًا من امتلاكها مخزونًا ضخمًا من الطاقة والاحتياطات المالية. غير أن كلتا المقاربتين لا تعكسان فهمًا عميقًا للدور المهم الذي تلعبه قطر في الشرق الأوسط، فضلًا عن أنهما لا تكشفان عن حقيقة التحديات التي تواجهها وأهمية وجود رؤية عملية ومستقرة؛ علاوة على جود دولة فاعلة يمكن الوثوق بها في هذه المرحلة مثل قطر من أجل أن تشارك الآخرين خبرتها في حلِّ النزاعات وأن تسهم في صناعة السلام وبنائه.
ينبغي على إدارة الرئيس أوباما أن تنأى بنفسها عن أولئك الذين يتهمون دولة قطر بدعم التطرف والعنف والإرهاب، ومثال ذلك ديفيد كوهين، نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، الذي قال: "لا تُعدُّ إيران الدولة الوحيدة التي تُموِّل المنظمات الإرهابية (6)، فقطر تدعم حركة حماس، وغيرها من المجموعات المتطرفة الناشطة في سوريا" (7). وينبغي على الولايات المتحدة أيضًا أن تضع حدًّا لهذه التصريحات غير المسؤولة لتتمكن قطر من الاستمرار في دورها كلاعب إقليمي غير تقليدي؛ فالدور الذي تقوم به قطر يستحق الثناء والتشجيع لتبقي القنوات مفتوحة مع اللاعبين الرئيسيين في المنطقة. أما مطالبة قطر بأن تستغل علاقاتها مع أي حزب أو منظمة أو أي طرفٍ آخر فهو يكشف عن قِصَر في النظر ويهدد طبيعة دورها، كما يقيد حريتها وإسهامها في إحلال السلام وضمان الحوار البنَّاء على صعيد العالم.
قطر "كشريك استراتيجي"
تُظهر قطر مقدرةً واستعدادًا للقيام بدور إقليمي يسهم في صنع السلام والاستقرار في كثير من الحالات من أجل تجنب السقوط الكارثي لعدد من الدول في المنطقة. ولتتمكن قطر من المضي بالقيام بهذا الدور، فإن ذلك يحتاج من الولايات المتحدة أن تعيد النظر في إجراءاتها وأن تتبنى مقاربة جديدة تتعامل مع كل حالة على حدة، وأن تأخذ بعين الاعتبار على نحو أصيل الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية كجزء لا يتجزأ من سياسة طويلة المدى تعالج مناطق النزاع في الشرق الأوسط.
إن عجز الولايات المتحدة عن إظهار مرونة كافية في صياغة سياستها الخارجية، أجبر العديدين في المنطقة على أن يبحثوا عن حلفاء آخرين وأن يلتمسوا طرقًا غير مألوفة للوصول إلى ما يرغبون به من نتائج بعيدًا عن الولايات المتحدة ورؤيتها الغامضة بشأن التحول الحقيقي نحو الديمقراطية في الشرق الأوسط. كما أن التردد الأميركي في المنطقة مهد الطريق أمام روسيا لملأ فراغ القوة الملموس في منطقة لا تحتمل أو تُغفر فيها الأخطاء.
يُشار إلى أن كلًّا من قطر والولايات المتحدة لن تستفيدا من أي توسع روسي في المنطقة؛ حيث ترى الولايات المتحدة في ذلك استمرارًا للحرب الباردة، بينما يمكن لقطر أن ترى في أي دور روسي استمرارًا للنظام القديم وأداةً لزيادة وخلق التوترات في دول الجوار.
وبصرف النظر عن استياء محتمل من قبل قطر والولايات المتحدة للدور الروسي في المنطقة، فقد انتهزت روسيا الفرصة وشرعت في استغلال الأحداث في المنطقة بطريقة أظهرت رغبةً في إفشال الثورات وإغراق المنطقة بالفوضى. يُذكر أن روسيا عارضت جميع الثورات التي حدثت في المنطقة وعملت يدًا بيد مع الأنظمة القديمة لإجهاضها جميعًا. ولم يُخفِ الروس حماستهم للانقلاب العسكري الذي أطاح بأول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًّا في التاريخ المصري الحديث، كما أنهم لم يخفوا دعمهم العسكري والاقتصادي غير المحدود للنظام في سوريا. وبذلك أظهرت كل من الحالة المصرية والسورية بشكل لا لبس فيه رغبة روسيا في منع أي تحوُّل سلمي نحو الديمقراطية في المنطقة. وفي هذا السياق لا يمكن تبرير أو شرح الموقف السلبي الأميركي حيال الربيع العربي نظرًا للتقليد الأميركي الراسخ في دعم الديمقراطيات والليبرالية وحماية حقوق الإنسان. ومع ذلك، فإنه يمكن تفسير السلوك الروسي على الصعيدين المحلي والإقليمي.
على الصعيد المحلي، قاوم الروس نتائج الثورات في المنطقة لإزالة أي تهديدات داخلية من قِبَل الأقليات الإسلامية التي تعيش في روسيا، وهي أقليات ما فتئت تسعى للاستقلال منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، ولكن روسيا ردَّت بالقوة المفرطة ضد الأغلبية المدنية المسلمة التي تسكن منطقة القوقاز. ولذلك، تعتبر روسيا أي تحول نحو الديمقراطية في المنطقة بوصفه تحولًا غير مرحب به ويتوجب إفشاله من أجل تجنب أية محاولة من قِبَل الأقليات المسلمة للقيام بثورة ما أو للمطالبة بمزيد من الحقوق.
انسجامًا مع هذا الفهم، استثمرت روسيا بشكل كبير في إفساد التحول الهادئ في مصر وليبيا وسوريا، وعملت بجدٍّ لتعريف ووسم كل الحركات التى سعت إلى التغيير بأنها إرهابية أو جهادية أو متطرفة. وكان من شأن السلوك الروسي أن يُعقِّد الأحداث على الأرض على الأميركيين وحلفائهم في المنطقة؛ فروسيا أطالت الصراع في سوريا بقيامها بدور الوسيط غير المحايد بين النظام السوري والمعارضة، واتهم كثير من أعضاء المعارضة السورية الوفود الروسية التي شاركت بأعمال الوساطة بأنها كانت أكثر تشددًا من النظام السوري نفسه (8).
أما على الصعيد الإقليمي؛ فقد عمد الروس إلى دعم إيران وسوريا على حساب تركيا، وإلى تعزيز مفهوم الطائفية "الشيعة على حساب السُّنَّة"، وإلى تقييد أي دور أميركي أو غربي يمكن له أن يؤثر على أية حصيلة للأحداث على حساب روسيا. ترغب روسيا من كل ذلك أن تُبقي التوتر عاليًا في الشرق الأوسط من أجل أن تبقى أسعار النفط مرتفعة وأن يستمر الطلب لشراء الأسلحة، وهو ما من شأنه أن يجعل روسيا قوة عسكرية واقتصادية مهيمنة في المنطقة. ولذلك يتطلب الأمر من الولايات المتحدة والقوى الإقليمية الأخرى في الشرق الأوسط أن تعمل على وقف الروس من الاستمرار في هذا المسار الخطر الذي سيقود إلى تقسيم المنطقة على أسس عِرقية وأيديولوجية.
ويُعدُّ استخدام النفط "كقوة ناعمة" في الأشهر القليلة الماضية خطوة أولى مهمة لتحجيم الطموحات الروسية في المنطقة وحول العالم. ذلك أن الدفع باتجاه خفض أسعار النفط سيضر بروسيا على المدى البعيد وسيجبرها على إعادة النظر في سلوكها السياسي وسياساتها التوسعية. ومن شأن تقييد موارد روسيا المالية أن يؤدي إلى تحديد تدخلها على المستوى الإقليمي والدولي، كما أن تحميلها المسؤولية عن أفعالها سيُثنيها عن إعاقة أو إلحاق الضرر بتوازن القوى العالمي.
تحتاج الولايات المتحدة إلى شركاء في المنطقة يتصفون بالاستقرار والخبرة والقوة والقدرة والاستعداد للتعاون معها، ولتسهيل أي حوار من شأنه أن يزيل أو يخفف الصراعات والفوضى في الشرق الأوسط، وها هي قطر تمد يدها للولايات المتحدة ولكل البلاد المحبة للسلام للعب دور بنَّاء يسعى إلى التغيير، يُمكن له أن يدفع المنطقة بعيدًا عن حافة الهاوية (9).
خاتمة
أربكت إدارة الرئيس أوباما المنطقة على صعد مختلفة بطريقة تعاملها مع الربيع العربي، وخاصة ما يتصل بالقضية المصرية والسورية خلال السنوات الأربع الأخيرة. كما أربك الكثيرَ من المراقبين للمنطقة غيابُ زمام المبادرة الأميركية في كل من مصر وليبيا وفلسطين وسوريا واليمن؛ لذلك ينبغي على الولايات المتحدة أن تتعاون مع حلفاء في المنطقة ينعمون بالاستقرار ولديهم الاستعداد وجديرين بالثقة مثل قطر لمنع انهيار عدد من دول المنطقة من الانهيار ولإحباط أية محاولة روسية للتوسع أو إحداث الفوضى.
تقف الولايات المتحدة اليوم على مفترق طرق حرج في الشرق الأوسط؛ فمصداقيتها في مستوياتها الدُّنيا، وسياساتها مترددة، وقوتها أصبحت موضع شك، فضلًا عن أن بوصلتها الأخلاقية فقدت الاتجاه. كما أن الكثير من الشعوب والقادة تساورهم الشكوك بشأن التزامها بقيمها المتعلقة بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمساواة للجميع. وإذا لم تسترد الولايات المتحدة المبادرة عبر إقناع حلفائها باستعدادها لحماية القيم التي تؤمن بها، فإن قوى أخرى على استعداد لملء الفراغ واستبدال نفسها بالولايات المتحدة بوصفها القوة الرئيسة في المنطقة، ويمكن لعدد من الدول التي تستشعر المسؤولية في المنطقة أن تساعد الولايات المتحدة في نشر السلام والاستقرار والعدالة والأمل والمساواة للجميع، وقطر على استعداد أن تكون واحدة من هذه الدول.
____________________________________
د. جمال عبد الله - باحث في مركز الجزيرة للدراسات، متخصص في الشؤون الخليجية.
د. غسان شبانة - باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات، متخصص في الشؤون الأميركية وشرق الأوسطية.
المصادر والمراجع
1. Tamim bin Hammad al Thani, Qatar's Message to Obama, New York Times, 24/2/2015, in: http://www.nytimes.com/2015/02/24/opinion/qatars-message-to-obama.html?_r=0
2. المصدر السابق
3. The Constitution of the State of Qatar (an English translation) in: إضغط هنا.
4. جريدة الشرق القطرية، 21 يناير/كانون الثاني 2015، انظر:
http://www.al-sharq.com/news/details/302546#.VPwwYr7fo6Z
5. Kelsey Quackenbush, Emir Outlines Qatari Role in Middle East, The Hoya, 27/2/2015, in:
http://www.thehoya.com/emir-outlines-qatari-role-middle-east/
6. Simon Henderson, Uneven Diplomacy: The U.S.-Qatar relationship, Washington Institute, 27/2/2015, in: http://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/uneven-diplomacy-the-u.s.-qatar-relationship
7. المصدر السابق
8. غازي دحمان، جلب روسيا للتفاوض مع الأسد، الجزيرة نت، 27 فبراير/شباط 2015، في: http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2015/2/26/%D8%AC%D9%84%D8%A8-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D9%84%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%88%D8%B6-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF
9. Tamim bin Hammad al Thani, Qatar's Message to Obama, New York Times, op. cit.