تأجيل الانتخابات يبقي حالة الفراغ التشريعي التي تعيشها مصر منذ أكثر من عامين (الجزيرة-أرشيف) |
ملخص وتخلص الورقة إلى أن تأجيل الانتخابات، وإن كان قد شكَّل فرصة لتصحيح المسار الانتخابي؛ فإنه يبدو فرصة ضائعة بالنظر إلى تمسك السلطة برفض إجراء تعديلات جوهرية على النظام الانتخابي، وإصرارها على المضي قدمًا في المسار الانتخابي ذاته، ووفقًا للقواعد التي وضعتها منذ البداية، وهو ما يعني إعادة إنتاج وتكريس الأخطاء السابقة بدلاً من الاستفادة منها. |
مقدمة
جاءت الأحكام الأخيرة للمحكمة الدستورية العليا في مصر مؤخَّرًا ببطلان بعض قوانين العملية الانتخابية لتضيف مزيدًا من الارتباك إلى مشهد سياسي مرتبك، ولتُبقي على حالة الفراغ التشريعي التي تعيشها البلاد منذ أكثر من عامين؛ فقد أعلنت اللجنة العليا للانتخابات فور صدور الأحكام، تأجيل الانتخابات التي كان مقررًا إجراء المرحلة الأولى منها أواخر مارس/آذار الماضي؛ وذلك لحين تعديل القوانين الانتخابية لتتوافق مع أحكام المحكمة، وتُعتبر هذه الانتخابات الاستحقاق الثالث والأخير من استحقاقات خريطة المستقبل؛ التي أعلنها الجيش عقب الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي في 3 من يوليو/تموز 2013.
وقد قضت المحكمة في حكمها الأول بعدم دستورية المادة الثالثة (قانون تقسيم الدوائر الانتخابية الفردية على مستوى الجمهورية)، معتبرة أنه لا يتوافق مع مواد الدستور التي تنصُّ على معايير العدالة والمساواة بين الناخبين(1)، وقدَّمت المحكمة في حيثيات حكمها عددًا من الأمثلة على وجود تفاوت واضح بين الدوائر حتى داخل المحافظة الواحدة في الوزن النسبي لأصوات الناخبين باختلاف الدوائر؛ وذلك دون مبرِّر موضوعي(2)، كما قضت المحكمة في حكمها الثاني بعدم دستورية مادة في قانون انتخاب مجلس النواب؛ الخاصة بمنع المصريين مزدوجي الجنسية من الترشُّح في الانتخابات؛ حيث اعتبرت أنها تُخالف نصَّ المادة 102 من الدستور؛ التي حدَّدت الشروط الأساسية والجوهرية اللازمة للترشُّح لمجلس النواب(3).
وتُعيد هذه الأحكام العملية الانتخابية برُمَّتها إلى نقطة الصفر مرَّة أخرى؛ حيث يتعيَّن على اللجنة العليا للانتخابات -لاسيما على ضوء حكم المحكمة الإدارية- وقف جميع الإجراءات الانتخابية التي اتخذتها في الفترة الماضية؛ وذلك إلى حين تعديل مواد القوانين الانتخابية بما يستجيب لأحكام المحكمة الدستورية؛ وعلى ضوء ذلك ستعمل اللجنة على وضع جدول زمني جديد، وفتح باب الترشُّح مرَّة أخرى أمام الراغبين في خوض الانتخابات، وعلى الرغم من تأكيد رئيس الوزراء -إبراهيم محلب خلال اجتماعه الأخير مع ممثلي الأحزاب والقوى السياسة- إجراء المرحلة الأولى من الانتخابات قبل شهر رمضان القادم؛ فإن ذلك يبدو -في رأي كثيرين- مسألة غير واقعية ودونها كثير من العقبات الإجرائية واللوجستية، حتى إنْ تمكَّنت الحكومة من الوفاء بتعهُّدها في هذا الصدد؛ فإن الانتخابات لن تنتهي سوى بعد شهر رمضان، وهو ما يعني أنه لن يكون هناك برلمان في مصر إلا أواخر العام الجاري.
وقد حمَّل معظمُ الأحزاب السياسية الحكومةَ ولجنةَ الإصلاح التشريعي التابعة لها مسؤولية بطلان بعض القوانين؛ وذلك نتيجة انفرادها بالقرار، وعدم استجابتها لأيٍّ من التوصيات والملاحظات التي أبدتها تلك الأحزاب أثناء إعداد القوانين الانتخابية، وإصرارها منذ البداية على هندسة النظام الانتخابي على هواها، وعدم الأخذ بمقترحات أيٍّ من الأطراف الأخرى بمن فيها حتى الخبراء الدستوريين؛ الذين حذَّروا من أن الصياغة التي صدرت بها بعض مواد هذه القوانين تحمل شبهة عدم الدستورية؛ بينما هناك مَن اعتبرها انعكاسًا لحالة التخبُّط السياسي التي تعيشها البلاد حاليًّا، واستعجال الحكومة في إصدار قانون الدوائر دون دراسة متأنية نتيجة الضغط عليها لإجراء الانتخابات واستكمال استحقاقات خريطة الطريق.
ولكن على الرغم مما أثاره تأجيل الانتخابات من ارتباك وجدل واسعين، وعلى الرغم من ردود الفعل الغاضبة في الأوساط السياسية والحزبية، فإن ثمة فريقًا رأى أن أحكام المحكمة الدستورية وما ترتَّب عليها من تأجيل للانتخابات تمنح جميع الأطراف فرصة ذهبية لمراجعة مواقفها، وتصحيح مسار العملية الانتخابية برمَّتها، وإنقاذها من مسارٍ انتخابي يُجمع الكثيرون على أنه يقود إلى إعادة إنتاج برلمانات شبيهة ببرلمان عام 2010 المزوَّر؛ الذي كان أحد العوامل الأساسية التي فجَّرت غضب المصريين، وعجَّلت بسقوط نظام مبارك.
فهل ستتمكَّن أطراف المشهد السياسي الراهن في مصر -ولاسيما السلطة- من استغلال فرصة تأجيل الانتخابات لتصحيح الأخطاء وتعديل مسار النظام الانتخابي بشكل كامل، أم أنها ستُعيد إنتاج ذات الأخطاء السابقة مرة أخرى، وتتعامل مع المسألة باعتبارها أزمة قانونية لا سياسية؟
الانتخابات ما بين موقف السلطة وخصومها
ثمة مقاربتان للتعاطي مع الأحكام الأخيرة للمحكمة الدستورية العليا ببطلان قوانين العملية الانتخابية، وما ترتَّب عليها من تأجيل للانتخابات؛ وهما مقاربتان حاكمتان في تحديد مستقبل المشهد الانتخابي في مصر.
-
الأولى: مقاربة قانونية؛ تتعامل مع الأزمة التي خلَّفتها أحكام المحكمة باعتبارها مشكلة قانونية تتعلَّق بعدم كفاءة وحرفية اللجنة التي وضعت القوانين الانتخابية؛ وهو ما أدَّى إلى بطلان بعض نصوصها، ووفق هذا التصوُّر فإن الأزمة تبدو محدودة في بعض النصوص والمواد التي أبطلتها المحكمة الدستورية، ويمكن حلُّها من خلال سرعة إجراء التعديلات المطلوبة استجابةً لأحكام المحكمة خلال شهر؛ وذلك وفقًا للتكليف الرئاسي للجنة العليا للانتخابات؛ ومن ثَمَّ المضي قدمًا في إجراء الانتخابات في أقرب وقت ودون تأخير؛ لكن مشكلة هذه المقاربة أنها تختزل الأزمة في جوانبها القانونية والإجرائية، دون النظر إلى أبعادها السياسية المؤثِّرة على مجمل المشهد السياسي في مصر؛ خصوصًا أن الأمر يتعلَّق بانتخابات مجلس نواب وهو الأهم في تاريخ مصر البرلماني؛ وذلك بالنظر إلى الصلاحيات الكبيرة وغير المسبوقة التي يحظى بها هذا المجلس وفقًا للدستور المعدَّل.
-
الثانية: مقاربة سياسية؛ تتجاوز النظرة القانونية الفنية الضيقة، وتتعامل مع المأزق الانتخابي الراهن باعتباره أزمة سياسية كبرى لا تتعلَّق فقط بالانتخابات البرلمانية، وذلك على الرغم مما تمثِّله من أهمية كبيرة؛ بل بوصفها تخصُّ مجمل المسار السياسي ومستقبل الحياة الحزبية في مصر، ومع ذلك فإن التعامل مع الأزمة من منظور سياسي لا يعني إغفال الأهمية الكبيرة التي تمثِّلها القوانين الناظمة للعملية الانتخابية؛ التي ستُحدِّد إلى حدٍّ بعيد ملامح المشهد السياسي والحزبي في مصر خلال السنوات القادمة.
ووفقًا لهذه المقاربة فإن تأجيل الانتخابات يمثِّل فرصة ذهبية لكل الأطراف لإعادة رسم مسار العملية الانتخابية على أسس جديدة وسليمة؛ تضمن في النهاية إجراء انتخابات تنافسية ونزيهة وعادلة، وتضمن بالتالي تشكيل برلمان يعكس تمثيلاً عادلاً وحقيقيًّا للمصريين، ويكون قادرًا على القيام بمهامه التشريعية والرقابية.
- فبالنسبة إلى السلطة الحاكمة يُتيح لها تأجيلُ الانتخابات الفرصةَ والوقتَ لتصحيح الأخطاء؛ التي ارتكبتها خلال إعدادها للقوانين الانتخابية، وبالتالي تصحيح المسار الانتخابي برُمَّته.
- أمَّا بالنسبة إلى القوى والأحزاب السياسية فإن التأجيل يمنحها ومرشحيها المجال لإعادة ترتيب أوراقها، ومراجعة مواقفها، وتوحيد جهودها، واحتواء ما برز بينها من خلافات وصراعات خلال الفترة الأخيرة، ليس فقط لتعظيم فرصها في الانتخابات والحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد؛ ولكن -وهذا هو الأهم- للضغط على السلطة بهدف تعديل مسار العملية الانتخابية وقوانينها التي تنحاز للأفراد على حساب الأحزاب، وما يعنيه ذلك من إضعاف للحياة السياسية، وتهميش للأحزاب، وتقويض لقدرتها على الحضور السياسي والتمثيل البرلماني؛ وذلك في مقابل أنها تفتح الباب أمام سيطرة رأس المال وأصحاب النفوذ العائلي والقبلي على البرلمان القادم.
ولأن السلطة الحاكمة هي الفاعل الأهم في أطراف العملية السياسية والانتخابية، وبوصفها الطرف الذي يضع قواعد اللعبة الانتخابية؛ ومن ثَمَّ يُحَدِّد مسارها، فإن مستقبل المشهد الانتخابي يتوقَّف بشكل حاسم على موقف هذه السلطة وإلى أيٍّ من المقاربتين السابقتين ستنحاز. وفي هذا الصدد يُشير كثير من الدلائل إلى أن الحكومة تبدو بوضوح أكثر انحيازًا إلى المقاربة القانونية؛ التي تختصر الأزمة في جملة من المسائل الفنية والإجرائية، وليس أكثر من ذلك، وهو ما يطرحه السؤال حول مدى جدية السلطة في تعديل المسار الانتخابي، أو حتى رغبتها في إجراء الانتخابات النيابية من الأساس.
هل السلطة راغبة في إجراء الانتخابات؟
فور صدور أحكام المحكمة الدستورية اعتبر خصوم السلطة -لاسيما الرافضين للعملية السياسية الراهنة برُمَّتها، ولكل ما ترتَّب على مرحلة ما بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي- أن تأجيل الانتخابات يصبُّ في صالح النظام، واستند أصحاب هذا الرأي إلى عدد من الشواهد؛ التي رأوا أنها تُظهر عدم رغبة أو جدية الحكومة في إجراء الانتخابات؛ بل إنها تبدو مستريحة لبقاء حالة الفراغ التشريعي التي تعيشها مصر؛ وذلك منذ حلِّ مجلس الشعب السابق بحكم من المحكمة الدستورية في يونيو/حزيران 2012؛ فهذا الأمر يُشَكِّل وضعًا مريحًا بالنسبة إلى السلطة؛ حيث يَجْمَع الرئيس عبد الفتاح السيسي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ووفقًا لهذا التصوُّر فإن تأجيل الانتخابات يعني تأجيل انتقال السلطة التشريعية من الرئيس إلى مجلس النواب المنتخب؛ وبالتالي فإن الإبقاء على الوضع الحالي يُتيح للحكومة سنَّ وإصدار القوانين والتشريعات التي تُريد متى أرادتْ، كما أن طريقة تعاطي السلطة الحالية مع الانتخابات البرلمانية والإجراءات الخاصة بها تُظهر سعي النظام للحدِّ من الدور السياسي لمجلس النواب؛ وذلك ليكون مجرَّد برلمان موالٍ للسلطة، وغير مؤثِّر في عملية صُنع القرار السياسي(4)، ويستدلُّ أصحاب هذا الرأي على ذلك بسيل القوانين والتشريعات التي صدرت في الفترة الأخيرة، وبعضها لم تكن ثمة ضرورة ملحَّة لإصداره، وكان يمكن أن ينتظر إلى حين انتخاب مجلس النواب، وهذا ما يعني أن السلطة تتصرَّف في هذا الأمر وكأنَّه لن يكون هناك برلمان قريبًا، أو كأنها تُدرك أن الأجواء السياسية والقوانين المنظمة للعملية الانتخابية لن تُفرز برلمانًا قويًّا وقادرًا على القيام بدوره التشريعي المنشود.
حتى مع ضمان السلطة -لأن النظام الانتخابي الذي اعتمدته يصبُّ في صالح إنتاج برلمان ضعيف ويمكن السيطرة عليه- فإن هناك مَنْ يرى أن السلطة الحالية لا تبدو متحمِّسة لإجراء الانتخابات أصلاً؛ بل ثمة مَنْ ذهب إلى اعتبار إبطال المحكمة الدستورية لقانون تقسيم الدوائر -الذي تمَّ إعداده في عهد الرئيس المؤقَّت السابق عدلي منصور، وهو في الوقت نفسه رئيس المحكمة الدستورية- يُؤَكِّد حدوث تواطؤ سياسي لتأجيل الانتخابات، والإبقاء على سلطة التشريع في يد الرئيس(5)، ولا شكَّ أن إجراء الانتخابات يضع النظام أمام تحديات عدة؛ إذ سيتعيَّن على مجلس النواب القادم فور انتخابه العملُ على مراجعة جميع القوانين والتشريعات التي صدرت منذ عزل مرسي، والمصادقة عليها أو إبطالها بما في ذلك القوانين المثيرة للجدل؛ مثل قانون التظاهر؛ الذي تُحيط به شبهة عدم الدستورية، وهو ما قد يفتح الباب أمام تعديله أو إلغائه؛ وبالتالي إبطال جميع الأحكام القضائية التي صدرت بحقِّ مئات الشباب والنشطاء بتهمة مخالفة هذا القانون، وهذا أمر لن يكون مريحًا للسلطة(6).
لكن في مقابل ذلك تُؤَكِّد السلطة ومؤيِّدوها أن تأجيل الانتخابات لا يصبُّ في مصلحة النظام؛ بل العكس تمامًا؛ إذ إن التأجيل يزيد من المشهد السياسي المرتبك ارتباكًا؛ وهو أمر لا يخدم أهداف السلطة؛ التي تبدو في حاجة لتدعيم شرعيتها من خلال إجراء الانتخابات، وتقديم الدليل على التزامها بالمسار الديمقراطي وبناء دولة المؤسسات، كما أن إجراء الانتخابات من شأنه أن يُسهم في تعزيز الاستقرار السياسي؛ وذلك من خلال استكمال الاستحقاق الثالث من استحقاقات خريطة المستقبل، ويرى أصحاب هذا الرأي أن السلطة أحرص من أيِّ طرف آخر على إجراء الانتخابات في أقرب وقت؛ لأنها تُدرك أن ذلك مسألة ضرورية؛ ليس لاعتبارات الاستقرار السياسي في الداخل فحسب؛ وإنما لطمأنة الخارج أيضًا؛ فوجود البرلمان سيُشَجِّع على جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية؛ التي تبدو مصر في حاجة ملحَّة إليها حاليًّا؛ وذلك لدفع عجلة الاقتصاد المنهك، ووفقًا لهذه الرؤية فإن إجراء الانتخابات يدعم موقف السلطة، ويُؤَكِّد قدرتها على تأمينها، ويُفَوِّت الفرصة على خصومها السياسيين لتوظيف أيِّ تأجيل للانتخابات للتشكيك في قدرة أو رغبة النظام في إجرائها، ويُجادل أنصار السلطة في أن أحكام المحكمة الدستورية في هذا الإطار تؤكِّد استقلال السلطة القضائية؛ وهو أمر يُحْسَب لصالح الإدارة السياسية الحاكمة حاليًّا؛ فقد أصدرت رئاسة الجمهورية بيانًا فور صدور الأحكام؛ أكَّدت من خلاله التزامها بما جاء فيها، وسرعة الانتهاء من إجراء التعديلات اللازمة بما يتوافق مع الدستور(7).
تأجيل الانتخابات: مكاسب محتملة
وما بين القراءتين السابقتين برزت قراءة ثالثة؛ هي الأكثر ارتباطًا وربما أهمية بما نحاول الإجابة عنه في هذه الورقة، وتنطلق من أنه بغضِّ النظر عمَّا إذا كان تأجيل الانتخابات يصبُّ في مصلحة السلطة أم غير ذلك، فإن هذا التأجيل يُتيح لكل الأطراف السياسية -سواء الحكومة أو الأحزاب- فرصة ثمينة ينبغي استغلالها، ووفق هذه القراءة فإن تأجيل الانتخابات يمكن أن يحقِّق مكاسب سياسية مهمَّة جدًّا؛ منها:
من هنا يمكن القول: إنه إذا كان تأجيل الانتخابات ربما يُتيح المجال أمام السلطة للدفع بشخصيات ووجوه انتخابية جديدة لا تنتمي بالكامل لنظام مبارك، فإنه ليس واضحًا مدى قدرة نظام السيسي على حلِّ هذه الإشكالية؛ أي خلق طبقة سياسية جديدة داعمة له لا تنتمي كليًّا لنظام مبارك، وما يُثيره ذلك من غضبٍ في الشارع المصري، وفي الوقت نفسه ليست بعيدة تمامًا عن هذا النظام.
حسابات متناقضة
تبقى كلُّ هذه المكاسب التي يمكن أن يُوَفِّرها تأجيل الانتخابات مكاسبَ افتراضية، والمرجَّح أنها غير قابلة للتحقيق؛ إذ إنها تظل رهنًا -كما أشرنا سابقًا- بالمسار الذي ستعتمده السلطة؛ ممثلةً في الجهات الحكومية المعنية بالعملية الانتخابية في تطبيق أحكام المحكمة الدستورية، وما إذا كانت ستعتمد مسارًا يقتصر فقط على إجراء التعديلات المطلوبة فقط، أم ستقوم بإجراء تعديلات شاملة وجوهرية على مجمل القوانين المنظمة للانتخابات. وبدوره فإن هذا الأمر يعتمد على درجة إدراك القائمين على السلطة لخطورة المأزق الانتخابي الراهن، وما يحمله من مزالق تُهَدِّد المسار السياسي بأكمله، وليس المسار الانتخابي فحسب. كما يعتمد على مدى استعداد الحكومة وجديتها في استغلال الفرصة الراهنة من عدمه، وما إذا كانت حساباتها في هذا الصدد تلتقي مع حسابات كثير من الأحزاب السياسية؛ لاسيما فيما يتعلَّق بمخاوفها من المضي قدمًا في المسار الانتخابي بشكله الحالي.
وفي واقع الأمر فإن حسابات الطرفين لا تبدو متوافقة بقدر ما هي متناقضة، كما أن رؤيتيهما ليست واحدة في هذا الصدد، ولا تشي تصريحات المسؤولين عن العملية الانتخابية بأن الحكومة مستعدَّة للاستجابة لمطالب الأحزاب والقوى السياسية -بما فيها تلك المؤيدة لها- بإدخال تعديلات جوهرية على النظام الانتخابي، فهي لا ترى ضرورة لذلك ولا مبررًا للمخاوف من التمسُّك بهذا المسار دون تعديلات جذرية. وقد ظهر جليًّا خلال الاجتماعات الأخيرة التي عقدها رئيس الحكومة مع قيادات وممثلي القوى السياسية أن الحكومة مصرَّة على إجراء الانتخابات بعد إدخال التعديلات التي تُلَبِّي حكم المحكمة الدستورية، وأنها لن تذهب بعيدًا في التعديلات الخاصة بقوانين الانتخابات كما تُطَالِب الأحزاب وتأمل؛ فتصريحات المسؤولين تُؤَكِّد أن المسألة لن تتعدَّى إجراء بعض التعديلات المطلوبة على النصوص التي أبطلتها المحكمة الدستورية؛ وذلك بما يتوافق مع منطوق الأحكام؛ وهو ما يجعل مطالبات الأحزاب أقرب للتمنيات. وقد أعلن وزير العدالة الانتقالية إبراهيم هنيدي -وهو رئيس اللجنة المكلَّفة بإجراء تعديلات القوانين الانتخابية- أنه سيتم الانتهاء من التعديلات قبل نهاية شهر إبريل/نيسان الجاري تمهيدًا لإقرارها بشكل نهائي، وهو ما يعني أن التعديلات ستقتصر فقط على ما طلبته المحكمة؛ ومن ثَمَّ يبدو مستبعَدًا أن تتمَّ الاستجابة لمقترحات الأحزاب؛ سواء فيما يخصُّ إعادة النظر في تقسيم دوائر القائمة إلى أربع دوائر فقط على مستوى الجمهورية؛ بحيث تُصبح دائرة لكل محافظة كما تُطَالِب الأحزاب(13)، أو فيما يخصُّ النظام الانتخابي؛ وهو نظام منحاز بشكل كامل للنظام الفردي على حساب نظام القائمة؛ حيث ينص على انتخاب 80% من أعضاء مجلس النواب بالنظام الفردي؛ بينما 20% بنظام القائمة النسبية المطلقة المغلقة(14)؛ من هنا لا يبدو أن تأجيل الانتخابات سيُغَيِّر من الأمر شيئًا؛ سواء فيما يخصُّ شكل البرلمان القادم ولا تشكيلته المتوقَّعة.
ووفق هذا السيناريو المرجَّح فإن خريطة التحالفات والقوائم الانتخابية للأحزاب والقوى التي أعلنت المشاركة، لن تشهد تغييرًا كبيرًا أو جوهريًّا نتيجة تأجيل الانتخابات، وإن كان حزب الوفد قد أعلن بشكل واضح انسحابه من قائمة "في حب مصر" الانتخابية؛ التي يرأسها اللواء المتقاعد سامح سيف اليزل القريب من السلطة، أما الأحزاب التي أعلنت مقاطعتها فلا يُتَوَقَّع أن تغيِّر موقفها من الانتخابات القادمة؛ ما دامت السلطة لا تستجيب لأي من مطالبها بإعادة مناقشة وصياغة كل القوانين الخاصة بالعملية الانتخابية وصولاً لصياغات توافقية؛ فضلاً عن الإجراءات الخاصة بتهيئة الأجواء لإجراء الانتخابات في بيئة تنافسية تتسم بالنزاهة وتكافؤ الفرص بين جميع المرشحين(15).
ولا تمتلك الأحزاب والقوى السياسية -سواء التي ستشارك في الانتخابات وفقًا للمسار الحالي، أو تلك التي تتخذ موقفًا معارضًا له- الكثير من الأوراق في مواجهة السلطة؛ التي تُمْسِك وحدها بكل قواعد اللعبة، وتتمسك بالمسار الحالي نفسه للانتخابات دون تغيير جوهري على قواعده أو آلياته؛ وهذا يعني أن مَنْ قرَّر المشاركة سيُشارك؛ لأنه لا يملك بديلاً آخر؛ بينما ستقاطع أحزاب أخرى؛ لأنها لا تستطيع تغيير مواقفها دون استجابة لأيٍّ من مطالبها؛ ومن ثم فإن تأجيل الانتخابات وإن كان قد شكَّل فرصة حقيقية لتعديل المسار الانتخابي وتصحيحه وتجنُّب الأخطاء السابقة، فإنه على الأرجح سيكون فرصة ضائعة.
الخلاصة